بعد أن كان دفع الضريبة على الدخل في السابق من مسؤولية موظفيها على أساس التصريح، انضمت السفارة الفرنسية إلى السواد الأعظم من المشغلين في تونس، في جانفي 2022، من خلال فرض نظام الخصم من المورد Retenue à la source على موظفيها الخاضعين للنظام الجبائي التونسي. ونجد من بين هؤلاء "الأعوان الخاضعين للقانون المحلي" المعيّنين في السفارة إلى جانب موظفي الهياكل الفرنسية المرتبطة بها على غرار المعهد الفرنسي بتونس ومعهد البحوث حول المغرب المعاصر IRMC. ويُعاب على النظام السابق الذي يجعل من تسديد الضرائب على الدخل مسؤولية الموظفين وحدهم أنه يتيح الإخلال بالواجب الجبائي.
يعتبر الخصم من المورد إجباريا في نظر القانون بموجب الفصل 52 من مجلة الضريبة على دخل الأشخاص الطبيعيين والضريبة على الشركات، وهو ما أكده لنا المستشار الجبائي المعتمد بليغ منصر الذي يرى أنها "مسؤولية مشتركة بين صاحب العمل الذي يخصم من المورد والموظف الذي ينبغي عليه التصريح بدخله سنويا لدى القباضة العامة ليتأكد من تغطيتها لكافة الأداءات المستوجبة عليه".
وبالعودة للوضع غير القانوني للسفارة الفرنسية، تقول الإدارة العامة للأداءات أنه تواصل منذ 2008 على أقل تقدير، وتؤكد الإدارة توجيهها "مراسلة من طرف الإدارة الجبائية إلى وزارة الشؤون الخارجية تدعوها فيها إلى حث كل السفارات المتواجدة في تونس على الامتثال للنظام الجبائي التونسي، خصوصا في علاقة بتفعيل الخصم من المورد". وتضيف هذه المؤسسة الحكومية أنها وجهت تذكيريْن في مناسبتين بتاريخ 2009 و 2010، وهو ما نفته السفارة مشيرة إلى أن أول مراسلة حول الموضوع تعود إلى عام 2010 حين طُلب منها الشروع في العمل بهذه المنظومة الجبائية بداية من عام 2014، مضيفةً أن عدم قانونية حالتها منذ تلك الفترة تعود إلى "نوع من الجمود الحاصل بين ما يفرضه القانون وممارستنا لمدة زمنية معينة"، على حد تعبير السفارة. ومن المتوقع أن يتم تفعيل الخصم من المورد في كل الهياكل الملحقة بالسفارة ابتداءً من شهر جانفي 2022 لوضع حدّ لهذه الوضعية الضبابية.
*طلبت إنكفاضة من السفارة مقابلةً للحصول على روايتها من الوقائع، وبعد لأي قبلت الأخيرة شريطة أن تجرى المقابلة في مقرها. طلب المسؤولون الاطلاع على تعليقاتهم التي وردت في نص المقالة قبل نشرها وهو ما قبلته إنكفاضة بدون تردد. وبالرغم من ذلك، عارضت السفارة صحة الشهادات المسجلة دون تقديم أية حجة واضحة تفيد عدم صحتها. كما أجابت ببساطة بأن الحوار كان "تبادلا غير رسمي" بهدف "فهم نهجنا وسياقنا"، واضعة بذلك حدا لتبادلاتنا الإلكترونية أيضا. بل وذهبت السفارة إلى التشكيك في طلبها نفسه قائلة "لم نطلب إعادة التثبت من اقتباسات لم نعرب عن قبولنا [...] بمبدئها بأي شكل من الأشكال". وفي هذا الخصوص، ترى إنكفاضة أنها أعربت بكل وضوح للسفارة عن اعتزامها استخراج اقتباسات من حوارها مع مسؤوليها، وفي غياب بديل عنها، قررنا الإبقاء عليها في المقال لأن لا غنى عنها في فهم الموضوع.
مفاجأة سيئة في انتظار الموظفين
تسببت هذه الوضعية الجبائية غير العادية - إن أردنا تلطيف اللفظ - في حدوث مفاجآت غير سارة لأعوان السفارة المحليين الخاضعين لأداءات الدولة التونسية، خلافا للأعوان المغتربين الذين يحظون برفاهية الاختيار بين خلاصها لدى السلطات الجبائية التونسية أو الفرنسية. وكثيرا ما حدث أن اكتشف بعض الأعوان المحليين، بعد مرور سنوات على بدء عقود عملهم، ديونا ضخمة يتعين عليهم سدادها لدى القباضة المالية. كان هذا شأن الشابة س** الموظفة سابقا في إحدى الهياكل التابعة للسفارة الفرنسية حين تبادر إلى ذهنها التثبت من وضعيتها الجبائية بعد أشهر من انضمامها لعملها.
تروي: "تساءلت في أحد الأيام عن حال تغطيتي الاجتماعية، فاكتشفت أنني لم أكن أدفع أية مساهمات لصندوق الحيطة الاجتماعية، ثم تتبعت الأمر فأدركت أنني لم أدفع أية ضرائب قط".
وعندما ذهبت للاستفسار لدى مسؤول الموارد البشرية اندهشت لرده: "لقد أخبرني بأمرين، أولهما أن معظم الناس لا يدفعون ضرائبهم، والثاني أن لا أحد سيساعدني على ذلك نظرا لكون الوضعية بصدد التسوية على مستوى المؤسسة برمتها". وبعد سلسلة من الإجراءات المضنية لدى القباضة المالية، استسلمت س** محبطة، على الرغم من المساعدة الفردية التي قدمها لها مسؤول الموارد البشرية.
واجهت السيدة م. التي تعمل في هيكل آخر ملحق بالسفارة الفرنسية بعقد محلّي منذ عشرات السنين نفس المعضلة. فبعد مرور بضع سنوات على إبرام عقد عملها، حاولت تسوية وضعيتها الجبائية إزاء السلطات التونسية بمناسبة عملية مصرفية، لتجد نفسها أيضا في مأزق مالي. "كان المبلغ مهولا ولم أقدر على تسديده"، تقول السيدة م. مُسرّة لنا أنها "لم تحظ بأي نوع من التشجيع على تسوية وضعيتها" ذلك أن هذا الموضوع أثار توتر بعض المسؤولين.
"قيل لي إذا سدّدت ستجبرين بقية العاملين على السداد".
مثلت هذه التجربة المريرة دافعا للسيدة م. لتنخرط في حركة إضراب العملة المحلّيين في أكتوبر الماضي نظرا لافتقارهم إلى المعلومات المتعلقة بوضعيتهم الجبائية، على حد تعبيرها. "أنا لست استثناءً ولم تُذكر المسألة الجبائية في عقدي عندما وقعت عليه"، وتُتبع: "بما أنني سبق أن عملت في الإدارة التونسية حيث الأمر تلقائي، ظننت أن مشغلي سيتولى ذلك".
لكن هذه الرواية ليست محل إجماع كل الأعوان، فمن ناحيتها، تعزو باحثة سابقة لدى معهد البحوث حول المغرب المعاصر IRMC الراجع بالنظر للسفارة الفرنسية هذا الأمر إلى "جهل من ناحيتي، إذ كنت موظفة لدى الدولة في السابق وكانت هذه المنظومة جديدة بالنسبة لي". وكشأن زملائها، لم تخلُ تسوية وضعيتها في نهاية عقدها من الصعوبات، لكنها تتمسك بمسؤوليتها الكاملة عن هذا الوضع على الرغم من اضطرارها لسداد أربع سنوات من الأداء على الدخل دفعة واحدة بعد إجراءات إدارية مجهدة. وتضيف الباحثة أنها أُحيطت علما بالمنظومة الجبائية غير العادية التي تعتمدها الهياكل التابعة للسفارة بمجرد توقيعها عقد العمل، وأنها استطاعت خلاص المستحقات المستوجبة عليها بفضل مساعدة المسؤولين عنها. تقول: "هذه طريقة العمل منذ سنوات وإدارة الموارد البشرية معتادة على ذلك، هي خانة مر بها عديد الباحثين قبلي".
ترجعنا كل هذه الشهادات - على اختلافها - إلى سؤال وحيد: لماذا سمحت هياكل السفارة الفرنسية باستمرار هذا الوضع غير القانوني لعدة سنوات، في حين أنّ من شأنه أن يوقع منظوريها من ذوي العقود المحلية والمعتادين على منظومة الخصم من المورد في مآزق جمّة؟
"المسؤوليات مشتركة" ولكن المخاطر فردية
تبقي السفارة على تحفظها بشأن هذه المسألة لأنها "مسألة داخلية" وفق تعبير مسؤوليها. ويعزى التأخر في تفعيل الخصم من المورد، على ما يبدو، إلى الحوار العسير الذي جمع السفارة بالنقابات الشغيلة. " قام ممثلو الموظفين في كل اجتماع بتقديم وثائق تشكك في شرعية تفعيل السفارة لمنظومة الاقتطاع من المورد"، تروي السفارة قبل أن تضيف أن "فرض ذلك، دون مشورة الموظفين مثل عائقا بالنسبة لمن سبقنا". وتضيف المؤسسة الديبلوماسية أن بعض الموظفين أبدوا إحجامهم إزاء تطبيق هذه المنظومة الجبائية التي تحصّل الأداءات على الدخل بشكل آلي وتحد من إمكانيات التحايل في سدادها.
تروي س** الموظفة السابقة في إحدى الهياكل التابعة للسفارة الفرنسية حوارا دار بين إطارات وأعوان في مقر عملها "صرحت فيه إحدى المسؤولات بطريقة غير رسمية بضرورة معالجة المسألة الجبائية". وفي ذلك الوقت، كان رد الموظفين المحليين قاطعا: "مُحال". ولكن "المشغل، على الرغم من مسؤوليته، قد ماطل لعلمه بأن الموظفين لن يتقبّلوا الأمر بسهولة". ويجدر بالذكر أن مصلحة الشؤون الخارجية بالاتحاد الفرنسي الديمقراطي للعمل CFDT وهو النقابة الرئيسية للهياكل المتصلة بالسفارة، رفض إجراء مقابلة رغم مساعينا إلى الحصول على نسخته من الوقائع.
ومع ذلك، ترى السفارة أن المسؤوليات عن هذه الأخطاء الجبائية واضحة "لا يمكن لأي موظف من منظورينا تجاهل ما كان عليه خلاصه من الأداءات، فمن ناحية، وقع كلهم عقدا ينص على المنظومة الجبائية، ومن ناحية أخرى يتلقى كل منهم سنويا شهادة تُستخدم للتصريح بالضريبة على الدخل". ولم تتمكن إنكفاضة من الحصول على نسخة من هذه الوثيقة رغم طلباتنا الملحة.
على الصعيد القانوني، يبدو الوضع أقل وضوحا بالنسبة للسفارة التي أبقت الحال على ما هو عليه، الأمر الذي يعرضها نظريا إلى خطايا مالية بوصفها مشغّلا. ويوضح المستشار الجبائي بليغ منصر أنه "في حالة أجرت المصالح المختصة مراقبةً للأداءات وتفطّنت لعدم تفعيل الخصم من المورد، سيتعين على الموظف أن يسدد المبالغ الزائدة التي تحصّل عليها، وسيتعين على المشغّل أن يدفع عقوبة تعادل إجمالي الخصم غير المنجز". وهو أمر ينسّبه مصدر آخر قريب من الإدارة العامة للأداءات: "إذا لم تطبق السفارة الخصم من المورد، فإنها تتعرض لإمكانية خطية مالية".
"من المستحسن ألا نتخذ إجراءات ضد السفارات، وإذا تمّ اتخاذها فعلا فستستهدف دافعي الضرائب [أي الموظفين]".
في نفس الموضوع
إذا كانت هذه المغامرة الجبائية في الهياكل المرتبطة بسفارة فرنسا قد بلغت نهايتها، فقد لا يكون هذا هو الحال في كل مكان. وفقا لمصادر مقربة من السفارة نجد نفس التنظيم السيء للضريبة على الدخل في تمثيليات أجنبية أخرى تلقي بعبء خلاص الأداءات مباشرة على عاتق الموظفين. "نجحنا لحسن الحظ في الخروج من عنق الزجاجة، لكن الأمر على ما أعتقد ما يزال متواصلا بالنسبة للآخرين"، تقول س.
من ناحيتها تؤكد السفارة السويسرية في اتصالنا بها عبر البريد الإلكتروني أنها فعّلت الخصم من المورد وسوّت الوضعية الجبائية لمنظوريها منذ عام 2016 فحسب "بناء على طلب من الحكومة التونسية". وتضيف قائلة أن "خلاص الضرائب قبل ذلك التاريخ كان من مسؤولية كل موظف". كما أكد العون بالسفارة السويسرية هذه المعلومات هاتفياً قائلا أن "موظفي السفارة لم يكونوا خاضعين للأداءات في السابق" في تعارض تام مع المعلومات التي قدمتها لنا الإدارة العامة للأداءات. أما من جانب سفارة السويد فإن "تفعيل الخصم من المورد على الموظفين المحليين انطلق بمناسبة افتتاح السفارة السويدية في تونس العاصمة في عام 2016". ولم تستجب التمثيليات الديبلوماسية الأخرى التي اتصلت بها انكفاضة لطلباتنا لإجراء مقابلة.
"بعض حالات التسوية تعود إلى 10 سنوات والبعض الآخر إلى 15 سنة... وأخرى تمّت في العام الماضي فحسب، وكلها تتجه بالضرورة نحو اعتماد هذه المنظومة الجبائية" يقول مصدرنا في الإدارة العامة للأداءات.
خروج سري من الأزمة
من المعلوم أن هذا الوضع يمثل نقلة ثقيلة وبطيئة لا مفر للعالم الديبلوماسي في تونس منها، ولكن سفارة فرنسا حاولت إنجازها في كنف التستّر التام "فما يحدث داخل السفارة لا يهم العالم الخارجي" على حد قولها. "تمت تسوية كل شيء، وانتهت هذه العملية الطويلة بأفضل طريقة ممكنة أي بإجماع الأطراف المعنية بالأمر". تعتبر السفارة إذن أن القضية مغلقة وأنها "لم ترغب قط في تناول هذا الموضوع علنا، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة"، حتى بعد المقابلة التي جمعتها بإنكفاضة. ومع ذلك لا يخلو هذا التوافق الذي تم التوصل إليه خلال اجتماع بين ممثلي الأعوان والسفير في 15 أكتوبر 2021 في أعقاب الإضراب، من عواقب على ميزانية السفارة. ذلك أن تفعيل الخصم من المورد اعتباراً من هذا الشهر يصاحبه عدد من التدابير تهدف من خلالها السفارة إلى "الحفاظ على مستوى دخل الأعوان المحليين قدر المستطاع"، تمشياً مع مطالب إضراب أكتوبر الماضي.
على مستوى التكاليف، سوف تشهد الأجور الصافية لـ 85% من الموظفين زيادة مع التركيز على "تخفيف أو إلغاء تأثير الخصم من المورد على الأجور"، وفقاً لموقع نقابة CFDT على الإنترنت. وتقترح السفارة تمويل جزء من الضرائب المفروضة على دخل موظفيها بكلفة تناهز قيمتها أكثر من 400.000 يورو، حسب مصادر قريبة من الملف. بينما تشير النقابة أيضا إلى سعي السفارة إلى تحقيق وفورات عبر شطب سبع وظائف في المعهد الفرنسي بتونس، على الرغم من اعتزام هذا الأخير توسيع فرعه في سوسة قريبا.
ويقول مصدر آخر مقرب من مسؤولي السفارة "يتعين عليهم التخفيض في ميزانية الأجور حتى يتمكنوا من تسوية الوضعية الجبائية للجميع".
وفي حين تدّعي السفارة أنها "لا تخفي شيئا"، فإنها لا تبدو مرتاحة جدا لهذه التسوية الودية زاعمة أنها تخشى "الآثار المحتملة" على "الأكثر هشاشة"، ما دفعها إلى إبداء تحفظاتها إزاء نشر هذا المقال، بل وتمادت الهياكل المرتبطة بها إلى حد إثناء الموظفين المعنيين عن التعبير بشأن هذا الموضوع. "ليس من مصلحتهم [أي الأعوان] الإفصاح عن سبب الإضراب المتعلق بتفعيل الخصم من المورد"، تقول إحدى مسؤولات السفارة وتضيف: "حاولت جعلهم يفهمون، ولكن الأوان كان قد فات".
والواقع أنه ليس من السهل الحديث عن الضرائب مع أعوان الهياكل التابعة للسفارة الفرنسية. ففي معهد البحوث حول المغرب المعاصر وفي المعهد الفرنسي وحتى في السفارة ذاتها، يبدي الموظفون بعض الارتياب حين تُذكر المسألة. "ليس لدي حاجة ملحة لإبداء رأيي في هذا الموضوع الذي لم يعد يهمني بعد الآن"، على حد تعبير مدير أحد مراكز الآليانس فرانسيز [مراكز تعليم اللغة الفرنسية] الذي عمل سابقا في المعهد الفرنسي بتونس. ومن جهتها، ترفض موظفة سابقة بمعهد البحوث حول المغرب المعاصر الحديث في الموضوع مؤكدة أن "مسألة الضرائب سارت على ما يرام" بالنسبة إليها، في حين تشعر س.، التي لا تزال تعمل أحيانا مع بعض الهياكل الملحقة بالسفارة، بالقلق إزاء إمكانية التعرف على شخصها. "نحن لسنا تحت المراقبة، ولكن أعتقد أنهم إذا تفطنوا إلى أن أحدنا قال شيئا ما، سوف يُقابل بالــ شكر السريع"، تقول ساخرة.
موقف المسؤولين المتحفظ فيما يتعلق ببعض المواضيع المتصلة بظروف العمل ليس غريبا عن الموظفين. "نُشر في وقت ما منشور فايسبوكي حول ساعات العمل التي يؤديها حارس معهد البحوث حول المغرب المعاصر"، يقول مصدر فضل عدم الإفصاح عن اسمه مضيفا: ".. فحذرت إحدى المسؤولات موظفي هذه المؤسسة من خطر الطرد إذا تحدثوا إلى الصحافة". كما وردت تعليمات من السفارة نفسها، وفقا لذات المصدر، تنكر فيها هذه الشهادات بصفة رسمية.