التكسير الهيدروليكي: مخاطر أنشطة مجموعة بيرنكو في تونس

في ولاية قبلي جنوب تونس، تقوم شركة بيرينكو Perenco الفرنسية البريطانية، منذ أكثر من عقد من الزمان، باستخراج النفط والغاز بطرق غير تقليدية متسببةً في أخطار بيئية وصحية جمّة ومحتمية بإطار قانوني مبهم. تحقيق منشور بالشراكة مع المنصة الإعلامية الفرنسية "بلاست Blast".
بقلم | 11 جانفي 2022 | reading-duration 10 دقائق

متوفر باللغة الفرنسيةالإنجليزية
منذ عدة سنوات، لا تكاد مسألة استخراج الغاز بتقنيات "غير تقليدية" تهدأ حتى تعود لتظهر من جديد. نشاط استخراجي لا تستحي عدة شركات من تصويره كفرصة اقتصادية واعدة رغم نتائجه الوخيمة على البيئة والسكان. غير أن هذه المخاطر لم تمنع بعث عدد من المشاريع يقودها عمالقة الطاقة على غرار شال Shell و بيرينكو Perenco.

أثار إعلان شركة شال منذ عام 2012 عن مشروع استكشاف الغاز الصخري جدلا واسعا زاده احتداماً نبأُ عقدٍ تعتزم الشركة من خلاله حفر زهاء 742 بئرا في منطقة القيروان واستخدام تقنية التكسير الهيدروليكي "غير التقليدية" أو "الفراكينغ Fracking".

ويكمن خطر "التكسير" في تلوث المياه الجوفية جراء حقنها بالمياه بضغط مرتفع وخلطها بمختلف المواد الكيميائية المضافة بغاية تفتيت الصخور العميقة الغنية بالوقود الأحفوري. وهي ممارسة حظرتها فرنسا منذ عام 2014.

ويُعرف هذا النوع من الآبار الاستخراجية بربحيته السريعة، يقابلها استهلاكٌ مفرط للمياه لا يخلو من مخاطر تتترقّب تونس المحسوبة من بين 33 بلدا مهددا بشح المياه بحلول عام 2040، وفقا لمعهد الموارد العالمية، ولكن هذا لا يمنع الشركات الكبرى بما فيها بيرنكو التي تعد أكبر مجموعة للنفط والغاز في أوروبا، من الانخراط في أنشطة استخراجية خطيرة على المياه الجوفية والبيئة.

صورة قمر اصطناعي مشبوهة

تخلّت شال في عام 2015 عن مشروعها في القيروان، وفي العام ذاته نشرت مؤسسة هاينريش بول شتيفتنغ تقريرا بعنوان "الغاز الصخري في تونس: بين الواقع والأساطير" وجهت فيه أصابع الإتهام هذه المرة نحو شركة بيرنكو، وضمّنته صورة التقطها قمر اصطناعي لبئر تستغله الشركة الفرنسية البريطانية ويقع في منطقة تحتوي على احتياطيات من الغاز الصخري وتحيط به عدة أحواض لتخزين بالمياه، غير أن بيرينكو تصرّ على أنها لا تستغل سوى ما يسمى بالاحتياطيات "التقليدية".

كل هذه العناصر تشير إلى عملية تكسير هيدروليكي، وهي فرضية يؤكدها بيان أصدرته الشركة في عام 2010 قبل أن يختفي تماما من موقعها على الإنترنت وتسارع الشركة إلى إنكاره.

وعلى الرغم من هذه الصور، نفت شركة بيرنكو والشركة التونسية للأنشطة البترولية ETAP وقوع أي نشاط غير تقليدي على الإطلاق، كما أكدت هذه الأخيرة في عام 2013 أنه "لم يسبق لتونس أن استخرجت الغاز الصخري". وتدير هذه الشركة العمومية حقل الفرانيق الذي تملكه بالشراكة مع بيرنكو.

صورة القمر الاصناعي التي نشرتها منظمة هاينريش بول شتيفتنغ لحقل الفرانيق الذي تستغله بيرنكو، 12 ديسمبر 2012 عبر خدمة قوقل إيرث.

الغاز المضغوط، مورد "غير تقليدي"

رغم تتالي هذه التصريحات، أمكن إثبات وجود ثماني حالات تكسير هيدروليكي على أقل تقدير على معظم الآبار في حقل الفرانيق وتحديد عمقها، ذلك ان استخراج الموارد غير التقليدية يستوجب حفر عمق كبير يناهز 3000 متر تحت سطح الأرض في كل المواقع. 

خزان الحمراء (ويُراد بالخزان هنا الطبقة الجيولوجية التي تحتوي على جيوب من المحروقات الخام المستخرجة) التابع لامتياز الفرانيق هو من قبيل الخزان "المضغوط" المحاصر في طبقة من الكوارتز تقع على بعد بضع مئات من الأمتار فقط من الصخرة الأم، حيث يتركز جزء من احتياطيات غاز الشيست.

تحصلوا وتحصلن على أفضل منشورات إنكفاضة مباشرة على البريد الالكتروني.

اشترك واشتركي في نشرتنا الإخبارية حتى لا تفوتك آخر المقالات !

يمكن إلغاء الاشتراك في أي وقت.

ويُنظر إلى الخزانات المضغوطة، وفقا للإجماع الحالي وفي غياب اتفاقية دولية تحدّد هذه التصنيفات، على أنها احتياطات "غير تقليدية" كشأن الصخور المصدر أو ما يُعرف بالصخور الأم التي تحتوي على الغاز والنفط والزيت الصخري، وهو الحال في فرنسا وبقية الاتحاد الأوروبي، بينما ترى الولايات المتحدة من جهتها أن مجرد اللجوء إلى التكسير الهيدروليكي يكفي لاعتماد هذا التصنيف. وكلا التعريفان ينطبقان على أنشطة بيرنكو.

أما في تونس التي لا يوجد فيها تعريف رسمي، توفر وثيقة قدمتها وزارة الصناعة في عام 2013 تفسيرا يتماهى مع التعاريف الغربية ويذهب إلى أن مصطلح "غير التقليدي" يجد تفسيره في "عملية استخراج المحروقات".

ووفقا لهذا التعريف، فإن تقنيات التكسير المستخدمة في موقع الفرانيق، وكذلك في حقليْ باقل والطرفة، تتطابق مع الأساليب غير التقليدية.

في الفرانيق، وعلاوة على استخدام تقنية التكسير، يتم الاستخراج من كافة الآبار دون استثناء من خزان غير تقليدي، و بالإضافة إلى ذلك، طورت بيرنكو "بئرا تجريبيًا لاستخراج الشيست" ونفذت تكسيرا هيدروليكيا على نطاق واسع، في عام 2010، على بئر EFR-5 في نفس الموقع، مثلما يظهر جليّا من ملحق عقد الامتياز الذي أبرمته بيرنكو مع الدولة التونسية في عام 2012 والذي دعا إلى إيقاف العمل بالبئر و "تسريحها". 

حقل الفرانيق. © ألكسندر بريتيل

تشريع منقوص

لا تقدم مجلة المحروقات التونسية الحالية أي إطار قانوني لتنظيم هذا النوع من الموارد الطاقية. وبالنسبة للأستاذة المحاضرة في كلية الحقوق بصفاقس عفاف حمامي المراكشي، فإن طبيعة أنشطة بيرنكو غير التقليدية هي أيضًا موضع تساؤل من الناحية القانونية.

تفسّر الأستاذة أن استخدام التقنيات الاستخراجية الضارة بالبيئة كان يجب أن يخضع للنقاش داخل قبة البرلمان، أَكان الأمر متعلّقا بغاز الشيست أو أي مورد آخر غير تقليدي بما في ذلك الخزانات المضغوطة، على النحو المنصوص عليه في الفصل 13 من الدستور التونسي.

غير أن الشركة التونسية للأنشطة البترولية لا تتوانى عن نكران الطبيعة غير التقليدية وغير القانونية لعمليات الاستغلال الجارية قائلة أن "هذه الامتيازات تخضع للتشريعات القديمة، التي تم وضعها قبل دخول مجلة المحروقات لعام 1999 حيز التنفيذ واعتماد الدستور الجديد لعام 2014". 

ويشير الملحق المذكور إلى أن امتياز الفرانيق أُنشئ في الثمانينات، وقبلت اللجنة الاستشارية للمحروقات طلب تجديده في سنة 2011، وتم توقيع الاتفاقية في أفريل من عام 2012، أي قبيل سنتين من المصادقة على الدستور. 

علاوة على ذلك، أثار استغلال هذه الحقول جدلا محتدما داخل المجلس النيابي، ففي 2014، رفضت لجنة الطاقة صلب المجلس التمديد في ترخيص استغلال امتيازيْ الفرانيق و باقل.

حيث اتُّهمت الشركة بضلوعها في " عديد الخروقات في نظم الاستغلال" التي عادت عليها بالفائدة على حساب الدولة.

وعادت المسألة إلى الواجهة مجددا في 2016 وخلّفت صدعا في صفوف النواب والنائبات، غير أن ذلك لم يمنع من التمديد في الترخيصيْن في نهاية المطاف. وأخيرا، عزّز تصنيف المواقع الغازية والبترولية كمواقع عسكرية في سنة 2017 من التعتيم المحيط بها، فمن جهة كفل ذلك تواصل أشغال الشركات الأجنبية على التراب التونسي، ومن جهة أخرى منع نفاذ عموم الناس إلى مواقع هذه الامتيازات. ومن ذلك ما حدث مع كاتب هذا التحقيق الذي أوقف في مناسبتين من قبل الجيش في أفريل 2021 وهو بصدد التقاط صور للطرق المؤدية إلى حدود هذه الحقول التي أصبحت مواقع عسكرية. 

صورة لموقع إنتاج تونسي في مطوية تجارية لمجموعة بيرنكو.

إلى جانب النواقص التي تشوب التشريعات المنظمة، تبدو المعلومات المتوفرة حول المجموعة الفرنسية البريطانية بيرنكو شحيحة بل ومبهمة. فقد أتاح البحث الكشف عما لا يقل عن ست شركات فرعية تونسية لشركة بيرنكو مسجّلة خارج تونس، أربعة منها مسجلة في جنات ضريبية سيئة السمعة على غرار جزر الباهاماس أو ولاية ديلاوير بالولايات المتحدة الأمريكية. وجدير بالذكر أن الملحق بعقد امتياز باقل والطرفة يذكر عنوان مقر بيرنكو تونس في جزر كايمان، وهي ممارسة ليست غريبة عن الشركات البترولية الناشطة في تونس. وفي هذا السياق، كانت إنكفاضة قد حققت حول أنشطة أحمد بوشماوي البترولية وإحدى شركاته المقيمة في الجزر العذراء البريطانية. 

الملحق عدد 3 بعقد امتياز الفرانيق، الشركة التونسية للأنشطة البترولية ETAP، أفريل 2012.

ثروة بيئية في مرمى النار

تقع قرية الفوار، بما فيها من 80 حقلا زراعيا وواحة و 49 نقطة مياه سطحية ترتوي منها المواشي والحيوانات البرية بالمنطقة، ضمن دائرة نشاط نصف قطرها 15 كيلومترًا مربعًا حول امتياز الفرانيق. ولا يخفى أن أنشطة بيرنكو تمثّل خطرا جديا على الأحياء البرية المحلية، في حال بلغ التلوث مياه الشرب المتأتية من الموائد الجوفية. 

خريطة تفاعلية توضح الأنشطة الاستخراجية لبيرنكو في الفرانيق بقبلّي، تونس. ريموت سينسنغ المحدودة لفائدة منظمة "المنتدى الاستقصائي للبيئة EIF، أوت 2021.

قمنا في هذا الشأن بأخذ عينات من مياه الزراعة الموجودة حول منطقة الفوار وكذلك مياه الشرب.

ووفق عالمة السموم البيئية المشاركة في تأليف تقرير منظمة هاينريش بول، السيدة صبرية بركة، يتضح أن هذه المياه تحتوي على عناصر سامة على غرار الليثيوم و السترونتيوم والبورون بمستويات غير عادية.

ويشكل هذا الوضع "خطرًا صحيًا وبيئيًا على السكان وينبغي تحذير السلطات المحلية منه" حسب تأكيد الخبيرة، رغم عدم ثبوت رابط مباشر صريح مع أنشطة النفط والغاز المحيطة.

تجدر الإشارة أيضا إلى أن مدينة الفوار تحدها بحيرة الملح شط الجريد وهي منطقة مصنفة كأرض رطبة ذات أهمية عالية بموجب اتفاقية رامسار، وهي منطقة ذات أهمية للحفاظ على الطيور ومرشحة لتكون على لائحة التراث العالمي لليونسكو. وحدها الوكالة الوطنية لحماية المحيط (ANPE) لديها دراسات المؤثرات على المحيط التي أعدتها شركة بيرنكو قبل بدء عملياتها في تونس. ومع ذلك، لم تستجب لا الوكالة ولا الشركة لطلباتنا بإتاحة هذه الدراسات.

ليس موقع الفرانيق الوحيد الذي تديره شركة بيرنكو لاستخراج الغاز على مقربة من أصول بيئية على غاية من الأهمية. ففي ولاية قبلي، يجاور امتياز باقل-الطرفة جزئيا أطراف الحديقة الوطنية جبيل على بعد حوالي خمسين كيلومترًا من مدينة دوز، أين نُفذت بين سنتي 2014 و 2018 عدة عمليات تكسير وفق ما أوردته شهادات موظفين بالشركة التونسية للأنشطة البترولية فضّلوا عدم الإفصاح عن هوياتهم.

خريطة تفاعلية توضح الأنشطة الاستخراجية لبيرنكو بمنطقة باقل-الطرفة بقبلّي، تونس. ريموت سينسنغ المحدودة لفائدة منظمة "المنتدى الاستقصائي للبيئة EIF، أوت 2021.

وتعتبر هذه الحديقة موطنا طبيعيا لما يزيد عن 100 نوع حيواني، بما في ذلك 7 على القائمة الحمراء للاتحاد الدولي لصَون البيئة IUCN التابع للأمم المتحدة. من بين هذه الأنواع، تتواجد 3 أنواع بالقرب من منطقة نشاط بيرينكو وهي الظبي الأبيض، أحد الأنواع المهددة بخطر الانقراض الأقصى، والحبارى، وغزال دوركاس المدرج ضمن الأنواع المعرضة للخطر.

صمام ضخ لشركة بيرنكو في جبيل على مشارف الحديقة الوطنية. © ألكسندر بريتيل

لم ترغب مجموعة بيرنكو في الرد على جميع النقاط الضريبية والقانونية والبيئية المذكورة في هذا التحقيق، وليست هذه المرة الأولى التي توجّه فيها أصابع الاتهام نحو الشركة بسبب أنشطتها في تونس، ففي سنة 2018 وجهت "محامون بلا حدود ASF" و "أنا يقظ IWatch" دعوة إلى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OCDE من أجل مزيد من الشفافية حول أنشطة بيرنكو في ولاية قبلي ودعت المجمع إلى احترام معايير السلوك المفروضة على الشركات.

إلى جانب ذلك، استنكر عدد من المنظمات في سنة 2021 نهج "التعتيم المنظم" الذي تتوخاه الشركة التي تلقى رئيسها في فرنسا رسالة تدعوه إلى مزيد الشفافية حول أنشطة الشركة في الغابون أو في جمهورية الكونغو الديمقراطية وفي بيرو وفي تونس.