النفايات الإيطالية: وراء الفضيحة البيئية، قضية فساد واسعة النطاق

منذ عدة أشهر من اندلاعها، ما زالت قضية التوريد غير المشروع لنفايات منزلية إيطالية تهز الرأي العام في البلاد. فعلاوة على الفضيحة البيئية، تحصلت إنكفاضة بالتعاون مع شبكة التقصي الإيطالية "إيربي ميديا" (IrpiMedia) على العديد من الوثائق التي تكشف ​​أثر شبكة فساد ممتدة الأطراف.
بقلم | 11 فيفري 2021 | reading-duration 12 دقيقة

متوفر باللغة الفرنسيةالإنجليزية
يوم 26 ماي 2020، وفي الوقت الذي كانت تشهد فيه البلاد رفعا تدريجياً للحجر الصحي الشامل مع الإبقاء على الحدود مغلقة، أرست شحنة بحرية قادمة من مدينة ساليرنو (مقاطعة كامبانيا، إيطاليا) بميناء سوسة محملة بـ70 حاوية مملوءة بما يقارب 2000 طن من النفايات. تلتها بعد ذلك شحنات مشابهة إلى غاية موفى شهر جويلية. وإجمالاً فإن ما يقرب من 7900 طنا من النفايات موزعة على 282 حاوية شقت طريقها إلى سوسة.

تقف وراء عملية النقل هذه الشركة الإيطالية "سفيلوبو ريسورزي آمبيانتالي" (Sviluppo Risorse Ambientali Srl SRA)، المختصة في تثمين النفايات وإتلافها، بالإضافة إلى "سوريبلاست" (SOREPLAST Suarl) وهي شركة تونسيّة غير مقيمة (مصدرة كليّا) تنشط في قطاع رسكلة النفايات البلاستيكية.

غير أنه تم الكشف تدريجياً عن اتجار غير مشروع بالنفايات المنزلية يتخفى وراء ما يبدو ظاهريا كنشاط تجاري عادي. إذ تبين أن ما تم تقديمه من قبل الشركة التونسية كفضلات بلاستيكية موجهة للفرز والرسكلة وإعادة التصدير إلى الخارج هي في حقيقة الأمر نفايات منزلية حضرية قد تشكل خطرا تم تجميعها في ضواحي مدينة نابولي.

اندلعت الفضيحة علنا ​​يوم 2 نوفمبر 2020 بمناسبة بث برنامج "الحقائق الأربع" على قناة الحوار التونسي. ومنذ ذلك الحين، بدأت قضية النفايات هذه تطيح برؤوس كبيرة بدءًا بمصطفى العروي الذي كان يشغل منصب وزير الشؤون المحلية والبيئة آنذاك قبل أن يتم إعفاؤه من مهامه بتاريخ 21 ديسمبر 2020.

أودع 8 أشخاص بالسجن منذ يوم 21 ديسمبر 2021 بما فيهم إطارات تابعة للوكالة الوطنية للتصرف في النفايات (ANGED) والوكالة الوطنية لحماية المحيط (ANPE) ووزارة الشؤون المحلية والبيئة، علاوة على صاحب مخبر تحاليل. وفي المجمل، فقد بلغ عدد الأشخاص محل تتبع قضائي 24 شخصًا يُشتبه في ضلوعهم في تيسير دخول حوالي 7900 طنّا من النفايات غير القابلة للرسكلة إلى التراب التونسي.

تؤكد العديد من الوثائق التي تمكنت إنكفاضة من النفاذ إليها بالتعاون مع شبكة التقصي الإيطاليّة "إيربي ميديا" وجود شبكة فساد ممتدة الأطراف تضم مسؤولين ومسؤولات حكوميين تونسيّين. متابعة لهذه القضية.

رسم بياني تنظيمي لأبرز الشخصيات والهياكل المتورطة في القضية. انقر·ي على كل شخصية لإظهار المزيد من التفاصيل.

close

نفايات مقنّعة

التقى ممثلو الشركة الإيطالية "أس أر أي" (SRA) بمحمد المنصف نور الدين، مسير شركة "سوريبلاست"، في بولا وهي بلدة صغيرة تقع على بعد بضعة كيلومترات من مدينة ساليرنو. وعقد الطرفان في 30 سبتمبر 2019 صفقة بشأن "استعادة النفايات المنزلية (من صنف 19.12.12) وتثمينها.

تبدو العملية بسيطة في الظاهر: تقوم شركة "أس أر أي" بفرز أولي للنفايات الحضرية المجمعة في أحواز مدينة نابولي، ثم تقوم بنقلها إلى مصانع شركة "سوريبلاست" المنتصبة في تونس حيث تخضع لفرز ثان ثم للرسكلة. وأخيرا، تتعهد الشركة التونسية بإعادة تصدير النفايات التي تمت معالجتها بصفتها شركة مصدرة كليا، كما تنص على ذلك بنود العقد المبرم.

للوهلة الأولى هي عملية اعتيادية إذ أنه من المألوف أن تعهد إيطاليا الغارقة تحت كم هائل من النفايات الحضرية، بمعالجة هذه النفايات إلى بلدان أخرى. خاصة وأن عملية الاستعادة هذه توفر "ربحيّة أكبر مقارنة ببلد المنشأ"، كما يتبين من مراسلة أحالتها شركة "أس أر أي" إلى مقاطعة كامبانيا والتي تمكنت إنكفاضة من الحصول على نسخة منها. ينص العقد المبرم على خلاص الشركة التونسية بمبلغ قدره 52 يورو عن كل طن من النفايات يُرسَل إلى تونس، تضاف إليها 85 يورو للطنّ المُعالَج، وهو ما يُعتبر "سعرا مغرٍيا للغاية بالنسبة لشركة 'أس أر أي'" وفق أقوال مختص في ميدان معالجة النفايات. وباطلاع إنكفاضة على التحويلات البنكية المُنجزة يتضح أنّ شركة "سوريبلاست" تلقت حتى الآن ما لا يقل عن 230 ألف يورو من قبل شركة "أس أر أي".

غادرت أول شحنة نفايات مدينة ساليرنو بتاريخ 22 ماي، لتصل إلى سوسة بعد أربعة أيام. بقيت الشحنة عالقة في الميناء طيلة ثلاثة أسابيع بأكملها، قبل أن يبدأ أخيرًا تسريحها يوم 13 جوان. تم التصريح بهذه الشحنة لدى مصالح الديوانة التونسية على كونها نفايات بلاستيكية ما بعد التصنيع كما تمت معاينتها من قبل الملازم بالديوانة المكلف بملفّ "سوريبلاست" في مستودعات التخزين. وقد أفاد هذا الأخير أن انبثاق رائحة كريهة كان قد لفت انتباهه كما أنه لاحظ وجود "قطع مختلفة من البلاستيك والأتربة والأخشاب والأقمشة..." لدى فتح الحاويات، ليتضح في ما بعد أن النفايات ما هي إلا نفايات منزلية.

"كان هناك كل ما يمكن تخيله من أشياء، قطع جوارب وأحذية وورق مقوى وعلب ألمنيوم ومصدات سيارات ولعب وأقمشة... كان كل شيء بصدد التحلّل"، حسبما يُوضح خليل*، وهو ناشط بيئي مطلع على الملف ومن ضمن الأشخاص النادرين الذين عاينوا حمولة الحاويات.

في مراسلة سرية مؤرخة في 13 ديسمبر 2020 وموجهة إلى السلطات الإيطالية، بين عبد الرزاق المرزوقي، المسؤول عن احترام تطبيق اتفاقيّة بازل (الاتفاقية المنظمة للتحكم في نقل النفايات الخطرة والتخلص منها عبر الحدود) صلب وزارة البيئة التونسية، أنه تأكد بمناسبة زيارته الشخصية لميناء سوسة من أن النفايات المعنية هي "نفايات نهائية من الصعب جدا، إن لم يكن من المستحيل، تثمينها. ويكمن الحل الوحيد لمعالجتها في حرقها غير أن تونس لا تملك أية محرقة لهذا الغرض". هذا وقد رفض السيد المرزوقي الإجابة سعلى أسئلة إنكفاضة.

وفّر مصدر مطّلع على الملفّ صورة من الدّاخل لإحدى الحاويات المخزّنة في ميناء سوسة.

سوريبلاست، شركة ذات أنشطة غامضة

تنشط شركة "سوريبلاست" التي أسّسها محمد المنصف نور الدّين سنة 2009 في قطاع النّفايات منذ أكثر من عشر سنوات. وقد فرّ صاحبها، المطلوب للعدالة إلى حدّ الآن، إلى أوروبا قبل عشرة أيّام من مذكّرة الإيقاف الصّادرة بحقّه عن وكيل الجمهوريّة بسوسة في 17 ديسمبر 2020. كما يُدّعى أنّ عائلته القاطنة في منطقة ميناء القنطاوي بسوسة "على علاقة وطيدة بالدّائرة المقرّبة من بن علي وذات نفوذ كبير في الجهة. إذ يسهل عليه بالتّالي الاتّصال بوزير أو بشخص ذي نفوذ"، كما يؤكّد ذلك خليل* المطّلع على القضيّة الجارية والذي يعرف نور الدّين منذ أكثر من 15 عامًا.

في عام 2012، واجهت شركة "سوريبلاست" مشاكل مع مصالح الجباية بسبب تصريح مغلوط بشأن كميّة البضائع المستوردة. على إثر ذلك، توقّفت الشّركة تلقائيّا عن النّشاط. خلال شهر نوفمبر 2019، عادت الشّركة إلى سالف نشاطها، أي بعد شهرين من تعاقدها مع شركة "أس أر أي" الإيطاليّة. ويتبيّن من خلال وثيقة اطّلعت عليها انكفاضة، أنّ المنصف نور الدّين صرّح لمصلحة الضّرائب بدخل يبلغ 1.300.000 دولار بعنوان السّنة المنقضية وهو مبلغ يتناقض مع رأس المال المصرّح به والبالغ 45.000 دينار.

على إثر ذلك، اتّبع السّيد نور الدّين العديد من الإجراءات تمهيدا لوصول النّفايات إلى تونس. غير أنّه من الثّابت حاليّا أنّ "شركة 'سوريبلاست' لم تكن قادرة على رسكلة النّفايات التي دخلت تونس، وهو ما يدعو إلى الرّيبة بشأن جدّيّة وحقيقة عمليّات التّثمين المُزمع إنجازها"، وفقًا لـتقرير اللّجنة البرلمانيّة للإصلاح الإداري والحوكمة الرّشيدة ومكافحة الفساد المؤرّخ في 14 ديسمبر 2020.

تجدر الإشارة إلى أنّ اتّفاقية بازل واللّائحة الأوروبيّة (1013/2006) لا تجيزان تصدير النّفايات إلى بلد خارج الاتّحاد الأوروبي، إلّا إذا كان بوسع هذا البلد قبولها، وفي حالة وجود مصنع قادر على التّكفّل برسكلتها. بمعنى آخر، يمنع منعا باتّا نقل النّفايات إلى الخارج لطمرها في مصبّات النّفايات.

انكبّت إنكفاضة على جرد أبرز تواريخ أحداث القضيّة المتراوحة بين 30 سبتمبر 2019 و 23 جانفي 2021 وتجميع وثائق سرّيّة. للتّعرّف على تفاصيل هذا التّسلسل الزّمني، انقر·ي على النّقاط المختلفة.

close

بيانات مغلوطة بالجملة

بغرض استلام النّفايات المنزليّة، والتي تمّ إرسالها من إيطاليا صراحةً تحت هذا الصّنف، لجأت شركة "سوريبلاست" إلى تقديم تصريحات مغلوطة نظرا لأنّها لا تمتلك الإمكانيّات اللّازمة للغرض، ولأنّ اختصاصها يتمحور رسميّا حول البوليمرات (البلاستيك).

قبل وصول الحاويات الأولى إلى ميناء سوسة، غالط المنصف نور الدّين مصالح الدّيوانة مصرّحا بأنّ الحاويات القادمة من إيطاليا تتكوّن أساسًا من نفايات بلاستيكيّة صناعيّة. وبالتّالي، حاولت الشّركة تصوير نفايات منزليّة مختلطة على أنّها نفايات غير خطرة قابلة للرّسكلة، بينما في الواقع لا تحتوي هذه الفضلات سوى على 55٪ من الموادّ البلاستيكيّة، وفقًا لتقرير تحليل إيطالي مؤرّخ في 23 ديسمبر 2019.

في المقابل، أشارت تحاليل مجراة في ميناء سوسة، خلال شهر جوان، إلى وجود موادّ بلاستيكية بنسبة 93٪، مؤيّدة بذلك ما ادّعاه المورّد التّونسي. مدير المخبر الذي أجرى هذه التّحاليل موقوف حاليّا للاشتباه في تزويره للنّتائج. وقد تمّ بالفعل دحض هذه الأخيرة من خلال تحليل حديث بتكليف من طارق سعيّد، قاضي التّحقيق في القضيّة، والذي يكشف عن احتواء النّفايات على حوالي 50 ٪ فقط من البلاستيك، حسب مصدر مطّلع على الملفّ.

إلى جانب ذلك، بالنّسبة لكلوديا سالفستريني، مديرة مجمع "بولياكو" (Polieco Consortium) [مجمع لرسكلة فضلات المنتجات القائمة على البولي إيثيلين، ملاحظة المحرّر] والتي اتّصل·ـت بها زملاؤنا وزميلاتنا الإيطاليّون·ـات من "إيربي ميديا": "إنّ وجود مادّة واحدة فقط سائدة ضمن النّفايات لا يجعل منها بالضّرورة قابلة للرّسكلة، إذ قد تتوفّر كمّية معيّنة من البلاستيك لا يمكن رسكلة سوى 2٪ منها".

في رسالة إلكترونيّة سرّيّة مؤرّخة في 23 أكتوبر 2020 وموجّهة إلى السّلطات الإيطاليّة، أكّد عبد الرّزاق المرزوقي أنّ شركة "سوريبلاست" "لا تتوفّر لديها الموارد المادّيّة والبشريّة أو التّكنولوجيا اللّازمة لإعادة فرز النّفايات المستوردة". والسّؤال المطروح هنا هو: إذا كانت الشّركة غير قادرة على رسكلة هذه النّفايات، فهل كانت تخطّط لإيداعها مباشرة بمصبّ النّفايات؟

عمليّة تصدير تشوبها العديد من الإخلالات

فضلا عن التّصريحات المغلوطة المتعلّقة بطبيعة النّفايات القادمة من إيطاليا والإمكانيّات الحقيقيّة التي تتمتّع بها شركة "سوريبلاست"، تمّ التّلاعب كذلك بإجراء تصدير هذه النّفايات ذاته، كما تؤكّد ذلك الوثائق التي تمّ الحصول عليها. إذ يقتضي تصدير النّفايات اتّباع إجراء صارم مؤطّر في العديد من الاتّفاقيات الدّوليّة بما فيها اتّفاقيّتا بازل وباماكو، واللّتان تشرّعان بشأن التّحكم في نقل النّفايات الخطرة والتّخلّص منها عبر الحدود (كما هو الحال بالنّسبة للنّفايات المنزليّة من صنف 19.12.12).

بادئ ذي بدء، "يتعيّن على دولة التّصدير [إخطار] السّلطة المختصّة في الدّول المعنيّة كتابيّا بأيّ نقل لنفايات خطرة عبر الحدود." (الفصل 6). في موضوع الحال، كان من المفترض أن تتّصل وزارة البيئة الإيطاليّة بنظيرتها التّونسيّة لتقييم إمكانيّة تصدير هذه النّفايات إلى تونس.

غير أنّه بدلاً من ذلك، تعهّدت بالأمر الوكالة الوطنيّة للتّصرّف في النّفايات، من خلال بعض أعوانها.

وذكر تقرير لجنة التّحقيق البرلمانيّة بعض الأسماء، من بينها مكرم البغدادي، وهو مجرّد إداري مساعد صلب الوكالة الوطنيّة للتّصرّف في النّفايات. هذا الأخير "على علاقة وطيدة بصاحب شركة 'سوريبلاست'"، حسب خليل*. وكان قد منح الشّركة التّراخيص اللّازمة لاستيراد النّفايات باللّجوء إلى إمضاءات مزوّرة.

في رسالة مؤرّخة في 18 مارس 2020، وجّهت قنصل تونس بنابولي، بيّة عبد الباقي، مقاطعة كامبانيا للاتّصال مباشرة بالسّيّد البغدادي نفسه، متجاوزة بذلك ترخيص وزارة البيئة التّونسيّة. "لم أعلم بالملفّ إلّا خلال شهر سبتمبر" حسب ما يوضّحه الهادي الشّبيلي، مدير عامّ البيئة وجودة الحياة صلب وزارة الشّؤون المحلّيّة والبيئة.

على إثر إعلامها في 24 جوان من قبل أحد أعوانها بالطّبيعة المشبوهة للحاويات التي وصلت تونس، عقدت الإدارة العامّة للدّيوانة بسوسة اجتماعا بمقرّها، بتاريخ 8 جويلية. دُعيت إلى هذا الإجتماع عدّة جهات متدخّلة (الوكالة الوطنيّة للتّصرّف في النّفايات، الوكالة الوطنيّة لحماية المحيط، مصالح الدّيوانة، وزارتا التّجارة والصّناعة…). وكان المتغيّب الوحيد هو ممثّل عن وزارة الشّؤون المحليّة والبيئة الذي صرّح قائلا: "لقد تمّ استدعائي هاتفيّا من قبل مصالح الدّيوانة في نفس اليوم، فتعذّر عليّ التّنقّل لضيق الوقت". خلال الاجتماع تمّ لأوّل مرّة إثارة احتماليّة وجود اتّجار غير مشروع، ما ترتّب عنه تعليق تسريح الـ212 حاوية المتبقّية والتي ظلّت رابضة في الميناء منذ ذلك اليوم. غير أنّه لم يتمّ التّطرّق إلى الطّبيعة المنزليّة للنّفايات رغم أنّها كانت معروفة منذ أسبوعين على الأقلّ.

مسلك النفايات من ساليرنو إلى مستودع "سوريبلاست". انقر·ي على كل نقطة لإظهار المزيد من التفاصيل

مستودعات مخفيّة

لا تفتقر شركة "سوريبلاست" إلى الإمكانيّات التّقنية اللّازمة لتثمين النّفايات (مكابس بالات وكسّارات وآلات تحبيب...) فحسب، بل كذلك إلى المساحة الكافية لتخزين الآلات والنّفايات.

هذا ويصعب تحديد موقع مقرّ شركة "سوريبلاست" في المنطقة الصّناعيّة بسيدي عبد الحميد الواقعة على بعد مسافة قصيرة من ميناء سوسة. ففي هذه المتاهة الصّناعيّة حيث تتتالى المقاسم تباعاً، لا يمكن لأيّ كان تحديد موقع الشركة. في الواقع، لا تمتلك الشّركة هناك سوى مكتبًا ومستودعًا متواضعًا لا يسمح باستيعاب الـ2000 طنّ من النّفايات التي تمّ تسريحها من الميناء في شهر جوان المنقضي.

للعثور على أطنان النّفايات هذه، يجب التّوجّه نحو موردين وهي قرية ريفيّة صغيرة تقع على بعد 15 كيلومترًا من مدينة سوسة. تـ·يبدو متساكنو·ـات هذه القرية على اطّلاع بقضيّة النّفايات الإيطاليّة : "رأينا حاويات زرقاء تمرّ من هنا، كان هناك الكثير منها"، حسب العديد من الشّهادات. كانت هذه الحاويات مغلقة بإحكام ومخزّنة في مستودع فولاذي ضخم واقع في مخرج القرية. علما وأنّ قاضي التّحقيق المكلّف بالملفّ هو الشّخص الوحيد الذي تمكّن من معاينة وجودها على عين المكان.

قبالة هذا المستودع، يقع مبنى حديث التّشييد أحمر ورماديّ اللّون يحمل لافتة خُطّ عليها "سوريبلاست - شركة خاضعة للرّقابة الدّيوانيّة". كما يشير غياب النّوافذ ووجود بقايا موادّ بناء إلى أنّ الشّركة لم تنتصب في الموردين إلّا مؤخّرًا. "برز هذا المبنى خلال شهر أوت"، كما تؤكّد ذلك إحدى المتساكنات التي تمرّ من هناك بانتظام مع قطيعها من الأغنام.

<p>إحدى متساكنات موردين مارّة أمام المبنى الحامل للافتة سوريبلاست في مخرج القرية.
على يمين المبنى، المستودع الذي خُزّنت فيه النّفايات منذ 13 جوان 2020.

لعلّ صعوبة العثور على الموقع تُعزى إلى غياب ذكره في جميع الوثائق التي تمكّنت إنكفاضة من جمعها. يبدو ذلك منطقيّا حيث "جُوبه طلب شركة 'سوريبلاست' من الوكالة الوطنيّة للتّصرف في النّفايات التّرخيص لها بإيداع النّفايات بموردين بالرّفض. حيث لا تحتوي المستودعات على شيء ولا توجد حتّى آلة لفرز هذه النّفايات"، كما أسرّ بذلك مصدر مطّلع على الملفّ. يُستنتج بالتّالي أنّه تمّ إيداع النّفايات هناك بشكل غير قانونيّ.

في المقابل، تمّ ذكر موقع آخر في الوثائق التي تمّ جمعها، يتمثّل في موقع سيدي الهاني الواقع في المناطق النّائية لمدينة سوسة على بعد حوالي عشرين كيلومترًا من موردين باتّجاه القيروان. كان المنصف نور الدّين قد تحصّل، بتاريخ 15 جويلية، على ترخيص الوكالة الوطنيّة للتّصرف في النّفايات لنقل وحدة الفرز إلى هناك بسبب ضيق مستودعه الرّسمي الواقع بسوسة. وإلى حدّ الآن، لم يتمّ استغلال هذا المستودع الذي كان من المُفترض نقل الـ212 حاوية المتبقّية والتي ظلّت عالقة في الميناء إليه منذ 24 جوان.

تفصيل آخر: يقع كلّ من مستودعيْ موردين وسيدي الهاني على بعد بضعة كيلومترات من مصبّ سوسة الضّخم الواقع في وادي لاية، حيث يتمّ نقل جميع النّفايات المنزليّة بالجهة لرميها بالمصبّ في العراء. بالنّسبة لخليل*، النّاشط البيئي المطّلع على الملفّ، لا يُعدّ ذلك من قبيل الصّدفة: "من الواضح أنّ شركة "سوريبلاست" كانت لها نيّة مبيّتة لنقل النّفايات القادمة من إيطاليا مباشرة إلى مصبّ النّفايات، دون القيام بأيّة عمليّة رسكلة"، حسب تأكيده. "يبقى أن نعرف ما إذا تمّ نقل جزء من النّفايات إلى المصبّ لإيداعها هناك".

كدليل على ذلك، تنصّ الاتّفاقيّة المبرمة في فيفري 2020 بين "سوريبلاست" والوكالة الوطنيّة للتّصرّف في النّفايات، والتي حصلت إنكفاضة على نسخة منها، على السّماح للشّركة بالنّفاذ إلى مصبّ سوسة لإيداع الجزء غير القابل للرّسكلة من نفاياتها. وفي وثيقة موجّهة إلى الشّركة الإيطاليّة بتاريخ 16 جويلية، صرّحت شركة "سوريبلاست" بأنّها عالجت بالفعل أوّل 1900 طنّ من النّفايات المتعلّقة بالشّحنة الأولى التي وصلت تونس في 26 ماي 2020. وفقًا لهذا التّصريح، تمّت استعادة 1840 طنًا من النّفايات في حين تمّ إلقاء 129 طناً أخرى غير قابلة للتّثمين بمصبّ سوسة. غير أنّ مصدرا تابعا لمصبّ سوسة نفى وجود أيّ أثر لهذه النّفايات. وباتّصال إنكفاضة به، تجرّد رئيس بلديّة موردين من كلّ مسؤوليّة وأكّد أنّه ليس على علم بمآل النّفايات المذكورة.

في موفّى شهر سبتمبر، وفي الوقت الذي بدأ فيه الاشتباه في الاتّجار غير المشروع بالنّفايات ينتشر داخليًا، وبينما أُحيطت وزارة البيئة علما بالملفّ، عقدت شركة "سوريبلاست" جلسة خارقة للعادة بادرت خلالها بتغيير غرضها الاجتماعي لتصبح شركة "رسكلة وتثمين النّفايات الحضريّة". لكن ذلك الإجراء جاء بعد فوات الأوان.

في خريف سنة 2020، بدأت الأخبار حول هذه القضيّة تنتشر تدريجيّا إلى أن اندلعت علناً في مطلع شهر نوفمبر. واتّخذت الفضيحة منعطفًا دبلوماسيًا مع طلب تونس رسميًا إرجاع النّفايات إلى إيطاليا في 23 أكتوبر 2020.

أمّا من الجانب الإيطالي، فقد طلبت مقاطعة كامبانيا من شركة "أس أر أي" إيجاد مخرج للمأزق. غير أنّ الشّركة الإيطاليّة لم تتراجع عن موقفها، وظلّت النّفايات رابضة في الميناء. في رسالة مؤرّخة في 15 ديسمبر وموجّهة إلى نظيره الإيطالي سيرجيو كريستوفانيلي، حذّر عبد الرّزاق المرزوقي من أنّ "النّفايات تمثّل حاليًا خطر تلوّث هامّ (وجود موادّ مرتشحة وانبعاثات غازيّة سامّة)". ومرّت عدّة أسابيع دون تلقّي أيّ ردّ من السّلطات الإيطاليّة.

في غضون ذلك، طالبت مقاطعة كامبانيا شركة "أس أر أي" باسترجاع النّفايات، غير أنّ الشّركة رفضت الامتثال ما لم يتمّ تعويضها بالكامل من قبل الدّولة التّونسية أو الإيطاليّة. وفي 2 فيفري 2021، قضت المحكمة الإداريّة التّابعة لمقاطعة كامبانيا برفض دعوى شركة "أس أر أي" لإبطال الحكم. قضيّة للمتابعة.