على بعد 13 كيلومترا عن قلب العاصمة تتمترس سيارات الشرطة كما كل يوم أمام مركز الأمن بسيدي حسين السيجومي. يحدث ذلك منذ وفاة أحمد بن عمارة مساء 9 جوان. مع حلول الظلام تغلق التعزيزات الأمنية المكثفة كامل المنطقة المقابلة لمركز الأمن. يصرّ أبناء الحيّ الشعبي على مواصلة الاحتجاجات إلى حين محاسبة من قتلوا أحمد واسترداد حقوقهم من رجال الأمن الذين يضطهدونهم، كما جاء في حديث مجموعة منهم لإنكفاضة.
في الليلة الخامسة للاحتجاجات كانت إنكفاضة على الطريق الرئيسي لسيدي حسين عندما بدأت ألسنة النار تضيء عتمة الحيّ المفتقر للإنارة. عمد الشبان إلى حرق العجلات وترصيف الحجارة على الطريق لتعطيل سيارات الأمن عند ملاحقتهم. و لإخفاء هوياتهم عن عدسات الشرطة الفنية ومقاومة أكثر للغاز المسيل للدموع ينزع أغلب المحتجين إلى نزع قمصانهم ولفها حول وجوههم.
أطلق محتجون تجاه قوات الأمن كافة أنواع الشتائم. ونادوا على بعض المسؤولين الأمنيين في المنطقة بالإسم بتهم تلقي الرشاوى وعدم إنفاذ القانون واستعمال العنف غير القانوني ضدّهم. يقول أحد الشباب لإنكفاضة وهو من جرحى الثورة ممن نزل إسمهم في القائمة النهائية "مركز الأمن في سيدي حسين عبارة عن قباضة مالية. تذهب هنالك ليتم ابتزازك لتدفع. والا ستواجه شتى أنواع التهم والتضييقات"
يواصل شاب أخر لم يتجاوز العشرين "قلب العاصمة لا نعرفه إلا في الصور. عندما ننزل إلى شارع الحبيب بورقيبة يعترضنا الأمن. حالما يعرف أنّنا من سيدي حسين يوقفنا مباشرة ليفتش ملابسنا عساه يعثر على بعض المخدرات. نحن مجرمون دون محكمة. مجرمون حتى نثبت برائتنا"
آثار قنابل الغاز على شباك أحد المنازل بحيّ مراد بسيدي حسين,
"تدخل وأطلق الغاز ولكن دون شتائم.. هنا حيث صور فيديو الطفل عاريا، المكان مدجج بالكاميرات" يقول عون أمن لزميله أثناء المواجهات مع المحتجين. إنكفاضة كانت حاضرة على مطاردة رجال الأمن للمحتجين في أنهج حي مراد بسيدي حسين. لم يتوانَ رجال الشرطة عن إطلاق قنابل الغاز على المنازل التي يحتمي بها المحتجّون. يحدث ذلك في مخالفة صريحة للمعايير الدولية في استخدام الغاز المسيل للدموع، حيث يُمنع إستخدامه في الأماكن المغلقة.
حاول رجال الشرطة ليلتها نصب كمائن للمحتجين للإمساك بهم لكنهم فشلوا، حيث أتت الرياح بما اشتهاه هؤلاء. حيث توقف رجال الأمن عن إطلاق الغاز المسيل للدموع للحظات لأنّ الرياح كانت تعيده إليهم، عكس الليلة الماضية التي كانت ضد المحتجين.
على عتبة أحد المنازل يخرج رجل ستيني يلطم على ركبتيه مشتكيا وبصوت اشبه بالبكاء: "تعبت يا إلهي تعبت، كل ليلة والمحتجون والشرطة أمام منزلي لم أعد قادرا على النوم ولا العمل، قنابل الغاز فوق منزلي والكرّ والفرّ طوال الليل يقض مضاجعنا"
روايتان متضاربتان عن موت واحد
في نفس الموضوع
انطلقت شرارة الاحتجاجات في الليلة الفاصلة بين 9 و10 جوان بعد انتشار معلومة عن وفاة أحمد بن عمارة على يد الشرطة في مركز أمن بالمنطقة. ورغم أن المسؤولين الأمنيين قد سارعوا إلى تكذيب الخبر فإن لرفقاء أحمد رواية طويلة بتفاصيل متعدّدة عن تعرّضه لضربات مميتة من قبل دوريّة أمنيّة.
الرواية الرسمية جاءت صباح اليوم الموالي بعد ضغط الاحتجاجات، "حيث نفى الناطق الرسمي باسم وزارة الداخلية خالد الحيوني، وفاة الشاب بمركز الأمن أو على ايدي رجال الشرطة. وفسّر ما وقع على أن الشاب وصل ميّتا إلى المستشفى بعد أن لاذ بالفرار من الدورية التي حاولت ملاحقته للاشتباه في أمره."
كما حمّل الناطق الرسمي أبناء الحيّ مسؤولية مهاجمتهم للدورية الأمنية، زاعما أنهم إعتدوا عليها بالحجارة لإطلاق سراح أحمد الذي كان بين أيديهم. من جهتها حاولت إنكفاضة مرارا وعلى مدى أيام التواصل مع الناطق الرسمي خالد الحيوني طلبا لمعرفة تفاصيل أكثر عن موت أحمد واحتجاجات سيدي حسين. إلا أنها لم تتلقَّ أيّ ردّ.
في المقابل استمعت إنكفاضة إلى رواية عائلة أحمد وأصدقائه وأبناء حيه. يتناقل الجميع قصّة واحدة نقلوها عن شهود عيان الحادثة وفق تأكيداتهم. يقول صديق وجار أحمد، وليد العوني: " ليلة وفاته اعترضته دوريّة أمنية حاولت إيقافه. ولما تعنّت قليلا افتكوا دراجته النارية ورموها وأرادوا اقتياده إلى سيارة الأمن ولكنه رفض الصعود معهم بحجة أنه ليس هناك سبب لايقافه حسب ما سمعه عن الشهود، وأنه لن يترك دراجته ملقاة في الشارع حتى تسلب وتسرق"
ويواصل وليد "بعد أن نزلت الفتاة فيديو على موقع فايسبوك يوثق لحظة الإعتداء على أحمد دخل رجال الأمن منزلها الساعة ثانية فجرا ليحذفوا الفيديو. كما هددوها حتى لا تتكلم ومن الطبيعي أن تخاف وعمرها 17 سنة." ويضيف: "تقول الفتاة التي كانت شاهدة أنه ضُرب كثيرا ثم أخذ في السيارة."
حاولت إنكفاضة الإطلاع على الفيديو لكن لم تجد له أثرا على موقع فيسبوك كما لم تتمكن من التواصل مع الفتاة ولا معرفة هويتها.
يتسائل وليد: "لكم أن تتخيلوا ماذا وقع لاحقا. كيف انتقل من سيارة الأمن إلى يد شخص آخر أي ابن حيّنا في المستشفى و بالأصفاد؟ كيف يمكن إقناعنا بأن أحمد لم يمت على أيادي هؤلاء الأعوان؟ هل من المنطقي تصديق رواية أنه أُفتك من الأمن؟ هم نظموا هذه الرواية لأنه دخل المستشفى مصفّدا وبالتالي فلم يكن لهم إلا هذه الحيلة".
يقول وليد أنه دخل غرفة الموتى ورأى صديقه مصفدا. بوجه شاحب ومحتقن يضيف : "لم أستطع تقبل الأمر إلى اليوم لأنني أعرف طيبة أحمد وعلاقته بأصدقائه. هل يمكن أن تخرج كل هذه الناس للدفاع عن منحرف كما يريد الأمن للجميع أن يصدقوا؟ البارحة رأينا أباء الى جانب أبنائهم يحتجون على الأمن. بيننا من تلقى قنبلة غاز مسيل للدموع على صدره ولم يستطع الذهاب الى المستشفى وهو يعاني حاليا في منزلهم. في المقابل تم استدعائه من قبل الأمن هو وأخوه. أستدعي أخوه بسبب مشاركته الفيديو الذي نزلته الفتاة لحظة إيقاف أحمد وتعنيفه، حسب قوله.
في اليوم الموالي لجنازة أحمد أي في 11 جوان، تنقلت إنكفاضة إلى منزل عائلته. بعد منعطفات متتالية انطلاقا من الشارع الرئيسي في قلب حيّ سيدي حسين السيجومي، وصلنا أخيرا إلى حيث يسكن أحمد. كان المشهد برمتّه يشير إلى مكان عزاء. الأصوات خافتة، الجميع يتكلم همسا بوجوه متجهمة وجباه محمّرة من أشعّة الشمس والحرارة المتصاعدة. ولكن المؤشر الأبرز هي تلك الخيمة الكبيرة البيضاء التي تنصب في الأحياء الشعبية في المآتم كما في الأفراح.
أمام منزل أحمد بن عمارة يوما بعد وفاته.
على درج اسمنتي قبالة المنزل جلس الأب الستيني منصف بن عمارة واضعا رأسه بين كفيّه. يقول منصف في حديثه لإنكفاضة: "بالكاد أستطيع النوم. كل يوم أعيد رواية ما وقع لابني عشرات المرّات. وها أنا سأعيدها الآن ولأعيش مرة أخرى ما شعرت به ولازلت أشعر."
يسترسل الأب في الكلام: "بين السادسة والسابعة اعترضني ابني مغادرا المنزل. أوصيته بأن لا يشتري الخبز لأني عزمت أن أشتريه لاحقا عند عودتي من الجامع. فردّ عليّ بالإيجاب وتركني وذهب. لم أكن أعلم أنها ستكون المرة الأخيرة التي أراه فيها حيّا".
رواية الأب عن ظروف إيقاف إبنه استقاها من شهود عيان لم يتسنَّ لإنكفاضة مقابلتهم. يقول الأب "قيل لي أنّ البوليس اعترض أحمد طريق الجيّارة. ورغم أنه كان على دراجة نارية لم يهرب منهم. فقد أمسك به أعوان الشرطة وصفدوه وانهال عليه أحدهم بالشتائم".
يواصل الاب رواية الأحداث كما سمعها "عندما حاولوا الاستقواء عليه ودفعه داخل السيارة وضع ساقه في بابها للمقاومة. حينها ضربوه على رأسه بجسم حديدي ويداه مقيدتان. كانت الضربات مميتة، فحالما عرفوا أنه فارق الحياة تركوه ملقى في الشارع وهربوا".
يزداد التجهّم في وجه الأب ولكنّه لا يتوقف عن الكلام "وهو ملقى في الشارع بين المارة مرّ صديقه فتعرّف عليه وحمله مباشرة إلى محلّ تمريض الحيّ. إلا أن صاحب المحل ذعر من حالته لأنه لم يكن يتنفس فطلب منه إسعافه إلى استعجالي المستشفى. ولكنّهم حملوه إلى الاستعجالي ميّتا".
حسب جيران أحمد تم إيقاف الشاب الذي حمله إلى المستشفى حتى الرابعة فجرا ليلة الوفاة. حاولت إنكفاضة التحدث إليه في الأيام الموالية لكنّ أحدا من الجيران لم يرد التعاون في توفير معلومات الاتصال به، بحجّة أنه قدّم للأمن رواية مغلوطة عما وقع وأنه شهد ضد صديقه لأسباب لا يعلمونها.
خبر موت أحمد انتشر في الحيّ في وقت قياسي. والده الذي كان يحمل الخبز عائدا من الجامع لم يستقبل ابنه على الباب بل استقبل خبر موته. تقول جارتهم عن ذلك: "حينما سمع الخبر جثى على ركبتيه، انهار الرجل تماما من الصدمة. فهو لم يكد ينسى وفات ابنه الآخر في حادث مرور السنة الفائتة حتى فُجع في أحمد وبهذه الطريقة التي لا يمكن لأحد تخيلها."
أقلّ الأولاد الذين أخبروا منصف بن عمارة بموت ابنه إلى مستشفى شارل نيكول. يقول الوالد لإنكفاضة: "من الباب عند المستشفى أكّدوا لي أنه مات. لاحقا جاء وكيل الجمهورية قدم لنا العزاء وأعلن عن فتح تحقيق بعد المعاينة". ويستدرك: "يريد الأمن اليوم تلفيق تهمة ابتلاع مواد مخدرة لأحمد فيما العنف الذي سلّط عليه كبير. جمجمته مهشمة، يدي دخلت في رأسه حينما لمسته. لقد ضُرب ابني حتى الموت وهو مقيد".
النعش الذي حمل فيه أحمد بن عمارة إلى المقبرة، من أمام منزل والديه في سيدي حسين.
ويواصل: "لم يسلم هو ولا جنازته، مع الاحتجاجات التي بدأها رفاقه، هاجم البوليس منزلنا ليلة الجنازة بالغاز المسيل للدموع. فقد هرب المحتجون إلى منزلي ولاحقتهم الشرطة بقنابل الغاز. لديّ نساء مسنة وأطفال في المنزل يواجهون الاختناق وعدا ذلك من المفترض أن لمنزل العزاء حرمة فلماذا يتم الإعتداء علينا؟"
النقابات الأمنية في وضعية الدفاع
بعد يومين من موت أحمد أعلن المكتب التنفيذي لنقابة أعوان وإطارات إقليم الأمن الوطني عن تسخير 25 محاميا للدفاع عن الإطارات الامنية التابعة لمنطقة الأمن الوطني بسيدي حسين وتوفير محاكمة عادلة لهم. على رأس هؤلاء المحامين بلال التازني.
تحدث التازني ليلة 13 جوان في حوار تلفزي على قناة قرطاج+ عن ظروف إيقاف أحمد. حيث قال المحامي "أن الدورية كانت متواجدة في مكان الإيقاف باعتبارها نقطة سوداء لترويج المخدرات وأن أحمد كان على قائمة المشتبه بهم في الترويج. التازني أضاف أن أعوان الأمن قد أوقفوا أحمد وعمدوا إلى تثبيته. إلا أنه أثناء العملية تمكن من ابتلاع خمس حبيبات بلاستيكية تحتوي مادة الكوكايين للتخلص منها". وتابع: "حُجزت لديه كذلك كمية من مخدر الكوكايين الأبيض والأسود علاوة على خمس سجائر منهم إثنتان محشوة بمادة الكوكايين السوداء."
ويقول المحامي في مداخلته: "أن التقرير الشرعي الأولي أثبت أن أحمد بن عمارة توفي بجرعة زائدة من المخدرات". وقد أكد في كلامه أنه حسب محاضر البحث التي إطلع عليها تُرك أحمد من قبل أعوان الأمن مصفّدا فيما تم نقله من قبل الشبان إلى محل تمريض بعد حوالي ربع ساعة وبعد أن نُزعت الأصفاد من يديه. ولكنّه يصرّ على أن الجثة لم تحتوِ على أية أثار عنف. ويعتمد في ذلك ما قال أنه " التقرير الشرعي الأولي" وبأنّه قد أثبت أن الموت ناتجة عن المواد التي ابتلعها وليست عن العنف، مستشهدا كذلك بمعاينة النيابة العمومية في عدم وجود آثار عنف.
من جهتها أكدت النيابة العمومية في تصريح لموقع الشارع المغاربي على لسان الناطق الرسمي باسم المحكمة الابتدائية بتونس 2 فتحي السّماتي، بأنّ "جثة أحمد لم تكن تحمل آثار عنف شديد وفق المعاينة الأولية وأن الشبهة تتجه إلى أن الهالك قد استهلك مواد مخدرة لطمس الدليل ضدّه".
ووفق تصريح السماتي فإن "تقرير الطب الشرعي هو الوحيد الذي سيحدد أسباب الوفاة وعلى ضوئه سيتم تحميل المسؤوليات إن وجدت، إلى كل من سيتحملها."
في المقابل تحدثت إنكفاضة إلى التومي بن فرحات، أحد المحامين المكلفين بقضية أحمد بن عمارة. بن فرحات أكد "أنهم تواصلوا مع النيابة العمومية التي أكدت بدورها عدم تلقيها أي تقرير شرعي أولي"كما وصفه محامي الفرقة الأمنية، وأن لا وجود لهكذا تقارير ضمن ملفات القضية لا لدى النيابة ولا لدى فرقة الأبحاث ببن عروس."
واعتبر بن فرحات أن "ذكر هكذا تقرير دون أي دليل على وجوده يمكن وضعه تحت فرضيتين اثنتين وهما إما أن الفرقة الأمنية المتورطة تتحصّل على الوثائق قبل الجميع أي النيابة العمومية والفرقة المختصة وما يعنيه ذلك من سرقة للوثائق أو أنّ ما ذكره محامي الفرقة الأمنية يأتي ضمن محاولة لبث الإشاعات". معتبرا أن ما حدث يعدّ غير قانوني في جميع الحالات.
بن فرحات أكد كذلك أنهم -أي محامي ومحاميات أحمد- بصدد الاستماع إلى الشهود والشاهدات الذين باتوا يعانون ضغطا رهيبا وخوفا، وأنهم قد يذهبون إلى تقديم شكاية بناء على ما ذكره محامي الفرقة الأمنية.
الجنازة تتحوّل إلى معركة مع الأمن
أظهرت وزارة الداخلية تخبطا واضحا في علاقة بما وقع في سيدي حسين، بين محاولة للتنصل من المسؤولية ومواصلة سياسة التعتيم. ففي الوقت الذي تشبثت فيه الوزارة برواية واحدة عن وفاة أحمد بن عمارة لغياب فيديو أو صور. وعلاوة على أنّها كانت رواية نمطية عن جهود قواتها لم تكشف تفاصيل كل ما حدث، مثل ترك أحمد مصفّدا في الشارع من قبل الدورية التي أوقفته. سارعت بعد يوم من الحادثة الشهيرة (10 جوان) لتعرية الطفل ذو الـ 15 سنة في الشارع من قبل أعوان أمن وتعذيبه، إلى إصدار بيان ثان عن الواقعة بعد إنتشار فيديو يوثق تفاصيل الإعتداء.
أفادت وزارة الداخلية في بيانها الأول أن من ظهر في الفيديو "كان في حالة سكر مطبق، وعند توجه الدورية إليه للتحري معه تعمد التجرد من أدباشه في الطريق العام في حركة استفزازية لأعوان الأمن."
وأضافت أنه "باستشارة النيابة العمومية، أذنت بالاحتفاظ به من أجل الاعتداء على الأخلاق الحميدة والتجاهر بما ينافي الحياء واتخاذ الإجراءات القانونية في شأنه." كما أكّدت في ذات البيان "أنه تم في الحين فتح بحث لدى التفقدية العامة للأمن الوطني بوزارة الداخلية لتحديد المسؤوليات حول ما رافق عملية التدخل للسيطرة على المعني بالأمر من تجاوزات واتخاذ الإجراءات المستوجبة تبعا لنتائج البحث."
بعد ضغط الشارع وتداول أكثر من فيديو على مواقع التواصل الإجتماعي لنفس الحادثة تظهر عملية تجريده من ملابسه من قبل أعوان الأمن ومعرفة هويته بأنه كان طفلا لا يتجاوز الـ15 سنة، حاولت الوزارة تدارك الأمر. فعمدت إلى إصدار بيان ثان جاء على النحو التالي: "على إثر تداول مقطع فيديو على مواقع التواصل الإجتماعي يتضمن تعرض مواطن لاعتداء من قبل أعوان الأمن، فإن وزارة الداخلية تدين هذه التصرفات وتؤكد انها تتعارض مع توجهاتها العامة."
كما أكدت الوزارة في بيانها "إيقاف الأعوان المسؤولين عن هذه التجاوزات عن العمل" وختمت البيان بالإشارة إلى أنها ستواصل العمل على الارتقاء بأداء منظوريها ودعم الجانب التكويني لهم من الأجل القيام بمهامهم على أكمل وجه استجابة لمفهوم الأمن الجمهوري وخدمة للمواطن.
في نفس الموضوع
إنكفاضة من جانبها قابلت شهود وشاهدات عيان على حادثة تعرية الطفل وتعذيبه أثناء جنازة أحمد بن عمارة، والتي مثلت لحظة أخرى في تطوّر المواجهات بين أبناء وبنات الحي ورجال الأمن. يقول عمر* 17 سنة من حيّ مراد بسيدي حسين لانكفاضة: "كنت حاضرا في الجنازة. لم نصل بعد الى المقبرة حتى خرجت في أثرنا 3 سيارات شرطة لتفريق المتواجدين ثم بدأوا يطلقون قنابل الغاز المسيل للدموع. هرب الشاب -الذي صور لاحقا عاريا يتعرض للضرب من قبل أعوان الأمن- ، من الغاز لأنه لم يعد يتحمّل وكاد يختنق".
يضيف عمر: "عندما نزلوا في المرة الأولى لإيقاف الطفل قال أحد الأعوان لآخر "يا زميل هزو للكرهبة [أي خذه إلى سيارة الإيقاف]" إلا أنّ الآخر أجابه: "لا عندي ما نعمل معاه قبل" أي " لديّ ما أفعل معه قبل إيقافه"، ثم قام بدفعه أرضا وتجريده من ملابسه وانهال عليه ضربا بالماتراك" وفق عمر*
يرفع عمر صوته في تعجب ممزوج بالحسرة والشكوى: "لماذا يفعل الأمن بنا هكذا. عمره [15] سنة عندما يكبر ماذا سيفعل وكيف سيرى رجال الأمن. تعكرت نفسية الطفل ولم يعد مستعدا لاستقبال أي أحد".
يواصل الفتى في نفس نبرة الشكوى: "الحاكم أي الأمن لا يرانا سوى أموالا أي فرصة للرشوة أو مجرمين. في 2017 أيمن عثماني قتل بـ'الكرتوش' قالوا رصاصة ارتدت من الحائط، عمر العبيدي قالوا له "تعلم عوم" وتركوه يغرق وأحمد لم يفعل شيئا ضرب في مقتل. المرة القادمة سيكون شخص آخر من بيننا".
تزداد نظرة عمر يئسا ويتابع: " لقد عذبتمونا .. هنا نصل إلى 16 سنة لا نفكر سوى في الخروج من تونس لأننا إما نموت في البحر أو إنّنا سنتعرض إلى تلفيق قضية. الشاب ميت ولم يسلم ومازالوا يكذبون عليه ويلفقون له التهم. قمنا بثورة من أجل الحرية ولم نغنم إلا القمع والعنف. كيف يمكن للأمن أن يضرب جنازة بالغاز؟ كيف تحبوننا ألا نردّ الفعل؟"
تتحول نبرة عمر إلى الغضب ويقف من مقعده على الكرسي البلاستيكيّ: " أين هو الدستور الذي صرفنا عليه الملايين؟ يتحدثون عن المخدرات والأمن متورط في تهريبها وتسويقها. يمكننا أن نشير لهم بالإصبع. أحمد مات مقتولا ولم يمت بمواد مخدرة أنتم ، أنتم قتلتموه -أي الأمن- ضربا. لماذا ألقيتم به في الشارع مصفدا لماذا لم تنقذوه لم تسعفوه؟ رماه الأعوان في الشارع وهو مصفد لأنهم خافوا من التورّط في قتله".
ليست هذه المرة الأولى التي يتم فيه إتهام رجال الأمن بالتورط في تجارة المخدّرات أو غيرها من الأنشطة غير المشروعة في الأحياء الشعبية خصوصا. وفق ما قاله متحدثون كثيرون لإنكفاضة. فيما تظل وزارة الداخلية صامتة أمام مثل هذه الإتهامات.
يتدخل وليد ليؤكد كلام عمر*: نحن نحارب رئيس الحكومة الذي هو نفسه وزير الداخلية. ما يعني أنه إذا وقع شيء في هذا الوقت فإنه سيسعى إلى طمسه بشتى الطرق لأن هذه البلاد ليس فيها أناس شرفاء في المناصب."
ويواصل: "الأمن ينظر لنا كجراثيم أو فئران. هل هو قاض حتى يحاسبنا؟ نحن محكومون بالإجرام حتى نثبت عكس ذلك حتى إذا ذهبنا في فرضية أنه منحرف-أي أحمد- وهي غير حقيقية بالمرة. بعد أن ضربته لماذا لم تحمله للمستشفى لماذا لم تسعفه ورميته في الشارع كالكلب سلّمه للقضاء على الاقل وان كان مذنبا سينال جزائه."
في نفس الموضوع
يقول وليد: "أنا شخصيا قضيت 9 أشهر في السجن بعدها خرجت بعدم سماع الدعوى وحينما ذهبت لأشتكي أجابوني بأنني لن أنال حقي وبكل سخرية قالوا لي هل تظن نفسك في أوروبا لتتحدث عن استرجاع حقك وتنظيف سجلك"
يعاني وليد من إصابة في ساقه، تميزه نحافته والعصا التي يتكئ عليها عند المشي. تجاوز الـ 32 من عمره ولا يزال عاطلا عن العمل فيما أخوه في الـ45 ويواجه نفس المصير. يعتبر أنه والشباب مثله ملقون في الشارع أمام أفق مسدود ووعود سياسية كاذبة.
ليلة دفن أحمد تنقلت أمهات كثيرات إلى مركز الأمن بسيدي حسين. تقول إحدى جارات أحمد التي كانت بينهن لإنكفاضة: " رئيس المركز رئيس عصابة.. يقبلون الرشاوى ويتعاطون الزطلة ولا يعملون على فرض أي نظام أو احترام في الحي. وتضيف: "واجهت رئيس المركز ليلة اندلاع الاحتجاجات وقد كنت أتحدث معه وأسجل بالهاتف، لست خائفة مما أقول ولن يستطيعوا النيل مني"
وتواصل: "كل ليلة منذ أن توفي ونحن نستنشق الغاز المسيل للدموع رضّعا وكبارا مرضى وأصحّاء. يرمون الغاز على المنازل. ماذا سنفعل حينها هل نخرج من منازلنا حتى يطلقوا علينا النار ليطمئنوا؟
في قلب حي مراد التابع لسيدي حسين اين تتركز أغلب المواجهات مع الأمن تحدثت إنكفاضة إلى بعض السكان. من بينهم فارس* شاب ثلاثيني يقول عن الليلة الثانية للمواجهات:" كنا جالسين هنا-أي أمام منازلهم- حينما وقعت مناوشات قرب القباضة مع الأمن. هرب على إثرها الشباب إلى هنا. فهجم خلفهم الأعوان على الحيّ وبدأوا يضربون بالحجارة عندما نفذت لديهم ذخيرة الغاز. كان عبد الله أحد جيراننا عائدا من الجامع فضربه عون أمن بحجر على مؤخرة رأسه وعندما سقط ركله آخر مرتين على وجهه. مما تسبب له في نزيف. "
نقول إحدى جارات عبد الله أنه يتيم وليس له في الحياة إلا أخته وأنه فتى هادئ وبعيد عن المشاكل. في اتصال هاتفي مع أخت عبد الله أكّدت لإنكفاضة أن أخاها يعاني من نزيف وارتجاج في الدماغ و يعاني من انسداد أحد الشرايين بالدم. وقد تم إيداعه قسم الإنعاش.
على باب منزل أحمد بن عمارة تقف عمته في استقبال المعزين. لا تفلّت فرصة الحديث للصحافة. بصوت مهتز وكلمات بالكاد تلملمها تقول لإنكفاضة: أليس أحمد إنسانا؟
نريد حق ابن أخي، نريد ممن قتلوه أن يسجنوا. لماذا حرقوا أكبادنا عليه، لقد احترقنا البارحة بموته. نحن نريد حق ابن أخينا، نطالب من كل الرؤساء النظر في القضية. أخي الآن محطم وابنة أخي في حالة سيئة.
لا تقدر زوجة أب أحمد على مغالبة دموعها وهي تذكر تفاصيل اليوم الأخير في حياته. تقول أنها تعبت من ممارسات الأمن بعد موت ابنها وأنها قد استنزفت اعصابها وطاقتها مما عانته ليلة كاملة من الغاز المسيل للدموع والشتائم التي يوجهها أعوان الأمن أمام منزلها عند ملاحقة المحتجين.
"أعمل حاليا على جمع تكاليف حرقة، كلنا هنا نفعل نفس الشيء. يكفيني أن أكون برتبة كلب في أوروبا حتى أحصل على الرعاية أمام القانون والمجتمع"، يجيب عمر* عن سؤاله عن نشاطه الحاليّ بعد ترك الدراسة. فليست حادثة موت أحمد بن عمارة في وعي غالبية أبناء حيّه إلا فرصة أخرى لتذكيرهم بأنهم مضطهدون ومنبوذون وفي حاجة إلى الخروج إلى الشوارع لإفتكاك حقوقهم.