بالأرقام، إيقافات تعسفية، عنف... وشهر من المظاهرات المقموعة

في غضون شهر واحد، تمّ إيقاف حوالي 1000 شخص - وفقًا للمصادر الرّسمية - خلال المظاهرات التي هزّت كامل أرجاء البلاد منذ 14 جانفي 2021. تعود إنكفاضة بالأرقام والشّهادات على قمع المحتجّين·ـات وانتهاك حقوقهم·ـن. تـ·يصف العديد منهم·ـن، بمن فيهم·ـن من القصّر والقاصرات، التّعنيف والاعتداءات والتّرهيب أثناء الإيقاف.
بقلم | 03 مارس 2021 | reading-duration 10 دقائق

متوفر باللغة الفرنسيةالإنجليزية
18 جانفي 2021. تمّ إيقاف نجم الدّين حنزولي النّاشط الحقوقي البالغ من العمر 27 عامًا، خلال مظاهرة وسط مدينة سوسة. يصف الشاب قائلاً: "بدأ أعوان الشّرطة فجأة في دفع المتظاهرين وأمروهم بالعودة إلى منازلهم". وبينما كان بصدد محاولة حماية أصدقائه وصديقاته، وقع تحت أنظار أعوان الشّرطة الذين أمسكوا به واقتادوه قسرا إلى مركز الشّرطة.

وفقا للمصادر الرّسميّة، تمّ إيقاف 968 شخصًا - حوالي الضّعف حسب الجمعيّات - خلال وعلى هامش الاحتجاجات التي اندلعت في جميع أنحاء البلاد منذ 14 جانفي المنقضي، عقب الإعلان عن حجر صحّي لمدّة 4 أيّام في إطار مجابهة جائحة كوفيد-19.

تزامن هذا الإجراء رمزيّاً مع الاحتفال بالذّكرى العاشرة لثورة 2011 على خلفيّة ظرف اجتماعي واقتصادي وصحّي متوتّر. في هذا السياق، رصد المنتدى التّونسي للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة 1492 تحرّكا احتجاجيّا خلال شهر جانفي اكتست فيها المطالب طابعا اقتصاديّا واجتماعيّا بدرجة أولى.

1000 موقوف·ـة، والإفراج عما يفوق النصف

في 18 جانفي الموافق ليوم إيقاف نجم الدّين، تباهت وزارة الدّاخليّة بإيقافها لـ632 شخصا متّهمة البعض منهم·ـن "بإشعال إطارات مطّاطيّة وصناديق قمامة وقطع الطّرق بغرض عرقلة تحرّكات قوّات الأمن". غير أنّه لن يتمّ في الواقع تتبّع سوى عدد ضئيل منهم·ـن لاحقا.

وباتّصال إنكفاضة بها، لم تردّ وزارة الدّاخلية على طلب إجراء مقابلات والنّفاذ إلى المعلومات المتعلّقة بهذه الإيقافات.

إجمالا، تمّت بالكاد محاكمة 47 شخصا من أصل 968 موقوفا وموقوفة. كما أنّ ما يفوق 300 شخص في حالة إيقاف بانتظار المحاكمة في حين تمّ الإفراج عن أكثر من النّصف وفقا لوزارة العدل. ذلك هو شأن نجم الدّين الذي أُطلق سراحه في غضون نصف ساعة من اقتياده إلى مركز الشّرطة. يروي قائلا: "عندما أدركوا أنّني لم أفعل شيئًا وأنّه ليس هناك أيّ دليل ضدّي، أخلوا سبيلي".

هذا البين الشّاسع بين عدد الموقوفين والعدد الفعلي للأشخاص محلّ تتبّع قضائيّ أو الذين واللواتي تمّت محاكمتهم·ـن يُعتبر دليلا واضحا على ممارسة السّلطات لسياسة الإيقاف والترهيب في غياب تهم كافية لإدانة المحتجّين·ـات لاحقا. غير أنّه تجدر الإشارة إلى أنّ وزارة العدل لم توضّح ما إذا كان من الممكن تتبّع المفرج عنهم·ـن قضائيّا لاحقا.

رصدت جمعيّات حقوق الإنسان من جانبها، اعتقال حوالي 1700 شخصا، ثلثهم تقريبًا من القصّر والقاصرات، في غضون أسبوعين. وبمناسبة دعواتها للإدلاء بشهادات أو زياراتها التّلقائيّة للسّجون ومراكز الإيقاف، تمكّنت هذه المنظّمات من تجميع العديد من الشّهادات حول العنف المسلّط أثناء الإيقافات.

"أحنَيَا رأسي وضرباها بعنف"

كان نجم الدّين وسط الحشد عندما لمح شرطيًا "فارع الطّول" يقترب منه، فاعتراه الخوف ولاذ بالفرار. حينها، قام شرطيّان بالزّيّ المدنيّ بمطاردته على متن درّاجة ناريّة إلى أن أوقفاه في النّهاية. "ترجّلا من درّاجتهما النّاريّة وطوّقاني ثمّ أحنيا رأسي وضرباها بعنف"، حسب روايته.

"قاما بجرّي أرضا وشتماني أنا وأمي. كما قالا لي إنّهما سيقتادانني إلى مركز الشّرطة حيث لن يراني أحد وسيشبعانني ضربا ويقتلانني هناك".

ومع ذلك، لم يرغب نجم الدّين في رفع شكوى لاحقا لأنّه يعتبر أن "لا جدوى من ذلك إذ لن تنصفني العدالة"، حسب قوله.

كما جاء في شهادة أيّوب بولعابي، البالغ من العمر 22 عامًا وهو كذلك ناشط حقوقي، أنّه تعرّض للتّعنيف من قبل أعوان الأمن. كان الشاب قد شارك في مظاهرة وسط العاصمة يوم 30 جانفي. ونُشرت في الأيّام التي عقبت ذلك على صفحات نقابات الشّرطة صورة له ماسكا بحجارة أثناء المظاهرة ومرفوقة بتعليقات تتّهمه بقذف شرطيّ بها.

بعد مرور أسبوع تقريبا، في يوم 9 فيفري بالتّحديد، أُوقف الشّابّ في الشّارع. ترصّده ثلاثة من رجال الشّرطة بالزّيّ المدنيّ وانقضّوا عليه واقتادوه. يروي قائلا: "ضربني رجال الشّرطة وشتموني في السّيّارة التي كانت تقلّني إلى مركز الشّرطة وكذلك في المركز". وتمّ إيداعه في سجن مرناق المدني لما يقارب 10 أيّام بتهمة "هضم جانب موظّف عمومي وأشباهه ومقاومته بالعنف".

بادرت الرّابطة التّونسيّة لحقوق الإنسان بجمع العديد من الرّوايات الأخرى حول العنف المسلّط خاصّة على القصّر والقاصرات. وأكّد جميع الأطفال الذين واللواتي تعهّدت هذه المنظّمة بإحاطتهم·ـن والبالغ عددهم·ـن 126 طفلاً وطفلة، تعرّضهم·ـن للعنف أثناء الإيقاف. تذكر نورس دوزي، المنسّقة صلب الرّابطة التّونسيّة للدّفاع عن حقوق الإنسان (LTDH): "يبلغ عمر أصغر الأطفال الذين تعهّدنا بهم 14 عامًا ! كما أنّ العنف المسلّط أثناء الإيقافات يشمل جميع الفئات العمريّة". وأبدت منظّمة "محامون بلا حدود (ASF)" نفس الملاحظة، علما وأنّ أعمار الأشخاص الذين واللواتي تعهّدت بإحاطتهم·ـن تراوحت بين 12 و 33 عامًا.

وتضيف الرّابطة أنّه تمّ الاعتداء على الأغلبيّة السّاحقة من أولياء أمر هؤلاء القصّر والقاصرات، خاصّة أثناء مداهمة منازلهم·ـن أو داخل مراكز الإيقاف.

كما تستنكر المنظّمة عدم قانونيّة بعض الإيقافات، إذ توضّح نورس دوزي في هذا الصدد: "في بعض الحالات، أجبر أعوان الشّرطة الأولياء على إمضاء محضر دون استدعاء مندوب حماية الطّفولة، وهو ما يشكّل عادة إجراءً إلزاميّا في هذا النّوع من الحالات".

تستطرد قائلة "بالنّسبة للقصّر وللقاصرات، عندما تكون التّهمة الموجّهة دون خطورة تُذكر، يتعيّن على رجال الشّرطة، من النّاحية القانونيّة، تحذيرهم·ـنّ فحسب، وليس إيقافهم·ـنّ على الفور. نحن نتحدّث هنا عن تحطيم حياة شبّان وشابّات".

شرطة تنتهك حقوق الموقوفين·ـات

سُجّل انتهاك العديد من الحقوق الأخرى أثناء الإيقاف مثلما ورد في شهادة نجم الدّين الذي مُنع من الاتّصال بمحام·ـية. يروي الشاب قائلا "عندما أردت الاتّصال بمحاميّ، سُئلت عمّا إذا كنت أحفظ رقمه عن ظهر قلب. عندما أجبت بالنّفي، رفض أعوان الشرطة ذلك وأُمرت بالتزام الصمت".

تؤكّد نورس دوزي: "أرسلنا محامين على عين المكان لتمثيل الموقوفين·ـات غير أنّهم مُنعوا من الدّخول في العديد من المرّات".

هذا وتحاول كلّ من الرّابطة التّونسيّة للدّفاع عن حقوق الإنسان ومنظّمة "محامون بلا حدود (ASF)" تقديم المساعدة القانونيّة للمتّهمين·ـات بصفة منتظمة. حيث وضعت منظّمة ASF رقم اتّصال على ذمّة الموقوفين·ـات منذ اندلاع الاحتجاجات، حسب توضيح أميمة المهدي، المنسّقة صلب المنظّمة: "لقد وفّرنا مساعدة قانونيّة لـ110 أشخاص إلى حدّ الآن".

كما تتدخل هاتان المنظمتان أحيانًا بطريقة أكثر مباشرة. مثال على ذلك حالة نجم الدّين الذي يرى أنّه ربّما لو لا تدخّل الرابطة في ملفّه، لما أُفرج عنه بهذه السّرعة.

تجدر الإشارة أيضا إلى أنّ إنابة محام·ـية تُعتبر حقّا يكفله القانون عدد 5 لسنة 2016 المتعلّق بتنقيح وإتمام بعض أحكام مجلّة الإجراءات الجزائيّة، خاصّة في ما يتعلّق بإجراءات الإيقاف التّحفّظي. وتوضّح أميمة المهدي عن "محامون بلا حدود" في هذا الصّدد: "إنّه لقانون ثوري يضمن الحقوق والحرّيّات لدى الإيقاف التّحفّظي، غير أنّه يغيب عنه التطبيق. إذ سجّلنا بمناسبة الملفّات التي تعهّدنا بها صلب المنظّمة بتونس خرقا كلّيّا لهذا القانون يبلغ 100% من مجموع الحالات."

ينصّ القانون على أنّ وكيل الجمهوريّة هو وحده المخوّل للتّمديد كتابيّا في أجل الاحتفاظ مرّة واحدة فقط لمدّة 24 ساعة في مادّة الجنح و 48 ساعة في مادّة الجنايات.

كذلك الشّأن بالنّسبة للحقّ في فحص طبّي أو الالتزام بإخطار أحد أفراد العائلة. قبل أن يتمّ سجنه، اقتيد أيّوب أوّلاً إلى مركز شرطة يقع في وسط العاصمة، ومنه إلى مركز الإيقاف بوشوشة حيث قضّى اللّيلة. يشرح هذا الأخير: "بحث عنّي أقاربي في كلّ مكان وجابوا جميع مراكز شرطة المدينة. في نهاية المطاف، علم المحامون أنّني في بوشوشة وأبلغوا أهلي".

انتهاكات تُفلت من العقاب

على عكس نجم الدّين الذي أُفرج عنه في وقت وجيز دون تتبّعات تُذكر ضدّه، تمّ تتبّع أيّوب قضائيّا والحكم عليه بالسّجن لمدّة 5 أشهر مع وقف التّنفيذ. وفقا للمنتدى التّونسي للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة (FTDES)، تراوحت الأحكام الصّادرة بحقّ المحتجّين·ـات بين خطيّة قدرها 50 دينارًا والسّجن لمدّة 4 سنوات.

حسب أميمة المهدي عن منظّمة ASF، تمّت تبرئة أغلب الذين شملتهم·ـن التتبعات أو تمّ تغريمهم فحسب.

وثّقت كلّ من الرّابطة التّونسيّة للدّفاع عن حقوق الإنسان (LTDH)  ومنظّمة "محامون بلا حدود (ASF)" التّهم الموجّهة ضدّ المحتجّين·ـات الموقوفين·ـات والعقوبات المترتّبة عنها والتي تراوحت بين تسليط خطيّة قدرها 50 دينارًا والسّجن لمدّة 6 سنوات.

توضّح نورس دوزي أنّ اللّجوء إلى اتّهامات عامّة وفضفاضة على غرار "مخالفة حالة الطّوارئ" يسنح لقوّات الأمن بتجريم الأفراد دون تحديد التّهم الموجّهة إليهم·ـن بالضّبط.

كما تستنكر الجمعيّات كون العنف المسلّط أثناء الإيقافات لا يؤدّي إلى إسقاط التّتبّعات. وتعلّق أميمة المهدي قائلة: "لم تُسجّل الكثير من حالات حفظ التّهمة أو رفض الدّعوى بسبب 'المبطلات الإجرائيّة'، وذلك في انتهاك واضح للقانون عدد 5 أثناء الاحتفاظ".

وبحسب قولها، فإنّ سلوك بعض وكلاء النّيابة من شأنه تكريس العنف المسلّط من قبل قوّات الأمن. ففي صفاقس،مثلا، يُزعم أنّ وكيل النّيابة رفض معاينة آثار العنف والكدمات على جسد أحد الموقوفين ولم يدوّنها بالتّالي في ملفّه. وفي غياب هذه القرينة، لم يكن المحامي ليتمكّن من رفع شكوى ضدّ الأعوان المعنيّين. وتابعت قائلة "تمّ بالفعل التّنصيص على عقوبات ضدّ أعوان الأمن غير أنّ تطبيقها يستوجب إثبات وكيل النّيابة عدم احترام إجراءات الإيقاف".

"يسهم بعض وكلاء النّيابة في التّستّر على الوحشيّة والعدوانيّة المسلّطة وعدم كشفها للعموم، وبذلك يظلّ أعوان الشّرطة في مناصبهم مع إفلات تامّ من العقاب".

هذا وإن كان بوسع المحتجّين·ـات مقاضاة رجال الشّرطة، فإنّه في واقع الحال "قليلون هم النّاس الذين يتقدمّون بشكوى لاحقا". وتختم أميمة المهدي بالقول: "إنّهم لا يريدون سوى محو هذه الحلقة المريرة من ذاكرتهم".