"من الطّبيعي إقرار إجراءات، لكن ليس من المعقول غلق الفضاءات الثّقافيّة قبل المقاهي والمطاعم!"
تزداد حدّة غضب مدير الرّيو وهو يروي كيف أُجبر على إغلاق قاعته للمرّة الأولى في مارس، عند اكتشاف أولى حالات كوفيد-19 في تونس، إعدادا للحجر الصّحّي العامّ. وليس الحبيب بلهادي الوحيد المستاء من هذه الإجراءات، ذلك أنّ إيقاف عرض الأفلام في دور السّينما، يبطئ سلسلة الإنتاج برمّتها ويؤثّر على الجميع من مخرجين·ـات وتقنيّين·ـات ومنتجين·ـات وموزّعين·ـات.
وهكذا، بالكاد بعد يومين من إطلاق فيلمه في مارس 2020، علِم المخرج علاء الدين سليم أنّ فيلمه سُحب على عجل من قاعات العرض، عند إغلاق دور السينما. إضطرّ المخرج على إثر ذلك، إلى تأجيل إصدار الفيلم إلى أكتوبر. ولكن، لم يبتسم له الحظ وانتهى به الأمر بإلغاء كل شيء بسبب حظر التجول. كما تم تأجيل العرض إلى تاريخ غير محدّد.
مهنيّو·ـات السّينما في خطر
ينفق الحبيب بلهادي 9000 دينار شهرياً لإبقاء قاعة السّينما الخاصّة به على قيد الحياة. كافح المدير منذ بداية الوباء لتغطية نفقاته، ذلك أنّه "لم يعد لدينا أي دخل، فقط نفقات" على حدّ تعبيره. في الجهة الأخرى من العاصمة، وتحديدا في ضاحية قرطاج، يؤكّد قيس زايد، مدير قاعة سينمَادار، أنّه لم يعد بإمكانه تغطية التكاليف المرتبطة بإيجار القاعة والفواتير التّابعة. هو الآن يتدبّر أمره قدر المستطاع، ولكنه لا يخفي قلقه من المستقبل.
ويضيف "نحن في حالة من الغموض التام ولا يمكننا رؤية نهاية النفق. أعتقد أن العديد من دور السينما قد تختفي بحلول عام 2021 إن لم تحدث معجزة ما !".
خلال فترة الحجر الصّحّي التي استمرت شهرين في مارس 2020، كان الإغلاق عسيرًا بشكل خاص. ويضيف: "أن نغلق أبوابنا في مارس، فتلك ضربة قاصمة لأنه كان موسم الذروة، كنّا بصدد عرض أفلام مهمّة للغاية وكانت بالفعل تلقى قبولا جيّدا". أعيد افتتاح بعض دور السينما خلال الصّائفة الفائتة، على أمل استرجاع الخسائر وجذب الجمهور من جديد، ولكن الوضع كان بعيدا كل البعد عن ذلك. يواصل قيس زايد بتأسّف: "العودة في جوان كانت كارثيّة، وكانت الأرقام منخفضة للغاية. لاسترداد التكاليف، كان يتعين علينا استيعاب ما يعادل 1000 متفرج في الأسبوع. في الصيف، مرّت بنا أسابيع لم نبلغ فيها حتى 50 متفرجًا".
يعدو قيس هذا الانخفاض الحادّ في عدد الحضور إلى الخوف من الإصابة بالفيروس. يقول المشغل إنه طبّق بدقة البروتوكول الصّحّي، من أقنعة إلزامية، وقيس لدرجة الحرارة عند المدخل، وتباعد بين المقاعد وعلامات على الأرضيّة، إلّا أنّ هذا لم يكن كافيا لطمأنة الجمهور. "لقد تمكّن الخوف الناسَ. إن الذين يواصلون القدوم هم حرفاء معتادون يتضامنون مع السينما المحلّيّة، لكن ذلك ليس كافياً".
على أمل الحدّ من الضرر، طلب المديران الدّعم من الدولة، - التي أنشأت صندوقا لدفع الحياة الثّقافيّة في مارس الماضي، بفضل منحِِ من قبل خواصّ. وبحسب شيراز العتيري، وزيرة الثّقافة السّابقة ومنشئة هذا الصّندوق، فإنّ الفاعلين·ـات الثقافيين·ـات قد خسروا وخسرن ما يبلغ 15 مليون دينار خلال شهريْ الحجر الصّحّي.
ولكن بعد مرور ثمانية أشهر من إيداع طلبهما، أكّد قيس زايد وحبيب بلهادي أنّهما لم يتلقيا هذا الدّعم بعد. يقول الحبيب بلهادي: "قيل لنا إننا سنحصل على المال قبل نهاية الحجر، لكننا لم نتلق أي شيء بعد".
من المفترض أن يقوم الصندوق بتعويض خسائر المشغلين·ـات، من خلال التّكفّل بجزء من تكاليف الرّواتب والإيجارات على مدى أشهر الحجر الثّلاثة، بحسب محمد فريني، مدير شركة هكّا للتوزيع. ويؤكد الحبيب بلهادي أنها "6900 دينار على ثلاثة أشهر" بالنّسبة لقاعة الريو.
نعمان الحمروني، مدير اللجنة التنفيذية للصندوق، يبرر هذا التأخير في تصريف مبالغ الدّعم، بـ"مشاكل إدارية [تؤدي] إلى إبطاء التعويض". وقد تم بالفعل مساعدة بعض الهياكل الثقافية. ولكن العديد من المؤسسات لا تزال تنتظر. كما لم يتمّ حتى النظر في مطالب القطاعات الأخرى، على غرار قطاع الموسيقى.
تمت معالجة الطلبات المقدمة من المسارح والسينما ودور النشر فقط. ولا تزال قطاعات أخرى مثل الموسيقى معلقة، بحسب المعلومات التي قدمها نعمان الحمروني إلى حدود 16 أكتوبر 2020.
إبداع في حالة تعطيل
خلف مشغلي·ـات قطاع السّينما، تتأثر السّلسلة بأكملها ولا سيما التقنيّون والتقنيّات. منير باعزيز، مخرج ومدير التّعاونيّة التّونسيّة للفنّانين، يروي شهادة إحدى التقنيّات التي لم تتلقّ أجرا منذ شهر جانفي، ما أدّى بها إلى التخلّف عن دفع الأقساط الشهرية لقرضها البنكي، وهذا بدوره، جعل المصرف يهدّدها بمصادرة منزلها. يؤكّد منير باعزيز أن هذا الوضع ليس بغريب وأنّه يواجه مواقف مماثلة "كلّ أسبوع"، منذ بداية الجائحة.
مع الانخفاض الحاد في التصوير، لم يتسنّ للعديد من الفاعلين·ـات الثقافيين·ـات العمل منذ عدة أشهر، الأمر الذي ألقى بهم·ـن في وجه صعوبات عدّة. تقول درّة محمدي، مساعدة مخرج: "شخصيًا، كان آخر تصوير لي في مارس. هناك مخرجون آخرون سنحت لهم الفرصة للقيام ببعض التّصوير منذ ذلك الحين، لكن الأمر لم يكن كما كان عليه من قبل، وهو لا يكفي لكي يعمل الجميع".
من جهته، يؤكّد عبد الحميد بوشناق، مخرج وسينمائي، أنّه "على موقع التّصوير، لا يمكن أن يتواجد أكثر من 15 شخصًا على الأقصى. وهذا يعقّد الأمور، علما وأنّ الفريق التّقني يمكن أن يصل أحيانًا إلى 50 نفرا".
من جانب المنتجين·ـات والموزعين·ـات، فإن الوضع عسير هو الآخر. تـ·يهتم المنتجون·ـات بعمليّة تصوير الفيلم وتمويله، بينما تـ·يضمن الموزّعون·ـات الوساطة بين المنتجين·ـات والعارضين·ـات. منذ بداية الوباء، تراكمت الأفلام على مكاتبهم·ـن دون أن يتمكنوا أو يتمكّنّ من عرضها. بأسف، يقول محمّد الفريني مدير "هكّا للتوزيع": "في كلّ مرّة نعلن عن تواريخ عرض جديدة، دون أن نتيقّن ما إذا كنا سنتمكن من الالتزام بها أم لا". شركته التي توزع في المتوسّط 40 فيلما سنويا، لم تصدر منذ بداية السّنة إلى الآن سوى 12 فيلما. توجّه محمد فريني كغيره لطلب الدّعم من حساب دفع الحياة الثّقافيّة، لكنّه لم يتلقّ شيئا إلى حدّ الآن.
يضيف محمّد الفريني بقلق: "همنا الأساسي ليس كيفية تجاوز الأزمة، بل ما سيتبقى بعد كل هذا".
جائحة زادت على مصاعب قطاع الثّقافة
في تونس، لا يمكن لأيّ كان المطالبة بدعم من حساب دفع الحياة الثقافيّة. وفقًا لشيراز العتيري، منشئة الصّندوق، فإن 70٪ من المهنيين·ـات في هذا القطاع يعملون ويعملن بالفعل ولكن، بصورة غير رسميّة. وكنتيجة لذلك، لا يكون بحوزتهم·ـن أي وثيقة تثبت انتمائهم·ـن إلى هذا القطاع، وهو شرط إلزامي للحصول على هذا الدّعم.
لتلبية جميع المطالب، تلقت الوزارة تبرعات من جهات مانحة خاصة وكذلك مساعدة من المنظمة التونسية لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة (OTDAV).
إلى الآن، تظل وضعيّة الفنان غير خاضعة للتنظيم ومبهمة المعالم، كما لم تحدّد مجلة الشغل التونسية بوضوح وضعيّة الفاعلين·ـات منهم·ـن بطريقة حينية ومتقطعة. تم طرح مشروع قانون حول هذه المسألة منذ سنة 2017، لكنه لا يزال قيد المناقشة، ويشرح منير باعزيز قائلا: "إنه ينتقل من وزارة إلى أخرى دون أن يكون هناك حل نهائي".
بالنّسبة لدرّة محمدي، ليس هنالك شكّ في الضرورة الملحّة لتشريعِِ يوحّد كل الفاعلين·ـات الثقافيين·ـات. "ليس لدينا قانون يحدد رواتب التقنيّين·ـات، على سبيل المثال، يتم دفع أجور كل شخص بشكل مختلف. يجب علينا إصدار المزيد من التشريعات أو إنشاء المزيد من الهياكل".
"كل النصوص القانونيّة المتعلّقة بالثقافة صارت بالية"، على حدّ تعبير شيراز العتيري. وتضيف الوزيرة السابقة، التي تحصّلت على منصبها في فيفري 2020، إنها حاولت إصلاح القطاع قدر المستطاع، قبل أن يحل محلّها وليد زيدي خلال التّحوير الوزاري في أوائل سبتمبر. "تغيير الوزراء بشكل متواتر لا يسهل استمرارية العمل"، يأسف منير باعزيز.
بالكاد بعد شهر، أُقيل وليد زيدي بدوره وتسلّم مهامّ وزارة الثّقافة بالنّيابة الحبيب عمار، وزير السياحة.
"حقيقة أن وزير السياحة هو المسؤول عن الثقافة تظهر مدى عدم أهمية هذا القطاع بالنسبة لهم. إنها بالفعل رسالة مروّعة تنشرها الدّولة"، عبد الحميد بوشناق.
من ناحيتها، تقول درة محمدي: "لم يفعل الوباء شيئاً سوى تسليط الضّوء على الصعوبات التي كانت موجودة بالفعل في القطاع". ويضيف قيس زايد:" لدي انطباع بأن صناع القرار لا يَعون أن السينما قطاع هش للغاية ويعيش بفضل جمهوره. عندما تصدُر تعاليم بعدم الذهاب إلى قاعات العرض، فهذا يوحي بأنها مكان خطير، وذلك يؤثر بدوره على تصوّرات الناس". ويواصل قائلاً: "يمكن لكلمة واحدة أو عبارة واحدة أن تحطّم الجهد الذي قام به العديد من الأشخاص في هذا القطاع لسنوات عديدة محاولة منهم لحث الجماهير على العودة إلى الأفلام التي تركوها في تسعينيات وألفينيات القرن الماضي".
من المتوقّع أن تعلن الحكومة في 15 نوفمبر 2020 على البروتوكول الصحي الذي سيتم وضعه للأنشطة الثقافية. وتـ·يأمل المشغلون·ـات أن يتمكنوا ويتمكنّ من استئناف نشاطهم·ـن بعد شهور من التّعطيل.