رفض فؤاد في البداية الحديث عمّا اعتبرها "أسرارا تمسّ أمن الوطن"، ثمّ بعد دردشة دامت نحو ساعتين، قرّر أن يبوح ببعض الأجزاء التي ارتأى أنّها لا تمسّ بأمن البلاد وأنّها -في الآن ذاته- قد تساعد على تحسين أداء المؤسستين الأمنية والعسكرية في التصدّي للارهاب وتجارة الأسلحة وتهريبها على الحدود.
اشتغل فؤاد لأكثر من 20 سنة ضمن صفوف الجيش الوطني على الحدود التونسية الجزائرية. خلال السنوات الثلاث الأخيرة تمّ استدعاؤه لتعزيز صفوف الجيش في مهمّات محددّة من ذلك تأمين الاستحقاقات الانتخابية التشريعية والرئاسية (أواخر 2014) وحراسة بعض المنشآت السيادية والحيوية ابّان فترات الطوارئ وحضر الجولان.
العدوّ .. حمار
اشتغل فؤاد طيلة سنوات على الحدود التونسية الجزائرية وتحديدا في نقاط سيدي أحمد الصالح و سيدي رابح و حيدرة وفريانة وفوسانة الواقعة على ضفّتيْ خط التماس بين ولايتيْ الكاف والقصرين. في تلك النقاط، يزدهر نشاط التهريب بالإضافة إلى كثافة تحرّكات العناصر المشبوهة التي يفترض انتماؤها الى كتيبة عقبة بن نافع الإرهابية التي تتمركز قيادتها أساسا في جبل الشعانبي وبعض المرتفعات المتفرعة عنه على غرار السلّوم وسمّامة.
عايش فؤاد عدّة عمليات تمشيط أسفرت عن ملاحقة عناصر إرهابية وشارك في عمليات قتالية في جبل الشعانبي وغيره، الّا أنّ الأحداث التي رفضت مغادرة تفكيره تمحورت أساسا حول تلك الحمير التي بثّت الرّعب في نفوس العسكريين في ليلة مظلمة وجعلتهم يزحفون أرضا خوفا من أن يكونوا قد وقعوا في كمين نصبه الإرهابيون لهم.
"بحكم عمل أغلبنا طيلة سنوات على الحدود اعتدنا رؤية الحمير تتجوّل بمفردها قاطعة عدّة أميال جيئة وذهابا بين القرى التونسية ونظيرتها الجزائرية الحدودية ناقلة على ظهرها صهاريج محروقات مهربة وسلعا ومواد غذائية وأجهزة الكترونية. وكان الأمر يبدو عاديا بالنسبة إلينا حيث كنّا ندرك أنّ الأمر لا يدعو للخطر".
مع تطوّر الوضع ودخول معطى الإرهاب على الخطّ أصبح كل تحرّك على الشريط الحدودي يدعو للرّيبة والحيطة والحذر. حتّى الحمير التائهة في بعض الأحيان أصبحت سببا لاعلان حالة التأهّب.
يقول فؤاد في هذا السياق انّ "نقاط الحراسة والدوريات العسكرية المتحركة أصبحت تواجه مشكلة عويصة وخاصة خلال حملات التمشيط الليلية، تتعلّق أساسا بالحمير المعتمدة للتهريب"، حيث تناهت إلى مسامع الدوريات بعض التحذيرات في أوقات سابقة مفادها إمكانية وجود "حمير مفخخة" على شاكلة السيارات المفخخة، يعتمدها الارهابيون في منطقة وادي اليرغلي (في ولاية القصرين يقابلها من الجانب الجزائري قرية الكويف) من أجل تفجير الدوريات العسكرية والأمنية في حال اقتراب عناصرها لتفتيش الحمير والتثبّت ممّا تحمله.
بناء على ما سبق من معطيات -يضيف فؤاد- أصبح التعاطي مع تلك الحمير محفوفا بالحذر والحيطة و خاضعا لإجراءات صارمة قد تصل إلى حدّ الاستعداد لاطلاق النار صوب الحمير في حال واصلت سيرها اتّجاه الدوريات.
"كنّا نتمنّى لو أنّنا بصدد مواجهة جيش نظامي .. عدوٌّ واضح ومباشر لم يكن ليخيفنا بقدر ما أخافتنا تلك المخلوقات البكماء.. كنّا نتمنّى مثلا لو أنّنا بصدد مواجهة مدرعات أو سيارات رباعية الدفع مليئة بالعناصر المسلحة .. على الأقلّ تكون المعركة واضحة ومشرّفة .. فامّا النصر أو الموت بشرف .."
"أن تكون في مواجهة حمار غامض وتشعر بالرعب من الاقتراب منه، فتلك قمّة العار والخجل".
الخشية من الاقتراب من الحمير كان لديها ما يبرّرها -وفق المصدر العسكري- فقد تمّ الاشتباه في عدّة مرّات في احتواء الأغراض التي تحملها بعض الحمير على متفجرات قد تكون من النوع الذي يتمّ التحكّم فيه عن بعد من خلال الهواتف النقّالة، ما دفع بالعسكريين إلى الانبطاح أرضا حتى مرور الحمار وعدم التحرّك باتجاهه لتفتيشه خشية أن يكون الأمر كمينا مدبّرا خاصّة أنّه من الصعب التحرّك في أمان وسط تلك الأودية والتضاريس المعقّدة على عكس المهربين الذين يحفظون تفاصيلها عن ظهر قلب وهم قادرون على التنقّل فيها ليلا نهارا بسلاسة وأمان دون الحاجة الى إضاءة.
كيف يتمّ تدريب الحمير ؟
تدريب تلك الحمير المعدّة لتهريب الأسلحة على الحدود التونسية الجزائرية ليس بالأمر الجديد على المهربين. فقد تمّ ابتداع تقنية رئيسية منذ سنوات طويلة من أجل تهريب المحروقات والأجهزة الإلكترونية والمخدرات وفق منظومة شبيهة بمنظومات "الطائرات دون طيار".
الهدف من تدريب هذه الحمير -يضيف فؤاد- هو الحصول على حمار بلا قائد. حمار قادر على تنفيذ عمليات تهريب دقيقة وخطيرة دون الحاجة الى شخص يقوده، حتّى و ان تمّ افشال المهمّة على أيدي الجيش أو قوات الحرس على الحدود، فلن تكون هناك خسائر بشرية أو ايقافات تطال المهربين.
ويتمّ فصل الجحش الصغير بعد عام من ولادته عن أمّه وفطامه ومن ثمّة عزله تماما عن القطيع، لتنطلق رحلة تدريبه:
"التدريب يتمثّل في ترك الجحش يتضوّر جوعا وعطشا طيلة عدّة أيام قد تصل الى الأسبوع، ومن ثمّ قيادته من المستودع الأوّل (في الجانب التونسي) باتجاه المستودع الثاني (في الجانب الجزائري) حيث يتمّ سقيه واطعامه هناك. ليظلّ في المستودع لعدة أيام دون أكل أو شرب، ولمّا يبلغ درجة كبيرة من الجوع والعطش يتمّ تكرار نفس التقنية بشكل عكسي".
الهدف من هذه التقنية جَعلُ الحمار يتعوّد على التنقّل بين نقطتين معيّنتين (المستودعان) دون سواهما، حتّى ان بلغ النقطة الأولى تمّ سقيُه واطعامه وتحميله البضاعة. بعد ذلك يتمّ تركه بلا ماء أو أكل وإخلاء سبيله، فيتّجه مباشرة إلى النقطة الأخرى (المستودع الثاني) بحثا عن الأكل، فيتمّ استقباله وتسلّمِ البضاعة.
فؤاد يعتبر أنّ مواجهة هذه الحمير التي من الوارد أن يكون بعضها مفخّخا، لا يمكن أن تتمّ من دون تمكين الدوريات الحدودية من أجهزة متطوّرة للكشف عن محتوى الحمولة التي يحملها الحمار عن بعد، بالإضافة الى تعزيز الدورية بعنصر متخصص في الكشف عن المتفجرات وتفكيكها.
وفي ذات السياق يعتبر فؤاد أنّ قرار قتل كلّ الحمير لمجرّد الاشتباه في حملها لبضاعة مهرّبة من شأنه أن يقلّص من حجم الخطر الذي تمثّله غير أنّه -والكلام له- يظلّ عملا غير انساني.