ومَثّل الكشف عن مخبأ للأسلحة في ضواحي مدينة مدنين جنوب شرقيّ البلاد، خلال شهر جانفي 2013، منعرجا حاسما بالنسبة إلى السلطات التونسية وجملة الهيئات والمنظمات الدولية المتخصّصة في تقفّي الأسلحة غير المشروعة في المنطقة بشكل عام وعلى الشريط الحدودي التونسي بشكل خاص، حيث تمّ -ولأوّل مرّة في تونس- تفكيك ما لا يقلّ عن الثماني وحدات من ترسانة منظومات الدفاع الجوّي المحمولة المهرّبة من ليبيا، والمعروفة باسم ستريلا 2. خلال الفترة ذاتها تمّت إماطة اللثام عن ترسانة أخرى من الصواريخ المضادّة للدبّابات احتوت على ما لا يقلّ عن 43 صاروخا داخل مخزن سرّي تمّ اكتشافه في ضاحية المنيهلة غربي العاصمة.
اتّبعتْ جملة هذه الأسلحة وغيرها، مسالكَ ومسارات معقّدة ومتشعّبة، تنطلق بشكل أساسي من نقاط التَماس غربا مع ولايتيْ الكاف والقصرين وشرقا على طول الشريط الحدودي مع ولاية مدنين وبشكل خاص مدينة بنقردان، لتستقرّ في نهاية المطاف في جملة من المخابئ ونقاط التخزين السرية على غرار سوق الجملة بصفاقس، ويقع بعد ذلك توزيعها على نقاط أخرى منتشرة في كامل تراب البلاد باستخدام تقنيات مختلفة يمكن حصرها كالآتي: سيارات إغاثة وإسعاف، سيارات نقل السمك ذات البرّادات و سيارات تهريب المحروقات ونقل الخضر والغلال والأجهزة الكهرومنزلية بالإضافة إلى الحمير المدرّبة.
منظومات الدفاع الجوي المحمولة الليبية في تونس
منذ اندلاع الحرب الليبية بين القوات النظامية والفصائل المتمرّدة مطلع 2011، سقطت منظومات الدفاع الجوّي المحمولة بين أيدي مجموعات من المقاتلين من شتّى التوجّهات الفكرية والايديولوجية (كتائب الثوار بشتّى تفرّعاتها) لينتقل بعضها بعد ذلك إلى أيدي المهرّبين والتجّار والمتشدّدين ما شكّل خطرا على دول الجوار في المنطقة وفي مقدّمتها تونس.
وتكمن خطورة هذه المنظومات في قدرتها على استهداف الطيران المدني بالإضافة إلى الوظائف القتالية الأخرى.
وفي أوائل سنة 2015 تمّ إبلاغ مجلس الأمن الدولي عن عمليات الاتجار في منظومات الدفاع الجوي المحمولة الليبية في تسعة بلدان على الأقل وهي الجزائر وتشاد ومصر وغزة ولبنان ومالي والنيجر وسوريا وتونس.
وقد أثبتت لجنة مكوّنة من خبراء الأمم المتحدة، من خلال مقارنة أرقام الشحنات والأرقام التسلسلية لمنظومات الدفاع الجوي المحمولة المحجوزة مع تلك المفقودة في ليبيا، وجودها بشكل قطعي في جمهورية أفريقيا الوسطى ومالي ولبنان وتونس.
سجّلت منطقة شمال أفريقيا، وفق تقرير تقييم الأمن في شمال افريقيا / جوان 2015، أعلى معدّل لصفقات الاستحواذ غير المشروعة على منظومات الدفاع الجوي المحمولة مقارنة بغيرها من المناطق. وتركزت بؤرة غالبية هذا النشاط في ليبيا، حيث تعرضت المئات، وربما الآلاف، من منظومات الدفاع الجوي المحمولة للنهب والسرقة من المستودعات. وقد وقعت هذه الأسلحة الحكومية وغيرها من منظومات الدفاع الجوي المحمولة في قبضة الجماعات المسلحة المنتشرة في كافة أنحاء المنطقة في عام 2011.
تسلّلت هذه المنظومات، على الأرجح، إلى التراب التونسي عبر مجموعات التهريب التي تحالفت خلال تلك الفترة مع مجموعات من المتشددين مستفيدة من تأزّم الوضع الأمني على الحدود التونسية الليبية. وتؤكد تقارير صادرة عن مشروع "مسح الأسلحة الصغيرة" حيازة الفصائل التابعة لتنظيم القاعدة في تونس لهذه المنظومات.
وترجّح السلطات الأمنية التونسية أن تكون أعداد أخرى من هذه المنظومات المحمولة ما تزال مخبّأة في مخازن سرية أخرى لم يتمّ اكتشافها بعد في الجنوب التونسي.
جملة هذه المنظومات الخطيرة والمتطوّرة التي تمّ العثور عليها على التراب التونسي قادمة من ليبيا غذّت عددا من الأسئلة وفي مقدّمتها ذاك السؤال الرئيسي : كيف وصلت هذه المنظومات إلى تونس؟
الأسعار التقديرية للأسلحة على الانترنت
خلال موجة اللّجوء الأولى التي تلت تفجّر النزاع المسلّح في ليبيا (الأشهر الأولى من سنة 2011)، شهد الجنوب التونسي -خاصّة جهة بنقردان- تداولا لعدد كبير من الأسلحة الخفيفة والصغيرة على غرار المسدسات وبنادق بيريتا و كلاشنكوف AK-47.
هذه الأسلحة تمّ تمريرها عبر معبريْ ذهيبة و رأس جدير الحدوديين بسبب ضعف الرقابة آنذاك وفقا لما كشفته دراسة صادرة عن مجموعة الأزمات الدولية تحت عنوان "الحدود التونسية بين الجهاد والتهريب".
وتعتبر الأسلحة الخفيفة أغلى ثمنًا من الأسلحة الصغيرة، ما يجعل النفاذ إلى سوق الأسلحة الخفيفة مقتصرا على الجماعات المسلحة التي تحظى بتمويل جيّد على غرار "القاعدة" و "الدولة الاسلامية" وليس على الأفراد والعصابات الإجرامية المحدودة.
في المقابل، تنشط سوق الأسلحة بشكل فعّال على شبكات التواصل الاجتماعي، وخاصة موقع فايسبوك، انطلاقا من ليبيا. ويستفيد من هذه العروض حرفاء ليبيون بشكل أساسي نظرا لسهولة تسليم المشتريات على التراب الليبي فضلا عن وجود زبائن من تونس والجزائر ودول الجوار الإفريقي وفق ما عاينّاه من خلال نفاذنا إلى بعض المجموعات في موقع فايسبوك.
بالرغم من سهولة ربط الصلة بالبائعين على شبكات التواصل الاجتماعي من أجل عقد صفقات لشراء قطع مختلفة من السلاح والذخائر عن بُعد باستعمال هويّة مفتعلة، الّا أنّ الإشكال الأساسي الذي يظل مطروحا -بالنسبة إلى غير الموجودين على التراب الليبي- هو كيفية استلام المشتريات، حيث لا يتكفّل الباعة الّا بالتسليم داخل المجال الليبي، دون أن يشمل العرض خدمة تمرير المشتريات عبر الحدود. وفق ما استقيناه من خلال نقاشات جمعتنا بعدد من تجّار السلاح الافتراضيين (يفترض أنّهم ليبيون) على منصات التواصل الاجتماعي.
"مهمّتنا تنتهي بعقد الصفقة على شبكة الانترنت و تسليم الشحنة في مكان ما داخل التراب الليبي". ردّ أحد تجّار السلاح الليبيين على طلبنا خلال نقاش على فايسبوك.
تعود أغلب الأسلحة المتداولة عرضا وطلبا على منصّات التواصل الاجتماعي، على الأرجح، إلى ما قبل عام 1992 وفق تقديرات مشروع "مسح الأسلحة الخفيفة". وتأتي غالبية الأسلحة الخفيفة والتي يمكن تحديد بلد المنشأ لها بشكل قاطع من الاتحاد السوفياتي سابقا والاتحاد الروسي (73 %) و بلجيكا (8%) والصين (6%). ومن المرجّح -حسب المصدر ذاته- أنّ غالبية الأسلحة الواردة من مصادر مجهولة قد تمّ تصنيعها في دول حلف فارسوفيا سابقا.
الحدود التونسية الليبية : سيارات الإسعاف والسمك !
تختلف تقنيات تهريب السلاح عبر الحدود التونسية الليبية كثيرا عن نظيرتها في الشريط الحدودي الغربي للبلاد، نظرا لما للجنوب من خصوصيات جغرافية خاصة به فضلا عن تنامي الوازع القبلي الذّي يعتبر رافدا أساسيا من روافد "تماسك" نشاط التهريب بشكل عام في عدد من مناطق الجنوب الشرقي، وفي بنقردان بشكل خاص.
أغلب مهرّبي السلاح هم من أبناء المنطقة ولا يسمحون للغرباء بالاقتراب من مناطق نفوذهم التي يبسطون عليها سيطرتهم منذ عقود من الزمن بموجب اتفاقيات بيْنية معقّدة تشمل القبائل الممتدّة على الضفّتين التونسية والليبية لمنطقة الجفارة.
و يزاول هؤلاء المهّربون نشاط التهريب (بشكل عام) منذ سنوات في إطار عائلات تهريب مترابطة، تعتمد أبرز رموزها أسماء حركيّة للتمويه والتخفّي على غرار "منيطة" (قُتل في اشتباكات مع الأمن والجيش التونسيين في مارس 2016) و"معيز" (انتحر خلال محاصرته من قبل الأمن سنة 2015) و "كذّوب" و "مسيْلمة" و "السمعة" و "ويبة" و "كشّوخ" و"الزرقاوي" و"الطويرف" و "تيتي" و "المحضي" الخ.
جملة هذه الأسماء يتمّ تداولها همسا في الجنوب التونسي، وخاصّة في منطقة بنقردان، على اعتبار أنّ الإتيان على ذكرها علانية قد يكلّف صاحب الفِعلة حياته. يقول أحد النقابيين الأمنيين (نحتفظ بهويّته بناء على طلبه لأسباب تتعلّق بسلامته الجسدية) بعد أن خفّض قدر المستطاع في نبرة صوته انّ هناك "خشية" لدى عدد من الأمنيين أصيلي المنطقة من مغبّة الاقتراب من "جمهورية المهرّبين" خوفا على سلامتهم وسلامة عائلاتهم من جهة، واتّقاء للمشاكل الإدارية من جهة أخرى على اعتبار "النفوذ الواسعة لهؤلاء المهربين وقرب بعضهم من كوادر أمنية وديوانية مرموقة"، حسب قوله.
"أنا لست ابن المنطقة، أو هم يعتبرونني كذلك لأنّني لست أصيل بنقردان، رغم أنّني ابن الجنوب. هؤلاء المهربون حذرون جدّا وقد تطلّب منّي الأمر أكثر من ثلاث سنوات كي أتمكّن من ربط الأسماء الحقيقية بالأسماء المستعارة".
ولم ينف المصدر ذاته وجود ما وصفها ب"عناصر فاسدة" في الأمن والديوانة "تتلقّى رشاوى لقاء غضّ البصر عن الأنشطة المشبوهة لهؤلاء المهربين". وبسؤالنا ايّاه عمّا اذا كانت تلك الأنشطة تشمل تمرير السلاح إلى داخل التراب التونسي، أجاب مصدرنا بنبرة لا تخلو من تحفّظ "كلّ شيء يمكن تمريره .. ولكنّ الظاهرة أصبحت محدودة جدّا خاصّة بعد ملحمة بنقردان (مارس 2016)".
تنتشر بين أهالي بنقردان، رغم اختلاف توجهاتهم، رواية مفادها أنّ موجات اللجوء الى داخل التراب التونسي هربا من الحرب في ليبيا، كانت قد ساهمت بشكل مباشر وغير مباشر في خلق مناخ ملائم من الاضطراب الأمني استغلّه المهرّبون والمتشدّدون الدينيون لتمرير الأسلحة إلى داخل التراب التونسي.
في بعض الاحيان، وفق الشهادات، كانت تلك الاضطرابات مفتعلة من قبل عدد من المتشددين أو مهرّبي "الكونترا" بهدف تشتيت انتباه الجهات الأمنية والعسكرية.
هذه النقطة تمّ تأكيدها على لسان عز الدين بورقيبة كاتب عام النقابة الجهوية لقوات الأمن الداخلي ببنقردان. من جهته، أشار مصطفى عبد الكبير، مدير فرع الجنوب للمعهد العربي لحقوق الإنسان، بدوره الى هذه النقطة، دون أن يغفل عن التحذير ممّا وصفه ب"استغلال هذا المعطى من أجل تشويه التحركات الاجتماعية السلمية وتأليب الرأي العام ضدّها".
حدثت عمليات تهريب السلاح الكبرى، حسب ما يظهره التسلسل الزمني لعمليات الحجز والمعطيات الكمية المتعلقة بها، خلال الحيّز الزمني (مارس 2011 - أوت 2013). وقد تمّت هذه العمليات عبر عدد من سيارات الإسعاف المتجهة من ليبيا الى التراب التونسي، وبعض سيارات وشاحنات نقل المساعدات الغذائية والسيارات الحاملة لبرّادات مخصّصة لنقل السمك وفق ما توضّحه الخريطة التفاعلية المصاحبة.
للابحار في محتوى الخريطة، يكفي اختيار العربة التي ترغب في اتّباع مسارها حتّى تظهر البيانات المصاحبة.
(ط بن م) هو شاب تونسي أصيل مدينة مدنين، متمتّع بالعفو التشريعي العام بعد الثورة، مطلوب لدى العدالة في قضايا تتعلّق بالإرهاب وتهريب السلاح، قامت السلطات الليبية بتسليمه الى القضاء التونسي مطلع 2017. وحسب مصدر مطّلع على الملف القضائي فانّ المتّهم كان يشتغل في وحدة التعقيم التابعة للمستشفى الجهوي ببنقردان. وكان قد استغلّ سيارة إسعاف لنقل شحنات من السلاح قادمة من ليبيا باتّجاه سوسة والقيروان والعاصمة.
مصدر مسؤول في المستشفى (حبّذ عدم ذكر اسمه نظرا الى أنّه ابن الجهة ويخشى الانتقام) أكّد لموقع "انكيفادا" دقّة كلّ المعلومات المتعلّقة بالمتّهم الذي كان ينتمي إلى المستشفى، نافيا إمكانية أن يكون قد تمكّن من استغلال أيّ سيارة إسعاف تابعة للمستشفى، مرجّحا أن تكون السيارة محور الشبهات قادمة من القطر الليبي.
(ط بن م) تربطه، حسب ما ورد في ملف القضية، علاقة تعاون مع عدد آخر من أشهر مهرّبي المنطقة على غرار لطفي الكردي و "مفتاح منيطة" بالإضافة إلى علاقته بلسعد الماقوري الموقوف منذ أكثر من عام على خلفية تهَم تتعلّق بالإرهاب والاتّجار في الأسلحة.
رضوان عزلوك، قيادي محلّي صلب اتّحاد المعطّلين عن العمل، أصيل منطقة بنقردان، تحدّث عن مهرّبيْ السلاح الشهيرين مفتاح منيطة ومحمد الكردي الذين قُتلا خلال ما بات يعرف شعبيا بملحمة بنقردان :
"مانيطة بايع تنظيم القاعدة ثمّ التحق بتنظيم (الموقّعون بالدمّ)، والكردي بايع داعش .. كلاهما عاد من سبراطة حالما بأن يصبح أميرا لإمارة بنقردان، غير أنّهما لقيا مصرعهما في بنقردان قبل أن يتربّعا على عرش امارتها الموعودة".
رضوان تحدّث كذلك عن لحظة الايقاع بلسعد الماقوري، أحد تجار السلاح بالمنطقة، مساء الأحد 6 مارس قبل "ملحمة تحرير بنقردان"، مشيرا الى أنّ قوات الأمن كانت قد حجزت خلال مداهمة محلّ ذلك المهرّب صهاريج معدّة لحفظ الزيتون المصبّر كانت تحتوي على كمّية من الذخيرة الحيّة.
هذه الوقائع، وفق رضوان، تشي بخطورة الوضع وتؤكّد معطى لا يمكن تجاهله ألا وهو "العلاقة الثابتة والاستراتيجية بين المهرّبين، مهما اختلفت أحجامهم وأنشطتهم، وبين المجموعات المتشددة التي ما انفكّت تستعين بهم من أجل تمرير الأسلحة على أمل بسط سيطرتها ذات يوم على المنطقة".
ولم يكن المتّهم (م بن ط) الوحيدَ الذي وُجّهت له تهمة استغلال سيارة إسعاف لنقل الأسلحة، فقد سبقه إلى ذلك المدعو (ج ي) الذي اعترف، حسب مصادر أمنية في بنقردان، أنّه كان "سنة 2012 تلقّى زيارة من الليبي محمد المحمودي، مقيم في مخيم الشوشة، وطلب منه إخفاء كمية من الأسلحة الحربية والذخائر إلى حين نقلها إلى أحد المخازن في مدنين ومن ثمّ تسليمها الى مجاهدي تنظيم القاعدة في الجزائر".
وقد أضاف (ج ي) في اعترافاته المنقولة عنه أنّ "الأمر تمّ مثلما وقع التخطيط له. وقد تمكّنت عناصر من تنظيم الشريعة في تونس من نقل الأسلحة لاحقا إلى عدد من جهات البلاد بالاستعانة بسيارة إسعاف تابعة لإحدى هيئات الإغاثة".
ويبدو، من خلال معاينة التسلسل الزمني للأحداث، أنّ أغلب عمليات نقل الأسلحة عبر سيارات الاسعاف والاغاثة تمّت خلال سنتيْ 2012 و 2013 ، حيث تواتر ذكر هذه التقنية في الاعترافات المسجّلة على المتّهمين في قضايا تتعلّق بالإرهاب في ذلك الحيّز الزمني بالتحديد.
وكان القضاء قد نظر خلال سنة 2013 في ما يعرف بملف "سلاح مدنين" حيث تبيّن وفق الاعترافات أنّ أحد المتّهمين كان قد اعترف باستغلاله لخطّته المهنية صلب الهيئة الجهوية للهلال الاحمر التونسي بولاية مدنين بصفته سائقا لسيارة إغاثة (إسعاف) من أجل نقل كميات من الأسلحة نحو مخزن مدنين.
وتشير الأستاذة إيمان البجاوي، محامية متخصّصة في قضايا الأمن القومي، في سياق دراسة نشرتها سنة 2013 بعنوان "الإرهاب : إمارة الشعانبي وتوْنسة التصدّي"، إلى أنّ جانبا من الأسلحة التي تمّ حجزها في مخزن مدنين تمّ نقله "باستعمال سيارة الهلال الأحمر التي كانت تحت تصرّف أحد المتّهمين باعتباره سائقا تابعا للهيئة الجهوية للهلال الاحمر التونسي بولاية مدنين".
مصادر من الهيئة الوطنية للهلال الأحمر التونسي أكّدت جملة هذه المعلومات، مشيرة في السياق ذاته الى أنّ المنظّمة كانت قد فتحت تحقيقا داخليا في الغرض أشرف عليه القيادي الطاهر الشنيتي (توفّيَ)، في حين رفض محمد بن أحمد، مدير الاتصال الحالي للمنظمة التعليقَ مكتفيا بالقول "لقد تابعت الملف واستفسرت لدى المحيطين بي وأعتبر أنّ هذا الملفّ مغلق بالنسبة إلينا (...) وبناء على ذلك ليست لدي معلومات أفيدك بها".
ويثير المعطى المتعلّق بحجز سيارة وظيفية مسروقة تابعة للشركة التونسية للكهرباء والغاز في مخزن سلاح مدنين، شكوكا أخرى تتعلّق بوجود فرضية قائمة الذات مفادها استخدام مهرّبي السلاح، كذلك، للسيارات الوظيفية الحكومية -سواء كانت مسروقة أو بتواطؤ من المشرف المباشر عليها كالسائق مثلا- لنقل الأسلحة بأمان دون التعرّض لخطر التفتيش الأمني والعسكري.
في السياق ذاته، تكشف أوراق الملف القضائي المتعلّق بمخزن سلاح مدنين جانبا آخر من سيناريوهات تهريب السلاح، حيث يعترف المتّهم حسين الخليفي ب"استعمال مجموعة من المتشددين ومهربي السلاح تابعة لزعيم أنصار الشريعة المحظور سيف الله بن حسين المكنّى بأبي عياض لسيارة من نوع "ستافيت فورد" تحمل لوحة منجمية عدد 156 مُعدّة لنقل الموز يقودها كلّ من رياض بن زيد ورضا بالناجم، من أجل تهريب أسلحة من بنقردان نحو مدينة مدنين ومنها الى ضاحية المروج الواقعة في ولاية بن عروس جنوبيّ العاصمة".
وتمّ، وفق الاعترافات ذاتها، اخفاء بنادق كلاشنيكوف وأسلحة بيكا وقناصة ورمانات يدوية وذخائر حية داخل صناديق الموز من أجل التمويه، وهو ما أتاح ايصال الشحنة بنجاح الى نقاط التخزين الجديدة في العاصمة.
ولم يقتصر دور سيارات الإسعاف على إدخال السلاح من ليبيا فحسب، اذ تفيد شهادة استقيناها من أحد القضاة الذين اشتغلوا على ملف التهريب وعلاقته بالإرهاب، بأنّ عددا من شحنات الأسلحة تمّ نقلها بنفس الطريقة من المناطق الحدودية في الجنوب الشرقي نحو نقاط أخرى في الوسط والعاصمة والساحل.
مصدرنا القضائي أشار إلى أنّ التحقيقات المجراة على هذا الملف أثبتت أنّ "المهمة التي تقوم بها سيارات الإسعاف هي جزء من خطّة متكاملة تنتهي بتفريغ الحمولة في موقف (باركينغ) إحدى المصحّات الطبية الخاصّة في ولاية صفاقس (لم نتمكّن من معرفة اسمها)، لتتكفّل سيّارات أخرى خاصّة بنقلها في شكل كميات صغيرة وعلى عدّة مراحل إلى مستودعات بعيدة عن الأنظار في الجهة" وفق قوله.
المصدر ذاته كشف جانبا آخر من التقنيات المستعملة في تهريب الأسلحة ونقلها، مؤكّدا أنّ الأمر تعدّى سيارات الإسعاف ليشمل السيارات التجارية التي تحمل برادة أو ثلاجة من الخلف حيث يتمّ وضع السلاح داخل الباب الخلفي، وداخل الكراسي وتحتها، ومن ثمّ اخفاؤه بشكل جيّد بالاستعانة بأقمشة واكسسوارات شبيهة بتلك المستعملة لتغليف الكراسي.
حمدي، مهرّب سلاح "تائب" هرب من القصرين بعد أن شعر أنّ حياته أصبحت في خطر بسبب مغادرته "تنظيم المهربين" اثر اكتشافه أنّه كان أداة لتهريب الأسلحة بين تونس والجزائر.
في نفس الموضوع
يقول حمدي (اسم مستعار) انّ احتكاكه لفترة طويلة بالمهربين على امتداد الشريط الحدودي الغربي جعله يستمع في أكثر من مناسبة الى حكاية سيارات الإسعاف وسيارات نقل السمك التي تتمّ الاستعانة بها لنقل الأسلحة وتحريكها من منطقة لأخرى وصولا الى جبال الشعانبي في القصرين:
"يتمّ تجميع السلاح في ولاية صفاقس في مخبأ يوجد بسوق الجملة، حيث يُعاد توزيعه من جديد على متن الشاحنات المخصصة لنقل الأسماك في اتجاه القيروان و سوسة والعاصمة. كما يتمّ استعمال شاحنات الخضر والغلال والموز لنقل السلاح في اتجاه ولاية القصرين".
عرضنا جملة هذه المعطيات على الناطق الرسمي باسم الحرس الوطني العميد خليفة الشيباني (تمّ تعيينه منذ 6 نوفمبر 2017 ناطقا رسميا باسم الداخلية) فأجاب مُراوحا بين التحفّظ والوضوح:
"نعم لقد وصلتنا في فترة ما -في السنوات الأولى للثورة الليبية- معلومات استخباراتية حول استخدام المتشددين لسيارات الإسعاف وسيارات السمك والغلال لتهريب الأسلحة وتمريرها ... ولكن كلّ ما أستطيع قوله انّ تلك الفترة كانت تتّسم بالاضطراب الاجتماعي وعدم الاستقرار السياسي ما انعكس على الإرادة السياسية لمقاومة ظاهرة الإرهاب عموما ورغم ذلك فانّنا قمنا بكل ما كان في وسعنا القيام به".
تتعدّد تقنيات تمرير الأسلحة وتختلف باختلاف المسالك والجهات المُراد نقل الأسلحة إليها. فكيف هو الحال إذن مع الشريط الحدودي الغربي ؟ وهل اختلف الأمر كثيرا عن نظيره الشرقي والجنوبي ؟
الحدود التونسية-الجزائرية : مسالك التهريب
تمثّل المدن والقرى الحدودية التابعة لولاية الكاف (قلعة سنان، ساقية سيدي يوسف، دشرة نبر، سيدي رابح، سيدي أحمد الصالح …) و ولاية القصرين (حيدرة، فوسانة، فريانة، بوشبكة …) وبعض المسالك التابعة لولاية جندوبة، أهمّ مسالك تهريب الأسلحة على امتداد الشريط الحدودي الغربي.
استنادا الى جملة من المعطيات التي أمدّتنا بها مصادر من دائرة الغابات بالمندوبية الجهوية للتنمية الفلاحية بالقصرين، تسنّى لنا تحديد جملة المناطق المعروفة أكثر من غيرها بنشاط التهريب عموما وتهريب السلاح بشكل خاص نظرا لكثرة المسالك الجبلية الوعرة وتنوّع التضاريس وكثرة المغاور والكهوف.
وأصبحت معتمدية فريانة من ولاية القصرين، خلال السنوات الثلاث الأخيرة، تتصدّر قائمة المناطق الحدودية المعتمدة لتهريب السلاح، وخاصّة على طول الحيّز الجغرافي الممتدّ من العلامة الحدودية 211 (المعروفة بفج الطين) وصولا الى العلامة 230 (المعروفة بالخيمة). وينشط أغلب متساكني هذه المنطقة في مجال التهريب بشكل عام، ولهم معرفة دقيقة بمختلف المسالك التي تسمح لهم بتهريب بضائعهم دون التقاطع مع الدوريات الأمنية أو العسكرية التي تشكو بدورها نقصا فادحا خاصة في المنطقة الفاصلة بين قرية بوشبكة و "فج علي بن مبارك" وفق ما عاينّاه خلال جولتنا.
مصادر أمنية في الجهة، أكّدت أنّ هذه المنطقة باتت "شبه خارجة عن السيطرة، حيث تحوّلت الى ممرّ رئيسي للمجموعات الجهادية المسلّحة التي جنّدت عددا من المعاونين من بين متساكني الجهة، يمدّونها بمختلف المعلومات حول الشريط الحدودي والتحركات الأمنية والعسكرية".
معلومة تَورّط عدد من الأهالي في دعم الارهاب لوجيستيا جُوبِهت بالنّفي من قبل شقّ من المتساكنين بحجّة أنّ الأمن "يسعى الى الصاق تهمة الارهاب بالأهالي"، في حين أكّدها شقّ آخر من المتساكنين مستشهدًا بعدد من الوقائع والأسماء التي تمّ ايقافها من قبل السلطات الأمنية بتهمة تمويل الجماعات الإرهابية.
خالد الدلهومي، مدير المدرسة الابتدائية "النغرة" الواقعة على سفح الشعانبي، انحاز الى الشقّ الثاني مؤكّدا أنّ الإرهابيين "نجحوا في تكوين حزام شعبي أو ما يشبه حاضنة شعبية تُعهَد لها مهمّة جلب المؤونة والتكفّل بالامدادات اللوجيستية".
"يعرف القاصي والداني أنّ هنالك عناصر تشتغل مع جماعة الشعانبي وتمدّهم بالمؤونة لقاء المال .. يجب عدم إنكار ذلك بل الاعتراف به والعمل على محاربته". خالد الدلهومي.
غير بعيد عن فريانة، تعتبر معتمدية فوسانة، هي الأخرى، أحد المداخل المفضّلة لمجموعات التهريب لإدخال السلاح والمتفجّرات والذخائر. وتستعمل في ذلك سيارات رباعية الدفع أو يتمّ الاعتماد على الحمير المدرّبة.
هذه التقنية الأخيرة أصبحت محلّ تندّر في صفوف متساكني الجهة نظرا لطرافتها ونجاعتها في الآن ذاته. فؤاد، عسكري متقاعد اشتغل لمدة 20 سنة على الحدود الغربية تحدّث حول كيفية تدريب الحمير وإدماجها في نشاط تهريب السلاح، مشيرا إلى أنّ الأمر ينطلق بفصل الجحش الصغير بعد عام من ولادته عن أمّه وفطامه ومن ثمّ عزله تماما عن القطيع، لتنطلق رحلة تدريبه :
"التدريب يتمثّل في ترك الجحش يتضوّر جوعا وعطشا طيلة عدّة أيام قد تصل الى الأسبوع، ومن ثمّ قيادته من المستودع الأوّل (في الجانب التونسي) باتجاه المستودع الثاني (في الجانب الجزائري) حيث يتمّ سقيه وإطعامه هناك. ليظلّ في المستودع لعدة أيام دون أكل أو شرب، ولمّا يبلغ درجة كبيرة من الجوع والعطش يتمّ تكرار نفس التقنية بشكل عكسي".
يقطع الجحش، بمفرده، عشرات الكيلومترات جيئة وذهابا بين نقطتيْ التهريب حاملا على ظهره بضاعة مهرّبة تتراوح بين المحروقات والأجهزة الإلكترونية والكهرومنزلية القادمة من الجزائر على غرار اللواقط الهوائية وأجهزة التلفاز والمكيفات. وأمّا عن قطع الأسلحة فيتمّ دسّها بعناية فائقة داخل تلك الأجهزة أو داخل حاويات البنزين.
"وبعيدا عن الهزل، أصبحت هذه المخلوقات مصدر رعب وقلق شديدين للدوريات الأمنية والعسكرية المنتشرة في المنطقة".
في نفس الموضوع
وتمثّل قرية "حيدرة" نقطة تقاطع ثلاثية (الكاف والقصرين والكويف الجزائرية)، تمرّ عبرها أغلب عمليات التهريب. ويُرجّح، وفق مصادر متقاطعة، أن يكون مآل الأسلحة والذخائر المهرّبة جبل الشعانبي وجملة المرتفعات المتفرّعة عنه أو المحاذية له على غرار جبال سمامة وسلّوم ومغيلة و بوهرتمة.
أيمن (اسم مستعار)، هو أحد المهرّبين الناشطين على الشريط الحدودي الغربي. وافق أيمن، بعد تحفّظ كبير، على الحديث إلينا والإدلاء بنزر قليل من المعلومات حول طبيعة النشاط الذي تزاوله إحدى مجموعات التهريب في المنطقة. هذه المجموعة تتخصّص أساسا في نقل الأسلحة غير المشروعة من مخابئ على الشريط الحدودي الغربي باتّجاه نقاط تخزين في العاصمة وصفاقس وزغوان وبعض المناطق المجهولة الأخرى.
يقول أيمن انَّ عدد أفراد هذه المجموعة يتراوح بين 3 و 5 عناصر، من بينهم امرأة غريبة عن المنطقة "تبدو من مظهرها الخارجي موظّفة في احدى الادارات العمومية" تستغلّ هذه المجموعة، تحت إشراف جزائري يدعى اليفرني، جبلَ بوقرنين الواقع في الضاحية الجنوبية للعاصمة، لإخفاء الأسلحة والمتفجرات القادمة من الحدود التونسية الجزائرية عبر مسالك وعرة ومعقّدة.
في نفس الموضوع
"تتنقّل السيارة المحمّلة بقطع السلاح -وفق شهادة أيمن- عبر طريق غير معبّدة تنطلق من زغوان عبر الجبال لتصل إلى أطراف مدينة المحمدية (15 كلم عن وسط العاصمة). عند الوصول تعترضها سيارة ثانية نوع ديماكس، فيتمّ تبادل الحمولة للتمويه وتواصل الأولى (بعد أن أفرغت حمولة الأسلحة) السير في المقدمة باتجاه جبل بوقرنين لاستكشاف الطريق تتبعها السيارة الثانية".
هذه العمليّة الدقيقة لن يُكتب لها النجاح -دائما وفق شهادة أيمن- الّا اذا كان اليفرني قد تمكّن من "شراء الطريق" مسبقا عبر ارشاء بعض العناصر "الفاسدة" من الأمن والجيش والحرس، والتي تتكفّل بارشاده وتوجيهه حتّى يسلك طُرقا بعيدة عن أنظار الدوريات الأمنية. وفي حال تعطّلت عملية الوصول إلى أطراف جبل بوقرنين، بسبب طارئ ما، يتمّ تفعيل "الخطّة ب"، والتي تتمثّل -دائما حسب مصدرنا ذاته- في توجيه الشحنة نحو نقاط تخزين سريّة مؤقتة تقع في مكان ما من ولاية نابل.
و "اليفرني" هو مهرّب سلاح جزائري الجنسية تونسيّ المنشأ، معروف لدى السلطات الأمنية ودوائر المخابرات التونسية والجزائرية. يُكنّى في أوساط التهريب ب"المبحبح" لكثرة سخائه على الدوريات الأمنية، حيث اعتاد الدخول إلى التراب التونسي عن طريق المناطق الحدودية مع ولاية القصرين.
وتتحوّز السلطات الأمنية والعسكرية التونسية، من جانبها، على تفاصيل ومعطيات خطيرة حول أنشطة اليفرني على التراب التونسي من بينها أنّه :
"يستعين خلال تنقّلاته من وإلى معتمدية فوسانة من ولاية القصرين بنقيب من الجيش الوطني، عمره حوالي 45 سنة، يستظهر ببطاقته المهنية على مستوى النقاط الأصلية، وهو محلّ احترام أعوان حرس فوسانة. في حين يستعين خلال تنقلاته في الشمال الغربي بعون حرس أصيل باجة، وأمّا في الشمال الشرقي والعاصمة فيستعين بعون حرس أصيل زغوان (حوالي 35 سنة)".مقتطف من محضر جلسة عمل انعقدت يوم 12 أوت 2014 بمقر الإدارة المركزية للاستعلامات العامة.
عُرف اليفرني سابقا بتعامله مع عائلة الطرابلسية (أصهار الرئيس الأسبق بن علي) في مجال تهريب السيارات الفاخرة ما جعله يحتلّ مكانة مرموقة بين أثرياء المنطقة وأغلبهم من كبار المهربين أيضا. وقد تحوّل خلال السنوات الأربع الأخيرة -وفق ما أكّدته شهادات متقاطعة لعدد من المهربين ممّن تسنّى لنا الحديث اليهم- إلى أحد أبرز عناصر الدعم والإسناد للجماعات الإرهابية المتحصنة بجبل الشعانبي.
يعلّق الناطق الرسمي السابق للحرس الوطني العميد خليفة الشيباني على النقطة المتعلّقة بتورّط عدد من الأعوان في الارتشاء ومساعدة مهربي السلاح في القيام بنشاطهم غير المشروع بالقول:
"نحن لا نتستّر على من يخطئ ولا ندافع على الخطأ .. كلّ من يرتكب مثل هذه الأفعال انّما هو مجرم في حقّ المهنة وفي حق الوطن وجَبَت محاسبته".
يضيف مصدرنا الرسمي في هذا السياق "لقد عرضنا عشرات الأعوان على مجلس الشرف بسبب ارتكابهم لتجاوزات وأخطاء على غرار الارتشاء والفساد والمخدرات والتشدد الديني الخ. وقمنا بعزل عدد منهم، غير أنّه لم يثبت مطلقا تورّط أعواننا في قضايا تتعلّق بتهريب السلاح" وفق ما ورد على لسانه. مؤكدا أنّ "الأعوان المرتشين لا يتجرّؤون على التستّر على نشاط تهريب السلاح، لأنّهم يخافون العقوبة الصارمة". تصريحات تتعارض مع ما أوردناه أعلاه من شهادات حيّة وردت على لسان مهرّبين فضلا عن الاعتراف الصريح والمكتوب الوارد في محضر الاجتماع الأمني رفيع المستوى المشار إليه أعلاه.
خليفة الشيباني عرّج في نهاية حديثه على ظاهرة إرسال الأمنيين من أبناء الجهة للاشتغال في جهاتهم "ما يجعل اختراقهم والتعاطي معهم من قبل المهرّبين الذين قد يكونون من المنتمين الى العائلة الموسّعة للأمني، أمرا محتملا بل و يسيرا في بعض الأحيان".
جرد للأسلحة المهرّبة والجهات المتأتّية منها
كانت البلاد التونسية، وفق أرقام الهيئات الدولية المتخصّصة، طيلة العقود الثلاثة المنقضية، في ذيل الترتيب العالمي في ما يتعلّق بإحصائيات تجارة الأسلحة غير المشروعة أو حيازتها من قبل المدنيين.
ويؤكد تقرير مجلس الأمن الدولي لسنة 2015 أنّ "الأسلحة القادمة من ليبيا كان لها عميق التأثير في تعزيز القدرات العسكرية للمجموعات الإرهابية الناشطة في مختلف جهات المنطقة على غرار الجزائر ومصر ومالي وعلى وجه خاصّ تونس".
في نفس الموضوع
وكانت السلطات التونسية صرّحت الى حدود موفّى جويلية / يوليو 2017 بحجزها لكميات تعتبر كبيرة نسبيا من الأسلحة الحربية المختلفة والمتنوّعة والمتأتّية أساسا من ليبيا أو الجزائر ومصدرها الرئيسي ترسانةُ الأسلحة المفككة الراجعة بالنظر الى نظام العقيد معمّر القذافي وبعض الكميات الأخرى من الأسلحة التي حصل عليها المتمردون في ليبيا خلال ثورة 17 فبراير/ فيفري 2011.
بالاستناد إلى استشارة حصرية طلبها موقع "انكيفادا" من أحد الخبراء الدوليين في مجال تقفّي الأسلحة غير المشروعة (طلب عدم كشف هويته) فانّ قراءة تقنية لترسانة الأسلحة غير المشروعة المحجوزة في مناطق مختلفة من التراب التونسي منذ ما بعد الثورة (مطلع 2011) الى حدود منتصف جوان 2017 تشير إلى أنّ :
- أغلب الأسلحة المحجوزة والقادمة من ليبيا أو الجزائر بدرجة أقل، يعود صنعها إلى الاتحاد السوفياتي سابقا والاتحاد الروسي وبلجيكا والصين (ترسانة نظام العقيد القذافي). وأمّا الجهات المرسلة فهي أساسا قطر وتركيا وفرنسا (خلال الثورة الليبية)، والإمارات العربية المتحدة في مرحلة لاحقة.
- تحتوي الأسلحة المحجوزة على بنادق جديدة تنتجها شركة تورون (تركيا). بالإضافة إلى احتوائها على ذخائر من مختلف العيارات، بما في ذلك ذخائر عيار 7،62 × 51 مم التي يتمّ إنتاجها في باكستان. وقد سبق أن وثّق فريق خبراء مجلس الأمن هذه الذخائر في ليبيا وطلب من باكستان اقتفاء أثرها في عام 2013 وفق ما جاء في التقرير السنوي لفريق خبراء مجلس الأمن لعام 2016، المرفق رقم 36.
- هذه الذخائر، حسب الاختبارات المجراة على عيّنات منها، كانت قد نُقلت من باكستان إلى دولة قطر التي أعادت نقلها إلى ليبيا في عام 2011 في انتهاك لحظر توريد الأسلحة (انظر تقرير مجلس الأمن S / 2013/99 ، الفقرات 67 وما يليها).
- هيمنة أسلحة الكلاشينكوف (527) و قذائف آر بي جي (537) والرمانات اليدوية (379) و الذخيرة عيار 7,62 (450 ألف رصاصة) وعدد آخر من الأسلحة الهجومية على مجموع الأسلحة المحجوزة يؤشّر إلى التوجّه الهجومي الذي كانت تسعى المجموعات الماسكة للسلاح منذ البداية لانتهاجه في تونس. بمعنى أنّ نيّة القتال في تونس كانت -على الأرجح- موجودة منذ بداية تهريب الأسلحة إلى تونس.
- حجز كميات كبيرة من الأسلحة والذخائر الدفاعية (721 لغم مضاد للدبابات) وصواعق متفجرة (1700 لفافة) في مناطق حدودية يؤشّر على وجود نيّة لدى المجموعات الماسكة للسلاح غير المشروع منذ البداية لتأسيس معسكرات دائمة على غرار معسكر الشعانبي وما جاوره.
جملة هذه النقاط الواردة في الاستشارة أعلاه تتقاطع مع ما تضمّنته التقارير والدراسات الصادرة عن "مشروع مسح الأسلحة الصغيرة / تقييم الأمن في شمال أفريقيا"، وخاصّة ما تضمّنته الدراسة التي أنجزها منصف قرطاس موفّى 2013 بعنوان "على حافة الهاوية .. التهريب وانعدام الأمن على الحدود".
ويضيف قرطاس في بحثه الميداني أنّ "توفّر الأسلحة بهذا القدر الكبير تَرافق مع تزايد استخدامه لتسوية الخلافات بين الخصوم (في الضفة التونسية من الحدود)". فعلى سبيل المثال، اندلعت في شهر أفريل من عام 2012 صدامات مسلحة بين قبيلتي التوازين والربايعية سببها ترشيح أحد الأئمّة المتطرفين لإمامة مسجد مهم في بنقردان.
هذه الواقعة كانت بمثابة الاشارة القوية الى امكانية دخول معطى السلاح غير المشروع (المهرَّب) على خطّ تصفية الحسابات البيْنيّة التي تحرّكها النزعات القبَلية والعقائدية والايديولوجية وكذلك التجارية ذات المنحى الربحي البحت.
وعموما، يمكن القول، بالاستناد إلى ما تقدّم من معطيات تمّ كشفها على مدى هذا التحقيق، انّ مسألة السّلاح غير المشروع في تونس تغذّت وتجذّرت من ثلاثة عوامل أساسية : التهريب، الاضطراب السياسي والأمني بالاضافة الى غياب الارادة السياسية لدى الدولة منذ البداية للتصدّي لهذه الظاهرة ومحاصرتها قبل أن تستفحل وتصبح أمرا قائما لا مفرّ من التعايش معه.