ووفقا للحكومة والمؤسسات المالية الدولية فإن منظومة دعم المواد الغذائية المعمول بها حاليا باهظة التكلفة وغير ناجعة علاوة على كونها تعود بالنفع خاصة على الأسر الغنية. وينص قانون المالية لسنة 2023 على تقليص الدعم الموجه للمواد الأساسية (دعم المواد الغذائية على وجه الخصوص) من 3.771 إلى 2.523 مليون دينار أي بما يزيد عن 30٪. وهو اقتطاع في الميزانية يترجم الاتفاق المبدئي مع صندوق النقد الدولي والسياسات التقشفية التي أوصى بها.
لكن لسائل أن يسأل عن مدى واقعية هذا الإجراء وقابلية تطبيقه على أرض الواقع. هل من شأنه فعلا استهداف الأسر المنخفضة الدخل والثمانية ملايين تونسي وتونسية على نحو أفضل؟ أم أن المعوزين والمعوزات سيجدون أنفسهم مرة أخرى بصدد دفع ثمن "الإصلاحات" التقشفية؟
واحدة من كل 5 أسر تعاني من انعدام الأمن الغذائي
يصطدم هذا المشروع بجملة من العراقيل أولها جملة النقائص التي تشوب تعريف الفقر بحد ذاته والذي تستند إليه برامج المعونة الغذائية، ذلك أنه يقتصر على الدخل دون اعتبار عوامل أخرى على غرار الثروة والنفاذ إلى الشبكات الجماعية والبنى التحتية - كالقرب من المستشفيات والمدارس والنفاذ إلى الماء والكهرباء والنقل العمومي وما إلى ذلك.
وعلاوة على ذلك، لا يوجد حاليًا جرد واضح لعدد الأسر التونسية المعوزة عبر البلاد. وحتى لو افترضنا جدلا أن الحكومة قادرة على تحديدها، فإن العديد من الأفراد من ضعفاء الدخل لا يستطيعون الوصول إلى أي مساعدة اجتماعية نقدية تُذكر لضعف نسبة الصيرفة في صفوفهم.
في نفس الموضوع
وعلى الرغم من توفر الدعم الحالي فإن انعدام الأمن الغذائي في تونس لا يُعد مرتفعاً فحسب بل يشهد تزايدا مطردا.
يعاني أكثر من خُمس السكان من انعدام الأمن الغذائي المعتدل أو الحاد وتُقدر تكلفة نظام غذائي صحي بأكثر من 3 أضعاف ونصف خط الفقر الغذائي.
ومن المرجح أن تتدهور وضعية هؤلاء الأفراد في صورة رفع الدعم وتحرير الأسعار. أما على الصعيد الوطني فقد يلجأ بعض الريعيّين المهيمنين على جزء كبير من القطاع الغذائي إلى الترفيع في أسعارهم في حالة التخلي عن مراقبتها. كما أن الاعتماد على التوريد يجعل السوق المحلية رهينة لتطور الأسعار الدولية التي تواجه حاليا تقلبات كبرى.
في نفس الموضوع
وبالتالي فإنه في ظل السياق الراهن والصعوبات الهيكلية ذات الصلة بالتحويلات المباشرة، يُتوقع أن يؤدي قرار رفع الدعم إلى عواقب وخيمة، لا سيما بالنسبة للشرائح السكانية الأكثر هشاشة وهو ما قد ينجر عنه تعميق التفاوتات واندلاع اضطرابات اجتماعية مماثلة لأحداث الخبز التي هزت البلاد سنة 1984.
أسعار متذبذبة
تساهم منظومة الدعم المعمول بها حاليا، على نقصانها، في الحد من التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية. وتؤكد ذلك تحاليل صندوق التنمية الإفريقي (FAD) التي تبين أن الدعم قد أسهم في تحقيق المساواة الاقتصادية كما يُثبت ذلك تراجع مؤشر جيني* في تونس بـ1,1 نقطة مئوية من 38,5٪ إلى 37,4٪.
أبرز تقرير صادر عن نفس الصندوق في 2013 أن الدعم يمثل 20,6٪ من قيمة الاستهلاك الغذائي لدى الأسر الأشد فقرا، علاوة على أنه يساهم في تقليص تكلفة هذه المواد بالنسبة لمواطني ومواطنات الطبقة الوسطى مما يمكنهم من توظيف هذا المبلغ الإضافي لاقتناء مواد أخرى.
غير أنه وعلى الرغم من توفر الدعم فإن نسبة انعدام الأمن الغذائي لا تزال عالية وآيلة للارتفاع في تونس. وقد قفزت نسبة انعدام الأمن الغذائي الحاد وفقًا للبنك الدولي من 9,1٪ إلى 12,6٪ بين سنتي 2017 و 2020.
كما شهد انعدام الأمن الغذائي الحاد أو المعتدل ارتفاعا قويا ليبلغ 28٪ سنة 2020 مقابل 18,1٪ في 2015 أي بزيادة قدرها 10 نقاط في غضون 5 سنوات بالكاد. وفي حالة رفع الدعم الغذائي قد تجد الدولة نفسها عاجزة عن توفير آليات مناسبة سواء للأسر الضعيفة الدخل أو للطبقة الوسطى.
وبالإضافة إلى انعدام الأمن تظل النظم الغذائية الصحية صعبة المنال بالنسبة للشريحة السكانية الأشد فقرا. ففي سنة 2022 عجز أكثر من خمس سكان البلاد التونسية (20,3٪ من السكان أي حوالي 2,4 مليون ساكن) عن اتباع نظام غذائي صحي.
قُدرت أقل تكلفة ممكنة لنظام غذائي صحي في سنة 2020 بـ 368٪ من خط الفقر الغذائي (مقابل 351٪ في 2017)، أي ما يمثل أكثر من ثلاثة أضعاف خط الفقر الغذائي.
في نفس الموضوع
شبح اللَّبرَلَة والتغير المناخي
يُرجح أن تشهد الأسعار في صورة التخلي عن منظومة الدعم في الوضع الراهن ارتفاعا حادا لا فقط بسبب رفع الدعم بل كذلك بسبب إلغاء مراقبتها.
وبالفعل فإن سوق المواد الغذائية تتسم بتركز كبير، مع احتكار بضع شركات حصةً هامةً من السوق سواء بالنسبة للمنتجات المدعمة أو غيرها. ومن شأن إلغاء مراقبة الأسعار تشجيع هذه الشركات على الترفيع في أسعار هذه المنتجات الغذائية الأساسية.
خير مثال على ما سبق الطماطم المعلبة التي كانت مدعّمة إلى غاية سنة 2014 قبل أن يقفز سعرها إلى حوالي الضعف في غضون ست سنوات، منتقلا من دينارين و 50 مليما إلى 3,800 دنانير في عام 2020. ويُعزى هذا الارتفاع إلى إلغاء مراقبة الأسعار ورفع الدعم على هذا المنتج.
وفي الأثناء تظل الأجور بعيدة كل البعد عن أن تشهد نفس التطور، إذ لم تتجاوز نسبة الزيادة السنوية في الأجور في القطاع الخاص غير الفلاحي 5,8٪ خلال نفس الفترة. ويُرجح أن يفضي تحرير أسعار المنتجات الأخرى إلى تصاعدها بشكل مماثل أيضا.
إلى جانب ذلك تعتمد سوق المواد الغذائية في تونس إلى حد كبير على الواردات، مما يجعلها عرضة لتقلبات الأسعار الدولية. وقد كشفت الجائحة الأخيرة وكذلك الصراع في أوكرانيا عن مدى أهمية الأمن الغذائي على الصعيد الوطني.
ويمكن أن يؤدي الاعتماد على السوق الخارجية لا فقط إلى تضخم غير متوقع على مستوى أسعار المواد الغذائية، بل كذلك إلى شح حاد في هذه المواد ل دى اختلال سلاسل التزويد وتزاحم البلدان للعثور على مزودين آخرين لمنتجات أساسية مثل الحبوب والأعلاف الحيوانية. وقد أسهم ذلك بالفعل في حدوث نقص بنسبة 40٪ للدقيق وبما يفوق 35٪ للزيت المدعم.
وكان هذا النقص المسجل أشد وطأة على الأسر الأكثر فقرا إذ عانى أقل من ثلث الشريحة الخمسية* الأغنى من نقص الدقيق خلال الجائحة فيما ترتفع هذه النسبة إلى أكثر من 55٪ للشريحة الخمسية الأدنى.
كما أدت الحرب الأوكرانية إلى ارتفاع على مستوى الأسعار بينما سجّلت نسبة التضخم رقما قياسيا يبلغ 9,3٪ وهي الأعلى منذ ثلاثة عقود. كما تمخضت الأزمة عن شح ملحوظ على مستوى بعض المواد على غرار السكر والحبوب والأعلاف الحيوانية. ولا يُعد ذلك أمرا مفاجئا بالنظر إلى اعتماد تونس على أوكرانيا، ففي سنة 2020، استوردت تونس ما قيمته 467 مليون دولار من القمح يتأتى حوالي نصفها من البلد المذكور.
في نفس الموضوع
وتجدر الإشارة إلى أن تونس عاجزة عن تفادي هذه الوضعية نظرا لتبعات التغير المناخي من جفاف وظروف جوية قاسية تضر بالمحاصيل التي تكون إما دون مستواها العادي أو محكوما عليها بالفشل.
كما أن لهذه الأزمة تداعيات ملموسة على بقية بلدان العالم التي ستكون عاجزة عن التنبؤ بتكلفة الأنظمة الغذائية سواء على الصعيد العالمي أو الوطني. ومع ذلك وبالنظر إلى مستوى الإنفاق العام في تونس، لا تبدو السلطات مكترثة بالتغيرات القادمة. وما تواصل تدني حجم الإنفاقات المرصودة للقطاع الفلاحي إلا خير دليل على ذلك، ناهيك عن الإنفاق الموجه للسياسات البيئية. وبالفعل لم يسبق أبدا وأن تجاوزت ميزانية الوزارة حدود 7٪ من موازنة الدولة وهي بالكاد تبلغ 5٪ سنة 2023.
أما حصة وزارة البيئة من موازنة الدولة فهي أضعف من ذلك بكثير وعادة ما تكون دون 3٪ أو حتى 1٪. ولم تبلغ هذه الحصة في سنة 2023 سوى 0,73٪ من الميزانية العمومية. وتعكس الموارد المالية الزهيدة الموجهة لقطاع البيئة تقاعس الدولة عن مواجهة الخطر الملموس المترتب عن التغير المناخي والذي يهدد السكان والاقتصاد بشكل عام والأمن الغذائي بشكل خاص.
في نفس الموضوع
أوجه القصور في التحويلات المباشرة
إذا كان من الثابت أن الدعم لا يقتصر بالنفع على الأسر ضعيفة الدخل وحدها فإن الوضعية قد تزداد سوءا مع اعتماد التحويلات المباشرة نظرًا لأوجه القصور المتعددة التي تشوب هذه المنظومة، ولعل أبرزها التفاوتات القائمة داخل نفس الأسرة. ذلك أن التحويلات المباشرة تقوم على فرضية توزيع متكافئ ومنصف للموارد بين أفراد نفس الأسرة. غير أنه على أرض الواقع، يكون الأمر عكس ذلك تماما في معظم الأحيان إذ تُبرز بعض الدراسات أن النساء غالبا ما يتلقين حصة أقل. وفي حالة العمل بنظام التحويل المالي، عامة ما يكون المستفيد من هذه التحويلات هو رب الأسرة الذي يكون في الغالب ذكرا.
وعلاوة على ذلك تصطدم مقاييس الفقر المبنية على أساس الدخل بمعضلة العمل غير الرسمي. ففي سنة 2019، بلغ عدد العاملين والعاملات في القطاع غير الرسمي حوالي 44,8٪ من القوة العاملة في تونس. ويحول هذا المستوى المرتفع للدخل غير المحتسب دون توفر تقديرات موثوقة.
يُبرز ذلك بالتالي الحاجة الملحة إلى اعتماد مناهج تحديد أفضل ترتكز على تعاريف متعددة الأبعاد للفقر مع الأخذ بعين الاعتبار لبيانات مفصلة حسب الجنس بهدف مزيد الإلمام بظاهرة الفقر ومكافحتها.
ومع ذلك، فإنه حتى في صورة اعتبار أن التعريف المستند إلى الدخل كافٍ لتنفيذ برنامج التحويلات النقدية، فإن نفاذ الفئة المستهدفة إلى هذه التحويلات يبقى موضع شك. ويجدر التنويه في هذا الصدد بأن التحويلات المالية المعمول بها حاليا، أي تلك المتصلة بالبرنامج الوطني لإعانة العائلات المعوزة (PNAFN)، تواجه بدورها مشاكل جمة تتعلق بكيفية استهداف مستحقيها، ومن بينها على وجه الخصوص عجزها عن استهداف جميع الأسر ضعيفة الدخل أو معظمها وبالتالي تسرب الإعانات إلى أسر أخرى أكثر ثراءً.
في واقع الأمر "لا يستفيد سوى 12٪ من الفقراء في تونس (على أساس عتبة دولارين في اليوم الواحد) من البرنامج الوطني للتحويلات النقدية لفائدة الأسر المعوزة. ولا ينتمي إلا 40٪ من مجموع المتلقين لإعانات - والذين يمثلون حوالي 23٪ من مجموع السكان- إلى الشريحة الخُمسية الدنيا من حيث الدخل والتي تمثل المعوزين (على أساس عتبة دولارين أمريكيين في اليوم الواحد) ".
وعلاوة على ذلك فإن "أكثر من 42٪ من المنتمين إلى الفئة الأشد فقرا (الشريحة الخمسية الأولى) لا ينتفعون لا بالتغطية الصحية ولا بالمساعدة المالية". *
كما أن نسبة ضئيلة من الأسر الأغنى منخرطة في البرنامج وتتلقى تحويلات نقدية أعلى يبلغ معدل قيمتها 193 دينارًا للفرد الواحد مقابل 113 دينارًا فحسب للـ20٪ من ذوي الدخل الأدنى.*
ولا ينتمي سوى 40٪ من المستفيدين من التحويلات النقدية إلى الشريحة الخُمسية الأدنى دخلاً وهو ما يقوّض فعالية عملية الاستهداف للغاية، ويجعل تونس تحتل مرتبة متأخرة في هذا المجال من بين قائمة بلدان أخرى مثل بلغاريا ورومانيا أو حتى كازاخستان.*
سبق وأن تم الوقوف على هذه الإشكاليات وتشخيصها من قبل تونس والمؤسسات المالية الدولية منذ سنوات. بيد أنه رغم التعبير عن النية في تحسين استهداف برامج التحويلات المالية لضمان فعاليتها، فإن الجهود المبذولة في هذا الغرض تكاد لا تُذكر علما أن رفع الدعم وشيك جدا.
ولا يكفي استهداف الأسر ذات الدخل المنخفض وتحديدها، بل يتعين أيضا توفير الوسائل الكفيلة بضمان نفاذها إلى هذه البرامج والخدمات. ويشكل ذلك في حد ذاته تحديا بالنظر إلى ضعف نسبة الصيرفة في تونس. إذ بلغت نسبة ملكية حساب مفتوح لدى مؤسسة مالية في عام 2021، 36,8٪ في صفوف البالغين في تونس. ويتقلص هذا الرقم إلى 32٪ بالنسبة للـ40٪ الأشد فقرا.
وهكذا فإن أقل من ثلث الفقراء يملكون حسابا مصرفيا. وتكون هذه النسبة أضعف في صفوف النساء إذ لا تتجاوز 28,7٪.
يصطدم الإدماج المالي لضعاف الحال بعقبات هيكلية متعددة يرتبط بعضها بالتوزيع الجغرافي غير المتكافئ للمؤسسات البنكية، ويعود البعض الآخر للرسوم البنكية المشطة حيث أن "رسوم مسك حساب يمكن أن تتجاوز 80 دينارًا في السنة"... وفي صورة تنفيذ برامج التحويل المباشر في الوقت الحالي، فإنها ستفشل لا محالة في تحديد الأشخاص من ذوي الدخل المنخفض والمتوسط واستهدافهم. كما سيؤدي التخلي عن الدعم إلى تعميق فجوة التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية وإلى الإخلال بالاستقرار الاجتماعي والسياسي.
أخيرا، قد يكون هنالك مشروع بديل محتمل: استئناسا بما تم إقراره سابقا بخصوص دعم الطاقة أو رفع الدعم عن الطماطم المعلبة، قد تلجأ الحكومة بكل بساطة إلى تفكيك منظومة الإعانة الاجتماعية وترك الأسر الضعيفة والمتوسطة الدخل تواجه مصيرها بمفردها، متكبدةً مرة أخرى تكلفة الإجراءات التقشفية التي أثبتت فشلها في تحفيز النمو والاندماج.