تربية الدواجن: أمام معاناة المربين الصغار إلى من تؤول الأرباح؟

تربية الدواجن: أمام معاناة المربين الصغار إلى من تؤول الأرباح؟

"نتيجة الاستثمارات الهائلة والإمكانيات الكبيرة في إنتاج الأعلاف والمنافسة غير المتكافئة مع المربين .والمربيات الصغار، سيطرت الشركات الثلاث الكبرى على قطاع الدواجن في تونس ولم يتبق من المنتجين والمنتجات إلاّ بضع مئات وهم ذاهبون إلى الزوال". استطاعت المجموعات الصناعية "بولينا القابضة" و"الوردة البيضاء" و"آلفا" أن تتزعم جميع حلقات إنتاج الدواجن في تونس من صناعة الأعلاف وصولا إلى بيع اللحوم البيضاء والبيض بالتفصيل. كيف تتحكم الشركات الكبرى في حلقات الإنتاج؟ ولماذا تعدّ أزمة قطاع الدواجن اليوم هيكلية؟
بقلم | 16 نوفمبر 2021 | reading-duration 20 دقيقة

متوفر باللغة الفرنسية

تمثل تكلفة الأعلاف 70% من كلفة الإنتاج في قطاع الدواجن ما يجعل التحكم في أسعارها المحدد الرئيسي لتحديد هامش الربح لدى المربين والمربيات. منذ النصف الثاني من سنة 2018 بات التزود بالأعلاف كابوس المربين بعد أن عرفت أسعارها ارتفاعا مفاجئا. غلاء عزته الشركات المنتجة إلى ارتفاع الأسعار العالمية للمواد الأولية الأساسية لصناعة أعلاف الدواجن فيما ترى نقابة مربي الدواجن أن الشركات الكبرى تضاعف نسبة أرباحها لإزاحتهم من السوق والاستئثار بالقطاع.

  3 شركات ووفاق؟  

  في الوقت الحالي تسيطر المجموعات الصناعية الضخمة بولينا وآلكو (الوردة البيضاء) وآلفا على صناعة الأعلاف وتسويقها وهي ذاتها المجموعات الثلاث الرائدة في إنتاج البيض واللحوم البيضاء. تعد هذه الشركات إلى حدود فيفري 2021 المزود الوحيد للفلاحين بالمواد الأولية الأساسية أي الذرة وفيتورة الصوجا والـCMV وتشتري المجموعات الثلاث بدورها فيتورة الصوجا من شركة حبوب قرطاج المزود المحلي الوحيد لهذه المادة.

يقول "حمدي الورغي" مهندس فلاحي وناشط بمنظمة "ألرت" في حوار لإنكفاضة: "في تونس لا نستورد فيتورة الصوجا. كل الاستهلاك المحلي يتم شراؤه من شركة قرطاج للحبوب التي تستورد حبوب الصوجا، فبعد أن يستخرج منها الزيت تبقى  فيتورة الصوجا لاستعمالها في صناعة الأعلاف. بعد أن أصبحت المادة تصنع في تونس فرضت الشركات الكبرى على شركة حبوب قرطاج البيع لها حصريا مما خلق وفاقا أصبح يتحكم في سعر العلف المركب". 

تطور استيراد فول الصوجا

    المصدر: المعهد الوطني للإحصاء    

 في حوار أجرته انكفاضة مع المدير العام لشركة حبوب قرطاج "ماهر العفاس" يقول في رد على الاتهامات بخصوص اتفاق شركته مع المجموعات الكبرى الثلاث لاحتكار تسويق فيتورة الصوجا والتحكم في أسعارها: "مسلك التوزيع الموجود اليوم لم تخلقه شركة قرطاج للحبوب. فإلى حدود سنة 1996 كان ديوان الحبوب المستورد والموزع الوحيد والرسمي لفيتورة الصوجا والذرة في السوق التونسية".

ويواصل:"خرجت الدولة من هذا القطاع وأعدت كراس شروط لمن يريد استيراد الذرة وفيتورة الصوجا". ويرى المدير العام لحبوب قرطاج أن الدولة ارتكبت حينها خطأ جسيما يتمثل في منح الفرصة للشركات الثلاث الكبرى للهيمنة على المجال، وهو ما جعل منهم مزودي الأعلاف الحصريين لمنافسيهم".

تحوّل "الثلاثة الكبار" أواخر التسعينات إلى المستوردين الحصريين لفيتورة الصوجا والذرة، يوزعون على البلاد بأكملها مع أخذ احتياجاتهم الخاصة التي تمثل 70% من السوق التونسية. مع بداية الألفينات جاءت قرطاج للحبوب لتتحول إلى مزود فيتورة الصوجا الوحيد في البلاد فيما تحولت شركات الأعلاف المركبة إلى وسيط بين شركة حبوب قرطاج والمربين في ما يتعلق بفيتورة الصوجا والمزود الحصري للذرة العلفية المستوردة.

نظام توزيع  لنفس المجموعات منذ عقود

في حوار مع كاهية مدير الغرفة النقابية لمصنعي الأعلاف والمدير العام لشركة SNA التابعة لمجمع بولينا القابضة "محمد الشيخاوي"، يقول لإنكفاضة: "يتحدث الناس اليوم عن أن هذه التكاملات الصناعية -أي الشركات الكبرى- جديدة ولكن فعليا هي موجودة منذ 1967 تاريخ تأسيس بولينا القابضة، وبعدها بسنوات انطلقت كذلك مجموعة الأخوين الأحمر التي تحولت اليوم إلى اسم الوردة البيضاء والمعروفة بألكو في قطاع الأعلاف، ثم خلقت في الثمانينات مجموعة محمد حشيشة والتي آلت في الأخير إلى ألفا. فالمجموعات موجودة منذ عقود، فقط يتغير المالكون أحيانا".

 ينفي الشيخاوي نفيا قاطعا وجود وفاق لغلق المجال واحتكار استيراد المواد العلفية، مؤكدا إسناد تراخيص جديدة لشركات أخرى على غرار مجموعة حشيشة المالكة لشركة رندة، ورجل أعمال ليبي يدعى "عبد السلام الفرجاني".من جهته يؤكد المدير العام لشركة حبوب قرطاج احتكار بيع الصوجا: "وفق كراس الشروط فإن عملية الاستيراد مكلفة جدا وتحتاج موارد هائلة. من يريد دخول مجال استيراد الصوجا مطالب بتوفير مخزون شهرين كاملين من استهلاك البلاد. ويواصل: "شركتنا تستثمر اليوم حوالي 300 مليون دينار في هذه الصناعة وبجميع التكنولوجيات الممكنة". 

ويتابع ماهر العفاس: "حينما جاءت شركة حبوب قرطاج أكدت لنا الدولة أنّنا سنأخذ مكان المزودين الأجانب، ما يعني أن مسلك التوزيع سيظل هو نفسه ولكن في عوض أن يستورد الثلاثة الكبار من الخارج سيشترون منكم. بالنسبة لنا كمصنع كان أمرا عاديا ولا يزال فلا يمكننا أن نبيع للفلاحة الصغار، فوفق المسار الكلاسيكي العادي يمر المنتج بالمصنع ثم الموزع ثم المستهلك. كشركة قرطاج للحبوب وجدنا الموزعين موجودين فتعاملنا معهم وحتى قبل فيفري 2021 كان لدينا 16 عميلا آخر في فيتورة الصوجا".

  منذ 19 فيفري 2021 فرضت وزارة التجارة على شركة حبوب قرطاج البيع للجميع أي الشركات الكبرى والفلاحين بنفس هامش الربح وأصبح كل فلاح قادر على اقتناء الصوجا مباشرة من الشركة. يقول المدير العام لحبوب قرطاج ماهر العفاس: "أثر هذا القرار إيجابيا على الفلاحين الذين باتوا يقتنون طن الصوجا بـ1600 دينار عوضا عن 1800.  

ويستدرك العفاس: "قبل شهر جوان 2018 كانت الأمور مستقرة إلى حد ما، حيث كان حرفاؤنا الكبار يبيعون للفلاحين بهوامش ربح معقولة بين 70 و100 دينار في الطن. وهذا كان يلائم هؤلاء لأنه يجنبهم تكاليف النقل والشحن وغيرها خصوصا في الجهات الأبعد عن العاصمة كصفاقس والشمال الغربي إضافة إلى أن هذه الشركات تقدم تسهيلات في الدفع للفلاحين فيما أننا لا نقبل إلا الدفع نقدا على إعتبار هامش الربح الضئيل لدينا."

يرجع المدير العام السبب في معاناة المربين إلى ما وقع في جوان 2018 حيث يقول: "بدأت الأسعار حينها في الصعود ليرتفع سعر الطن في أقل من 6 أشهر من 900 دينار إلى أكثر من 1300 دينار حينها عمدت الشركات إلى مضاعفة هامش أرباحها. بعدها عاد وانخفض سعر البورصة فخفّضنا في أسعارنا فيما حافظوا هم (أي المجموعات الثلاث) على نفس السعر ليتحول هامش ربحهم إلى ما يقارب 400 دينار.

متوسط أسعار فول الصوجا

حسب

متوسط أسعار الذرة

حسب

  المصدر: البنك الدولي  

بخصوص أن شركة حبوب قرطاج هي المزود الوحيد في البلاد للصوجا نفى "ماهر العفاس" وجود أية امتيازات لشركته عدا التغطية الديوانية ب15% على فيتورة الصوجا الموردة وهو ما اعتبره إجراء معمول به لحماية السلع المحلية مشيرا إلى أن وزارة التجارة قد حددت منذ فيفري هامش ربح شركة حبوب قرطاج ب 5% من الكلفة الجملية بعد أن اقترحت في البداية 10%.

 في ذات الوقت يرى العفاس أنه من غير المنطقي أن يكون المزودون هم أنفسهم المنافسون لأن ذلك يمنحهم أفضلية على منافسيهم ويمكن أن يعجل إفلاسهم ويخرجهم من المنافسة على اعتبار اختلاف سعر الكلفة. في ذات الوقت يتخوف المدير العام من فتح الباب أمام المجموعات الثلاث لاستيراد الصوجا بنفسها ما يعني إنهاء نشاطه تماما. فهو يعتبر أن ما يقال ضد شركته هو حملة ممنهجة لشيطنتها وافتكاك نشاط استيراد الصوجا منها من قبل حرفائها الأساسيين أي بولينا وألفا وألكو. 

ينتشر الاحتقان واليأس بين مسؤولي نقابة مربي الدواجن ممن حاورتهم إنكفاضة، بسبب تواصل ارتفاع أسعار الأعلاف منذ سنوات وفي حين تنهار مداجنهم تزدهر شركات الأعلاف. يحمّل مراد بن عمر عضو مجلس إدارة المجمع المهني المشترك لمنتوجات الدواجن وصاحب مدجنة ومذبح، الاتحاد الوطني للفلاحة والصيد البحري والجامعة العامة لمربي الدواجن مسؤولية ما يحدث في قطاع الدواجن. إذ يعلّق: "تشكّيات المربين تواجه بالتجاهل منذ سنوات".

ويوضح: "قطاع الدواجن مفلس بالأرقام، في المقابل نجد المجموعات الكبرى تراكم الأرباح والأموال والبقية -أي الفلاحين الصغار- يسيرون نحو الهاوية. هل يعني هذا أنهم يتقنون العمل أكثر منا؟ بعضنا تجاوزت طرق عمله معايير الشركات العالمية وبتنا نحقق نتائج أكثر من المرجوة لكنهم ينعتوننا بأننا لا نتقن العمل".

تطور أسعار أعلاف دجاج البيض (د/طن)

    المصدر: الغرفة الجهوية لمربي الدواجن بصفاقس    

في المقابل يطالب "عبد المجيد الزار" رئيس اتحاد الفلاحين، بتدخل الدولة لدعم الأعلاف أو توفير مخزونات استراتيجية عند وفرة الإنتاج أما بخصوص لجنة الأعلاف التابعة لوزارة الفلاحة، يعتبر الزار أن ليس لها دور كبير بخصوص أعلاف الدواجن معتبرا أن اختصاصها يقتصر على الأعلاف المدعمة أي السداري والشعير. ويوضح بالنسبة للسداري المدعمة فإنها توزع وفق التقسيم التالي 30% تبقى في المطحنة و30 %  أخرى للشركات الصناعية، فيما يوزع الباقي بأسعار مدعمة على الفلاحين.

بخصوص استغلال الشركات الكبرى للمواد العلفية المدعمة يقول "محمد الشيخاوي": "مادة السداري تباع في السوق السوداء في تونس ونحن نستورد منها أكثر من 40 ألف طن في العام بحوالي 700 دينار للطن في المقابل تباع في تونس في الوضع العادي بـين 220 و240 دينار ولكن بسبب تعدد الوسطاء تصل إلى 600 دينار". ويرى الشيخاوي أن الأسعار العالمية ستواصل الارتفاع على المدى القريب وحتى البعيد نظرا لارتفاع الطلب العالمي على هذه المواد.

متوسط أسعار الذرة العلفية في جميع أنحاء العالم من 2014 إلى 2025

حسب

  المصدر: البنك الدولي  

حاولت إنكفاضة التواصل مع المجمعين الآخرين ألكو وألفا عبر الإيميل بخصوص ضبط هوامش الربح في بيع الأعلاف المركبة وفيتورة الصوجا ولكنها قوبلت بالتجاهل ولم تعلق أي من الشركات الثلاث على تساؤلاتنا رغم فتحها الإيميل.

لا ضمانات على جودة الأعلاف

يقول حمدي الورغي من منظمة "آلرت": "أسعار الأعلاف في تونس لا تكاد تتراجع أبدا، في المقابل حينما ننظر إلى أسعار الأعلاف في الأسواق العالمية نجدها قد تراجعت من مارس الماضي مثلا. أحيانا يتم التحيل في تركيبة الأعلاف للدجاج باستبدال الذرة المستوردة بالشعير المدعم   (يستشهد بما رواهله أحد المربين) لأن كلا العنصرين يمثلا مصدرا للطاقة ولكن الشعير بمردودية أقل. وفي حالة دجاج اللحم مثلا فإن 30 يوما من التسمين قد تتحول إلى 35 ما يتسبب في رفع كلفة الإنتاج". 

من جهته يقول رئيس الإتحاد الوطني للفلاحة والصيد البحري عبد المجيد الزار في حوار لإنكفاضة: "تطرح اليوم فكرة تسقيف الأسعار في الأعلاف ولكن ذلك في الحقيقة سينعكس على الفلاح وليس المصنع. ويفسّر: "تحديد سقف الأسعار لن يضمن التزام المصانع بالحفاظ على جودة الأعلاف، هنا نقترح كحل هيكلة الأسعار وفق سعر التكلفة كما نطالب بمراقبة جودة الأعلاف".

  تطور إنتاج الأعلاف المركبة الموجهة للدجاج (ألف طن)  

من جهته يقول الورغي: "من أسباب ارتفاع أسعار الأعلاف أن المجمعات الثلاثة الكبرى بولينا وألكو والفا لجؤوا إلى خلق شركات وسيطة تنتمي إلى نفس المجموعة حيث تبيع كل شركة إلى أخرى من نفس مجموعتها، ما يتسبب في رفع هامش الربح في كل مرة يباع فيها المنتوج. كمثال على ذلك في أكتوبر 2019 باعت الشركات التجارية التابعة للمجموعات المذكورة فيتورة الصوجا بـ 1460 دينار في حين أن سعر الشراء من شركة حبوب قرطاج يقدر حينها بـ 1057,7 دينار للطن. وهي طريقة مكنت هذه الشركات من تأمين أرباح تصل إلى 400 مليون دينار سنويا من بيع منتج دون أي قيمة مضافة".

في المقابل يقول محمد الشيخاوي المدير العام لشركة SNA: "حدث أن ربحنا  400 دينار في الطن لأيام معدودة فقط ثم تراجع السعر بسبب منطق المنافسة". ولكنه يستدرك ليعترف: "لنكون صادقين أحيانا نسمح لأنفسنا بالربح أكثر لأننا نبحث عن استثمار أكبر ولكن ذلك لا يدوم والقائمات المالية لدينا تثبت ذلك. بمنطق ربح 40 % فإننا كـ SNA  فقط يجب أن نحقق أرباحا سنوية بـ 450 مليون دينار وهذا لا تحققه حتى مجموعة بولينا بأكملها التي تضم أكثر من 100 شركة".

وفيما يتعلق بأرقام البيع والشراء رفض الشيخاوي مدّ إنكفاضة بإحصاء لذلك واكتفى بالحديث حول الإطار العام دون الإدلاء بالتفاصيل معللا بأن الوضعيات الجبائية في البورصة تمثل الدليل الدامغ على حجم أرباحها الضئيل، الذي قال إنه لا يتعدّى 3%. وهو ما لم يتسن لنا إثباته بحكم عدم معرفتنا بكلفة التصنيع التي تأبى وزارة التجارة أيضا تحديدها وفق تأكيد رئيس إتحاد الفلاحين عبد المجيد الزار.

مقارنة سعر بيع فيتورة الصوجا من شركة حبوب قرطاج مباشرة ببيعه من الشركات الكبرى خلال سنة 2019 

  المصدر: محضر جلسة لجنة الأعلاف بتاريخ جانفي 2020

في المقابل، يقول شكيب التريكي رئيس الجامعة التونسية للمنظومة الفلاحية والصيد البحري في حوار لإنكفاضة: "تغولت الشركات الكبرى وأتت على الأخضر واليابس حتى باتت قوة جبارة، بفرضها أسعار أعلاف مشطة". ويواصل: "لا يمكن الوقوف في وجه تيار غلاء التكلفة التي باتت تلتهم صغار الفلاحين، وتحولت الخسارة إلى أمر محتوم".

ويضيف: "استقالة الدولة من قطاع بيع الأعلاف قاد إلى تحكم الخواص بالأسعار، كان بإمكان الدولة في هذه الأزمة اليوم أن تبيع للفلاحين بسعر التكلفة دون البحث عن أرباح كخدمة عمومية لضمان توازن الأسعار والحفاظ على الفلاحين". ويؤكد التريكي على أن قطاع الدواجن اليوم يعيش أزمة هيكلية وليست ظرفية ستنتهي بموت الفلاح الصغير وبقاء الشركات الكبرى التي هيمنت على كافة حلقات الإنتاج من بيع الأعلاف إلى تربية الدواجن وصولا إلى المذابح.  

في ذات السياق يقول مراد بن عمر عضو مجلس إدارة المجمع المهني المشترك لمنتوجات الدواجن: "في السابق كانت المرابيح تقسم على جميع الحلقات وحتى حينما تلتهم حلقة مرابيح حلقة أخرى كانت تحدث بطريقة عفوية دون تخطيط مسبق. ولكن حصل الوفاق مع مصنع حبوب قرطاج الذي يبيع الصوجا فجمعوا المرابيح في الحلقة الأولى واستأثروا بها منذ بداية 2019".

ويضيف:"أنا كصاحب مدجنة لم يكن لدي الحق في الشراء من شركة حبوب قرطاج، في المقابل ملزمون بالشراء من الشركات الكبرى التي تبيع لنا صوجا شركة حبوب قرطاج دون أن تقدم أي قيمة مضافة. فكنت أمنحهم 15 ألف دينار فارق في 30 طن ويستدرك: "تخيلوا حجم الخسارة التي تكبدناها طيلة سنوات". 

ويواصل: "فُتح أخيرا البيع للعموم بعد عدة قضايا وشكايات، في الوقت الحالي اشتري صوجا من حبوب قرطاج، والذرة والـCMV من المجمعات الكبرى لأقوم بخلطها. ولكنني أجد أن كلفة الطن من العلف المركب أكثر مما أقتنيها منهم بـ100 دينار وهنا أتساءل كيف يربح هؤلاء كل هذه الأرباح. ويستدرك بن عمر: "لست مقتنعا بأننا نشتري بنفس السعر وأنا أعرف أن مصنع الأعلاف يجب أن يبيع بهامش ربح بين 17 و20 %".

إندثار صغار المربين 

عرفت أعداد المربين في قطاع الدواجن تراجعا حادا خلال السنوات الثلاث الماضية، حيث تراجع عدد مربي الديك الرومي من 600 مربي إلى 3 فقط هم بولينا والفا وآلكو، حسب الجامعة الوطنية لمربي الدواجن.

 يقول  مراد بن عمر عضو مجلس إدارة المجمع المهني المشترك لمنتوجات الدواجن: بعد أن كنا آلاف المربين في قطاع دجاج اللحم و600  عامل في قطاع دجاج البيض بعد 3 سنوات فقط نلتفت لنرى أنه لم يتبق منهم سوى 10%  ألا يضع هذا تساؤلات؟ في المقابل نجد شركات كان لديها 10 % من الإنتاج الوطني قد ارتفعت حصتها إلى 40%. ببساطة هذا يعني أن من ماتوا مهنيا استوعبتهم الشركات الكبرى وسيطرت على وحدات إنتاجهم".

ويواصل: "استطاعت الشركات الكبرى أن تهيمن على قطاع الدواجن أمام سكوت إتحاد الفلاحين في اجتماعات لجنة الأعلاف التابعة لوزارة الفلاحة". يصف بن عمر ما يحدث بالإجرام في حق المربين ويدللّ على ذلك بما حدث في قطاع تربية الديك الرومي . "رأيتم أين وصلت أسعار شرائح لحم الديك الرومي؟ القطاع اليوم دون حسيب أو رقيب".

يفسر بن عمر: "الشركات الكبرى حققت غرضها في مجال الديك الرومي، وفي البيض هم على مشارف الوصول لو لم يحل تاريخ 25 جويلية دون ذلك. ويستدرك 25 جويلية يوم مفصلي بالنسبة لنا كمربين لأننا قبله لم نستطع التحرك، حيث فتح الملف أخيرا في وزارة التجارة يوم 9 سبتمبر". 

من جهته اعتبر رئيس الاتحاد الوطني للفلاحة عبد المجيد الزار أن لتربية الديك الرومي خصوصية، وأن نظام  تربيته منذ التسعينات كان يتم بنظام المناولة، ويقول:"كان يقع العمل مع المذابح بتحديد هامش ربح في الكيلوغرام الواحد، فخصوصيته أنه لا يباع إلى المستهلك مباشرة فالفلاح يجد نفسه مرتبطا بالضرورة بالمذابح وهذا قاد أيضا إلى تغول الشركات الكبرى التي باتت تتحكم في السوق".

في المقابل يقول وسيم بوخريص رئيس غرفة منتجي البيض بصفاقس: "عمدت الشركات الثلاث الكبرى المهيمنة إلى إغراق السوق بالمنتجات من الفراخ المعدة للتسمين ومعدات تربية الدواجن وتقديم تسهيلات مسمومة إلى المربين لرفع الطلب على الأعلاف التي تسيطر على مسالك إنتاجها وتوزيعها ما تسبب في ارتفاع مديونية الفلاحين لشركات الأعلاف".

ويوضح: "تبعا لذلك تمكنت الشركات الكبرى من التهام الفلاحين الصغار بابتلاع وحدات الإنتاج الخاصة بهم ليتراجع عدد منتجي دجاج اللحم من 6000 عامل في القطاع إلى بضع مئات في السنوات الثلاث الماضية وتراجع عدد منتجي البيض من 600 إلى 100 منتج فقط. كما أصبح إنتاج لحم الديك الرومي حكرا على الشركات الثلاث الكبرى" وهو ما فسر به إلى جانب أسباب أخرى الارتفاع المُشط في شرائح لحم الديك الرومي.

  أسعار بيض الاستهلاك عند الإنتاج مقارنة بالكلفة (بالمليم/ البيضة الواحدة)  

  المصدر: الغرفة الوطنية لمربي الدواجن  

الشركات الكبرى "تستغل" تعاونيات صغار الفلاحين 

يؤكد رئيس الإتحاد الوطني للفلاحة والصيد البحري عبد المجيد الزار، وجود صراع بين الشركات الكبرى وصغار المربين، موضحا: "هناك من يرون أنه لا مكان للصغير -أي مربي الدواجن الصغير- بل يمكنه أن يفسد العمل داخل المنظومة، وهذا الرأي يعاضده حتى أطباء بيطريون وليس فقط الشركات".

ويضيف: عند عودة فكرة الحصص عاد ظهور الشركات التعاونية بإيعاز من الشركات الكبرى لأننا حين حاولنا أن نضيف مقاييس للتوزيع، لم ترض بعض الشركات والمفارخ بطريقة توزيع الحصص لأننا حاولنا أن نعدل ونتيح إمكانية للمنافسة حتى لا تسيطر بعض الأطراف وتتغول". 

ويوضح: "باعتبار أن الشركات التعاونية تضم صغار المربين فلا بد أن تضمن لها حصة وتضمن إمكانية تواصل عمل الفلاحين الصغار ولا يتم ابتلاعهم من طرف الشركات الكبرى. إلا أنّ ما وقع هنا أن بعض الشركات التعاونية جاءت  وليدة الشركات الكبرى التي لجأت إلى خلقها. نتيجة لذلك تطور عدد التعاونيات من 10 إلى 32 وهذا ما خفض في حصتها التي حددت بـ 10% من حجم السوق ما أضعف حصص هذه التعاونيات من السوق، التي تم إغراقها كذلك بالفراخ في دجاج اللحم إضافة إلى تمديد دورة دجاج البيض من قبل بعض المربين من 80 أسبوعا إلى 110".

تطور استهلاك لحوم الدواجن (كغ للفرد في السنة)

تطور استهلاك البيض (وحدة للفرد في السنة)

كانت وزارة الفلاحة قد قررت في سبتمبر 2015 العودة إلى نظام الحصص الذي كان معمولا به في السابق مع "العمل على معالجة ديون مربي الدواجن" وفق تاكيدها. ويقضي نظام الحصص بالتزود بأمهات الدواجن بما يتلاءم مع حاجيات السوق المحلية، لكن تحرير المنظومة ساهم في تسجيل فائض في الإنتاج أثّر بدوره على الأسعار.

ويتابع رئيس الإتحاد: "وصلنا إلى إنتاج 16 مليون بيضة شهريا وهو ما تسبب في إغراق السوق وتراجع الأسعار مقارنة بسعر التكلفة حيث أخذت أسعار الأعلاف منحى تصاعديا جنونيا أنهك الفلاح واضطره إلى الخروج من القطاع".

بسؤاله عما إذا كانت عملية الخروج هذه مخططا لها من قبل الشركات الكبرى لم يشأ الزار أن يحمل المسؤولية للمجموعات الكبرى مجيبا: "لا أتصور أنه كان خروجا مخططا له لأنه إلى حد الآن تمكنت وزارة التجارة من تحديد هامش الربح في مرة أولى بـ%20 ثم %10 بعدها وقع التمديد لستة أشهر أخرى"، ولكنه يستدرك: "يجب أن نعترف أن الواقع يشير إلى غلاء مشط في الأعلاف وخسارة للفلاحين".

بيع بسعر التكلفة أو أقلّ

مع ظهور أنفلونزا الطيور  في بداية الألفينات فرضت وزارة التجارة مرور الطيور بمسالخ مراقبة مرخص لها من وزارة الفلاحة. وقد كان نتيجة لذلك أن استثمرت الدولة وأعطت منحا مهمة تتجاوز مليون دينار حتى ارتفع عدد المذابح من 7 إلى 31 مذبح. 

 يقول "مراد بن عمر": انتهت هذه المذابح اليوم إلى الإفلاس فلم يتبقَ منها سوى 17، منها ما استوعبته الشركات الكبرى والبقية أغلقت لأنها باتت تواجه الخسارة يوميا". ويواصل: "في السابق كانت الشركات الكبرى كبولينا تسيطر على إنتاج الأعلاف ولكنها سرعان ما تحولت إلى مسيطر على كامل حلقات الإنتاج. في مجال الدواجن مثلا في ما يخص إنتاج لحم الديك الرومي لم يعد هناك أي منتجين عدا الثلاثة الكبار".

 يرى بن عمر أن نتائج هذه السيطرة والقضاء على المنافسة قادا إلى الارتفاع المفاجئ في سعر شرائح لحم الديك الرومي من حوالي 11 دينار إلى 18 في غضون أشهر. كمثال على ذلك تمتلك شركة بولينا مثلا أكبر مذبح في قارة أفريقيا وتنتج شركة المزرعة التابعة لها أكثر من 10 آلاف طن من منتجات اللحوم البيضاء الطازجة سنويا وتوزع في آلاف نقاط البيع عبر البلاد.

يؤكد بن عمر: "إن الشركات الخاصة تمكنت اليوم من بناء المداجن دون أي حسيب أو رقيب حتى باتت المداجن الموجودة تغطي 3 أضعاف الاستهلاك الوطني. وعمدت الشركات إلى خلق تسهيلات للفلاحين في الدفع ولكنها تسهيلات مفخخة حيث أغرقت لاحقا الأسواق بالمنتجات ما تسبب في تدني الأسعار وانخفاض سعر البيع مقارنة بالتكلفة المرتفعة جدا". 

ويتابع: "في هذه الحالة كان المربون الضعفاء غالبا ما يعجزون عن تسديد ديونهم لشركات الأعلاف التي هي نفسها منافسة في إنتاج اللحوم وهنا تقع التسوية بعيدا عن القضاء بشراء وحدات الإنتاج الصغيرة وإخراج هؤلاء من منظومة الإنتاج، كجامعة وطرف نقابي ترفض وزارة التجارة اليوم الجلوس معنا لتحديد كلفة الإنتاج في الدواجن في المقابل تلجأ إلى حلول صورية لا تغير من الواقع شيئا".

 تطور معدل سعر الكلفة مقارنة بمعدل سعر البيع لدجاج اللحم (المليم/كلغ)  

  المصدر: الغرفة الوطنية لمربي الدواجن  

 يعترف الزار:" إن المذابح الأصغر بدورها في تراجع لأن هناك شركات تغولت في السوق. في الأخير حينما سعّرت الوزارة اللحوم البيضاء ظهر الانعكاس مباشرة على الفلاح حتى باتت تقبل المذابح الكيلوغرام الحي عند مستوى 3500 مليم وهو سعر التكلفة عند المجمع المهني المشترك والذي أعدها وفق مقاييس لسنا راضين عنها مثل الوفيات ومؤشر الإستهلاك حيث احتسبت وفق معايير عالية جدا".

ويواصل: "بالنسبة للمذابح ربحها دائما مضمون لأنها تشتري وفق سعر البيع وهنا رأينا أثر تسقيف الأسعار على الفلاح وليس على المذابح". 

في حوار مع إنكفاضة يقول سالم* أحد العمال السابقين بشركة لإنتاج اللحوم البيضاء ضمن إحدى المجموعات الثلاث الكبرى: "المذابح تعمل وفق هامش ربح مضمون منذ البداية، فهي لا تأخذ على عاتقها أية تكاليف يمكن تحميلها على عاتق المربي بأي شكل من الأشكال" 

ويواصل:"فور وصول الدجاج إلى المذبح نقوم بوزنه ثم نتركه ليرتاح ساعتين كي يخرج أكثر ما يمكن من فضلات نطرحها لاحقا من الوزن ونحمّل قيمتها على الفلاح، كذلك تحمل الوفيات التي تحصل بين الدجاج على المربي أو الناقل بناء على سبب الوفاة الظاهر".

ويتابع سالم*: "في العادة نطلب من المربين تزويدنا بدجاج في مستوى وزن معين، لنقل في حدود 2 كيلوغرام للوحدة. ولكن عادة لا تكون الوحدات متناسقة بل قد تتراوح بين 2 و4 كيلوغرامات وكلما كان التناسق أقل خفضنا في السعر على أساس أن المصنع يعمل وفق سلاسل تستوجب تناسقا في حجم الفراخ".

بخصوص التقنيات الأهم لتحقيق الأرباح على مستوى المذابح يقول سالم: "يحقن لحم الدجاج المعد للتجميد بالماء بنسبة 32% من وزنه بإبر مثبتة في آلات. أما فيما يتعلق بموضوع اللحم الطازج دائما ما يقع الاتفاق بين المزودين الكبار على السعر المطروح في السوق. ويوضح: "باحتساب الفرق بين سعر كيلوغرام الدجاج ككل وشرائح اللحم على شكل خاص لا يجب أن يتجاوز سعر الثاني سعر الأول بأكثر من الضعف في أقصى الحالات".

يؤكد من بقي من مربي الدواجن اليوم أن أزمتهم لا يمكن معالجتها بحلول صورية أو ترقيعية وإنما هم بحاجة إلى تغيير يبدأ من حلقة الإنتاج الأولى التي يعتبرون أنهم نواتها. حيث تطالب النقابات المهنية بالاعتراف بتكلفة الإنتاج في احتساب سعر البيع النهائي، إضافة إلى تحرير الأعلاف من سلطة الشركات الكبرى التي قضت على المنافسة بتزعم جميع حلقات إنتاج اللحوم البيضاء وصارت تتحكم في أسعار البيع والشراء فيها.