أعلن جيرالد دارمانان في برقية عاجلة وجّهها إلى الولّاة أنه "يجب حظر المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين.ات لاحتمال إخلالها بالنظام العام". ومنذ ذلك الحين، غُرّم العشرات من الأشخاص لمجرد التظاهر حتى أن بعضهم تعرّض للإيقاف بتهمة تمجيد الإرهاب.
تقول رانيا* وهي طالبة بباريس منذ سنتين: "كنت متواجدة بباريس للإعراب عن تأييدي وسط حراسة أمنية مكثفة. في البداية، لم يقل أعوان الشرطة شيئا ثم شرعوا في تغريم الجميع. دفعت 135 يورو رغم أنني لم أقترف أي ذنب سوى التعبير عن تضامني".
تهديد الحق في التظاهر
يرى جان كلود صامويي، رئيس الفرع الفرنسي لمنظمة العفو الدولية، أن "حظر جميع المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين في فرنسا يُشكل اعتداءً جسيمًا وغير متناسب على الحق في التظاهر". كما يذكر في هذا الصدد بأنه "لا يمكن حظر التظاهر إلا كملاذ أخير وفي صورة ما إذا كان الدافع إليه تهديدا محددا وإذا ما ثبت أنه لا يوجد إجراء آخر أقل صرامة يمكن من خلاله الحفاظ على النظام العام".
في أثناء ذلك، تواصلت المظاهرات الحاشدة الداعمة للفلسطينيين.ـات في شتى أنحاء العالم. وتجمهر آلاف المتظاهرين سواء في نيويورك أو طوكيو أو سيدني، تنديدا بالإبادة الجماعية المرتكبة بحق الفلسطينيين.ـات. أما في أوروبا، فقد شهدت العاصمة البريطانية، يوم السبت 21 أكتوبر، مسيرة حاشدة ضمت أكثر من 100 ألف شخص للمطالبة بإنهاء الحرب على غزة.
تبنت كل من ألمانيا - التي تضم عاصمتها برلين أكبر جالية فلسطينية في أوروبا بأسرها - وفرنسا موقفا متشابها وقاطعا على الرغم من اعتراض مجلس الدولة الفرنسي على قرار الحظر هذا. ويُعد هذا القرار تواصلا لتصريحات رسمية أخرى مثل تلك التي أدلى بها مانويل فالس، رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق، في سنة 2016 والذي اعتبر أن عبارتي معاداة الصهيونية ومعاداة السامية مترادفتان، مما أسهم في تغذية الخلط القائم بين مكافحة الانتهاكات الناجمة عن السياسة الإسرائيلية ومعاداة السامية.
ومن ناحيته، يعتبر بيير ستامبول، المتحدث باسم الاتحاد اليهودي الفرنسي من أجل السلام (UJFP)، أن تجاهل الحريات الأساسية يندرج ضمن سياق عالمي بدأ بـ“قمع حركة السترات الصفراء والعنف المسلط على المهاجرين والتغاضي عن معاقبة الجرائم التي تقترفها الشرطة". في تصريحه لإنكفاضة يقول ستامبول أن "فرنسا أصبحت دولة 'غير ليبرالية' مثلها مثل المجر أو تركيا أين تُنتهك الحريات الأساسية".
وبحسب الناشط فإن "محاولة تجريم مساندة فلسطين ومعاداة الصهيونية وحظر المظاهرات واعتقال النشطاء ليست سوى خطوة أخرى في هذا الاتجاه. وبذلك تدعم فرنسا دون قيد أو شرط حكومةً عنصريةً يمينيةً متطرفةً ترتكب جرائم ضد الإنسانية".
كما يُعتبر هذا الإجراء "انتهاكًا خطيرًا وغير قانوني لحق أساسي ألا وهو حرية التظاهر"، وفقًا للجنة العمل من أجل فلسطين (Action Palestine). وقد سبق وأن سعت الحكومة إلى حل هذه الجمعية عام 2022 بيد أن مجلس الدولة أوقف العمل بهذا المرسوم. وفي نفس اليوم الذي صدر فيه هذا القرار، تقدمت لجنة العمل من أجل فلسطين بدعوى قضائية استعجالية لدى المحكمة الإدارية لطلب تعليق الحظر المفروض على تنظيم المظاهرات.
عقب ذلك، أصدر مجلس الدولة حكمه يوم الأربعاء 18 أكتوبر، معتبرا أن التعليمات التي تضمنتها البرقية الموجهة للولّاة والمنبثقة عن حوار بوفو حول الأمن "لا تشكل اعتداءً خطيراً وغير قانوني بشكل واضح على حرية التظاهر وحرية التعبير".
وفيما يتعلق بالمظاهرات، طلب مجلس الدولة تقييمها "على أساس كل حالة على حدة" مضيفا أنه "لا يمكن اتخاذ قرار الحظر بالاستناد فقط إلى هذه البرقية أو على أساس أن المظاهرة المعنية تهدف إلى دعم الشعب الفلسطيني".
بفضل هذا القرار، رُفع حظر التظاهرات وتم بالفعل تنظيم العديد منها وسط إجراءات أمنية مشددة، كما حدث في باريس يوم الأحد 22 أكتوبر.
وتميزت كل من فرنسا وألمانيا من خلال اتخاذهما مثل هذا الإجراء بكونهما البلدين الأوروبيين الوحيدين اللّذين حظرا تماما المظاهرات المناصرة لفلسطين. وبينما توجهت جيورجيا ميلوني إلى إسرائيل للقاء بنيامين نتنياهو، لم يُخف وزير خارجية حكومتها اليمينية المتطرفة أنطونيو تاجاني انتقاده للقرار الفرنسي مصرحا: "فرنسا تتخذ الخيارات التي تراها صالحة، لكن حظر التظاهرات في بلد ديموقراطي لا يبدو صائبا في نظري".
"بالطبع أنا خائفة"
في برقيته المتعلقة بحظر المظاهرات، أوصى جيرالد دارمانان بإيقاف المتظاهرين.ـات مع إسداء تعليمات صارمة إلى الولاة مفادها أن "أي شخص يتم إيقافه يجب أن يمثل أمام السلطة القضائية"، مع استهداف الأجانب والأجنبيات بشكل مخصوص.
"بالنسبة للأشخاص من غير ذوي الجنسية الفرنسية وبغض النظر عن وضعيتهم، فإنه يتعين سحب بطاقة إقامتهم في الإبان وترحيلهم على الفور أيضا".
أثارت تصريحات جيرالد دارمانان الأخيرة بشأن تشديد شروط الإقامة للأجانب المصنّفين كـ"عناصر خطرة" قلق العديد من الأشخاص من حاملي بطاقات إقامة رغم أن وضعيتهم قانونية لا غبار عليها. وقد ولّدت سلسلة تصريحات وزير الداخلية الفرنسي في العديد من المنابر الإعلامية وخطاباته الهادفة إلى الترويج لقانون الهجرة الجديد حالةً من القلق في صفوف الأجانب، بمن فيهم من التونسيين.ـات الكثر.
من ضمن هؤلاء سناء* وهي تونسية مقيمة بفرنسا منذ عدة سنوات. وتوضّح سناء، العاملة بأحد المستشفيات في منطقة نورماندي، أنها لم تعد قادرة حتى على تشغيل التلفاز دون أن يعتريها الشعور بالخوف.
"تعيد القنوات الإخبارية نفس الشيء مرارا وتكرارا. أنا بالطبع خائفة بشأن سحب بطاقة إقامتي. قد يكون من السخافة الاعتراف بذلك، لكنني أشعر أنني تحت المراقبة وعرضةٌ للأحكام المسبقة ومنبوذةٌ باستمرار. عندما يثير زملائي الوضع السائد في الأراضي الفلسطينية، أتظاهر بعدم المبالاة خشية إبداء رأيي".
وهكذا، أعرب جيرالد دارمانان بوضوح عن نية الحكومة إلغاء تصاريح إقامة الأجانب المتورطين في جرائم معادية للسامية أو مشيّدة بالإرهاب وترحيلهم من الأراضي الفرنسية على الفور. ومن خلال تلاعبه بمفهوم معاداة السامية أو تمجيد الإرهاب، يمنح وزير الداخلية الفرنسي نفسه حرية ترحيل الأجانب على أساس تقديره الخاص به، لا غير، باعتبار أنه في واقع الأمر، لا وجود لأي سند قانوني يسمح بتكييف مظاهرة مؤيدةٍ لفلسطين على أنها تجمّعٌ معادٍ للسامية أو إرهابي، الأمر الذي يتعارض مع مبادئ الجمهورية.
وترى المحامية لدى مجلس الدولة ومحكمة التعقيب إيزابيل الزريبي، أن هذا المبدأ لا يزال شديد الغموض. "من وجهة نظري، فإن مفهوم الانتهاكات الجسيمة لمبادئ الجمهورية، والذي يعتريه الكثير من الغموض، يتجاهل الأهداف ذات القيمة الدستورية من إمكانية النفاذ إلى القانون ووجوبية وضوحه ومبدأ الأمن القانوني".
من جهته، يعتبر بيير ستامبول أنه لا بد من إدراج قرار الحكومة تطبيق مثل هذه العقوبات في سياق تاريخي. "لم يسبق وأن أُثيرت في فرنسا مسألة الماضي الاستعماري الأسود. وقد أسهم هذا التاريخ المسكوت عنه في قمع المهاجرين وتحرير الخطاب العنصري".
ويخلص ستامبول بقوله أن "هذه هي نفس أوروبا الليبرالية المتطرفة التي تدعم نتنياهو وتترك المهاجرين يغرقون في عرض البحر الأبيض المتوسط".
القمع حيثما ولّيت
بالتوازي مع تصريحات الحكومة المناهضة لدعم القضية الفلسطينية، شهدت فرنسا تكثيف الإجراءات القمعية مثلما يتجلى من خلال حظر التظاهر واعتقال النشطاء والناشطات والتهديد بالحلّ والإحالة على النيابة العامة بتهمة تمجيد الإرهاب وما إلى ذلك، كل شيء يهون من أجل تكميم الأفواه المنادية بدعم فلسطين وحظر كل ما يتعلق بهذه المسألة في وسائل الإعلام.
في نفس الموضوع
جاء في الشهادات التي أدلى بها بعض الصحفيين·ـات لموقع إنكفاضة أنهم مُنعوا من تغطية المسألة الفلسطينية على الوجه المطلوب بسبب التعليمات التي تلقوها والنابعة سواء من الخوف أو من تبني موقف واضح ومسؤول. فعلى سبيل المثال، جاءت التعليمات واضحة لا لبس فيها داخل مجموعة آلتيس (Altice) التي تضمّ كلا من قناة بي أف أم (BFMTV) وآر أم سي الرياضية (RMC Sport). يسرّ أحد الصحفيين أنه "في البداية، تلقينا رسالة الكترونية داخلية من قبل آرثر دريفوس يذكرنا فيها بمدى أهمية إسرائيل بالنسبة لدراهي [رئيس المجموعة]. ثم أعلمنا أحد المسؤولين بالإدارة أنه يتعيَّن علينا أن نقدّم كلمة إسرائيل على فلسطين في جميع المواضيع التي نتطرق إليها باعتبار أن الإسرائيليين هم الضحايا".
انتهجت إذاعة راديو فرانس نفس التمشي حيث استدعى القائمون عليها كل مقدّم أو مقدّمة برنامج موجهين له تعليمات واضحة مفادها: "يحجر على الكل إثارة مسألة الصراع الدائر ما عدا على قناة فرانس إنتر وفي بعض البرامج الإخبارية". كما صرّحت لنا إحدى المذيعات التي حضرت الاجتماع: "دُعينا إلى توخي الحذر الشديد كما طُلب منا عدم الانحياز لأي من الشقين وإلا سنتعرض إلى عقوبات".
وفي أعقاب إصدار منشور يدعم فلسطين، أمضى ناشطان ينتميان إلى فرع الكنفدارلية العامة للشغل بالشمال (CGT du Nord) ما لا يقل عن سبع ساعات في مركز الإيقاف بتهمة "تمجيد الإرهاب" و"التحريض على الكراهية".
وشدد نص المنشور المعنون بـ"إنهاء الاحتلال هو السبيل لإرساء السلام في فلسطين" على "دعم الشعب الفلسطيني في نضاله ضد دولة إسرائيل الاستعمارية". غير أن هذه الرسالة لم تلق استحسانا إذ تم اعتقال صاحبيْ المنشور على الساعة السادسة صباحًا من قبل "وحدات تدخل مختصّة مكوّنة من أعوان شرطة ملثمين"، وفق ما ورد في بيان صحفي.
"لا أحد يعلم إلى أين ستُرحَّل مريم"
بعد فترة وجيزة من ذلك، تم تنفيذ تعليمات جيرالد دارمانان بحذافيرها. إذ اعتُقلت الناشطة الفلسطينية مريم أبو دقة يوم الاثنين 16 أكتوبر بينما كانت في طريقها إلى مدينة تولوز لإلقاء محاضرة حول وضع المرأة في غزة. وروى الحادثة لإنكفاضة بيير ستامبول الذي كان يرافقها إلى محطة القطار بمرسيليا. "بعد أن قضينا خمسة أيام في مرسيليا ومارتيغ، غادرنا منزلي متوجهين إلى محطة القطار. وعندها، اعترضتنا الشرطة وأطلعتنا على أمريْ الترحيل الصادريْن عن دارمانان. نصٌّ عجيب غريب يحتوي على الكثير من الخلط واللغط: هجوم أراس، جورج عبد الله، الإرهاب…"
والأكثر إثارة للقلق هو أن الإشعار بالترحيل لم يكن يتضمّن أي إشارة إلى المكان الذي ستُرحّل إليه مريم أبو دقة. ويقر بيير ستامبول أن "مريم موجودة حاليا في مرسيليا وهي رهن الإقامة الجبرية في أحد الفنادق ليلاً وبرفقة بعض الأصدقاء أثناء النهار. لقد كانت سعيدة للغاية بزيارة فرنسا لأول مرة في حياتها. لا أحد يعلم إلى أين ستذهب. إنها متأثرة أيما تأثر بالدعم الذي تلقاه من العديد من المتضامنين في حين أنها مستاءة للغاية من الحكومة الفرنسية".
علاوة على ذلك، كان من المبرمج أن تزور مريم أبو دقة الجمعية الوطنية الفرنسية يوم 9 نوفمبر بدعوة من حزب "فرنسا الأبيّة" (La France Insoumise) بمناسبة عرض شريط "يلّا غزة" الذي شاركت فيه. غير أن رئيسة المجلس يائيل براون بيفيه عارضت حضورها بشدة. وبررت بيفيه قرارها هذا في بيان أصدرته بأن "إعطاء الكلمة لشخص عضو في منظمة مصنفة كإرهابية تحت قبة الجمعية الوطنية من شأنه أن يرسي منبرا للعنف والكراهية وأن يمثل انتهاكا جسيما لمبادئنا الديمقراطية، خاصة في ظل الوضع السائد في الشرق الأوسط".
إلا أن المحكمة الإدارية بباريس أصدرت يوم الجمعة 20 أكتوبر 2023 قرارا بتعليق أمر طرد الناشطة من فرنسا معتبرة أن "وزير الداخلية انتهك بشكل خطير ومخالف للقانون حق السيّدة أبو دقة في حرية التعبير والتنقل"، مثبتةً مرة أخرى أن جيرالد دارمانان كان على خطأ.
وفي هذه الأثناء، يعتري آلاف الأجانب، بما في ذلك الجالية التونسية بفرنسا، شعور بالضعف. يلخّص عمر*، وهو مواطن فرنسي من أصول تونسية مستقر بفرنسا منذ أكثر من 20 عامًا، هذا الوضع بقوله إن "دعم فلسطين يجعل منا إرهابيين". ويشاطره نفس الشعور زميله الطاهر*، وهو شاب يعمل كنادل في أحد المطاعم بشمال باريس، مبينا أنه غير قادر على تصور مستقبلٍ مليء بالسكينة في فرنسا في ظل الوضع الحالي. ويضيف قائلا: "يراودني التفكير في العودة أحياناً لكن ذلك سيكون أمرا مخزياً للغاية. سيُنظر إليّ كمجرّد الطاهر الذي فشل في فرنسا. ثم إن عائلتي وأصدقائي بأمس الحاجة إلى دعمي المادي ولذا، وجب علي مواصلة الكفاح. لكنني أشعر أننا غير مرحَّب بنا هنا..."