فجأة، جذب انتباهها على هذه المواقع أحد البروفايلات فَرَاق لها، وكانت صاحبته امرأةً مثلية أخرى. وُلدت إيمان في عائلة محافظة إلى حد ما ولم تسمع قطّ عن المثلية الجنسية. "بالنسبة لي كانت معجزة. لم يكن المجتمع مرئيا على الإطلاق. اعتقدت أنني المثليّة الوحيدة في العالم" تقول إيمان ضاحكةً بعد سنوات من ذلك. حملها هذا اللقاء على الانفتاح على عالم كامل اكتشفت من خلاله أماكن في تونس لم تسمع بها من قبل وحيث يمكنها التعبير عن نفسها بحرية أكبر وعيش جنسانيّتها كما يحلو لها.
المقاهي، المسارح، الحانات... هي بعض من أهمّ الأماكن التي يرتادها مجتمع الميم لربط علاقات اجتماعية، في مواجهة الخطر الذي قد يمثله بالنسبة إليهم الفضاء العام ومنزل الأسرة في الغالب. لكن المثلية الجنسية لا تزال مجرّمة في تونس ويعاقب عليها بالسجن من سنة إلى ثلاث سنوات. وقد سُجن بالفعل ما يقرب من 1500 شخص على أساس المادة 230 منذ سنة 2011 وفقا لأرقام جمعية دمج.
في نفس الموضوع
وعلى الرغم من وجود هذه الأماكن فإن سلامة مجتمع الميم ليست مكفولة على الإطلاق. إذ ليس من النادر أن يندد كثيرون بالعنف والتمييز اللّذيْن يطالانهم حتى داخل هذه الفضاءات. وهو ما يجعل من مجتمع الميم، وفقا لهم، من قبيل "كبش الفداء" الذي يُستعمل لإلهاء عموم الناس عن الصعوبات الاقتصادية التي تواجه البلاد. "الحليب مقطوع ولكن انظروا إلى عبدة الشيطان في هذه النوادي الليلية"، يقول مدير إحدى الحانات ساخرا.
الممارسات التمييزية لبعض العملة في هذه الفضاءات، ولامبالاة المديرين في بعض الأحيان، وتهديدات الشرطة، ضيّقت الخناق - ولا تزال - حول الأماكن القليلة التي نشأت في السنوات الأخيرة أين ينعم مجتمع الميم ببعض من الحرية.
منفذ عالم الليل
اكتشفت إيمان، من لقاء إلى آخر، مساحاتٍ ترحب بمجتمع الميم في تونس. "تعرّفت على أناس كثيرين لا يشبهونني، لم تكن لديهم نفس طريقة الحديث ولا نفس الإيماءات. ومن هناك بدأت أتقبّل الاختلافات". وشيئا فشيئا انطلقت إيمان في رحلة تقبّل نفسها أيضا وتفكيك رهاب المثلية المستبطن لديها.
تؤكد إيمان أن هذه الأماكن لم تكن تشهر علنا آنذاك أنها "صديقة للمثليين"* و "لم تكن مرئية أو تحت المراقبة". لكن التغيير حدث انطلاقا من سنة 2011، إذ يوضح عدة نشطاء تمت مقابلتهم أنه انطلاقا من الثورة أصبحت بعض الحانات وأماكن الاحتفال رمزا لنضالات مجتمع الميم .
تشرح الباحثة عبير كريفة "إن التحرّر غير المسبوق لبعضها [أي هذه المساحات] ترك بصمته في أذهان الحرفاء من الشبان والشابات، بحيث ساهمت هذه الفضاءات في جعل فكرة إلغاء التجريم أمرا ممكنا".
ووفقا للأخيرة، فإن هذه الفضاءات ضرورية لفتح المجال للقاءات جديدة وإنشاء شبكات تضامن. وهو رأي يشاركه العديد ممن حاورتهم إنكفاضة، بمن فيهم مديرو الحانات ومنظمو الفعاليات. خالد مثلا، هو مدير حانة في تونس، يرى أن "الحديث في الموضوع وتسليط الضوء على مجتمع الكوير يساعد على هدم التابوهات حتى وإن رافقت ذلك صدمةٌ في البداية"، ويتبع "مع ذلك يجب دائما الحرص على عدم تعريض الناس للخطر".
ذاع صيت هذه الفضاءات تدريجيا عبر المداولة الشفوية. وبالنسبة للبعض فإن تسمية "صديقة للمثليين أو gay friendly" ليست مقصودة. يشرح آدم وهو مدير سابق لحانة في سوسة أن "مجتمع الميم أقبل على هذه الأماكن لأن الموظفين والموظفات في غيرها لم يبادروهم بالاحترام".
وتعمد فضاءات حديثة أخرى إلى التسويق المضمَر والمستهدِف من قبيل اختيار الألوان والضيوف وهيئة الموظَّفين·ـات وما إلى ذلك. وهي استراتيجيات عدّة تُستخدم - على اختلافها - لجذب مجتمع الميم في تونس مثلما يكشف لنا مدير الحانة. لكن البعض يرون أن سمة "صديقةٍ للمثليين أو الكوير" أو "فضاء آمن" تحمل في طياتها أخطاراً.
"لماذا علينا أن نتحدث عن الأمر كثيرا؟ هذا لا يجذب الأشخاص المناسبين. إنه كمثل الصراخ في الشارع: هنا يقيم المثليون جنسيا. ماذا يتوقعون [أي مديرو هذه الفضاءات] أن يحدث بعد ذلك؟" تقول حذامي وهي شابة مثلية.
يخفي هذا الانفتاح عدة حوادث تلقي بظلال الشك على حقيقة الأمن في هذه الفضاءات. "بعد مرور فترة من الزمن بدأ كثيرون يشعرون بعدم الأمان" يقول أنس صاحب الـ 23 سنة وهو أحد الأشخاص القلائل الذين أعلنوا مثليتهم على وسائل التواصل الاجتماعي. داوم أنس حين كان طالبا على التردد على هذه الأماكن ومنها إحدى الحانات في وسط العاصمة، والتي كانت "تعدّ في البداية نقطة لقاء أفراد مجتمع الميم ". لكنه اليوم وعلى ضوء تواتر الحوادث، لم يعد يذهب للسهر إلا في منازل الأصدقاء والفضاءات الخاصة.
يدرك أنس كم هو محظوظ كونه يتمتّع بحريته في بيته، على عكس الكثيرين من أفراد مجتمع الميم في بلدٍ يتقبّل فيه 7٪ فقط من السكان المثلية الجنسية وفقا لمسح أجراه الباروميتر العربي.
"إنها صدمات لا تزول"
في إحدى الأمسيات، ذهبت إيمان رفقة اثنين من أصدقائها إلى حانة تعتبرها آمنةً لأفراد مجتمع الميم. وفي خضمّ الحديث تبادل صديقاها علامات المودة بشكل متحفّظ. لسوء حظهما لمح رجل جالس قبالتهم ما جرى فانتفض من مكانه وداهمهم "حاملا زجاجة بيرة يهددنا بضربنا بها" تروي إيمان.
تدخّل حراس الأمن وكبحوا جماح الرجل، لكن تدخّلهم توقف عند ذلك الحد. فعاد الرجل إلى الجلوس دونما أية عواقب وما كان من إيمان ورفاقها سوى الابتعاد. تقول الشابة ساخرة "إنه عميل يدفع ثمن زجاجته، لا يمكن أن نطلب منه التحرك من مكانه".
وتضيف "هذه الحوادث شائعة... وهي صدمات لا تزول. لم أعد أشعر بالأمان حتى عندما أتواجد في بلدان أخرى".
أنس من جهته تعرّض هو الآخر لعنفٍ من هذا القبيل. وقع الحادث الذي ترك بصمته فيه في إحدى أمسيات شتاء 2020. كان الفتى يرقص بهدوء عندما رفعه اثنان من الحراس فجأة من كتفيه، حملوه، وألقوا به بعنف خارجاً ثم أتبعوا بالشتائم ومنعوه من استعادة حقيبته التي ظلّت في الداخل. فقد الشاب في تلك الليلة هاتفه ومفاتيحه ومحفظته وجميع متعلّقاته. يشير أنس إلى ما تنشره النوادي الليلية على المواقع الاجتماعية لتشجيع الحرفاء على الرقص والتعبير عن ذواتهم "ولكن بمجرد أن تفعل ذلك تتعرض للإهانة من قبل الحراس".
يندّد عدة حرفاء بعدم تسامح بعض الموظفين·ـات وعنفهم تجاههم وبالأخص حراس الأمن بالرغم من كون هذه الأماكن تحمل صفة "صديقة للمثليين". ويذكر أنس كيف اضطُر إلى رشوة حارس المدخل في أكثر من مناسبة ليسمح له بالدخول إلى حانة لا لشيء إلا لأنه مثلي وفق تعبيره: "فقط لأنني مثلي الجنس في حانة من المفترض بها أن تكون صديقة للمثليين... المديرون يصمون آذانهم في حين أن المسؤولية كاملة تقع على عاتقهم".
من جهتهم، يؤكّد عدة مديرين أنهم يعتمدون معايير صارمة لاختيار موظفيهم وضمان حسن سلوكهم وتقبّلهم لكل الاختلافات. يقول أحدهم أنه "يُطلب من الموظف في حال ارتكابه لسلوك كريه أن يصحح موقفه. وإذا لم يفعل قد يتم طرده". لكن الكثيرين يعترفون بمدى صعوبة العثور على حراس أمن مناسبين لهكذا فضاءات. حتى أن أحد المديرين ذهب إلى حد تركيب كاميرات لمراقبة سلوك حراسه عن كثب. ومع ذلك، عندما اشتكى أنس مما تعرّض له لدى المسؤولين لم يبادروا بإصلاح الأمر.
ضغوطات الشرطة
تُضاف إلى الممارسات التمييزية من جانب طواقم العمل والحرفاء تهديدات الشرطة كذلك. تروي نور - التي تعرّف نفسها على أنها مرنة الجندر* - إنها عند خروجها ذات أمسية من إحدى الحانات تعرضت للتفتيش من قبل عون في زي مدني جذبت انتباهه ملابسه·ـا النسائية. كما لاحظت الشرطة صديقين آخرين لها بينما كانا يرقصان، وبمجرد خروجهما من الحانة ألقي القبض على أحدهما وقضى ليلته في مركز الشرطة بحجة أنه كان يرتدي قميصا عاري الظهر، بينما لجأ الثاني إلى الاختباء تحت سيارة للفرار من الشرطة.
يخبرنا المحامي حمادي الهنشيري أن "هناك ممارسات وعقليةً سائدة بين صفوف أعوان الشرطة تدفعهم إلى اعتقال فرد من مجتمع الميم في الشارع أو في أي مكان آخر، لا لشيء إلا بناءً على هيئته الخارجية"، مضيفا أن أعوان الأمن يلجأون إلى قوانين فضفاضة على غرار تلك المتعلقة بخدش الحياء.
وبالنسبة لنور فإن هذه الفضاءات وأماكن السهر أعانته·ـا على اكتشاف ذاته·ـا وتكوين علاقاته·ـا الكويرية بشكل عام، لكنه·ـا اليوم لم يعد يكترث للأمر.
"لقد حُرمنا من هذا الروتين الصغير. ليس أمرا كبيرا في حد ذاته ولكنه أحد الأشياء الوحيدة المتبقية لدينا".
كشأن إيمان ونور وأنس، تروي يسرى وهي ناشطة في مجال الحريات الفردية، كيف مرت بتجربة سيئة في إحدى الحانات التي تعتبر آمنة. خرجت الشابة ذات مرة مع صديقتين لها. وفي اللحظة التي تبادلت فيها الأخيرتان قبلة خاطفة تدخل الأمن بوحشية لإخراجهن.
"اعتقدت أنني في مكان آمن" تتعجّب يسرى التي توجهت مباشرة للاستفسار لدى مدير الحانة. لكن الأخير أعلمها أن ما حدث يرجع إلى مداهمة قامت بها الشرطة قبل أسبوعين من ذلك على خلفية انتشار فيديو على الشبكات الاجتماعية. ومنذ ذلك الحين وقعت الحانة المذكورة في مرصاد السلطات فشدّد الحراس الرقابة بسبب ضغوطات الشرطة.
في العادة، يندسّ أعوان الأمن في هذه الأماكن بالزي المدني، وهو ما قد يجعل من الصعب على المديرين فهم حقوقهم وواجباتهم. "إنها دائما نفس الوجوه. نتعرّف عليهم جميعا من النظرة الأولى ونُجبر على السماح لهم بالدخول"، يخبرنا وجيه مدير حانة في حي راق بتونس العاصمة.
وجود أعوان أمن في ثياب مدنية هو أمر خارج عن سيطرة المديرين، لكن وفقا لهؤلاء فإنه لا يحق للأمنيين اعتقال الأشخاص على عين المكان دون إبلاغ المدير أولا. كما أن مجلة الإجراءات الجزائية تنص على أنه لا يجوز لأعوان الشرطة دخول مكان خاص دون إذن من وكيل الجمهورية.
"ولكن على مستوى الممارسة، يعتبر القاضي غياب إذنٍ قضائي بالمداهمة أمراً ثانويا إذا كان لدى الشرطيّ أدلة ملموسة على وقوع جريمة" يشرح مهدي وهو ناشط في مجال حقوق الإنسان.
يكون هذا الاضطهاد في بعض الأماكن أمرا يوميا تزيده الفوضى الإدارية تعقيدا. يقول أحد مديري الحانات أن "القوانين غامضة لدرجة أنها يمكن أن تتسبب في إيقافك لأي سبب، إنها دولة بوليسية، يتمتّعون بالسلطة لفعل ما يحلو لهم".
الاعتداء على الأخلاق الحميدة وخدش الحياء والدعارة... كلها أساليب قانونية تُعتمد لإيقاف أفراد مجتمع الميم بحسب المحامي حمادي الهنشيري. "إنه شكل من أشكال الهرسلة" تعلّق إيمان.
من جهة مديري الحانات، تعكس هذه الوقائع الضبابية المحيطة بترسانة القوانين، الأمر الذي يسمح للشرطة بممارسة ترهيبها. "يجب أن تكون لديك علاقات جيدة جدا مع الشرطة لكي تواصل الحانة عملها" يخبرنا آدم، المدير السابق لحانة في سوسة.
ويضيف آدم "إذا أعطيت المال للشرطي فإنه يتركك وشأنك. وإن لم تفعل فسوف يقف لك بالمرصاد ويركّز على أصغر التفاصيل".
ويتفق معظم المديرين الذين تحاورنا معهم على أن الرشاوى أمر شائع في الحانات حتى وإن لم تكن الأخيرة بالضرورة صديقة للمثليين·ـات. افتتح جميل مثلا عدة فضاءات في العاصمة وكان مضطرا دائما للتعامل مع الشرطة. ولفترة من الزمن كانت إحدى حاناته مفتوحة لمجتمع الميم، مما عرّضه وفق قوله لتهديدات بلغت حتى أسرته، وهو أمر لم يحدث قبل ذلك.
أما وجيه فيرى أن الشرطة لا تستهدف مجتمع الميم على وجه التحديد. ويضيف الرجل الأربعيني والذي أدار عددا من الحانات أن "اضطهاد الشرطة الذي يستهدف مجتمع المثليين لا وجود له". لكن الأمر يختلف بحسبه من حانة إلى أخرى اعتمادا على نوعية العلاقات مع السلطات وأقدمية المكان ورسوخه. وهكذا، حتى لو أقر وجيه بأن "الشرطة غالبا ما تكون أكثر حضورا في الحفلات المفتوحة على مجتمع الميم" فإن استدامة الحانة في اعتقاده يكمن قبل كل شيء في قدرة مديرها على "حسن التحدث مع الشرطة".
يقول وجيه إن "البعض يستخدم اضطهاد الشرطة لأفراد مجتمع الميم لتبرير إخفاقاتهم وإيجاد ذرائع". ومع ذلك فإنه يؤكد أنه يحتفظ في هاتفه بحوالي خمسة عشر رقم هاتف لمحامين في حالة وقوع مشاكل مع الشرطة.
في سياق هذا المناخ، يحاول عدة مديرين اللعب بالحدود في سعي للتوصل إلى حل وسط بين المحافظة على فضاءات الحرية هذه من جهةK وضمان أمن الحرفاء والحريفات من جهة أخرى.
ماذا يفعل المديرون لحماية عملائهم؟
يرى عدة حرفاء أن أمنهم ليس همّ المديرين الأول. إذ يعتبر البعض ممن قابلتهم إنكفاضة أن هذه الفضاءات تعمل على جذب مجتمع الميم لتحقيق مكاسب مادية لا غير، وهو ما يُسمّى بالـ "غسيل الوردي *" أي أن يتمّ استهداف مجتمع الميم بالتسويق بقصد تحقيق الربح.
يخبرنا أنس أن أحد المديرين قال له مرة: "نحضر المثليين لينفقوا أموالهم، وعندما ينفقون ما يكفي نطردهم. هذه حانتي ولا يناسبني أن يكون العملاء فيها من الشواذ فقط".
تقول راضية وهي نادلة سابقة أن "إنشاء فضاء صديق للمثليين لم يكن هدفهم الرئيسي على الإطلاق [أي المديرين]. بل كان ذلك من أجل التميّز عن باقي الفضاءات المنافسة". كما من الممكن أن يسمح لهم ذلك بجذب عملاء أكثر ثراء: "مديرو هذه الأماكن لا يحتاجون إلى المال بل يتطلعون إلى تقديم عرض قد يجلب عددا أكبر من المغايرين جنسيا. نحن في أعينهم وحوش سيرك. إنه نوع من التلصّص" تنتفض إيمان.
تـ·يؤكد نور من جهته·ـا: "وجودنا بالنسبة إليهم هو مجرّد استعراض".
وفي مواجهة هذه الانتقادات، يدافع المسؤولون عن الفضاءات المذكورة عن أنفسهم بالقول إن هذه التظاهرات والسهرات التي تستهدف مجتمع الميم وحده لن تحقق عوائد كبيرة. ويشرح وجيه، المدير السابق لعدد من الحانات، أن "هذه التظاهرات تستهدف الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و 25 عاما، في حين أن سهرة موسيقى إلكترونية ستجلب مرابيح ضعف ما تجلبه تلك الحفلات".
شكل من أشكال النضال
في الناحية المقابلة، يعتبر أشخاص آخرون أن تنظيم هذا النوع من الحفلات لأفراد مجتمع الميم هو نوع من أنواع النضال، كونها توفر مساحة للتعبير عن النفس بكل حرية. ومن بين هؤلاء أيمن الذي عمل لفترة طويلة في المجتمع المدني قبل أن يصبح مدير حانة. اليوم، صار الأخير يسعى إلى "تمرير رسالة وجعل بعض الأمور اعتيادية" بما في ذلك من خلال منصات توعوية وتثقيفية.
ليس ثمة شك أن فتح فضاء آمن لأعضاء مجتمع الميم في تونس يشكّل تحديا كبيرا. ولذلك فإن العديد من مديري هذه الفضاءات الذين تحاورنا معهم يؤكدون ضرورة اتخاذ تدابير إضافية لضمان سلامة حرفائهم وحريفاتهم وحمايتهم.
يقول أحدهم وقد فضّل عدم ذكر اسمه: "مجرد إنشاء هذا الملهى هو بمثابة بيان، وهو السبب الرئيسي الذي يدفعني لمواصلة العمل هنا".
يعمل وجيه في حانته على تنظيم حفلات يشارك فيها عدة أفراد من مجتمع الميم. ومن أجل التحضير لهذه السهرات "يجب أن أبلّغ الجميع بما في ذلك مديرو الفضاء حتى لا تكون هناك أية زلّات" وفق توضيحه. كما ينقل وجيه تفاصيل التظاهرات التي ينظّمها من خلال مجموعة مغلقة على موقع فايسبوك، مما يتيح له الحد من انتشار المعلومة على الشبكات الاجتماعية "والتحقق ممّن يريد الحضور".
"إنها سهرات تستهدف جماعة بحد ذاتها لذا لسنا بحاجة إلى الإفراط في الإشهار بحيث يمكن لنا تجنب المشاكل".
في المقابل يرى مهدي، وهو ناشط في مجال حقوق الإنسان أنه "لا توجد مجموعة آمنة تماما على فيسبوك إذ يمكن أن تتسرب المعلومات بشتى الطرق".
وتشمل التدابير الأخرى الفحص عند الدخول وتقييد استخدام الهواتف المحمولة. "نحن نراقب باستمرار الشبكات الاجتماعية، وفي حال نُشر فيديو قد تمثل مشكلة، تساعدنا مجموعة من الأشخاص الملتزمين بالقضية على حذفه"، يخبرنا مدير آخر.
ويستحضر العديد ممن تمت مقابلتهم موجةً من المضايقات الإلكترونية ضد حانة معينة حدثت بعد أن نشر أحد السياسيين منشورا عدائيا ضد مجتمع الميم. شهدت الشبكات آنذاك فيضا من الإهانات بما فيها تهديدات بالقتل. ونتيجة لذلك تعرض مديرو الحانة المعنية لضغوطات كبيرة وتم استدعاؤهم إلى مركز الشرطة عدة مرات في الأسبوع على مدى أشهر طويلة، وتعرّضوا لعدة مداهمات من طرف أعوان أمن في الزي المدني. كما اضطروا في عدة مناسبات إلى مرافقة حرفاء أو حريفات إلى مركز الشرطة بعد أن ألقي القبض عليهم في الفضاءات التي يديرونها.
قبل بضع سنوات، وقع حادث مماثل في حانة أخرى في العاصمة. ووفقا للعديد من الشهادات حدثت تجاوزات خلال سهرة ضمت أفرادا من مجتمع الميم،وفي اليوم الموالي أغلقت السلطات المكان لعدة أيام. لكن بسؤالنا عما حدث رفض مديرو المكان التعليق عن الحادث.
وبالرغم من الخطوات التي اتخذها المديرون لخلق بيئة مرحّبة بعملائهم تضمن لهم الأمان، اختار أيمن استخدام مصطلح "فضاء شامل*" بدلا من "فضاء آمن" لوصف مؤسسته. الفرق بين هذين المفهومين ضئيل ولكن، وفقا له، قد يساعده ذلك في الحد من الفضول السلبي تجاه مكان عمله.
وكشأن أيمن تحرص يسرى على حسن انتقاء المصطلحات التي تستخدمها عند تنظيم تظاهراتها. إذ شاركت الشابة قبل بضع سنوات في تنظيم مهرجان فني، ولتجنب المشاكل المحتملة قررت هيئة التنظيم تسميته بمهرجان نسوي بدلا من مهرجان لمجتمع الميم. تشرح يسرى قائلة: "أردنا أن نحرر أنفسنا من العبء الذهني الذي قد تمثله مهمّة ضمان الأمن حتى نسمح للناس بالقدوم بلا خوف". وغالبا ما تختار يسرى المكان الذي تقيم فيه تظاهراتها آخذة بعين الاعتبار مواقف المديرين سواء أكانت أماكن خاصة أو عمومية.
أن تكون مرئيا هو سلاح ذو حدّين
يتفق محدّثونا ومحدّثاتنا على أن المعضلة بين أن تكون مرئيا وأن تضمن لنفسك الأمان هو أمر يثقل كاهل نضالات مجتمع الميم التونسي بأسره. فمن ناحية أولى، قد تسمح هذه الفضاءات بجعل النضال أمرا طبيعيا و التطبيع مع "فكرة إلغاء التجريم"، خصوصا بحسب رأي نشطاء ما بعد الثورة. ولكن من ناحية أخرى، فإن ذلك قد يشكل خطرا جسيما على سلامتهم. ولذلك تشارك يسرى في العديد من المشاريع التي تتعلّق بالحريات الفردية مؤكدة على "أننا بحاجة إلى اغتنام الفرصة لزيادة الوعي بمجتمع الميم وخلق فضاءات آمنة. لكننا نخاطر أيضا بأن تسلّط علينا الأضواء أكثر من اللازم، مما يشكّل خطرا".
"في السابق كان من غير الوارد حتى التطرق لهذا الموضوع، لأنه كان محظورا [...] كان من المستحيل تخيل مجموعة من المثليين مجتمعين معا في مكان عام. ولذلك نعتبر أننا قد قطعنا شوطا كبيرا [...] ولكن الظهور و المطلبية الحقوقية زادت في القمع أيضا".
أصبحت الأقليات الجنسية مرئية أكثر في أعقاب 2011. و وفقا لعبير كريفة تأتي هذه الوضعية مع نصيبها من القمع والعنف بما في ذلك جرائم القتل العديدة التي طالت عابرين وعابرات جنسيا. تم إنشاء عدة جمعيات لمناهضة هذا العنف بين عامي 2011 و 2012. ثم في سنة 2015 قرر عدد من النشطاء أخذ الكلمة بشكل علني على وسائل الإعلام لأول مرة. ومنذ ذلك الحين، ازداد ظهور النشطاء وازدادت بالتوازي الاعتقالات التي ارتفعت من 50 حالة سنويا في 2013 إلى 78 حالة في عام 2015، وفقا لأرقام جمعية شمس.
في سنة 2021، مست موجة من الاعتقالات والمضايقات عددا كبيرا من مناضلي·ـات مجتمع الميم. ونُشرت الصور والأسماء والمعلومات الشخصية لبعض منهم على وسائل التواصل الاجتماعي من طرف النقابات الأمنية مما دفع بالكثيرين·ـات إلى طلب اللجوء في بلدان أخرى.
تقول ياسمين عمار التي كتبت أطروحة حول نضال مجتمع الميم في تونس أنه "كلما كانت هناك حركة ذات مطالب واضحة وأشخاص معيّنون يحملون رايتها ويمكن التعرف عليهم، كلما كانت ردة الفعل أعنف وأكبر. تقريبا جميع نشطاء 2012/2011 الذين كانوا مرئيين غادروا البلاد". لكن الباحثة تؤكد أن الظهور العلني أمر جدّ مهمّ ويجب أن يرافقه عمل معمّق لشحذ العقليات وهو ما يشكّل الطريقة المثلى للدفع بالنضال قدماً.
في نفس الموضوع
اليوم، يفضّل أنس كغيره الكثيرين من المؤثرين·ـات على وسائل التواصل الاجتماعي الحد من ظهورهم، مؤكدا على أهمية إدراك ما قد ينجم عن منشور بسيط على المواقع الاجتماعية من مخاطر.
"إنه خطأ ارتكبته في الماضي. لقد ساعدت في الترويج لبعض الحانات على أنها حانات للمثليين في مرحلة ما، مما جذب أشخاصا لا ينبغي أن يتواجدوا هناك" يقول أنس مصرّا على أنه لم يعد يذكر علناً أسماء الأماكن التي يتردد عليها.
إيمان من جهتها لم تعد تخرج للسهر إلا قليلا. وفي المرات النادرة التي تجرؤ فيها على المغامرة والخروج تكون صارمة مع رفاقها: "أطلب من الجميع التحفّظ بغض النظر عن المكان". وهو توجّس نما في ذهنها بسبب ما رأته وسمعت عنه من حوادث في الأماكن المفترض بها أن تكون آمنة.
ويستمر آخرون وأخريات في ارتياد هذه الفضاءات ولكنهم يختارون الإذعان للقوالب النمطية القائمة على المعيارية الغيرية*.
تـ·يخلص نور بالقول: "اليوم لم أعد أتصرّف كمن ذي قبل، أي كما تفرضه طبيعتي. إنه لأمر فظيع لكنه أفضل من لا شيء. لا أريد أن تفوز الشرطة".