عدالة مع وقف التنفيذ: قضاء يتأرجح بين السلطة التنفيذية والبوليس

هل لنا أن نصف القضاء التونسي بالاستقلالية؟ بعد بضعة أشهر من إعفاء قيس سعيد لـ57 قاض وقاضية بشكل تعسفي، تتناول إنكفاضة بالتحليل المخاطر المسلطة على استقلال القضاء ما بين تهديدات الشرطة وتساهل القضاة مع الأجهزة الأمنية وثقل السلطة التنفيذية. 
بقلم | 30 نوفمبر 2022 | reading-duration 15 دقيقة

متوفر باللغة الفرنسيةالإنجليزية
"بعض القضاة متواطئون مع المجرمين"، هذا ما قاله قيس سعيد في خطابه الذي برر به حل المجلس الأعلى للقضاء في شهر فيفري 2022. لكن تلك لم تكن المرة الأولى التي يستهدف فيها الرئيس القضاء، فمن خلال تحليل الخطابات التي ألقاها على مدار ما يقرب من عام كامل، توصلت إنكفاضة إلى أن قيس سعيد خصّ القضاة والقاضيات  بما يقدّر بالثلث من مجموع اتهاماته في كل خطاباته. 

اتخذ الرئيس منذ يوم 25 جويلية عدة تدابير ضد القضاء، ولم يلبث أن حل المجلس الأعلى للقضاء ثم أقال 57 قاض وقاضية في جوان الماضي على خلفية تهم تراوحت بين الفساد وعرقلة سير العدالة بل وحتى الزنا. رأى العديد من القضاة ونشطاء المجتمع المدني في هذه التدابير خطرا جسيما على استقلالية القضاء ومن بين هؤلاء سلسبيل الشلالي، مديرة مكتب هيومن رايتس ووتش بتونس التي قالت أن "قيس سعيد ألغى بهذا المرسوم أي استقلالية كانت السلطة القضائية في تونس لا تزال قادرة على ممارستها. يجب أن يخضع القضاة لإجراءات تأديبية عادلة، ونزيهة، وقابلة للاستئناف، وليس للعزل على هوى السلطة التنفيذية".  

يقول أنس الحمايدي، القاضي ورئيس جمعية القضاة التونسيين (AMT) في الحلقة الأولى من بودكاست "القضاء على شفير العدالة" ، السلسلة الجديدة من إنتاج إنكفاضة بودكاست أن هدف الرئيس من خلال هذه التدابير يتمثل في "تكوين رأي عام واسع ضد القضاء". 

تحصلوا وتحصلن على أفضل منشورات إنكفاضة مباشرة على البريد الالكتروني.

اشترك واشتركي في نشرتنا الإخبارية حتى لا تفوتك آخر المقالات !

يمكن إلغاء الاشتراك في أي وقت.

فكيف يتم تهديد استقلالية القضاء التونسي؟ وما هي عواقب ذلك على ضمانات التقاضي العادل للمتقاضين·ـات؟

ضغوط وتهديدات النقابات الأمنية

في أكتوبر 2020، نشرت الناشطة مريم بريبري مقطع فيديو يظهر عون أمن اعتدى بالعنف على مواطن وأرفقته بتدوينة وهاشتاغات مناهضة للشرطة. لم يلبث الترهيب أن بدأ بحلول اليوم الموالي، اتصل بها أعوان أمن وكالوا لها سيلا من الشتائم وتوعّدوها بالعنف فيما تمركز آخرون في النهج الذي يقع به متجرها في انتظار قدومها. لجأت الناشطة إلى عائلتها من فرط خوفها وسرعان ما تلقّت استدعاء للمثول أمام المحكمة.  

بعد عدة ساعات من الانتظار، علمت مريم أن شرطيّا آخر من مدينة أخرى اتهمها بالثلب: "صُدمت عندما قرأت المحضر، شرطي آخر يشغل منصب الكاتب العام لإحدى النقابات الأمنية يتهمني بأنني أسأت لكرامته وأضررت بأطفاله بهذا المنشور الذي لا يعنيه حتى". تؤكد بريبري أن القضية المودعة ضدها شابتها شتى الانتهاكات من تزوير للوثائق وعدم الالتزام بالإجراءات وغير ذلك و"كان الملف فارغا لا يحتوي على أي توثيق لأي إجراء". تواصلت التهديدات والضغوطات إلى وقت المحاكمة الابتدائية: "وبمجرد إطلاق سراحي باشر الأعوان إضرابا عاما لمدة أربعة أيام ونُشر اسمي وصوري في كل مكان". حاولت مريم عند الاستئناف ممارسة ضغط من ناحيتها مستندة في ذلك إلى مناصرة المجتمع المدني لها. 

"لقد كانت محاكمة سياسية بامتياز. شعر القاضي وكأنه عالق بين المطرقة والسندان".

وكما كان الشأن في قضية البريبري، يواجه القضاة والقاضيات المكلفون بالقضايا المتعلقة بقوات الأمن تهديدات وضغوطات متكررة من النقابات الأمنية يخضعون لها أحيانا ويقاومونها في أحيان أخرى. في سنة 2018 على سبيل المثال حاصرت نقابات الأمن مقر المحكمة الابتدائية ببن عروس لإطلاق سراح زملائهم المتهمين بالتعذيب، حاملين أسلحة الخدمة الخاصة بهم. واعتبرت نقابة موظفي الإدارة العامة لقوات التدخل (SFDGUI) والتي دعت للتظاهر أن هذه الأحداث ليست سوى "فخ يهدف إلى تسميم العلاقة بين القضاء وقوات الأمن". 

"ما حدث يظهر أن النقابات وعددا من أعوان الأمن يرفضون التعاون مع القضاء ويعتبرون أنفسهم أعلى من القانون" حسب ما جاء في تصريح بسام الطريفي رئيس الرابطة التونسية لحقوق الإنسان في سنة 2018. 

من جهته، يؤكد زميله بشير العبيدي، الكاتب العام للرابطة في حوار جمعه بإنكفاضة سنة 2020 أن "هناك من لم يستوعب إلى حد الساعة أننا بصدد الانتقال من دولة فاشية بوليسية إلى بناء مؤسسات ديمقراطية. هناك من يريد العودة بنا إلى هذه المنظومة". 

يرى المحامي أنور القوصري أن إنشاء نقابات لأجهزة الأمن سمح بـ"عودة بعض الأمنيين إلى عاداتهم القديمة"، موضحا كيف كان الهدف من إنشائها هو تكوين وسيلة ضغط لتحقيق غايات الأمنيين الخفية في الإبقاء على سلطتهم. 

بالنسبة لبسام الطريفي، يعمد القضاة والقاضيات إلى دفن قضايا الشأن العام وبالأخص التي تشمل أمنيين، وتعوزهم الشجاعة لإصدار أحكام أو حتى بطاقات إيداع ضدهم خوفا من انتقام الأمنيين منهم. حتى أن قيس سعيد أقال جزءا من الـ57 قاض وقاضية على خلفية تقارير وردته من الأجهزة الأمنية بشأنهم، وهو ما يؤكده المحامي فوزي المعلاوي في بودكاست "القضاء على شفير العدالة" قائلا إنه "من بين القضاة المشمولين بالقرار وقع عزل قاض لمجرد أنه رفض الإذن بمداهمة محلات سكنى في غياب براهين ملموسة تبرر هذا الإجراء. هذه الإعفاءات ستجعل بعض القضاة يترددون قبل اتخاذ قرارات بالرفض، وتضعهم تحت طائلة الضغط والخوف". 

من جهتها تشير المحامية حياة الجزار إلى أن هذا الخوف يمكن أن يؤدي إلى حرمان المواطنين·ـات من العدالة وانعدام الثقة في صفوف المتقاضين·ـات. وعلى هذا النحو، لم ينصف القضاء أي ضحية تقريبا من مجموع الـ 28 تونسيا وتونسية الذين قتلوا على أيدي الشرطة وفق "تعداد قتلى عنف البوليس منذ 2011" على موقع إنكفاضة. ولا تزال معظم هذه القضايا جارية أو تم حفظها أو صدر فيها حكم دون أن يُنفّذ مثلما حدث في قضية أنس وأحلام الدلهومي اللتين لقيتا حتفهما منذ سنة 2014، في حين لا يزال الجناة يباشرون مهامهم دون رادع. 

التواطؤ والحماية

إلى جانب إشكالية التهديدات، يدين بعض المحامين·ـات أيضا تواطؤ القضاة والقاضيات مع الأجهزة الأمنية، ومن ذلك القضية التي ينوبها المحاميان أيوب الغدامسي وحياة الجزار والتي يظهر فيها جليا كيف يُدفع بعض القضاة إلى حماية الأمنيين.  

في أفريل 2020، تم استدعاء هذين المحاميين وهما عضوان في الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، للدفاع عن أمير*، شابٌ وقع ضحية للتعذيب وسوء المعاملة على أيدي قوات الأمن. في أحد الأيام، وبينما كان أمير في طريقه إلى جلسة استماع والده الذي تعرض هو الآخر للتعنيف من قبل الأمن، اختطفه أعوان في الزي المدني من أمام باب قاعة الجلسة بلا سبب، في انتهاك صارخ للمجلة الجزائية التي تنص على أن إيقاف المظنون فيه لا يكون إلا بإذن قضائي أو في حالات التلبس بالجريمة. 

احتُجز أمير* لعدة أيام متواصلة، ولما قررت القاضية المكلفة بالملف الاستماع إليه في غياب محامييْه، يروي أمير* أنها هددته بتوقيفه إذا تجرّأ وشهد بتعرّضه للاختطاف أو التعنيف من قبل أعوان الأمن. وردا على ذلك، طالب المحاميان بتغيير هيئة المحكمة خلال الجلسة مندّديْن بـ "افتقار القاضية إلى الموضوعية"، فقررت الأخيرة رفع شكاية ضدهما بتهمة هضم جانب موظف عمومي استنادا لمرافعاتهما.

تقدم المحاميان بشكاية ضد القاضية لدى المجلس الأعلى للقضاء والتفقدية العامة بوزارة العدل لكن دون جدوى، وتلقت حياة الجزار وأيوب الغدامسي في أكتوبر 2022 استدعاء للمثول أمام قاضي التحقيق. تنتفض حياة الجزار قائلة: "لا أفهم لماذا يتم تجاهل كل الشكايات باستثناء تلك الموجهة ضد المحامين الذين ينددون بالتعذيب المسلّط على المواطنين".  

"طوال مسيرتي المهنية التي دامت 28 سنة، كل القضايا التي رفعتها ضد أعوان الأمن من أجل سوء المعاملة أو التعذيب حُكم فيها إما بالحفظ أو بالإسقاط أو بعدم سماع الدعوى. البوليس يعذّب والقاضي يكذّب وكلمة الأمني مقدّسة".

يقول المحامون·ـيات الذي تمت محاورتهم أنه يُنظر إلى المحاضر التي يحررها أعوان الأمن على أنها حقائق مطلقة غير قابلة للتشكيك، لكن واقع الحال يبينّ أنه في كثير من الأحيان يحدث أن يمضي المواطنون والمواطنات عليها تحت الإكراه، وفقا لمنظمة هيومن رايتس ووتش

تضيف آمال الشاهد، وهي محامية تقاعدت من المهنة قبل بضع سنوات أن "قضاة التحقيق غالبا ما يستعملون عبارة: 'كذا ورد في المحضر' دون محاولة النظر إلى أبعد من ذلك. حتى أن بعضهم يغضون الطرف عن آثار التعذيب البادية على أجساد المواطنين الماثلين أمامهم". ولا يزال التعنيف أثناء الاستجواب أمرا شائعا للغاية حيث يجد السواد الأعظم من الأشخاص قيد الإيقاف أنفسهم عرضةً للعنف الجسدي أو اللفظي أثناء الاستنطاق، وفق ما ورد في تقرير صادر عن هيومن رايتس ووتش سنة 2013

أمضى قرابة نصف الموقوفين·ات الذين قابلتهم هيومن رايتس ووتش اعترافات دون الاطلاع على محتواها إما خوفا من مغبّة المطالبة بذلك أو انصياعا لتهديد الأمنيين. 

يصر عدد من المحامين·ـات ومن بينهم حياة الجزار على ضرورة تعزيز تكوين القضاة والقاضيات في مجال حقوق الإنسان لأنهم على حد تعبيرها "يكررون التجاوزات لأنهم غير مخولين لفهم حدود السلطة التي بين أيديهم. بل إنهم غير مخولين أن يكونوا سلطة أصلا. تغلب عليهم عقلية الموظف الذي يسترزق ويسعى للحصول على بعض الامتيازات". ووفقا لأحمد صواب فإن القضاء فشل في التموقع كسلطة حقيقية والقضاة يتصرفون كموظفين بسطاء يتلقون أوامر علويّة. وردا على سؤالنا حول العلاقة بين القضاة والأمن، يجيب القاضي المتقاعد في بودكاست "القضاء على شفير العدالة" بأن القضاة موظفون كغيرهم "منهم الفاسد، ومنهم من يخنع إلى التعليمات دون أن يكون فاسدا بالضرورة، ومنهم من هو مجرد تكنوقراط يعوزه الحس الاجتماعي، وقلة قليلة منهم منصفون بحقٍ. وكلما ازداد اضطهادهم تقلّصت شجاعتهم". 

عائق الشرطة العدلية

"يولي مأمورو الضابطة العدلية أهمية أكبر للتعليمات الصادرة عن وزارة الداخلية أكثر من تلك الصادرة عن القضاء"، يقول القاضي المتقاعد أحمد صواب. 

يطالب القضاة والقاضيات منذ سنوات بوضع جهاز الشرطة العدلية تحت إمرة رؤساء المحاكم ووكلاء الجمهورية عوض وزارة الداخلية. ويأتي هذا المطلب في أعقاب التهديدات والعراقيل التي وضعها أعوان الشرطة العدلية المسؤولون جزئيا عن فشل القضايا المتعلقة بالعدالة الانتقالية، والتي يأبي الأمنيون المتهمون فيها الحضور خلال الجلسات وفقا لتقرير عن الائتلاف المدني للدفاع عن حقوق الانسان نقلا عن هيئة الحقيقة والكرامة

يورد التقرير المذكور أن الشرطة العدلية لم تنفذ أية بطاقة جلب من مجموع 237 صادرة بذريعة أنها تجهل عناوين المتهمين.

ويوضح التقرير أن "أغلبهم [أي المتهمين] كانوا إطارات سابقة هامة في الجهاز الأمني وأن العثور على عناوينهم ليس بأمر صعب. وقد صرح بعض الضحايا أنهم قد لمحوا المنسوب إليهم الانتهاك عديد المرات في الطريق العام [...] وتبدو العلاقة بين المنسوب إليهم الانتهاك وضباط الشرطة العدلية قطاعية متجذرة وخاضعة إلى منظومة ولائية بحتة". ويخلص التقرير إلى الدعوة إلى اتخاذ إجراءات تأديبية ضد أعوان الشرطة العدلية الرافضين لتنفيذ هذه البطاقات، فردت بعض النقابات الأمنية باتهام هيئة الحقيقة والكرامة بأنها تمثل "عدالة انتقامية" ودعت منظوريها إلى عدم الاستجابة لبطاقات الجلب. 

هذه العراقيل لا تخص مسار العدالة الانتقالية فحسب، إذ ندد عدة مهنيين·ـات تحاورت معهم إنكفاضة بالأخطاء الإجرائية أثناء عمليات التفتيش والاعتقال مثلما كان الحال مع أمير*.

يرى الباحث مليك بومدين في هذا التواطؤ بين القضاة والشرطة تمظهرا من تمظهرات غياب استقلالية القضاء الخاضع بدوره إلى إمرة السلطة التنفيذية. ويواصل الباحث قائلا في سياق حديثه عن وضع القضاء قبل 2011 إن "القضاء هو في واقع الأمر في خدمة السلطة التنفيذية وبالتالي تحت التأثير المباشر لرئيس الدولة. هذه التبعية تولّد حتما نوعا من التساهل بل وحتى الحماية لقوات النظام التي ترتكب أعمال التعذيب وتمارس عموما شتى أنواع سوء المعاملة".

وحتى بعد الثورة، لم ترخ السلطة التنفيذية قبضتها على الجهاز القضائي حيث أدت عدة تدابير من قبيل الفصل التعسفي والنقلات والتهديدات ونحو ذلك إلى منع القضاة والقاضيات من تكوين سلطة مستقلة ومن ممارسة مهنتهم بما تتطلبه من حياد.

"الرئيس يريد إبقاء القضاء تحت نيره"

يشير أول فصول الباب المتعلق بالوظيفة القضائية من دستور 25 جويلية إلى استقلال القضاة والقاضيات الذين لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون. ولكن من الناحية العملية، يتم تعيين هؤلاء من قبل الرئيس الذي يختارهم من بين شخصيات يقترحها عليه المجلس الأعلى للقضاء. 

قام قيس سعيد بحل المجلس القديم الذي يتألف من أغلبيةٍ من الأعضاء المنتخبين وعوّضه بمجلس مؤقت يعين الرئيس ما يقارب النصف من أعضائه مباشرة، محتفظا لنفسه بالسلطة التقديرية عليهم جميعا.

تقول القاضية المتقاعدة وسيلة الكعبي أن "الرئيس يريد إبقاء العدالة ترزح تحت نيره... منذ الثورة والبعض يتحدث عن التطهير وبالأخص قيس سعيد. لكن هذا الموقف خطير لأن القضاء بحاجة ماسة إلى إصلاحات تجعله أكثر كفاءة ومواكبة للعصر وليس إلى التطهير".

وعلى نفس النحو، أصدر قيس سعيد مرسوما يتيح له عزل القضاة متى شاء "في صورة التأكّد أو المساس بالأمن العام أو بالمصلحة العليا للبلاد، وبناء على تقرير معلّل من الجهات المخوّلة"، ويراد بذلك التقارير التي تحرّر الأجهزة الأمنية عددا منها وفقا للقضاة والقاضيات الذين تحاورنا معهم. كما تثار على معنى الفصل المذكور الدعوى العمومية ضد كل قاض·ـية يتم إعفاؤه، ولا سبيل للطعن في هذا الأمر الرئاسي إلا بعد صدور حكم جزائي بات في الأفعال المنسوبة إلى القاضي·ـية المعني·ـة.

يقول رامي الصالحي، مدير الشبكة الأورو-متوسطية للحقوق "إن قيس سعيد استنادا إلى المرسوم الجديد يقضي على ما تبقى من استقلال القضاء ويعزز قبضته الاستبدادية على البلاد".

وعملا بهذا المرسوم أُقيل 57 قاض وقاضية في شهر جوان الماضي، معظمهم لم يعودوا بعد إلى مناصبهم حيث تمسكت وزارة العدل في بيان لها بعدم إسقاط التهم الجزائية في حقهم.

هذه الممارسات ليس حديثة العهد، إذ أقال وزير العدل السابق نور الدين البحيري في ماي 2012، 75 قاضيا بشكل تعسفي، وجاء القرار "كسابقة مثيرة للقلق تعمّق تبعية القضاء للسلطة التنفيذية" على حد تعبير هيومن رايتس ووتش آنذاك. ثم في سنة 2014، أمرت المحكمة الإدارية بإعادة تنصيب ما يقرب من نصف هؤلاء القضاة بعد النظر في تهم الفساد الموجهة إليهم.

يقول المحامي أنور القوصري في بودكاست "قضاء على شفير العدالة" أن "القاضي قبل الثورة كان يخاف من نقله أو عزله أو معاقبته، ولذلك كانت النيابة تنصاع للقرار الذي يتخذه الأمني. فإذا قبضت الشرطة على شخص ما تصدر في حقه بشكل آلي بطاقة جلب من طرف النيابة".

كل محاولات القضاة والقاضيات للاحتجاج على هذا الوضع قُمعت إما من خلال النقلات أو العزل وغيره، وهو ما حدث في سنتي 1985 و 2005 حين احتج عدد من القضاة للتنديد بعدم استقلال القضاء وانتهاكات حقوق الإنسان، فتصدى السياسيون لكلتا الحركتيْن بالقمع وأُعفي العديد من القضاة وطُرد بعضهم بشكل دائم. وفي سنة 2005، نقل أغلب القضاة المحتجين إلى مختلف المناطق الداخلية في البلاد لمنعهم من الاجتماع.

أحكام غير نافذة

حكمت المحكمة الإدارية بعد شهرين من قرار قيس سعيد بإعفاء 57 قاض وقاضية بتعليق تنفيذ القرار في حق 47 منهم بعد النظر في الطعون المقدمة. ومع ذلك، لم يتم تنفيذ الحكم وهو ما يشكّل نوعا من أنواع الفساد على مستوى الحكومة حسب وسيلة الكعبي وغيرها من القضاة الذين تحاورت معهم إنكفاضة. يؤكد القاضي أنس الحمايدي في الحلقة الخامسة من البودكاست والتي ستنشر يوم 28 نوفمبر على أن "الدولة بمؤسساتها من المفروض أن تكون مثالا يحتذى به في الاستجابة للأحكام القضائية، وأن القانون يعتبر عدم تنفيذ الأحكام كأحد مظاهر الفساد".

هذه الظاهرة كذلك ليست حديثة العهد وفقا لسارة* وهي قاضية شابة بالمحكمة الإدارية، إذ نادرا ما يتم تنفيذ الأحكام الإدارية إذا ما تعلقت بمسار تقاضي تكون الحكومة طرفا فيه. وجدير بالذكر أن رئيس مصلحة الاتصال بالمحكمة الإدارية أعلن منذ شهر مارس الفارط عن وضع اللمسات الأخيرة على مشروع مجلة القضاء الإداري والتي من المنتظر أن تتضمن عقوبات وخطايا لعدم تنفيذ هذه القرارات.

غياب هيئة رقابة

أكد قيس سعيد في أحد خطاباته أنه وجه عدة تنبيهات إلى القضاء "لتطهير نفسه". لكن ماذا الذي يحدث فعلا إذا أخطأ القاضي؟ وكيف يمكننا ضمان أن تكون أحكامه محايدة؟

نظريا تتلقى التفقدية العامة بصفة آلية الشكايات المرفوعة ضد القضاة وتباشر التحقيق فيها. ثم يقرر المتفقد·ة المكلّف·ـة إما حفظ القضية أو إحالتها إلى المجلس الأعلى للقضاء الذي يبت في الإجراءات التأديبية الواجب اتخاذها، وفقا لما جاء في تقرير اللجنة الدولية للحقوقيين (ICJ).

من الناحية العملية، تخضع كل من التفقدية والمجلس الأعلى للقضاء لسلطة وزارة العدل وسلطة الرئيس وبالتالي للسلطة التنفيذية مباشرة، مما يزيد من مخاطر الإعفاء التعسفي. لكن المجلس الأعلى للقضاء كان حتى قبل حلّه مشلولا بفعل الصراعات الداخلية الناشبة بين القضاة صلبه وفق ما أكده لنا العديد من المهنيين·ـات الذين تمت محاورتهم في إطار هذا المقال.

ترى حياة الجزار أن "المجلس الأعلى للقضاء كان ينبغي عليه أن يكون أكثر حزما وأن يزيح الشكوك التي تحوم حوله، لا أن يغطي القضاة على بعضهم البعض".

ويضيف القاضي المتقاعد أحمد صواب أن "أول من تخاذل عن إصلاح القضاء، قبل حتى المجلس الأعلى للقضاء المنتخب، هم القضاة أنفسهم. لم يفشل المجلس في إصلاح القضاء فقط بل فشل أيضا في تنظيمه". وكان من شأن هذا الفشل أن يمهد الطريق لتدخّل السلطة التنفيذية والأحزاب السياسية وقيس سعيد اليوم.

يشجّب قضاة آخرون فشل وضع القانون المراد منه أن ينظم عمل التفقدية العامة ويمنحها استقلالية عن السلطة التنفيذية حتى تقوم بدورها على أتم وجه. لكن هذا النص بقي دون مصادقة وظلت التفقدية تحت إمرة وزارة العدل، في حين كان يمكن لبعض الملفات أن تدين الوزير·ة، وبقيت العديد من القضايا المرفوعة ضد القضاة والقاضيات على رفوف التفقدية.

"إن إخضاع القضاء للسلطة التنفيذية يتجلى بشكل أوضح من خلال سيطرة وزارة العدل على جميع المؤسسات بما فيها التفقدية العامة. هذه الوزارة تريد بسط سيطرتها على كل شيء" تقول الكعبي. ولا خلاف أن كل هذه الإخفاقات للمنظومة القضائية تقع على عاتق دافعي·ـات الضرائب، حيث تؤدي التهديدات والتواطؤ وسيطرة السلطة التنفيذية إلى حرمان السلطة القضائية من استقلاليتها وبالتالي حرمان المتقاضين من العدالة وضرب ثقتهم في المنظومة القضائية برمتها. "العدالة لم تكن أبدا مستقلة فطالما كانت تتكون من مستويين: الأول للمهمشين والثاني لأصحاب السلطة" تقول المحامية حياة الجزار.

من جهتها تشير الناشطة مريم بريبري إلى أن "كثيرين لا يعرفون حقوقهم أو الإجراءات التي يجب اتباعها… ولو كنت شخصا آخر لا يحظى بحضور إعلامي لتم تحطيمي بالكامل".