قبل بضعة أسابيع، تم تسريب مشروع قانون من المُفترض أن يحل محل المرسوم عدد 88 لسنة 2011 المؤرخ في 24 سبتمبر 2011 و"المتعلق بتنظيم الجمعيات".
أثار هذا النص موجة من ردود الفعل القوية في العديد من الأوساط الجمعياتية والإعلامية التي عبرت عن رفضها القطعي له باعتباره "مكبّلا للحريات" و"يهدد بنسف مكتسبات المرسوم [ عدد 88 ] وإعادة الجمعيات إلى ماض خلناه قد ولى بلا رجعة".
"من الواضح أن من الأوجه الخطيرة لهذا المشروع الجديد هو إخضاع المجتمع المدني لرقابة الحكومة"، يعلّق باحث في العلوم السياسية مختص في المجتمع المدني فضّل عدم ذكر اسمه ويضيف "إنه تهديد جدّي لمبدأ حرية الجمعيات".
بادر قيس سعيّد بعد استئثاره بجميع السلط في 25 جويلية 2021، بتجميد أعمال مجلس نواب الشعب وبحل المجلس الأعلى للقضاء، وها هو اليوم يتهجّم على المجتمع المدني التونسي. وهو من خلال هذه الشيطنة إنما يتناسى جملة الانتصارات التي سجلها الأخير في تاريخ البلاد منذ سنة 2011.
تعود انكفاضة على أهم الإنجازات التي يرجع الفضل فيها إلى المجتمع المدني للإلمام بالرهانات الفعلية وتجاوز الخطاب الرسمي، وتتناول بالتحليل التداعيات الاقتصادية والبشرية المحتمَلة لهكذا قرار.
في نفس الموضوع
ازدهار الجمعيات بعد 2011
منح المرسوم عدد 88 لكل شخص الحق في تأسيس جمعية مع وجوب التصريح بذلك إلى الكاتب العام للحكومة عوض الخضوع إلى ترخيص وزارة الداخلية كما كان الشأن في السابق. وأصبح من الممكن بالتالي تعاطي أنشطة سياسية فضلا عن تلقي إعانات وكذلك تمويلات أجنبية دون ترخيص مسبق وهو الإجراء الذي يستهدفه قيس سعيد اليوم.
تسمح حرية النشاط التي يخولها المرسوم بتنفيذ "المزيد من البرامج على أرض الواقع سواء كانت توعوية أو خيرية" بينما كان ذلك في ما مضى "خاضعا لترخيص السلطة التنفيذية المحلية. ولكن منذ إصدار المرسوم عدد 88 لسنة 2011 الذي ألغى هذا الترخيص قانونا لم يعد بإمكان السلطة الأمنية أن تتدخل"، حسب تعليق الباحث الذي تحاورت معه انكفاضة.
الفصل الأول من المرسوم عدد 88
سجل عدد الجمعيات مذّاك نموا مطردا خلال العشرية الأخيرة إذ تفيد الإحصائيات المحينة الصادرة عن مركز الإعلام والتكوين والدراسات والتوثيق حول الجمعيات "إفادة" أن مجموع الجمعيات قد ارتفع إلى أكثر من الضعف منذ سنة 2010 ليبلغ 24.263 جمعية في مارس 2022 مقابل 9.600 جمعية في 2011. وتتركز هذه الجمعيات بشكل خاص في المدن الكبرى وعلى رأسها ولاية تونس بنسبة 20٪ من عددها الجملي.
يوفر هذا القطاع ما بين 70.000 و 100.000 موطن شغل تقريبًا وفقًا لمركز الكواكبي للتحولات الديمقراطية الذي اتصلت به انكفاضة وإن أكد المركز على صعوبة الحصول على بيانات دقيقة وموثوقة نظرا إلى أن هذا القطاع لا "يُعد من بين القطاعات الاقتصادية التي تشملها إحصائيات المعهد الوطني للإحصاء" بل يتمّ إدراجه ضمن الإحصائيات المتعلقة بقطاع الخدمات. ولكن خلافا للقطاع السياحي مثلا، لا يشكل صنفا قائما بذاته. ويمكن أن يرتفع هذا الرقم إلى الضعف إذا احتسبنا "الوظائف غير المباشرة" أي تلك التي توفرها المؤسسات التي "تدور في فلك المجتمع المدني" من مصممين وأصحاب المطاعم وناقلين وغيرهم.
تساهم كل هذه الوظائف في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تتراوح بين 3٪ و 5٪، وفقًا لتقديرات تقريبية.
عدد الجمعيات حسب الولايات
المجتمع المدني، "صمام أمان" لحماية المسار الديمقراطي
غداة الثورة وانتخاب المجلس الوطني التأسيسي الذي كُلّف بصياغة الدستور الجديد، كونت أميرة اليحياوي جمعية "البوصلة" وكانت آمنة الشبعان، المديرة السابقة لمشروع مرصد مجلس التابع للجمعية، من أوائل الناشطات فيها وتابعت عن كثب جميع مداولات المجلس الوطني التأسيسي.
توضح آمنة الشبعان أن "الهدف من ذلك كان إبراز أن المجتمع المدني قادر على إنجاز الكثير، وإبراز أنه بإمكانه إخراج النقاش من الدوائر السياسية المغلقة وإتاحته للعموم".
وتواصل قائلة: "أردنا إقحام مفهومي المسؤولية وواجب الشفافية المحمولين على عاتق النواب المنتخَبين وتوضيح أنهم لا يملكون تفويضًا مطلقًا وإنما هم مسؤولون تجاه منتخبيهم".
استوجب بلوغ هذا الهدف نفاذ المجتمع المدني إلى جميع المداولات، غير أن ذلك لم يكن ممكنا خلال الفترات الأولى من انبثاق المجلس الوطني التأسيسي، فسعى أعضاء البوصلة حينئذ إلى الحصول على بطاقات صحفية. تقول آمنة الشبعان أنه "من الواضح أننا انتهجنا طريقة غير قانونية لكن لم يكن باليد حيلة لغياب ما يخول لمكونات المجتمع المدني حضور المداولات آنذاك". ودفع هذا الوضع بأعضاء المنظمة غير الحكومية إلى تزعم حملات مناصرة من الداخل للضغط من أجل تنقيح النظام الداخلي للمجلس و "في نهاية المطاف، أُضيف مصطلح المجتمع المدني ونُصَّ عليه صراحة وكللت المعركة بالنجاح" تقول الناشطة السابقة.
"لم يكن النفاذ إلى المجلس أمرا هيّنا" تقول آمنة "وخاض المجتمع المدني معركة حقيقية ليوصل صوته في جلسات الاستماع ولمراقبة أعمال البرلمان والجلسات العامة واللجان المختصة. وأفضى ذلك إلى تعديل ميزان القوى القائم بفضل التنازلات التي فرضها المجتمع المدني الذي تمكن في النهاية من افتكاك العديد من الحقوق ومن بينها حق الرقابة الذي كان أمرا غير وارد قبل ذلك الوقت"، وفق تفسير الباحث الذي قابلته انكفاضة.
وبذلك، تمكنت آمنة الشبعان من حضور جميع الجلسات العامة وجلسات اللجان صحبة زملائها وزميلاتها المنضمّين تباعاً إلى الجمعية كما نشروا تغريدات آنيّة توثق المداولات الجارية. تروي آمنة الشبعان أنه "بمناسبة الجلسات المخصصة للتصويت، كنت ألتقط صورا للتصويت الجاري وتوزع النواب داخل القاعة وشاشة التصويت كي أتمكن من تعقب سير العملية" وهو عمل طويل وشاق أحيانا. "لدى جلسة المصادقة على قانون الانتخابات، كان هناك أكثر من 200 صوت تطلّب مني تعقبها ما لا يقل عن ثلاثة أسابيع".
تبقى آمنة الشبعان "على قناعة بأن وجود البوصلة في ذلك الوقت مكن من تفادي الكثير من الانحرافات. لقد كشفنا على العديد من التجاوزات وعلى أشخاص كانوا يعمدون إلى الغش لدى التصويت، وأنا على يقين أنه لولا أن تعقبناها، لأفضت عملية التصويت إلى نتائج مغايرة لما هي عليه فيما يخص بعض المشاريع وحتى الدستور نفسه".
في قلب البرلمان
لم تدخر بعض الجمعيات جهدا للتصدي لتمرير مشاريع قوانين تُعتبر مبهمة أو تهدد حقوق الإنسان. فعلى سبيل المثال، تكتلت البوصلة وأكسس ناو، بين سنتي 2016 و 2018 لمعارضة المصادقة على مشروع القانون المتعلق ببطاقة التعريف البيومترية لاعتباره "خطرًا يهدد الحقوق والحريات التي يكفلها الدستور". تروي آمنة الشبعان عن تلك الفترة: "إستمعت إلينا اللجان المختصة حول بعض مشاريع القوانين المهمة المعروضة عليها كما شاركنا في مقترحات بعض التعديلات" كشأن القانون المتعلق بـ"حق النفاذ إلى المعلومة" الذي تم سنه في عام 2016.
في نفس الموضوع
يروي المكلف سابقا بالمناصرة صلب البوصلة تمام محجوب: "لقد صغنا وثيقة مناصرة وكنا أول جمعية تستمع إليها لجنة الحقوق والحريات بخصوص هذا القانون". وكان محجوب حاضرا في جميع أعمال اللجنة بهدف "تغيير التوجه العام القائم" مضيفا أن "المعركة هدفت أساسًا إلى التصدي للقيود المجحفة التي فرضها هذا القانون، إذ زعم المشرّع أنه يمنحنا ما يبدو في الظاهر حق النفاذ إلى المعلومة في حين أبطله بفصل يحد من ذلك".
استندت المنظمة غير الحكومية في حملتها حول قانون حق النفاذ إلى أحكام الفصل 49 من الدستور لإقناع النواب والنائبات أنه "يحدد الضوابط المتعلقة بالحريات وممارستها بما لا ينال من جوهرها. وأوضحنا لهم أنه ليس في إمكانهم التعسف على هذا الفصل والذهاب إلى أبعد مما يقتضيه". وبعد شد وجذب وحملات مناصرة واسعة النطاق، صُودق على القانون أخيرا "وفق ما تمنّيناه" كما يقول يقول محجوب، ويُعد ذلك انتصارا لم يكن من الممكن تحقيقه لولا ضغط المجتمع المدني.
في نفس الموضوع
منذ سنة 2011، "أصبح لمنظمات الدفاع عن حقوق الإنسان الحق في التجمع لإيصال صوتها وإنجاز تقارير واقتراح مشاريع قوانين بديلة أو حتى تقديم قراءة نقدية لمشاريع القوانين. وأصبحت طرفا تستمع له اللجان التشريعية في جلساتها ويحظى بوزن حقيقي" يقول الباحث في العلوم السياسية الذي تواصلت معه إنكفاضة.
في سنة 2015، خاضت مكونات المجتمع المدني معركة أخرى اكتسحت فيها الشارع وتجمهرت تحت قبة البرلمان تنديدا بقانون "المصالحة في المجال الإداري" الذي كان يهدف إلى العفو عن رجال الأعمال والموظفين الذين اضطلعوا في أفعال يجرمها القانون في عهد النظام البائد. وشهدت تلك الفترة ولادة حركة "مانيش مسامح" من زخم احتجاجي شبابي عم أرجاء البلاد وانكبّت الحركة على تنظيم عدة مظاهرات وتوعية المواطنين والمواطنات بخطورة تبني مثل هذا القانون.
تروي الناشطة السياسية والعضوة السابقة في حركة مانيش مسامح سمر التليلي : "نظمنا ثلاث جولات من المسيرات الاحتجاجية"، وتم تنظيم التحركات الاحتجاجية لتتزامن مع أيام عقد الجلسات البرلمانية العامة لمناقشة هذا القانون. وأدى ضغط الشارع إلى تأجيل التصويت عليه باستمرار.
تقول سمر التليلي: "كونا لجنة قيادة وحددنا استراتيجية الاحتجاج ثمّ تواصلنا مع مكونات المجتمع المدني" وخلال أكبر مسيرة نظمها التحرّك يوم 13 ماي "انضمت إلينا 9 أحزاب سياسية وأكثر من 40 جمعية". وترى الناشطة أنه كان هناك تقاسم للمهام؛ فالجمعيات من جهتها كانت تتعهد بـ"العمل الفني" لتجلب انتباه المنظمات الدولية، بينما اهتمت حركة مانيش مسامح بالتوعية على المستوى الوطني والتخاطب مع المواطنين والمواطنات مباشرة أو عبر وسائل الإعلام لذلك "كنا نكمل بعضنا البعض" تقول الناشطة. غير أن حصيلة التحركات جاءت متباينة إذ تمّت المصادقة على القانون رغم ذلك وإن أدى الضغط إلى عدم تبنيه برمته كما جاء في نسخته الأولى والتنازل عن العفو عن رجال الأعمال وحصره على الموظفين فقط.
التمويلات الأجنبية، سند للعديد من الجمعيات
"اعتمدنا على التمويلات الأجنبية بشكل حصري. كانت الدولة التونسية تلقى صعوبة في صرف رواتب موظفيها فما بالك بالجمعيات؟" تعلق آمنة الشبعان. وليس ذلك حال جمعية البوصلة فحسب بل تلجأ العديد من الجمعيات الحقوقية إلى التمويلات الأجنبية لا سيما الأوروبية منها لتعبئة الموارد. وتبرز دراسة جمعت حوالي مائة جمعية ناشطة في تونس أن قرابة الخُمسَين منها (⅖) تعتمد كليا أو جزئيا على المانحين الأجانب لتمويل نشاطها.
يؤكد الباحث في العلوم السياسية الذي تحاورنا معه أنه "تم رصد مبالغ هائلة لدعم الديمقراطية التونسية وسمحت الأموال المتأتية من بلدان أكثر ثراءً بإنشاء مراصد وبوضع برامج طموحة. كما تتيح هذه الأموال أكثر من تغطية التكاليف الثابتة وتخلق مواطن شغل لأشخاص سيتفرغون بالكامل لتنفيذ المشاريع".
في سنة 2019، أعلنت بعثة الاتحاد الأوروبي بتونس أنه سيتم رصد 20 مليون يورو في شكل هبات لفائدة المجتمع المدني الذي تعتبره أحد "المؤشرات على وجود ديمقراطية ناشئة في طور النمو".
وفي المقابل، يتمسك الرئيس قيس سعيد اليوم بأن التمويلات الأجنبية ليست سوى "امتداد لقوى خارجية تسعى إلى شراء الذمم للسيطرة على الشعب التونسي".
يستنكر المدير التنفيذي لجمعية الخط، مالك الخضراوي قائلا: "نحن اليوم إزاء رئيس يتهمنا بأننا ننخر المجتمع من الداخل. إنه ادّعاء على غاية من الخطورة".
ويرى من ناحيته الباحث في العلوم السياسية في هذه الأقوال "إحياءً لهاجس التطويع الذي يتيحه التمويل الخارجي" فمنذ بداية الألفينات، مارست الحكومة جملة من التضييقات عبر تجميد التمويلات الأجنبية الموجهة لبعض المنظمات على غرار الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات (ATFD) والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان (LTDH).
ويواصل قائلا: "في الواقع، استُخدمت مسألة التمويلات الأجنبية كأداة وخطاب وصم لجأ إليهما نظام بن علي الذي كان يعتبر منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان بمثابة عملاء أجانب".
"استُخدمت كوسيلة لضرب المصداقية وروّجت لفكرة مفادها أنها شكل من أشكال التدخل الخارجي".
ومع ذلك، فإن جزءًا كبيرًا من الأموال التي تضخها الدول الأجنبية في البلاد موجه في واقع الأمر إلى مؤسسات الدولة بشكل خاص. ذلك ما نراه من خلال تقرير نشاط بعثة الاتحاد الأوروبي لسنة 2018 ( والاتحاد الأوروبي أحد أكبر المانحين للمساعدات التنموية في تونس ) أن المجتمع المدني بعيد عن أن يكون في صدارة المنتفعين من هذه التمويلات الأوروبية.
لم تتجاوز المساعدات الأوروبية المرصودة لتونس بعنوان التنمية الإنسانية والمجتمع المدني 3,9٪ من حجمها الجملي بين عامي 2011 و 2016.
وفي المقابل، يتم تخصيص أغلب هذه الهبات لمجالات الحوكمة الرشيدة ودعم النمو أو للإصلاحات وما إلى ذلك، فالدولة إذن هي أبرز مستفيد من المساعدات الأوروبية.
تمويلات أجنبية لملء فراغ الدولة
يرى الباحث في العلوم السياسية الذي اتصلت به انكفاضة أن "السؤال الذي يفرض نفسه هو ما الذي يضطر الجمعيات إلى اللجوء إلى التمويل الأجنبي؟" ويفسّر أن ذلك مَردّه ضآلة حجم التمويل العمومي المسنَد للجمعيات. "المبالغ المرصودة من قبل الدولة للمجتمع المدني ضعيفة للغاية كما أن معايير إسنادها لا تتسم بالحياد لأنها تبجل الهياكل الكبرى المقربة من الدولة" حيث بلغ حجم الأموال الممنوحة للجمعيات، بين سنتي 2015 و 2017، زهاء 77 مليون دينار خُصص أغلبها للهياكل العمومية.
"يمكن تفهم لجوء الجمعيات -في غياب سياسة دعم موحد لفائدتها- إلى مانحين آخرين لإنجاز عمليات واسعة النطاق" يقدر الباحث.
ويستشهد في ذلك بمثال عمليات المراقبة الديمقراطية حيث "أنفقت جمعية 'مراقبون' والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان حوالي 300 ألف يورو على مراقبة الانتخابات في 2011". بيد أن الرهان القائم بقي هو نفسه حتى بعد مضي أكثر من 10 سنوات. يوضح الباحث أنه على إثر اختتام الانتخابات الرئاسية في 2019، دعا رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات (ISIE) الدولة إلى تعزيز التمويل العمومي المسنَد لفائدة الجمعيات المكلفة بمراقبة الانتخابات وشدد على ضرورة صرف الأجور بصفة مستدامة لتقليص حجم التمويل الأجنبي.
ويعلّق الباحث في العلوم السياسية: "نحن لا نتحدث حتى على صرف الأجور، بل على توفير موارد كافية لاستئجار الفضاءات اللازمة لتكوين الأشخاص وتعويضهم عن تكلفة الوجبات وما إلى ذلك. كل هذا يتطلب أموالا طائلة".
"موطن الخلل ليس في النص"
رغم الخطاب الرسمي المتحامل على المجتمع المدني والذي يسعى إلى شيطنته، ينصّ المرسوم عدد 88 لسنة 2011 صراحة على حق الجمعيات في الحصول على تمويلات سواء كانت وطنية أو أجنبية. ويوضح مالك الخضراوي عن جمعية الخط أن هذا المرسوم "كان له الفضل في التأسيس لمبادئ على غاية من الأهمية بالنسبة للمجتمع المدني (...) خصوصا حرية التمويل واختيار مصادره، ولم تخرق الجمعيات أي قانون من خلال قبولها تمويلاتٍ أجنبية".
هذا المرسوم عدد 88 -المهدد اليوم بتبني مشروع القانون المنقح له- حظي في السابق بترحيب دولي في العديد من المناسبات ومنها ما ورد على لسان المقرر الأممي الخاص المعني بالحق في التجمع السلمي وتكوين الجمعيات الذي أشار إلى أن "المرسوم عدد 88 لسنة 2011 يكرس نظامًا يتوافق مع المعايير الدولية ذات الصلة بحرية العمل الجمعياتي وهو يُعتبر أحد أكثر الأطر القانونية تقدمية في المنطقة في هذا المجال".
ولكن "لا يمكن إنكار حدوث بعض الانزلاقات (...)" يقول الباحث التي تواصلنا معه ويضيف أن "الفكرة تتمثل في أنه يمكن استعمال الجمعيات كغطاء لتمويل الإرهاب وغسل الأموال وحتى تمويل الأحزاب السياسية. كما أنه يمكن للمرشحين المحتملين توظيفها كقنوات للتأثير على الرأي العام"، ففي تقرير تقييمها للمخاطر لسنتي 2018 و 2019 أشارت اللجنة التونسية للتحاليل المالية (CTAF) إلى أن "المخاطر ترتفع مع المنظمات غير الربحية من حيث إمكانية استعمالها لأغراض تمويل الإرهاب". وصدر هذا التقرير في أعقاب تصنيف تونس في قائمة الدول عالية المخاطر في مجال غسل الأموال من قبل مجموعة العمل المالي (GAFI).
تم تكوين مجموعة عمل في خضم ذلك تشمل العديد من المنظمات غير الحكومية والمؤسسات الحكومية. وتشرح الباحثة صلب المفكرة القانونية أميمة مهدي أن "العديد من الجمعيات مثل الكواكبي وأوكسفام والبوصلة وأنا يقظ ومحامون بلا حدود وغيرها (...) عملت بالشراكة مع اللجنة التونسية للتحاليل المالية".
"وتمثلت أهم توصية منبثقة عن مجموعة العمل هذه في 'عدم المساس بالمرسوم عدد 88'، ذلك ما أوصت به آنذاك المؤسسات الحكومية التي ستصبح اليوم الجهة المسندة للتراخيص إذا تمت المصادقة على مشروع القانون الجديد".
وتضيف أنه لم يتم حل سوى 45 جمعية بتهمة غسل الأموال خلال السنوات الأربع الماضية: "45 من إجمالي كم جمعية؟ 20.000 جمعية!" تتعجّب أميمة المهدي.
ومن جهته، يعتبر رئيس جمعية "أنشر" شرف الدين اليعقوبي أن قيس سعيد يعمم بعض الحالات الشاذة لتمويل الإرهاب أو الأحزاب السياسية على كافة الجمعيات دون استثناء "في حين أن أغلبها ينشط بشفافية".
"إذا كانت بعض الجمعيات تطرح إشكالا، فإن القانون والمرسوم يخولان حلها. أما إذا كانت الإدارة عاجزة عن تفعيل آليات الرقابة المتاحة لها، فتلك ليست مشكلة المجتمع المدني!" يتعجّب اليعقوبي.
ويسانده مالك الخضراوي رئيس جمعية الخط مؤكدا أن الإطار التشريعي "اعتنى بوضع آليات الرقابة والمساءلة":
"تضييق الخناق على كل الجمعيات من خلال حظر التمويلات بسبب عجز الدولة عن مراقبتها يماثل إغلاق كل الشركات عن بكرة أبيها بسبب التهرب الجبائي، لا لشيء سوى لأننا نفتقر إلى وسائل الرقابة".
"التضييقات بدأت بالفعل"
منعُ قيس سعيد للتمويلات الأجنبية الموجهة للجمعيات بتعلة مكافحة التدخل الأجنبي في الشأن التونسي يُمثل في حقيقة الأمر تهجما على المجتمع المدني كقوة مضادة يُحسب لها تحقيق العديد من الانتصارات على الصعيدين التشريعي والاجتماعي والتي أسهمت في الدفاع عن حقوق المواطنين والمواطنات وحرياتهم. غير أن النص المؤسس لهذه الحرية بات اليوم مهدَّدا؛ فبعد مضي عدة أسابيع من تسريب مشروع القانون، لم تؤكد الحكومة إلى حد هذه الساعة صحته من عدمها ولا يزال من الصعب التنبؤ بتعديل المرسوم أم لا. ولكن يبدو أن بعض الإجراءات في هذا الاتجاه قد اتُّخذت بالفعل على مستوى مؤسسة الرئاسة .
" خير دليل على ذلك هو أن رئاسة الحكومة أصبحت ترفض تسليم بطاقة إعلام بالبلوغ لكل من يرغب في إيداع ملف لتأسيس جمعية"، وفق آمنة الشبعان التي قابلت مؤخرا أحد الراغبين في تكوين جمعية.
وتبرر الإدارة رفضها هذا بحجة انتظار صدور النص الجديد وهو ما يُعتبر أمرا "خطيرا للغاية". وتشدد آمنة الشبعان على أنه "لا يمكنهم أخذ مثل هذا القرار من تلقاء أنفسهم في وجود قانون ساري المفعول". ولا يتخوّف أعضاء المجتمع المدني من النصّ فحسب بل أيضا من القمع الذي يتربص بالجمعيات. "لن يندثر المجتمع المدني لكنه سيصبح خانعا للإملاءات ويتحول إلى مجتمع مدني متملق" تقول أميمة المهدي عن المفكرة القانونية.
"الحديث الرائج اليوم حول تفكيك المجتمع المدني وكسر شوكته وعن مسألة التمويل الخارجي ما هو إلا حديث موجه في الواقع [إلى المنظمات] التي ستمنع الرئيس من المضي في تنفيذ مشروعه".
المسألة إذن في نظر الأشخاص الذين تحاورت معهم انكفاضة تهمّ أولا وقبل كل شيء الجمعيات التي تلعب دور السلطة المضادة؛ تلك الجمعيات التي خاضت معارك تشريعية وشاركت في المظاهرات ووقفت، بطريقة أو بأخرى، في وجه السلطة.
"هناك الكثير مما يمكن قوله بشأن النجاعة والتأثير وما إلى ذلك. [...] كان بودنا استعراض حصيلة أنشطة المجتمع المدني"، يعلق مالك الخضراوي في إنكي توك، برنامج هيئة تحرير انكفاضة ، ولكنه يرى أنه بات من الضروري التجند للدفاع عن وجود هذه الجمعيات أولا وقبل كل شيء، خصوصا في ظل التهديدات المحدقة بها اليوم. ويختتم شرف الدين اليعقوبي عن جمعية أُنشر بقوله: "يمكن تدمير كل الجهود المبذولة على مدى 10 سنوات في ثانية واحدة".