"الإرهاق، الرعب، تجربة عسيرة، ولكن الحمد لله سار الأمر على ما يرام"، يروي طالب تونسي وهو يكاد يلهث من هول التجربة أمام مصدح إذاعة موزاييك أف أم في بهو محطة المطار أين تحتشد أسر بالمئات أنهكتها المحنة وأثلجت صدرها عودة أحبابها. يعلّق أحد العائدين: "إنها المرة الأولى التي نعيش فيها شيئا مماثلا، حرباً رأينا فيها ضحايا يتساقطون أمام أعيننا. إنها وضعية حرب كل شيء فيها مسموح".
كانت تلك الرحلة الثانية القادمة من رومانيا، فقبلها أجْلت طائرة عسكرية تونسية من طراز C-130 مائة شخص إلى تونس، ولن تكون الأخيرة إذ من المبرمج إجراء رحلات أخرى في الأيام القادمة إلى أن "يتم إجلاء الجميع" وفق تأكيد عضو خلية الأزمة التي وضعتها وزارة الخارجية، محمد أمين السماتي. ويضيف الأخير أن السواد الأعظم من التونسيين هم بالفعل على طريق العودة، إما تم إجلاؤهم أو هم في رومانيا أو بولونيا يستعدون للرحلة القادمة أو هم ينتظرون دورهم لعبور الحدود الأوكرانية.
مغادرة أوكرانيا مهما كان الثمن
كان يقيم ما لا يقل عن 1500 تونسي وتونسية في أوكرانيا إلى حد اندلاع الحرب لمّا اخترقت الوحدات العسكرية الروسية الحدود الفاصلة بين البلدين وشنت هجوما على البلاد على جبهات متعددة. غُلُّق المجال الجوي الأوكراني في ظل الاقتتال بين جيشيْ الجو ولم يتبق من المنافذ خارج البلد سوى الجبهة الغربية. وفي الأثناء، وجد مئات الآلاف من الأشخاص أنفسهم على مسالك الهروب. تروي إحدى التونسيات الوافدات لإذاعة موزاييك أف أم لدى حلولها بتونس: "طائرات تحوم فوق رؤوسنا وقصف، اضطررنا إلى الهرب إلى الملاجئ ومن ثمّ مغادرتها والمضي في الطريق مرة أخرى، وهكذا دواليك". هربت الشابة من مدينة خاركيف، ثاني مدينة في البلاد، بعد أن دكّتها القذائف الروسية: "حتى عند خروجك منها لا تدري ما قد يعترضك في الطريق، وكذا دام الحال على طول 1400 كم".
"بلوغ الحدود الأوكرانية كان الأصعب"، يروي آخر "مشينا لأكثر من 40 كيلومترا على أرجلنا تثقل كاهلنا حقائبنا، وتعرّضنا إلى أبشع المعاملات حتى ما عدنا نحسب أنفسنا من البشر".
تدبر التونسيون والتونسيات أمرهم على الطريق نحو النجاة بفضل المجموعات الفايسبوكية أو على تطبيقة تيليغرام، ترشدهم في محنتهم إرشادات محمد أمين السماتي ومسؤولين من بينهم القنصل الشرفي التونسي وتونسيون مقيمون في الدول المجاورة.
هل جاء الهروب من الحرب متأخرا؟
كان محمد أمين السماتي يعمل بجامعة أوديسا الوطنية للفنون التطبيقية إلى حين نشوب الحرب ويضطلع هناك بمساعدة الطلبة الأجانب، يقول: "حاولنا إجلاء أشخاص قبل الحرب"، ويقدر أن زهاء "600 أو 700 طالب" قد غادروا فعلا البلاد منذ انطلاق الغزو الروسي. من جهتها، تروي سمر وهي طالبة طب في مدينة دنيبرو في وسط شرقي أوكرانيا أنها استطاعت الرجوع إلى تونس قبل يوم 24 فيفري.
وتعتبر الطالبة الشابة أنهم "استهانوا بالمخاطر، لأن جميع السفارات ما فتئت تصرح بوجود خطر حقيقي، إلا تونس".
أعلن رئيس الولايات المتحدة جو بايدن يوم 11 فيفري الماضي أنه من المتوقع أن تشن روسيا هجومها يوم السادس عشر من ذات الشهر . فقررت سمر وزملاء لها مغادرة البلاد دون إبطاء ، ولحسن حظها تحصّلت على تذكرة رحلة تمر عبر باريس في اتجاه تونس، على الرغم مما شهدته أسعار تذاكر الطيران حينها من ارتفاع غير مسبوق.
وفي الأثناء، يوم 15 فيفري تحديدا، دعت وزارة الخارجية " جاليتنا المتواجدين بالأراضي الأوكرانية إلى توخي أقصى درجات الحيطة والحذر " كما أشارت الوزارة في بيان آخر إلى أنها "في تواصل مع السلطات الأوكرانية التي أكّدت بأن الوضع الداخلي الراهن يسير بشكل طبيعي بما لا يدعو للقلق بالنسبة لأفراد جاليتنا [التونسية] وخاصة الطلبة باعتبار تواصل الدروس بالجامعات الأوكرانية بصفة عادية وتوفّر الرحلات الجوية من وإلى هذا البلد".
وبحلول يوم 20 فيفري، شرعت الوزارة في دعوة الجالية التونسية - باحتشام - إلى " اتخاذ الإجراءات اللازمة طالما ما تزال إمكانيات السفر متاحة ". إلا أن غياب سفارة تونسية في أوكرانيا زاد الوضع تعقيدا ذلك أن سفارة موسكو هي التي تتولى إدارة شؤون التونسيين والتونسيات بأوكرانيا، وتعتمد في ذلك على القنصلية الشرفية في كييف وشبكة من الجمعيات التي تديرها الجالية التونسية في ظل غياب تمثيلية دبلوماسية في البلد.
يرى محمد أمين السماتي أن وزارة الخارجية التونسية لم تقلل من شأن التهديد "فلا أحد كان يعلم متى ستندلع الحرب" حسب تقديره. ولكنه يلقي بالمسؤولية على عاتق الجامعات الأوكرانية التي واصلت تقديم الدروس الحضورية، ما منع الطلاب من مغادرة البلاد. "حاولنا الحصول على تراخيص من الكليات للسماح للطلبة بمتابعة الدروس عبر الانترنت حتى تتسنى لهم المغادرة" لأنهم "كانوا يخاطرون بالرسوب إذا ما تغيّبوا". وتؤكد الطالبة سمر أقواله، فحين اعتزمت الرحيل كانت دروسها متواصلة وبصفة حضورية، واستمرت على نفس الشاكلة إلى لحظة انطلاق العدوان.
طلبة عالقون إلى الآن
"تم إنشاء خلية أزمة" لحظة اندلاع الحرب حسبما يروي محمد أمين السماتي. وتجتمع الخلية مع وزارة الداخلية وسفارات تونس في روسيا وبولونيا ورومانيا، وعدد من النشطاء التونسيين في المجتمع المدني بأوكرانيا وبعض المعنيين الآخرين على غرار شركة الخطوط الجوية التونسية بهدف تنسيق عمليات إجلاء كل من أراد ذلك. ورغم أن معظم الطلبة قد غادروا أو هم بصدد مغادرة البلاد بالفعل، إلا أن حفنة منهم تظل عالقة إلى الآن خصوصا في المناطق الأكثر تضررا من جراء القتال.
14 تونسيا وتونسية عالقون في سومي وآخرون في خاركيف، وهما مدينتان تقعان على بعد 30 كيلومترا من الحدود الروسية حيث يبلغ النزاع أشده.
ولكن من غير الممكن "المخاطرة بإجلائهم مباشرة من هناك" يقول عضو خلية الأزمة "نحن بصدد التفاوض مع الصليب الأحمر لفتح معبر إنساني". ومن جهته، حاول وزير الشؤون الخارجية عثمان الجرندي طمأنة المحتشدين بمطار تونس قرطاج بمناسبة استقباله لرحلة الإجلاء الثانية مؤكدا أن الوزارة "على علم بمكان تواجد كل تونسي". ويضيف "هناك محادثات تجري الآن مع موسكو بهدف إجلائهم إن أمكن الأمر عبر روسيا" مشيرا إلى وجود "مشاورات بين السفارات التونسية والجزائرية والمغربية بل وحتى المصرية من أجل اتباع نهج مشترك لدى السلطات الروسية".
في نفس الموضوع
بلد يستهوي الطلبة
تستقبل أوكرانيا أعدادا كبيرة من الطلبة الأجانب في جامعاتها خصوصا في مجالات الطب والصيدلة "فهو البلد الأقل تكلفة في أوروبا لدراسة الطب، كما أنه يقبل كل المعدلات الدراسية" وفق قول سمر التي لم تتحصل على نتائج تسمح لها بدراسة الطب في تونس فخيّرت الذهاب إلى أوكرانيا.
استقرت الشابة في أكتوبر 2020 في مدينة دنيبرو لدراسة الطب العام، ولم تلبث أن استطابت ظروف العيش والدراسة في مكان إقامتها الجديد. "تحس كأنك بين أهلك" تقول طالبة الطب "هناك العديد من التونسيين والمغاربة وغيرهم من العرب" في هذه المدينة التي تعد زهاء المليون ساكن.
يقيم في المجمل نحو 76.000 طالب وطالبة أجانب في أوكرانيا . وباندلاع الحرب، هرب الكثيرون منهم نحو غرب البلاد والبلدان المجاورة. غير أن المشاق لم تنته بوصولهم إلى الحدود مع البلدان الأوروبية المحاذية أين يتعرض الأجانب إلى معاملة تمييزية تبلغ حدّ العنصرية.
"كان كابوسا صراحةً، تعاملت الشرطة بفظاظة مع الأجانب وخصوصا سود البشرة" وفق شهادة الطالبة الكونغولية تيريزيا كابيمانيا في حديث مع صحيفة لوموند . "نُعتنا بأبشع النعوت وأشهروا الأسلحة في وجوهنا ودُفعنا دفعاً".
نظمت بلدان عديدة رحلات لإجلاء هؤلاء الطلبة ولم تتخلف تونس عن ذلك. وأعلنت المغرب عن تشغيل الخطوط الملكية المغربية لرحلات بسعر قار من بوخارست وبودابست وفارسوفيا لإعادة طلبتها إلى الوطن. كما نظمت الجزائر وليبيا عمليات من نفس القبيل.
وأمام الحرب والأزمة الإنسانية الناجمة عنها، هرب ما لا يقل عن مليون شخص للجوء إلى البلدان المجاورة حسب تصريح المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين فيليبو غراندي . وترى المفوضية الأممية UNHCR أن هذا الرقم قد يرتفع إلى 5 ملايين حسب تقديراتها.