وقائع عملية تجسّس روسية في تونس

ماي 2015 على الساعة السادسة مساء. أمام كنيسة بنزرت كان كريم ينتظر قدوم سامية.ج التي طلبت منه أن يعيد لها سجلين بلديين. كانت سامية موجودة طبعا في عين المكان. "هو ذاك كريم الروسي"، أخبرت سامية أعوان الشرطة الأربعة المحيطين بها لتُعطى بعد ذلك شارة اسدال السّتار عن عملية جوسسة روسية في تونس.
بقلم | 25 جانفي 2018 | reading-duration 20 دقيقة

متوفر باللغة الفرنسيةالإنجليزية
أربعة موظفين من بلديات مختلفة، لا يعرفون بعضهم البعض، تم الحكم عليهم بعقوبات سجنية تتراوح بين 8 و15 سنة سجن. لم يتصوروا أن حياتهم ستنقلب رأسا على عقب حين التقوا ميخائيل ساليكوف وكيامران راسيم أوغلي راجيموف- المعروف باسم كريم- وهما دبلوماسيان روسيان. 

خلال خمس سنوات، من 2010 إلى 2015، نجح الجاسوسان في الحصول على عدد لا يحصى من المعلومات والوثائق الرسمية الفارغة أو المتعلقة بأشخاص آخرين، بفضل مساعدة موظفين وموظفات تونسيين وتونسيات. 

قام هؤلاء الموظفين والموظفات بتوفير سجلات حالة مدنية، مضامين ولادة ووفاة، وشهادات زواج وطلاق لتونسيين وتونسيات وأجانب. تمكنا أيضا من الحصول على وثائق إدارية غير مستعملة، ودفاتر عائلية فارغة أو أوراق بيضاء وضعا عليها ختما يثبت أنها "مطابقة للأصل.."  

قبل أسابيع قليلة من إحباط العملية، تمكن الجاسوسان من الحصول على شهادة ميلاد باسم مريم بن ادريس، المولودة في سنة 1986. وتبين خلال التحقيق القضائي أن هذه المرأة غير موجودة أصلا وإنما هي هوية مدنية مفتعلة تم خلقها ربما لتكون هوية وهمية لشخص "خارج عن القانون" أو "لجاسوسة خفية". إنها تقنية جوسسة تستعملها المخابرات الروسية وهي مولعة بها.

للوصول إلى أهدافهما، حاول ميخائيل وكريم ربط علاقة شخصية مع فرائسهما، بطريقة متواصلة إلى حد ما. كانا يجمعان المعلومات حول الإجراءات الإدارية، خلال لقاءات تُنظّم في مقهى بنزل ببنزرت أو في مطعم بضاحية المرسى، كما كانا يطلبان وثائق محددة ويبحثان عن أشخاص بعينهم.

لقاء
تبادل وثائق أو معلومات
تقديم هدايا أو أموال
اخر عملية قبل الايقاف
إسحب السلم الزمني يمينا ويسارا كي يتسنى الإطلاع على مسار الأحداث. إضغط على النقاط لإظهار المعلومات.

أدلى الموظفون الأربعة بعد القبض عليهم، بالعديد من المعلومات، خلال جلسات الإستماع المتعددة. لكن بقيت بعض الحقائق مخفية. كيف تم الكشف عن عملية الجوسسة هذه؟ كيف تم الإستماع لموظف في وزارة العدل مجردَ شاهد في القضية ومن ثم تركه حرا طليقا؟ كيف تم تسجيل ولادة وهمية تعود إلى 1986 في المنظومة المعلوماتية من دون أي رقابة؟ لماذا لم يتمّ الإستماع إلى موظفة تعمل في بلدية باب سويقة ذُكر إسمها من قبل المتهمين؟ لماذا غيّر بعض المتهمين إفاداتهم بين جلسة الإستماع إليهم أمام فرقة مكافحة الإجرام وتلك التي حدثت أمام قاضي التحقيق؟

سامية هي أصيلة مدينة بنزرت وهي موظفة في بلدية مدينتها منذ أكثر من عشرين سنة. عند إيقافها في ماي 2015 كانت مسؤولة قسم الحالة المدنية. كانت شغوفة بعملها. تعيش في عائلة محافظة تمنعها من أن تتحرر كما أنها انفصلت عن زوجها بعد تجربة زواج قاسية. كل هذا جعل حياتها تقتصر أساسا على العمل والبيت. ولكن حياتها ستنقلب قريبا رأسا على عقب.

في بداية 2011، اتصل بها عبر الهاتف القار بمكتبها، شخص أجنبي يتكلم اللغة الفرنسية. لم يكن الأمر مفاجئا بالنسبة اليها فهناك العديد من الأجانب في بنزرت. كان هذا الأجنبي هو ميخائيل. قدّم نفسه على أنه مدير المركز الثقافي الروسي بتونس وعبّر عن رغبته في الحصول على قائمة المواطنين والمواظنات الروس المسجلين/المسجّلات في بنزرت. تقدم بطلب لرئيس البلدية للوصول إلى سجلات الولادات والوفيات. فوافق هذا الأخير على الطلب.

منذ ذلك الوقت، أصبح ميخائيل يتردد بشكل مستمر على مكتب رئيسة القسم للإطلاع على السجلات، دون أن تلاحظ سامية شيئا غير عادي. بعد بعض المحادثات، نشأت بينهما علاقة صداقة واتفقا على أن يلتقيا خارج المكتب.

التقت سامية ميخائيل في سهرة رمضانية سنة 2011. جاء ليصطحبها بسيارته فلاحظت أن اللوحة المنجمية للسيارة تحمل علامة السلك الديبلوماسي. جلسا في مقهى تابع لفندق وأخذا يتحدثان عن العادات وعن الحياة اليومية. وحين جاء موعد الرحيل، قدّم ميخائيل لسامية ظرفا مغلقا قائلا لها أنه يحتوي على مال. رفضت عديد المرات أن تأخذه، هذا ما أكدته أمام قاضي التحقيق. ولكن أمام إلحاح ميخائيل، قبلت. 

عندما عادت إلى بيتها، فتحت الظرف فوجدت مبلغا ماليا يساوي 700 دينار.

في مناسبة أخرى، رافقت سامية ميخائيل إلى العاصمة تونس، وتحديدا إلى السينما لمشاهدة وثائقي روسي. عند ايصالها إلى منزلها، أعطاها ظرفا قبلت به أيضا، بعد إلحاح من الروسي. هذه المرة كان الظرف يحتوي على مبلغ 500 دينار.

بعد أشهر قليلة وتحديدا في 2012، خرج الإثنان مع بعضهما من جديد. كان ميخائيل يعرف أنها كانت تود زيارة فرنسا في أقرب فرصة. أراد مساعدتها فقدم لها مبلغ 700 يورو. تمكنت سامية بعد ذلك من السفر في شهر ديسمبر من نفس السنة.

حسب إفادات سامية، لم يكن هناك ما يشير إلى أن ميخائيل طلب منها أن تمده بوثائق محددة، عدا تمكينه من الإطلاع على السجلات داخل البلدية.

في منتصف سنة 2013، أعلمها بأن مهمته انتهت وأنه سيعود إلى روسيا.ولكن قبل رحيله، قدّم لها من سيعوضه وهو "كريم ابراهيم"، روسي يتقن العربية. مع كريم، سيتغير الوضع قليلا.

لم يلتقيا أبدا في البلدية بل كانت جلّ لقاءاتهما في العاصمة تونس. في المرة الأولى، أخذها بسيارته ولكن في المرات الموالية، أصبحت لديهما طقوس يتبعانها. كانت تستقل الحافلة إلى مطار تونس- قرطاج أين تنتظر "صديقها". كانا يذهبان بعدها للغداء ثم يطلب منها وثائق تقوم هي بجلبها له في الموعد المقبل. كان كريم سخيا معها: فقد أعطاها مبلغ 300 دينار في كل عيد ديني و 400 دينار في بعض اللقاءات و1000 دينار للقيام بعمرة بالإضافة الى تمكينها من هاتف ذكي إلخ.

قبلت سامية بكل هذه الهدايا ولكن عندما أهدها كريم عطرا في عيد ميلادها، رفضت وذكّرته أن إهداء العطور يؤدي إلى الفراق بين الأصدقاء والأحبة.

كانت هي أيضا سخية جدا مع صديقها الروسي الذي لم يكتف فقط بمجرد الإطلاع على السجلات. انطلاقا من مارس 2014، وبحجة القيام بدراسة مقارنة حول الحالة المدنية في العديد من البلدان العربية، تحصّل كريم من سامية على وثائق إدارية عديدة كان من الممكن أن تثير شكوكها:

  • نماذج فارغة لشهادات ميلاد أو وفاة أو عقد قران
  • شهادات طبية ما قبل الزواج، عقود زواج تنص على الملكية المشتركة أو الفصل بين الممتلكات بالنسبة الى الزوجين.
  • معلومات تخص الترجمات وإمكانية حصول الأجانب على البطاقة عدد 3 المتعلقة بالسوابق العدلية وكذلك إمكانية القيام بالخدمة العسكرية بالنسبة لمزدوجي الجنسية.
  • سجلات أصلية لشهادات ميلاد أو وفاة.

سر دوبون أوريون، الميت-الحي

ضمن السجلات التي تحصل عليها كريم، يوجد سجل ولادات لسنة 1987. أخبر الديبلوماسي الروسي سامية برغبته في الحصول على معلومات تخص المدعو دوبون أوريون، المولود في 11 اكتوبر 1987 والمتوفي في اليوم الموالي. تم العثور على السجل الذي توجد فيه شهادة ميلاده في منزل كريم عند تفتيشه في ماي 2015. الحصول على هوية أطفال موتى لتمكين جواسيس من التسلل إلى تونس؟ إنها قصة جديرة برواية حول الجوسسة. هذه الفرضية ليست غريبة على ممارسات المخابرات الروسية. تشهد على ذلك عملية "قصص الأشباح" وهي عملية تطهير قامت بها وكالة الإستخبارات الأمريكية ضد جواسيس روس.  

مكّنت هذه العملية من القبض على عشرات الجواسيس المخفيين. فقد تبين أن العديد من الأشخاص الموقوفين أعادوا للحياة جثث أطفال أو على الأقل تم ذلك على السجلات الرسمية، قصد استغلال هوياتهم لاحقا.

هل كانت سامية على علم بأهداف كريم؟ لقد أقسمت بأنها لم تكن على علم. ولكنها لم تفسر العديد من التحركات الغريبة. ففي دفترها الشخصي، دوّنت ما عليها فعله في "الحالات القصوى":

  • مواعيد قارة مع كريم كان يتم تحديدها كل ثلاثة أشهر، وتكون يوم الجمعة.
  • على الإيميل، وُجدت رسائل مشفرة لها معنى محدد. "كيف حال هالة؟" أو "مرّ وقت طويل ولم نلتق" وهو ما يعني أن عليهما أن يلتقيا في اليوم الموالي، أمام مطعم، في ساعة محددة.

سامية كانت ستلتقي بكريم يوم 15 ماي 2015 لتسلمه نسخة مطابقة للأصل من جواز سفرها بالعربية وبالفرنسية. ولكنها لم تستطع أن تذهب إلى الموعد لأنه تم إيقافها.

مراد موظف ببلدية باب سويقة منذ 2007. بعد الثورة، أصبح رئيس قسم الحالة المدنية. إلتقى ميخائيل للمرة الاولى في جوان 2010. لم يكن هناك أي شيء غير عادي، فالروسي جاء فقط لإستخراج وثيقة.  

في سبتمبر من السنة نفسها، عاد ميخائيل. كان يريد أن يشكر مراد على مساعدته له في المرة السابقة وأن يدعوه للغداء. قبل هذا الأخير الدعوة. في اللقاء الثالث، بدأ ميخائيل يطرح عليه أسئلة حول إجراءات تسجيل الولادات. وفي نهاية اللقاء، أعطاه 150 دينارا و20 دينارا إضافية من أجل أجرة التاكسي الذي سيقله إلى مكان عمله."إنها مساعدة"، هكذا قال لمراد الذي قبلها.

في نوفمبر 2010، تناول ميخائيل ومراد القهوة في حلق الوادي. طلب الروسي من التونسي أن يجلب له شريحة هاتف جوّال. لم يتسائل مراد عن سبب هذا الطلب وقبل أن يسدي له هذه الخدمة. "قال لي انّه ليس لديه وقت للقيام بذلك" هكذا أفاد مراد في إحدى شهاداته. منذ ذلك الوقت، أصبح الرجلان يلتقيان بصفة دورية، أي بمعدل مرة كل شهر.

ما بين 2011 و2012، تحصل ميخائيل من مراد على العديد من شهادات الميلاد لتونسيين وتونسيات ولدوا / وُلدن في سنة 1986، وعلى معلومات حول شهادات زواج ونوعية الأقلام المستعملة للكتابة على مختلف السجلات. في المقابل، اعترف مراد بأنه تحصل على مبلغ جملي يساوي 600 دينار.

في 2013، ألحّ ميخائيل على مراد كي يستخرج جواز سفر واعدا إياه بأن يجد له عملا في الخارج. تردد مراد، فوضعيته في البلدية تحسنت، حيث أصبح رئيس قسم، كما أنه سيتزوج قريبا ولا يفكر في ترك بلده. لكن ميخائيل أصرّ إلى أن استسلم مراد لرغبته.

في جوان 2013، جاء ميخائيل مصحوبا بصديقه "كريم". وكما هو متوقع، سلّمه مراد جواز سفره. كانت تلك المرة الأخيرة التي التقيا فيها لأن ميخائيل اختفى ومعه جواز التونسي.

بعد أشهر قليلة، تلقى مراد رسالة من رقم التليفون الذي أعطاه لميخائيل، في مضمونها دعوة إلى اللقاء في ضاحية المرسى بتونس. عند وصوله، تفاجأ بأن من ينتظره لم يكن ميخائيل وإنما كريم صديقه الروسي الذي يتكلم العريبة. طمأنه هذا الأخير بأنه سفعل ما بوسعه ليساعده في استرجاع جوازه.

منذ ذلك الوقت، أصبح كريم ومراد يلتقيان كل شهر. صارت علاقتهما مشابهة لتلك العلاقة التي كانت بين الموظف التونسي وميخائيل. كانا يلتقيان في ضاحية المرسى أو في حلق الوادي ويتحدثان عن أمور الحياة العادية أو عن الإجراءات الإدارية. وقد جلب مراد شريحة تليفونية أخرى لكريم بما أن هذا الأخير لم يكن لديه هو أيضا الوقت لفعل ذلك.

ذات يوم من شهر جانفي 2015، طلب كريم من مراد الحصول على سجل الولادات لسنة 1986. ولكن هذه المرة رفض الموظف الاستجابة لهذا الطلب، ولكنه قبل ب 150 دينار التي قدمها له صديقه.

لم يقل كريم كلمته الأخيرة. ففي مارس 2015، طلب من مراد أن يستفسر عن المدعوة مريم ابن ادريس، المسجلة في سجلات باب سويقة منذ 1986. لم تكن هذه الأخيرة مسجلة في المنظومة المعلوماتية، مشكلة قام مراد فيما بعد بحلها، قبل أن توقفه الشرطة. مريم ابن ادريس شخص غير موجود أصلا. 

منذ 2007، يشتغل إحسان موظفا في بلدية حلق الوادي وتمت ترقيته في 2010 ليشتغل في دائرة العوينة التابعة لنفس البلدية. لم يلتقي إحسان ميخائيل أبدا. ولكنه التقى في صيف 2013 "أجنبيا يتكلم العربية" وهو كريم.

جاء هذا الأخير مصطحبا صديقا له كان يود أن يسجل ولادة، ولكنه تجاوز أجل العشرة أيام المسموح بها قانونيا للتسجيل. أجاب إحسان بأنه لا يستطيع مساعدته لأنه يجب المرور بالقضاء في هذه الحالة واتباع الإجراءات القانونية. فرحل كريم وصديقه.

بعد أشهر قليلة، التقى كريم وإحسان بالصدفة في المرسى. مر شهران آخران قبل أن يعود كريم لزيارة بلدية العوينة. إقترح على إحسان أن يشربا قهوة في مكان ما. لم يكن إحسان يعرف جنسية مخاطبه وفكّر أنه من بلد عربي. في نهاية هذا اللقاء الأول، ألحّ كريم على إحسان حتى يأخذ مبلغ 40 دينارا أعطاه له من أجل دفع أجر التاكسي. وانتهى الأمر بإحسان بأن قبل بذلك.

أمام قاضي التحقيق، أكّد إحسان أنه لم يقبل سوى ب100 دينار قدمها له كريم. كما أصرّ على أنّ ما تم تدوينه في المحضر الذي أعدته فرقة مكافحة الإجرام غير صحيح وأنه تعرض للضرب وللتعذيب من قبل البوليس. وبيّن كذلك أنه وقّع على المحضر دون أن يقرأه.

في 2014، أعطى كريم لإحسان قائمات اسمية لأشخاص عديدين وذلك بغرض الحصول على شهادات ميلادهم. "إنه أمر مشروع"، هذا ما أكّده العون البلدي.

أخبره كريم بعد ذلك أنه يبحث عن صديق تونسي فقدَ أخباره. وقال انّه يعرف فقط أنه مسجل ببلدية العوينة وأنه مولود في السنوات ما بين 1980 و1990 ولكنه لا يملك معلومات أخرى عنه. قبِل إحسان "بِنية حسنة" أن يسمح له بالإطلاع على سجلات العوينة، ولكن بحضوره الدائم. ولم يلتقيا بعد ذلك.

في محاضر جلسات الإستماع الأولى مع وحدة مكافحة الإجرام، التي تمت بحضور محاميه، بيّن إحسان أنه سلّم كريم سجلات عديدة تعود لسنوات الثمانينات، ومنها سجلّان مازالا بحوزته. ثم أنكر أقواله أمام قاضي التحقيق واتهم البوليس ب"تقييده في وضعية الدجاجة". من جهتها لم تجد الشرطة أيا من السجلات في بيت كريم.

عدا كونه عونا مختصا في المالية، ثم رئيس قسم الحالة المدنية في بلدية المنزه، شكيب هو أيضا رئيس المكتب المحلي "المخيم الصيفي" لنفس المدينة. في إطار هذا النشاط الإضافي، نظّم شكيب تظاهرة في ماي 2013. وهناك إلتقى بأجنبي يتقن الفرنسية، وهو ميخائيل.

في اليوم الموالي، عاد الروسي مع صديقه كريم. قدّم هذا الأخير نفسه على أساس أنه رجل أعمال مهتم بتنظيم نشاطات ثقافية. اقترح على شكيب تعاونا تونسيا–روسيا ولكن مرّت سنة دون أن يحصل جديد.

في ماي 2014، اتصل كريم بشكيب بالهاتف. تحدث الرجلان حول فكرة التعاون ولكن لم يحددا أي موعد. أخيرا، وفي جانفي 2015، إلتقى كريم وشكيب في فندق لتناول الشراب.

طلب التونسي من كريم أن يخبره بما ينوي فعله فيما يخص تعاونهما، وفق ما وعده، ولكن هذا الأخير كان مهتما أكثر بوظيفة شكيب في بلدية المنزه لأن لديه مشكل، فهو يريد أن يعرف كيف يمكن أن يسجّل ولادة بعد تجاوز الأجل القانوني المحدد بعشرة أيام. أراد أيضا أن يعرف إذا كانت هناك إحصائيات تخص الولادات والوفيات في الدائرة الإدارية التي يشتغل فيها. وبالصدفة كان شكيب يشتغل على هذا النوع من المعلومات في إطار الإعداد لخمسينية البلدية. فوعد كريم بأن يسلمه الوثيقة اللازمة.

خلال جلسة الإستماع إليها في جويلية 2015، بيّنت رئيسة البلدية أن بلدية المنزه تم إحداثها سنة 1979، بالتالي فإن "خمسينيتها ستكون سنة 2029!"، كما أكّدت أنها لم تكن على علم بالإستعدادات، خلافا لما صرّح به شكيب.

في أفريل 2015، إلتقى شكيب وكريم للمرة الأخيرة. قدّم الموظف لصديقه دفترا عائليا فارغا كان قد طلبه منه، فلم يرَ التونسي مانعا من توفيره له. لكنه رفض أن يمدّه بالختم الذي يوضع على الوثائق حتى تكون مطابقة للأصل.

بالتوازي مع ذلك حرص على أن يغادر سريعا حتى لا يفوّت عيد ميلاد إبنته. إقترح عليه كريم أن يوصله إلى بيته وأهداه شكولاطة ومعكرونة إيطالية وكبد البط من أجل أن يُسعد إبنته. فلم ير شكيب مانعا من قبول هذه الهدايا. اتفقا على أن يلتقيا أخيرا يوم 18 ماي ولكن تم ايقاف التونسي بعد ذلك بثلاثة أيام. لماذا كانت مواعيد اللقاءات تُحدد مسبقا؟ "كان ذلك تحسبا لعدم إمكانية التواصل هاتفيا"، يوضح شكيب الذي لم يكن يريد سوى تنظيم تظاهرة ثقافية تونسية-روسية.

ظهر ميخائيل ساليكوف لأول مرة في 2010، في بلدية باب سويقة، ثم اختفى عن الأنظار في بداية صائفة 2013. ربط علاقات قوية مع سامية ومراد ولكنه لم ير شكيب سوى مرة واحدة، بحضور كريم. ولم يلتق أبدا إحسان. 

رسميا، يعمل ميخالوف ديبلوماسيا في السفارة الروسية ولم يتم جمع سوى القليل من المعلومات عنه. قبل أن يختفي عن الأنظار، كان ميخائيل يقدّم في كل مرة كريم إلى الأشخاص المستهدفين بعملية الجوسسة. مهّد الطريق لمعوّضه مع سامية ومراد ليحصل من خلالهما على الوثائق الي يريدها.

ظهر كيامران راسيم أوغلي راجيموف في 2013، وخلافا لميخائيل كان يتحدث العربية ولا يعطي أبدا إسمه الحقيقي. كان يسمي نفسه كريم إبراهيم. في مستوى علاقته بكلّ من سامية ومراد، فانّ إهتمامه كان منصبّا على هويتين تحديدا: مريم ابن إدريس، إمرأة مسجلة بباب سويقة ولكنها غير موجودة أصلا وأوريون دوبون، ميت-حي مسجل ببنزرت.

يوم 16 ماي 2015، أعطته سامية موعدا لستعيد منه سجلين كانت جلبتهما له في السابق. أمام كنيسة بنزرت، كان كريم ينتظر ممسكا بمحفظة في يده. ولكن أعوان الشرطة الذين كانوا يرافقون سامية، بعد أن قبضوا عليها في اليوم السابق، اقتربوا منه وأخذوه إلى مركز الشرطة.

خلال جلسة الإستماع إليه في وحدة مكافحة الإجرام بتونس، أكّد كريم الأفعال التي نسبت إليه من قبل الشرطة : هل طلبت من سامية هذه الوثيقة؟ نعم. هل أعطيت مالا لمراد؟ نعم. هل تملك هذا السجل؟ نعم. ولكن عندما يُطرح عليه السؤال فيما يخص أسباب أفعاله، كانت إجابته دائما هي نفسها: "أرفض أن أجيب عن هذا السؤال".

لم يدم التحقيق طويلا، فقد أخبر كريم المحققين بصفته الديبلوماسية. قبل إطلاق سراحه، أخذته الشرطة إلى محل سكناه لتفتيشه. وجد الأعوان هناك العديد من الوثائق المتعلقة بالحالة المدنية : شهادات وفاة وميلاد وزواج وشهادات خاصة بالموتى-الأحياء. ولكن كريم لم يكن يخشى العقوبة لأنه يتمتع بالحصانة الممنوحة للدبلوماسيين. اختفى بدوره. وكان على السفارة الروسية في تونس أن تبلغ صاحب الشقة التي كان يقطن فيها برحيله.

يشتغل قيس بوزارة العدل كاتب محكمة. في أحد الأيام من سنة 2014، ذهب إلى ضاحية المرسى وجلس وحيدا في مقهى ليشاهد مباراة كرة قدم يشارك فيها فريقه المفضل. هناك ظهر له كريم وطلب الإذن بالجلوس معه في نفس الطاولة.

أثناء الحديث، أبلغ كريم قيس بأنه سبق وأن رآه في وزارة العدل وطلب منه مساعدته، لأنه يريد معرفة ماهي الوثائق اللازمة للحصول على الجنسية التونسية.

إلتقى الرجلان في الأسبوع الموالي، في يوم كانت فيه مباراة كرة قدم. إدّعى كريم أنه من أصل تونسي ولكنه عاش في لبنان وهو ما يفسر لكنته. كان قيس منزعجا يومها لأنه أضاع هاتفه.

بعد شهر، إلتقى قيس كريم مرة أخرى ولكن هذا الأخير لم يأت فارغ اليدين، حيث أهدى صديقه التونسي هاتفا جديدا. قبل قيس الهدية "باسم الصداقة" وأهداه في المقابل قارورة من زيت الزيتون.

كان آخر لقاء بين الموظف التونسي والجاسوس الروسي في مارس 2015، حسب ما توثّقه محاضر فرقة مكافحة الإجرام. إجمالا، إلتقى الرجلان مرتين. في محضر جلسة آخر، أكّد أعوان الشرطة أنه لم يكن هناك شيء مريب وقرروا إخلاء سبيل قيس دون القيام بتحريات إضافية.

"كيف يمكن تبرئة ذمة موظف في وزارة العدل بهذه السرعة؟"، تتساءل إيمان البجاوي، محامية أحد المتهمين، والتي تشكّ بأن هناك تواطؤا بين كاتب المحكمة والشرطة. أبلغت ذلك إلى قاضي التحقيق، ولكن لم يتم ايقاف على قيس.

كشف الملف القضائي عن وجود ثغرات أخرى. شخص آخر لم يتم استدعاؤه رغم أن شهادته حاسمة وكانت ستخفف أو ستؤكد الأحكام ضد مراد. إنها آمال (رئيسة مصلحة ببلدية باب سويقة)، وهي إحدى الموظفات التي طلب منها مراد أن تضيف شهادة ميلاد في المنظومة المعلوماتية، باسم مريم ابن إدريس. لا توجد هوية هذه المرأة إلا على سجل الولادات وقد تم اختلاقها من قبل الجاسوسين الروسيين ومعاونيهما.

في هذا الصدد، تؤكد حفيظة مديمة، مسؤولة في بلدية تونس، أنه لابد من قرار قضائي لإضافة شهادة ميلاد تعود إلى 1986، (ونفس الشيء بالنسبة الى الوصول إلى السجلات). لم يلتزم مراد بهذه الإجراءات. كما أكّد موظفوا نفس البلدية بأن هناك ثغرة في منظومة السلامة المعلوماتية. فكلمة العبور التي تمكن من الوصول إلى قاعدة البيانات لا تعطى عادة إلا بصفة شخصية، إلا أنه تم إعطاؤها لموظفين آخرين ومنهم مراد، وذلك إستجابة لطلبه.

"تم فرض عقوبات إدارية على الموظفين، فهم أيضا مسؤولون وممنوع منعا باتا الكشف عن كلمة العبور"، تؤكد حفيظة مديمة. إلا أنه لم يُؤخذ أي إجراء إضافي للسلامة، بعدما تم الكشف عن قضية التجسس.

تبيّن أخيرا أن شهادات متهمين اثنين على الأقل، وهما مراد وإحسان، قد تغيرت، فالأقوال المدونة من قبل فرقة مكافحة الإجرام، دون حضور المحامين، تختلف عن تلك التي تم الإدلاء بها أمام حاكم التحقيق. أكّد مراد للقاضي أنه تعرّض لضغوطات وتهديدات عند تقديم شهادته في المرة الأولى. اما إحسان فقد إتهم أعوان الشرطة بتعذيبه عبر تقييده وضربه عديد المرات. في حين يؤكد سفيان السليطي، الناطق الرسمي باسم النيابة العمومية في تونس أنه "لم تبلغه أي شكاية في الغرض".

في الملف القضائي، لا يوجد ما يفسر كيف تم الكشف عن هذه الشبكة. كما لم تُعلن السلطات التونسية شيئا عن هذا الموضوع. من الجانب الروسي، أكّد السكريتير الثالث لسفارة روسيا في تونس أن "لا علم له بالموضوع" فقد جاء إلى تونس بعد رحيل زميليه، ميخائيل و"كريم". من الواضح أنّه في مكتب الأساطير، تُخفى الأسرار بشكل جيد.