"منذ عدّة أيّام، أُحيطت الحكومة علماً بأنّ أحد كبار مشائخ جامع الزيتونة انخرط في دعاية معادية للأجانب وخطيرة للغاية. هذا الشيخ الذي ما فتئ يجمع أتباعه المسلمين، تارة في قاعة منضوية في الجامع وتارة أخرى في منازل أصدقائه، يلقي خطباً تتضمّن عداوة صريحة للمسيحيّين [...]. إنّها التّعاليم من هذا القبيل هي التي أنتجت أشباه مؤذّن صفاقس."
رغم أنّها جُمعت معاً في الصحافة وفي وثائق الأرشيف، إلّا أن واقعتيْ صفاقس وتونس ليستا مرتبطتين بشكل ملموس. هذان الرّجلان لا يعرفان بعضهما البعض ولا يوجد دليل واحد في سجلّهما المشترك يدعم فرضيّة كونهما يقودان نضالاً نشطاً ضدّ السلطة الإستعماريّة.
تونسيّ يُحرّض على "كراهيّة الأوروبيّين"
على عكس هذه الصورة التي شكلتها الصحافة والتي ترسم ملامح داعية خطِر، إلّا أنّ المشتبه به في تونس ليس أصلاً من مشايخ جامع الزيتونة: "التونسي الذي تم الإبلاغ عن تحريضه على كراهية الأوروبيين هو محمود العبيدي، تونسي وعدل إشهاد في الحلفاوين. هذا الرجل يلقي كذلك دروسا في مسجد صاحب الطّابع بالحلفاوين".
عدا عن ذلك، فإنّ هذا الرجل لا يُعتدّ بتأثيره داخل الجامع: "محمود العبيدي الذي كان يُعتبر أعجف العقل لم يكن يُؤخذ مأخذ الجدّ من قبل أقرانه المسلمين. منذ بضعة سنوات مضت، وفي ربوع جامع الزيتونة، صفع هذا الرجل نجل القاضي." وختاماً، لم يكن يلقي دروساً حيثما شاء كما زعمت الصحف: "لم يكن محمود العبيدي يلقي خطبه الدّاعية للعصيان في الساحات العامة، ولا في المقاهي الشعبية، ولكن فقط في ربوع جامع الحلفاوين" (مقتطف من تقرير مصلحة الأمن العام، 16 أوت 1913).
في البدء، جذب محمود العبيدي الانتباه لأوّل مرّة بسبب سلوك شائن مع رؤسائه حيث تمّ تعويضه بأستاذ آخر في الجامع نظرا لكثرة تغيّبه. ورغم ذلك، لم يتوانَ عن تجميع طلبته ما أدّى بدوره إلى حدوث مشاجرة مع معوّضه. خلاف خُتم حسبما يُزعم بصفع العبيدي لغريمه. "اضطر شيخ الإسلام للتدخل ومنعه من التدريس مجدّدا. تمرّد العبيدي وأجهر أنّ 'شيخ الإسلام ليس مسلماً صالحاً'[...]" (تقرير طبيّ بتاريخ 28 أوت).
ولكن ما وضعه فعلا تحت طائلة المراقبة ومن ثمّ الإيقاف كانت مهاجمته لـ"الرّوامة" التي تجاوزت بكثير مجرّد انتقاداته لـ"المحلّيّين". ذلك ما نبّه إليه تقرير الأمن العام لـ16 أوت حيث بيّن أنّ العبيدي طوّر "أفكاراً تخريبية تستند على أنّ وحدة المسلمين ستمكنهم من هزم كلّ الرّوامة".
"كانت هجماته على السلطات الدينية للمحلّيّين قد ألزمته بالفعل بتعليق مواعظه، ولكنه تغاضى عن ذلك وواصل في دعوة طلبته بالجامع الكبير لكراهية السلطات العليا للحماية، والتحريض على قتل المراقبين المدنيّين والمستعمرين. حين علمت الحكومة بمواقفه، كان شيخ المدينة قد أوقفه وبادر باستجوابه. ثمّ أرسل تقريرا خلص فيه إلى أنّ محمود العبيدي مذنب وأنّه قد اعترف بكلّ ما اتُّهم به. ومع ذلك، حتّى تؤمّن كلّ الضمانات اللّازمة، قامت الحكومة [...] بعرضه على طبيب بالمستشفى الفرنسي وطبيب آخر من التونسيين [...]. استنتج كلاهما أنّ هذا المتّهم له أن يتحمّل مسؤوليّته كاملة." (رسالة من المندوب العامّ إلى وزير الخارجية، 15 سبتمبر 1913).
"نزعة معادية للمجتمع"
في 28 أوت، هدف تقرير طبيّ مفصّل إلى إثبات أنّ العبيدي ليس مجنونا وأنّه قد نطق عن وعي تلك الأقوال المُدانة. كتب هذا التقرير طبيبان، أوّلهما فرنسي بالمستشفى المدني الفرنسي بتونس وآخر تونسي يُدعى بوحاجب²، ويعمل كطبيب مفوّض بالمستشفى الصادقي، على إثر "فحص عقلي" للمعتقل.
يستفتح التقرير بهذه الكلمات: محمود العبيدي متهم بإبداء تصريحات مثيرة للفتنة بالجامع الكبير ضدّ الحكومة، وضدّ بعض المسؤولين وضدّ شيخ الإسلام." وكان الطبيبان قد التقيا محمود العبيدي مرّتين وحاولا دفعه للحديث في هذا الشأن.
خلال الفحص الأول، "كان المتّهم شديد الإسهاب ورصيناً للغاية في إجابته فيما يتعلّق بتصريحاته، كما صرّح بطريقة بسيطة نوعا ما أنّه لم يقل شيئا سيّئا وأنّه التزم بإلقاء مواعظ دينيّة فحسب." ونفى أن يكون قد أدلى بـ"تصريحات ضدّ الرّوامة، قائلا أنّه يعيش معهم" وأنّه يراود الكنيسة الكاثوليكية بباب الخضراء "لسماع الموسيقى". ومع ذلك، ليس من الواضح إن كانت ردود العبيدي تكشف فعلا عن تفكيره أم أنّها استراتيجيّة اتّخذها لحماية نفسه في سياق استعماريّ وطوق بوليسي تُجابه فيه الانتقادات الموجّهة للسياسة الفرنسية بالقمع الشديد.
أثناء الفحص الثاني، استجوب الطبيبان المتّهم مجدّدا و "بحوزتهما الشهادات والتصريحات المسجّلة في الملفّ"، ليخلصا في نهاية المطاف إلى أنّ "ذاكرته لازالت حاملة لتلك التصريحات المُدانة، غير أنّه سعى ببساطة إلى التهرّب من هذه النقطة المحرجة خلال التحقيق."
أردف التحقيق لاحقا بتحليل لتصرّفاته وصحّته الجسديّة :
"المتهم، ذو 37 سنة، فارع الطول، نحيف، أسمر البشرة، ويبدو أنّه يتمتّع بصحّة جسديّة جيّدة، ما يعاضد بدوره استخلاصات الفحص. لقد أذهلنا عدم تناسق واضح إلى حد ما في وجهه، ولكن لا أهمية تذكر لهذا، ذلك أننا لم نلاحظ أي أثر لشوائب عضويّة أخرى. الهيئة جيّدة ولكن النظافة الشخصيّة مشكوك فيها [...]. يبدو ذكيّا للغاية، كما أثبت الاستجواب أنّ مداركه العقلية تعمل بكامل تطوّرها [:] [...] ملكة الإنتباه شديدة [...] الذاكرة مثالية [...]. صاحب عقل مثقّف، معتاد على العمليات الفكريّة الأكثر دقّة [...]. من ناحية أخرى، تبدو أحاسيسه العاطفيّة فجّة وغير طبيعية بعض الشيء."
فضلا عن مقاربة تستصغره، سعى التقرير إلى رسم صورة محمود العبيدي كشخص غير طبيعي :
"من أبرز سمات شخصيّة محمود العبيدي هي أنّه منعزل [...]. كما أنّه يلوم والديه على جلبه للعالم 'لا أدري لماذا خُلقت، ولم تُكتب لي السعادة أبداً' [...]. خلع زوجته [...] لأنّه لا جدوى من إنجاب أطفال 'مقدّر لهم المعاناة على الأرض كسائر البشر' [...]"
يفيض النص بتعابير تهدف إلى إبراز الجانب الهامشيّ والغريب لمحمود العبيدي: "مزاج يميل لكره البشر والانعزال"، "ردود فعل معادية للمجتمع"، "كراهية متشائمة". يقوم هذا النص تدريجيا برسم ملامح رجل منعزل وغريب لأنّه ينطق بعبارات من قبيل "المخلوق غير كامل، لا يوجد شيء جميل سوى الطبيعة". عدا عن كونه منفردا، يبدو أنّ المتهم تسكنه "عقيدة تملكه وتملي عليه حياته برمّتها [...]. لا يخالط الطرق الصوفية لأنّ 'روحه هي طريقته' [...]". من جهة أخرى، لعبت تنقّلاته دورا في بناء القراءة هذه، حيث تمّ ربط سفرة محمود العبيدي إلى القاهرة منذ بضع سنوات بالشرود النفسي : "لقد عاد محبطاً واستمرّ في رحلة تشرّده المتشائم".
لم يستثنِ هذا "الفحص العقلي" ما يستهلكه محمود العبيدي، حيث أكّد الطبيبان أنّه يدخّن القنّب الهندي : "إنّه يدخّن مادّة الشيرة [سُطّرت العبارة في النصّ] منذ كان يبلغ 17 سنة [...]. تحفّز هذه المادّة الأحلام ولكنّها تقود جزئيّا إلى اللّامبالاة وفقدان الإرادة [...]. إستهلاك الشيرة أخمد لديه نوعا ما قابليّته للتفاعل الإجتماعي وعزيمته".
في ضوء كلّ هذه الملاحظات، خلص الطبيبان إلى ما يلي :
"لا شكّ أن قصّة حياته هذه تعكس هذا التشويه الأخلاقي والفلسفي وتفسّر الأحداث التي أدّت إلى اعتقاله [...]. لا نلحظ أي سمات مميّزة أخرى في شخصيّته، ولا أي شذوذ عقلي آخر [...]. يجب اعتبار محمود العبيدي كصبيّ ذكيّ ومثقّف ومدرك تماما. له شخصيّة غير طبيعيّة، وهو منعزل ومغرور إلى حدّ ما، بعد أن استمدّ من تعليمه الديني المكثّف تشويها فلسفياّ أدّى به إلى كره البشر، ونجمت عنه خصاصة في الأحاسيس العاطفيّة وميول معادية للمجتمع [...]".
بعد أنّ تمّ اعتباره كـ"صبيّ" في حين يبلغ 37 سنة، وعلى إثر تحليله من جميع الزوايا وفحصه استناداً لأحكام قيميّة، بان محمود العبيدي في التقرير كضحيّة لنفسه، حيث قام بأفعال "ناتجة عن عدم استقامة حياته". ومع ذلك، استنتج الخبيران أن المشتبه به صرّح بالفعل بـ"أقوال تحرّض على العصيان وعليه أن يتحمّل مسؤوليّتها بالكامل" لأنّه "لا يوجد فيه عيب أو مرض عقلي، بالمعنى الدقيق للكلمة، بل مجرّد تنافر مسّ من مداركه."
وهكذا، ورغم أنّ التقرير لم يثبت كراهيّة موجّهة بشكل خاصّ للفرنسيين·ـات ("بالعودة إلى موضوعه المفضّل، يضيف: 'علاوة على ذلك، الحياة غير كاملة ولا شيء يسعدني هنا، لا المسيحيون ولا المسلمون، لا فرق بينهم، كلّهم تعساء' [...]") وإلى جانب ما اتُّهم به تارة من عداء للأجانب وأخرى بعدم الإنصياع، تمّ توقيف محمود العبيدي يوم 18 أوت بأمر من شيخ المدينة وسُجن على الفور بالسجن المدني.
خلال اعتقاله، وجد أعوان الشرطة في منزله كتباً عن اللّاهوت وتأمّلات سياسيّة حول إحياء الدول الإسلاميّة (مستوحاة من النهضة العربيّة في القرن 19). أحد مؤلّفي هذه الكتب هو المصلح القومي المصري عبد العزيز جاويش (1876-1929). على الغلاف الخلفيّ لهذا الكتاب الذي نُشر في القسطنطينيّة في ذلك الوقت، ذكر محرّره التونسي بشير الفورتي (1884-1954) صدور كتاب جديد تحت عنوان : فضائع وفضائح الاحتلال الفرنسي في شمال إفريقيا.
الكتب التي وُجدت بحوزة محمود العبيدي خلال اعتقاله، الأرشيف الوطني بتونس، سلسلة E، الصندوق 550، الملفّ 30/15، عدد 287.
يوم 6 سبتمبر، فُصل محمود العبيدي من وظيفته كعدل إشهاد وشُطب من قائمة أساتذة الجامع ثم حُكم عليه بالسجن ثلاثة أشهر بتهمة "الإشهار بأقوال من شأنها الإخلال بالسكون العامّ". قضّى المسجون عقوبته قبل أن يغادر العاصمة قاصداً قفصة. لكن ما لبث أن التحق به ماضيه.
ملصقات "معادية لفرنسا"
بعد مُضيّ عام وبضعة أشهر، تحديدا في فيفري من سنة 1915، جذب محمود العبيدي مرّة أخرى اهتمام المخابرات، التي اشتبهت في كونه قام بلصق منشورات مناهضة للاستعمار على جدران جامع الزيتونة.
أشارت مذكّرة صادرة عن شيخ المدينة مصطفى الدنقزلي مؤرّخة في 18 فيفري وموجّهة إلى الأمين العامّ للحكومة التونسيّة، إلى أنّ "الملصقات المثبتة على جدران صحن الجامع الكبير والتي تحمل عبارات معادية لفرنسا" ترفع شكوكا مشابهة لقضيّة محمود العبيدي. يقول شيخ المدينة في المذكرة: "ذكّرتني بعض العبارات التي تحملها الملصقة بتلك التي صرّح بها محمود العبيدي أثناء استجوابي له". وجدت هذه الذكرى سنداً لها في معلومة أخرى تناهت لمسامع شيخ المدينة ألا وهي "العبيدي عاد من الجريد إلى تونس [...]، صدفة أقلّ ما يُقال عنها مثيرة للفضول".
ولّدت هذه العودة إلى تونس العاصمة رقابة متزايدة على تنقّلات المحتجز السابق وكشفت عن عمل متقن من جانب المخبرين، لخّصه المفوّض الخاصّ كلابير في تقارير مؤرّخة في 2 و3 مارس 1915 :
"لاحظنا أن العبيدي [...] قد تغيّر من الناحيتين المعنوية والجسديّة. أصبح وسخا مطلقاً للّحية. كما أنّه انغمس كثيرا في استهلاك الشيرة في مقهى شعبي ببطحة المركاض، وفي آخر يقع بنهج المرّ وكذلك في مقام سيدي بلحسن [...]. حاليّا، يعيش بين المقاهي وهو بدون مأوى قارّ." (2 مارس 1915)
"لقد قضّى 3 ليالِِ في مكتب عمّه، المسمّى محمّد الكافي، القاضي السابق، في مقرّه الواقع بعدد 81 نهج المرّ. قبالته، يوجد حانوت تحت ملك محمّد الدزيري والد حسّان الدزيري، كاتب الوكيل [...]، والذي صدرت في شأنه عدّة ملاحظات من المصالح التي أشرف عليها. [...] والذي اشتُبه مؤخّرا في كونه كتب مطويّة بعنوان سقوط باريس" (3 مارس 1915)
هذه النبرة الحازمة ودقّة التفاصيل الواردة تبيّن إلى أيّ مدى يتلقّى المفوّضون ومديرو الأمن مختلف المعلومات بطمأنينة وثقة. عدا عن ذلك، فإنّ أجهزة الاستخبارات تعتمد على نظام لاستقاء المعلومات يقوم على الروابط العائليّة والتشكيلات التي تصطنعها. هذا النظام يعمل من خلال ربط الأفراد ببعضهم·ـن البعض، وإثارة الشكوك حول كلّ شخص مرتبط بشكل مباشر أو غير مباشر، في الماضي أو الحاضر، بالمشتبه به·ـا الأصليّ·ـة. هكذا، يحوم حول الفرد المتّهم طيف لا متناه من المشتبه بهم وبهنّ.
في هذا السياق، سلطت التقارير الضوء على العلاقات الاجتماعيّة المرتبطة بالقضيّة :
"بين المحرّضين المعروفين الذين كان يراودهم، نخصّ بالذكر عبد العزيز الثعالبي و [...] الصادق زمرلي. على إثر أحداث الجلّاز، في إحدى الأمسيات على شرفة مقهى الكازينو، أجهر بتصاريح معادية لفرنسا"
"كان قد أحيا علاقات قديمة مع عدد من الطلبة الذين فُتح في شأنهم تحقيق لاشتباهنا في كونهم اضطلعوا بتلصيق منشورات تحرّض على التمرّد"
...دون أن تتوانى التقارير عن التذكير بقضيّة 1913، مؤجّجة بذلك الشكوك :
"يُزعم أنّه صرّح، أمام الملأ في الجامع الكبير، أنّه من الضروري قتل كلّ المستعمرين والمسؤولين الكبار الفرنسيّين لأن الإسلام سيذود عن المسلمين ضدّ الكفّار"
"كان يحرّض مستمعيه على كره السلطات العليا للحماية وعلى قتل المراقبين المدنيّين والمستعمرين"
ورغم غياب أيّ دليل يعاضد هذه النظريّة القائلة بأنّ محمود العبيدي قد ألصق ملصقات معادية على جدران جامع الزيتونة، الأمر الذي اعترف به شيخ المدينة في تقريره ("كونه لم يقم بعمل شائن إلى حد الساعة [...])، والذي ردّد صداه تقرير المفوّض الخاصّ ("فيما يتعلّق بالملصقات في الجامع الكبير، لم تُتح لنا أيّة معلومة ضدّ هذا الفرد")، واصلت الحكومة تحقيقها. تحقيق تجاوز المدة الضئيلة التي قضاها المسجون السابق في تونس لدى عودته. حسب ما ورد في رسالة للمراقب المدني بقفصة يوم 4 مارس 1915، تبدو هذه المدّة القصيرة "قد تزامنت تماما مع التحرّكات الطفيفة التي لوحظت لدى طلبة الجامع الكبير".
"من المؤكّد أنّه العبيدي"
في طيّ الرسالة المبعوثة إلى المراقب المدني بقفصة يوم 4 مارس، لنا أن نقرأ أنّه" وفقا للمعلومات المستقاة من مصادرنا، فإنّ تونسيّا مشبوها [...] يخضع لمراقبة خاصّة [...] غادر تونس قبل أيام قليلة للذهاب إلى قفصة حيث تمّ توظيفه من قبل القائد [...] كمدرّس." تبعاً لهذا، أمر المقيم العامّ بفتح تحقيق في شأن محمود الماطري في قفصة : "الرجاء الشروع على وجه السرعة في تحقيق سريّ وشخصيّ".
بالإضافة إلى مزيد من التحقيق المعمّق، وتجاوزاً للمقاربة الحذرة، يبدو هذا الطلب كرغبة في القبض على عدل الإشهاد السابق: "في حال تأكيد وجوده في هذه المدينة، يجب القبض عليه دون تأخير وأن تتم مرافقته في قافلة المساجين إلى قسم الدولة".
لكن محمود العبيدي لم يعد أبداً إلى قفصة المدينة التي أقام ودرّس بها بعد الإفراج عنه في 1913. كما يُقال إنه غادر إلى تونس العاصمة في أوائل شهر فيفري دون رجعة. وأكّدت ذلك برقيّة من طرف المراقب المدني للمدينة مؤرخة في 8 مارس، كما كشفت عن دلائل لمعاضدة جهود الشرطة لاقتفاء أثر المشتبه به: "منذ مغادرته، أرسل بعض الرّسائل إلى عدد من طلبته [...]. إحداها تمّ إرسالها من مكتب البريد في صفاقس [...]. أعلن المُرسل مغادرته إلى تونس وعنوانه الجديد في [...] سوق الخميس." بعد ساعات قليلة، بعث المراقب المدني برقيّة جديدة تحتوي على معلومات إضافيّة: "شوهد اليوم ظرف رسالة مُرسلة من محمود الماطري من مكتب محطة المرجة خير الدين يوم 19 فيفري الماضي".
وهكذا فإن كل شيء يشير إلى أنه بعد إقامته القصيرة في تونس، لم يعد محمود العبيدي إلى قفصة، بل غادر إلى سوق الخميس [حاليّا بوسالم]، حيث تمتلك الشرطة هناك أيضا معلومات عنه. حيث أفادت مذكّرة من المفوض كلابير في 9 مارس أن هذا الرجل -المفتّش عنه دون علمه - "لا شكّ أنّه حذو عائلة زوجته في أولاد بو سالم (سوق الخميس)".
في 9 مارس، ظهرت معلومات جديدة بطريقة أقل ما يُقال عنها مفاجئة. في مذكّرة إلى الأمين العام للحكومة الفرنسية في تونس، تمّ إعلامه فيها بأنّ مخبراً أفاد بواسطة موظّف في الجامع الكبير "قال في يوم 5 من الشهر الحالي في إحدى المقاهي أنّ العبيدي دون شكّ هو الذي حرّر وثبّت الملصقات التي وُجدت على أبواب الجامع الكبير. هذا الأخير تواجد في تونس منذ بضعة أيام، وغادرها من 3 أو 4 ايام بعد اكتشاف الملصقات".
وفي 17 مارس انتقل كبير مفوضي الشرطة إلى سوق الخميس من أجل اقتفاء أثره، لكنه عاد دون نتيجة. أخيرا، في 8 أفريل، تمّ القبض على محمود العبيدي، من قبل العون بشير بوخريص الملحق بمصلحة المفوض كلابير، في تونس العاصمة التي قصدها مشيا على الأقدام مع "منتصف النهار، برحبة الغنم، في مقهى شعبي حيث كان نائماً".
وثيقة تتعلق بالقبض على وسجن محمود العبيدي. الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة E، صندوق 550، ملف 30/15، رقم 287.
السجن : البقية والختام
هذا الاعتقال أشبه ما يكون بأمر شوهد من قبل، أي حكم ثان بالسجن جاء ليتمّم حكما آخر غير كاف في أعين السلطات. من غير الواضح ما إذا كانت هذه الشراسة ضدّ محمود العبيدي نابعة عن رغبة في العثور على الجاني بسرعة وإغلاق القضية، أم عن رغبة في حبسه مرة أخرى.
"تم تفتيش محمود العبيدي المتورّط في هذه القضيّة واعتقاله من قبل مصالحنا في 8 أفريل لوضعه تحت تصرف السلطات العسكرية. بسبب سوابقه العدلية وتأثيره الخطير على طلاب الجامع الكبير، أدعوكم إلى توجيه طلب إلى الجنرال قائد قسم الاحتلال لتسجيله في سجلّ ³B، حتّى يتسنّى لنا إبقائه تحت مراقبة السلطة العسكرية إلى حين انتهاء العداءات" (مذكرة أمنية من قسم الدولة، 2 جوان 1915).
بطاقة إيداع بالسجن لمحمود العبيدي. الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة E، صندوق 550، ملف 30/15، رقم 287.
هذه الصرامة في التعامل مع محمود العبيدي لا تدع مجالًا للتفكير في العواقب المادية التي نجمت عن فقدانه لوظيفته وتبعت المدة الأولى التي قضاها بالسجن. على العكس من ذلك، يُنظر إلى حقيقة أنه ليس لديه منزل قار وإلى هيئته الجسديّة المتدهورة كدليل على تشرّده، ما أدّى به خلف القضبان مجدّدا. وفي سياق حرب عالميّة أولى، لم يكن للمسجون أدنى فكرة عن موعد الإفراج عنه.
تؤكّد هذه القضية صعوبة المقاومة في إطار استعماري قائم على الاستخبارات وتعاون العملاء "المحلّيّين" وقمع التحركات المعارضة. حيث يتحوّل مجرّد انتقاد الهيمنة الاستعماريّة إلى "عداء للأجانب"، لتتموضع السلط في موضع الضحيّة، في حين تـ·يجد من هم·ـن تحتها، أنفسهم·ـن، في مقام الجلّاد.
في أكتوبر 1917، أشارت مذكّرة تتعلّق بأتباع محمود العبيدي الذين زُعم أنّهم انخرطوا في "التشهير بفرنسا" بإيجاز إلى أنه قد مات في السجن. ثم تعدّد قائمة الطلاب الذين ورثوا عنه الشبهة، والذين حملوا عنه الشعلة ليصبحوا هم بدورهم "مشتبهاً بهم" من بعده.
1"انتشرت العديد من الإشاعات القائلة بأن البلدية [الواقعة تحت سيطرة فرنسا] قد تحاول مصادرة ما لا يُقبل بأي حال من الأحوال التصرف فيه. أكثر هذه الإشاعات انتشارا، كانت أن البلدية أرادت تسجيل الأرض [مقبرة جلاز، على الرغم من كونها أرض حبوس] من أجل
تحضير جزء منها لمرور خط الترام [...] أدّت المعلومات المغلوطة والتي رافقها سوء إدارة الحشود من قبل الشرطة إلى اشتباكات عنيفة بين المتظاهرين التونسيين والسلطات الفرنسية". ماري ديوهورست لويس، الحكم المنقسم: السيادة والإمبراطورية في تونس الفرنسية، 1881-1938،
مطبعة جامعة كاليفورنيا، 2014، ص. 141 [ترجمة شخصية من الإنجليزية].
2الاسم لا يظهر في ملف الأرشيف، لكنه على الأرجح حسين بوحاجب (1872 - 1946)، طبيب ومربي، نجل المصلح سالم بوحاجب.
3لمزيد من المعلومات حول تسجيل "المشتبه بهم·ـن" و "سجل B" في فرنسا تحت الجمهورية الثالثة، اطلع·ـي على جون بيار ديشودت، "الدليل بالبطاقة B"، كراسات مركز البحوث التاريخية، عدد 45، ص. 181-193،
الرابط متوفّر هنا. [بالفرنسية]