عند دخولك لساحة قصر العدالة، مرورا بنقطة التّفتيش الأمني، لك الاختيار أن تمرّر محتويات محفظتك -أوْ لا- عبر آلة الأشعّة ما تحت الحمراء. آلة من المفترض أن تكون تحت رقابة شرطيّ شابّ، منغمس أغلب الوقت في شاشة هاتفه أو في نقاشات جانبيّة مع زميله.
في الداخل يتجلّى مبنى فخم بأسلوب مستوحى من الفنون الجميلة والتّيار المُستعرب آرابيزانس، تمّ إنشاؤه سنة 1900 من قبل المعماريّ الفرنسيّ جون إيميل ريسبلاندي الذي استورد تيّار "الفنّ الجديد" إلى تونس. هناك، يجد المرء نفسه أمام درج مهيب يقود إلى الطّابق الأوّل. بضع خطوات على يسار الدّرج تكفي لتلقينا داخل رواق يضجّ بالضّوضاء، حيث يبدو الموظّفون·ـات عالقين في الأعراف إلى الأبد شأنهم شأن ركام الأرشيفات.
على بعد بضع أمتار أخرى، تواجهنا قاعة الجلسات رقم 6. بين ألواح هذه القاعة البالية يُنظر كلّ يومي ثلاثاء وجمعة في قضايا الإرهاب، علما أنّ هذه الأمتار المربّعة القليلة، يُعقد فيها أحد أكبر عدد من محاكمات قضايا الإرهاب في العالم. 4572 قضيّة تمّ النّظر فيها بين سبتمبر 2015 و جوان 2018، لتسفر عن سجن 1804 محكوم·ـة.

أَدخِلوا المتّهمين·ـات !

القاضي' س' هو أحد القضاة المكلّفين بملفات مكافحة الإرهاب، عيّن في قطب مكافحة الإرهاب في تونس. طلب عدم الكشف عن هويته لأسباب أمنية.
خلال هذين اليومين، وكما هو الحال كلّ أسبوع، يتكرّر نفس المشهد دائما وبنفس الشّكل. عائلات غالبا ما تكون قد قطعت رحلة مضنية لرؤية ابنها أو ابنتها، أخيها أو أختها المتّهمين·ـات، منتظرة بصبر رؤية وجه من تحبّ. المقاعد الضّيّقة ممتلئة والأجساد تلتصق أكثر فاكثر مع كل قادم·ـة جديد·ة. في الصّف الأوّل من المقاعد، قبالة المكاتب البالية، يقوم عدد من المحامين·ـات بسحب مجلّدات سميكة من الملفّات، ويتوالَون على الدّخول والخروج.
تصدر الأبواب صريرا ثم تُغلق. تأتي هيئة المحكمة مع السّاعة التّاسعة والنّصف عادة. الكاتب على اليسار والمدّعي العامّ على اليمين. وفي الوسط، نجد ثلاثة قضاة من بينهم الرّئيس. فقط الأخير يأخذ الكلمة: يمكن للمتّهمين·ـات الآن الدّخول. وتحت حراسة مشدّدة، يأتي هؤلاء في مجموعات ويصطفّون على المقاعد الشّاغرة المنتظمة في الجزء السّفلي أمام هيئة المحكمة.
المدّعي العام لا ينطق حرفا: عرض التّهم لا يكون علنا ولائحة الاتّهام لا تُقرؤ أمام الجمع. فقط ملفّ القضيّة معروض أمام الرّئيس. قضيّةٌ لا الحضور ولا أحد يعرف عنها شيئا أو ربّما القليل جدّا. فقط المحامون والمحاميات لهم إلمام بالموضوع. هناك شيء غريب آخر جدير بالملاحظة: يُجمع بين المتّهمين·ـات وإن كانوا متورّطين·ـات في قضايا مختلفة.
أثناء جلوسهم الهادئ على المقاعد التي تشبه مقاعد الدّراسة، تحاول الأعين الإلتقاء عبر ضفّتي القاعة. يومئ الأقارب من وراء صفوف المحامين·ـات و يجيب المتّهمون·ـات من الضّفّة الأخرى بابتسامة رصينة كتومة كأنهم يقولون "نعم... نعم... كلّ شيء على ما يرام" بمزيج من الأنفة والسّرور لرؤية وجه مألوف.

جلسات تثير الهيبة في قلوب أكثر الصّحفيّين·ـات بسالةً، ويبدو أنّها أنفذت صبرهم فعلا، حيث أنّني لم أر أيّا منهم على مدار العام.
لم هذا الإحساس بالحزن؟ بداية، شعور بالخُسران لرؤية مئات، بل آلاف من الشّباب و لشّابّات، في عمر الدّراسة وعمر العمل والوقوع في الحبّ، محكوما عليهم بقضاء سنوات شبابهم في زنزانات مظلمة.
بحضور الجلسات الأولى، قد نطمئن أنفسنا بالقول إنّ البعض قد يكون تعثّر في مساره. لكن بعد بضعة مئات من الجلسات ونظرا لحدّة هذه الظّاهرة، نتيقّن أنّ المجتمع الذي ترعرعوا وترعرعن فيه هو الذي يطرح إشكالا.
هل لهؤلاء المتّهمين·ـات وعي بأنّ هذه ليست سوى بداية المحنة؟ سنوات من جحيم السّجن، خمس أو عشر أو يزيد، بسبب توافقهم مع تنظيم الدولة الإسلامية. و بعد ذلك جحيم آخر ينتظرهم عند الخروج، هذا إذا خرجوا وخرجن أصلا. حقا هذا ما يتبادر للذهن خلال ساعات المحاكمة الطّويلة.
يزداد لهذا الشّعور بالخُسران على مدى أشهر المحاكمات الطّويلة، إحساس آخر بأنّ المسؤولين·ـات الحقيقيّين·ـات عن هذه الأزمة ليسو هنا. أين ذهبت رؤوس الجهاد والوهّابيّة في نسختها الحاليّة؟ المنظّرون·ـات لمفهوم "القاعدة" و تجلّياته كـ"جبهة النّصرة"، الوحوش المُلتحية ذوات النّزعة شبه العسكريّة المتطرّفون والمتطرّفات اليمينيّون واليمينيّات؟
لا أحد منهم هنا فالأرستقراطية الجهاديّة تتجنّب عمومًا المحاكمات. معظمهم إما سجناء في الخارج (انظر·ي الحلقة 3)، أو أُعيد توزيعهم في بؤر الحروب، أو قُتلوا أثناء القتال، أو قصفتهم مسيّرات، أو، بالنسبة لقلة قليلة من القادة، فقد وجدوا أنفسهم محاصرين على الأراضي التونسية، يواجهون المحاكمة في نسختها الأشدّ : المحكمة العسكرية.
أولئك الذينيبقون هنا، في معظم الأحيان ليسوا إلّا سكاكين ثانويّة: عائد·ة غير سعيد·ة بتجربته·ـا في منطقة الحرب، أو لم يكن يدرك جيدًا قبل مغادرته أن الرّقة ليست إيبيزا... إضافة إلى عدد قليل من المسلحين·ـات من أنصار الشريعة المحظور منذ عام 2013، و بعض من الخلايا النائمة في أحياء الطّبقة العاملة والداعمين·ـات لها: شخص أحضر هاتفًا أو برميل وقود، أو ألقى خطبة أو حضر في مسجد متطرّف، وأشخاص زاروا صفحة جهادية إلخ ...

يأخذ واحد تلو الآخر·ىموضع المتّهم·ـة. يتعمّد الرّئيس مخاطبتهم بصوت لا يكاد يُسمع. صوت منخفض بما يكفي لألّا يسمعه لا الجمهور... ولا المحامون·ـات، بينما يتشكّى هؤلاء دائمًا من ذلك ويتحدثون عن عرقلة عملهم·ـنّ. ينزعج الرّئيس ولكنّه يواصل طرح بعض الأسئلة، وعيناه مثبتتان على صفحات الملفّ الذي يورّقه بصفة آليًة.
وتتوالى القضايا تباعاً لتُلهينا عن كآبتنا. قضايا فظيعة تتناقض مع بساطة الأشخاص المتورّطين·ـات فيها. قضيّة فاطمة الزّواغي* مثلا، أو قضيّة الهجوم على بلدة بن قردان، أو قضيّة المنيهلة**...
وأحيانًا تصطدم رتابَةَ الجلسات الخطيرة بانزلاقٍ غير متوقع قد يكون مضحكا في بعض الأحيان مثلما حصل حين سأل الرئيس متّهما عن أسباب انخراطه فقال:
"أردت الذّهاب إلى الجنّة"، فتعجّب الرئيس وسأله "و هل وجدتها فعلا؟ إذا كان الأمر كذلك، أعرني المفاتيح أنا أيضا." فيضحك الحاضرون·ـات.
أو كتلك المرّة التي واجه فيها القاضي مقاتلا ضخما، ملتحيا، يزيد عن 120 كغ من العضلات. "لماذا ذهبت إلى سوريا؟" فيجيبه "أردت زيارة الآثار القديمة...". هنا أيضا جُملة كان لها تأثيرها على الحاضرين·ـات.

في بعض الأحيان، يكون الأمر أكثر إثارة للشفقة. لن أنسى أبدا ذلك اليوم الذي انهارت فيه متّهمة شابّة ذات عشرين عاما من شدّة الضّغط، مستترة بنقابها. في حين يحاول شرطيّ رفعها وإيقاظها، ووالدها العجوز ذو السّبعين أو يزيد، يبكي خلفي.
أُجليت الفتاة وتأجّلت المحاكمة. ومن أحد ضفّتي الرّواق الفارغ إلى الضّفّة الأخرى، يسير الرّجل العجوز بلا كلل صعودًا وهبوطًا وحذاؤه البالي يكشف عن أصابع قدميه. ودون أن يفهم الموقف، ظل ينتظر ابنته بصبر ، ظنّاً منه أنها ستغادر معه... المسكين لم يعِحقّا خطورة الموقف وجاء يعتقد ببساطة أنّه سيعود بابنته إلى المنزل.
وعلى عكس الشّائع في أوروبّا حيث يجب إتمام التّحقيق قبل إجراء المحاكمة، فإنّ لتونس خصوصيّتها، إذ يمكن - ويجب - أن تبدأ المحاكمة في غضون 14 شهرًا، وهي المدّة القصوى للاحتجاز السّابق للمحاكمة، حتّى وإن لم يكتمل التحقيق بعد.
تعذيبٌ معنويّ للمتّهمين·ـات والعائلات، فمع كل ورقة مفقودة أو طلب من القاضي أو المحامي، تُؤجّل المحاكمة لعدة أشهر، و قد يطول الحبس لسنوات قبل صدور الحكم النهائي ...

الكلمة للدّفاع
في نهاية العمليّة، يتم الاستماع إلى مرافعات محامي·ـات الدّفاع. نلاحظ أنّ نفس المجموعة من المحامين·ـات دائما ما تتناول القضايا الإرهابيّة. بدأ العديد منهم في صفوف جمعية حريّة وإنصاف، وهي جمعية ذات صلة بالتّيّار الإسلامي، دافعت عن السّجناء والسّجينات السياسيين·ـات في عهد بن علي.
كلهم·ـنّ تقريبا ذوو وذوات توجّه إسلامي. ذلك أن المنتمين والمنتميات إلى اليسار يتجنّبون الدّفاع عن المتّهمين·ـات في قضايا الإرهاب منذ بدأت جرائم الدّم، ومنذ اغتيل زميلهم·ـنّ شكري بلعيد في فيفري 2013.
"أنا أؤمن أنّ لكلّ متّهم الحقّ في محام".

إيمان الطريقي هي إحدى المحاميات الرئيسيات المدافعات عن الجهاديين·ـات وأسرهم·ـنّ في تونس. وهي ناشطة حقوقية ورأست أيضًا جمعية حرية وإنصاف بين عامي 2011 و 2014.
محامون·ـيات أُخَر على عكس إيمان الطّريقي، يقبلون ويقبلن الدّفاع عن المشتبه فيهم، مؤمنين·ـات "بقيمة" قضيّتهم لكنّهم يرفضون جرائم الدّم. وهذا هو الحال بالنّسبة لأنور أولاد علي.
"لديّ تحفّظات تتعلّق ببعض الملفّات، و منها جرائم الدّم".

أنور أولاد علي هو أحد المدافعين الرئيسيين عن الجهاديين وأسرهم في تونس. يرأس حاليا جمعية مرصد الحقوق والحريات بتونس.
في العديد من القضايا، يتذرّع المحامون·ـات بوجود خلل إجرائي و/أو ينكبّون على إيجاد نقاط ضعف في ملفّ الادّعاء. فالعديد من الملفات مبنيّة على اعترافات، وهي اعترافات تُنتزع عادة تحت التعذيب*، حسب المحامين·ـات و مُنوّبيهم.

منذ الثّورة، صار يتم احترام الحقّ في الدّفاع إذ شهد قانون مكافحة الإرهاب الجديد لعام 2015 بالفعل عددًا من التطوّرات الملحوظة، وإن كان البعض منها عُرضة للإنتقاد.* ومن بين هذه التطوّرات، إمكانيّة حضور محام·ـية منذ بداية الحجز. ومع ذلك يمكن للمدّعي العام رفض هذا الحضور لمدة 48 ساعة الأولى، وهو إجراء يستنكره المحامون·ـات.
قد تكون حقوق الدّفاع مُحترمة فعلا، و لكن حقوق المتّهم·ـة تكون في العادة مهضومة خاصّة أثناء الإعتقال والاستنطاقات الأوليّة في الـ48 ساعة تلك... إذ يجب الإنتظار حتّى نهاية مدّة الحجز للمثول أمام أحد قضاة قطب مكافحة الإرهاب. فهو الذي سيقرّر -بناءً على الاعترافات ونتائج الأبحاث- ما إذا كان يجب متابعة المحاكمة بحيث لا يكون لدى الشّرطة في السّاعات الـ48 الأولى في القرجاني أو العوينة* سوى القليل من الوقت "لحمل المتّهم·ـة على الاعتراف".
"في غالب الأحيان، يتراجع المتّهمون عن اعترافاتهم".

القاضي' س' هو أحد القضاة المكلّفين بملفات مكافحة الإرهاب، عيّن في قطب مكافحة الإرهاب في تونس. طلب عدم الكشف عن هويته لأسباب أمنية.
القضاء تحت ضغط الأمن
بعد ما يقرب من 10 سنوات منذ سقوط بن علي، تُعدّ وزارة الداخلية إحدى المؤسسات التي لا يزال من الصعب إصلاحها. في ذلك الوقت، كانت الشرطة تقرّر فينصاع القضاة. ولئن تغيّرت تونس كثيرًا منذ ذلك الحين، إلا أن العادات القديمة لها عمر طويل.
"لم تفهم الشّرطة بعد أنّه لم يعد بإمكانها العمل بالطرق القديمة [...] و أنّه لم يعد بإمكانها أن تنتظر من العدالة إدانة أشخاص بملفّات فارغة."

سمير بن عمر، محام و معارض سابق لنظام بن علي، انتُخب بعد الثّورة عضوا بالمجلس التّأسيسي في 2011 على قوائم حزب المؤتمر من أجل الجمهوريّة.
إن قوات الأمن، التي يستهدفها الإرهاب بشكل رئيسيّ*، لازالت تجد صعوبة في قبول عبء التفاصيل القانونية الدقيقة. و تظلّ التّوتّرات شديدة بين الدّاخلية والعدل حول أساليب مكافحة الإرهاب.
وكثيرا ما نسمع من الطرف الأمني أن "الأمن يُوقف والقضاء يسرّح".
من ناحية أخرى، لا يمكن للقضاة الملاحقة أو الإدانة على أساس اعترافات فارغة يتم انتزاعها في غضون ساعات وفي ظروف مشبوهة.
"بعد إصدار الحكم من قبل قاضي التّحقيق، كان بعض القضاة يتلقّون رسائل تهديد في منازلهم."

القاضي' س' هو أحد القضاة المكلّفين بملفات مكافحة الإرهاب، عيّن في قطب مكافحة الإرهاب في تونس. طلب عدم الكشف عن هويته لأسباب أمنية.
هذا التوتر بين الأمن والقضاء يمكن أن يأخذ منعطفاً أكثر مأساوية. ولا أفضل من عمليّة باردو ذائعة الصيت لرسم صورة دقيقة لما يحدث.
تذكير موجز بالوقائع: في 18 مارس 2015، وبعد فترة وجيزة من الظّهر، دخل فدائيّان أشهر المتاحف التّونسية وأكبرها وشرعا في اغتيال السّياح الحاضرين·ـات. في الخارج، ومع تواجد ضئيل للأمن، لم يتمكّن الضابط الوحيد الموجود من فعل الكثير بمسدّسه البالي أمام أسلحة حربيّة*.
قام الإرهابيّان بقتل 22 شخصًا، وجرح 45 آخرين و أخريات، قبل أن يتمّ قتلهما بدورها من قبل أعوان وحدات مكافحة الإرهاب الذين تدخّلوا بسرعة. وجد البلد نفسه فجأة في حالة صدمة، إذ كانت تلك الهجمات الأولى من نوعها التي تستهدف مدنيّين·ـات منذ ما يسمّى بهجمات الغريبة في عام 2002.
تسيّست القضيّة وكانت ضربة موجعة لقطاع السّياحة، بأغلبيّة شبه مطلقة من الضّحايا الأجانب والأجنبيّات. وطالبت البلدان الأجنبيّة والصّحافة والرّأي العام التّونسيّ بالمساءلة والمحاسبة.
في اليوم السّابق للهجوم، طلب مركز شرطة باردو أين يقع المتحف تعزيزات لليوم الموالي ... إلّا أنّ وزارة الدّاخلية رفضت. وجدت الدّولة نفسها مضطرّة لإرساء سلطتها فعقد الرّئيس الباجي قائد السّبسي مؤتمرا صحفياّ في اليوم الموالي.
في غضون ذلك، بدأت الدائرة الجهنّميّة في الدّوران: ضغط سياسي على الأمن وضغط أمني على العدالة... ولم يلبث أن خرج التّحقيق عن السّيطرة. بعد يومين، تلقّت وسائل الإعلام بابتهاج اسم شابّ يدعى أمين ليس له أيّ سجلّ جزائي، في المؤتمر الصّحفي للمتحدّث باسم وزارة الداخلية.
بعد ذلك اعتقل ضبّاط الشّرطة العدليّة في القرجاني أكثر من عشرين نفرا، وقد أعلن عن ذلك وزير الدّاخلية ناجم غرسلّي بنفسه أمام القنوات الوطنية والدولية في 26 مارس، بعد 8 أيام فقط من الهجمات.
إلّا أنّه في الواقع، ليس للمعتقلين علاقة تُذكَر بالهجوم. وقد وقّعوا على "اعترافات" محرّرة من قبل أعوان الشّرطة تحت وطأة التّعذيب والإغتصاب أحيانا.
في الطابق الأول من المحكمة، يمكن لأحد قضاة التّحقيق أن يشهد على ذلك. كان بشير العكرمي في تلك الفترة قاضي التّحقيق المكلّف بملفّ هجمات باردو، وهو الآن النّائب العام المسؤول عن مكافحة الإرهاب بتونس.

للعثور عليه، يجب أن نتسلّق الدّرج المركزي الكبير لنَتُوه بعض الوقت في الأروقة الضيّقة، حيث نجد معتقلين·ـات مكبلي·ـات الأيدي، وضبّاط شرطة وأشخاصا تائهين·ـات يبحثون عن قاعة جلسات الطّلاق.
يبدو مكتب بشير العكرمي - وإن كانت نافذته تطلّ على شارع 9 أفريل الواسع - و كأنّه لم يدخله ضوء النّهار منذ تشييد المبنى، نظرا لعدد الملفّات المتراكمة على الطّاولات. يأتي ويدبر عدد من المحامين·ـات و القضاة باستمرار من خلال الباب الحاجز للصّوت. بشير العكرمي يستقبل الجميع بسهولة وبسرعة باستثناء الصّحفيّين·ـات. لأوّل مرّة قبل بإجراء مقابلة.
"كان هناك تعذيب وعلاوة على ذلك، محتويات الاستنطاقات متناقضة تماما".

بشير العكرمي، قاضي تحقيق مكلف بمكافحة الإرهاب، عيّن وكيلا للجمهورية لدى المحكمة الابتدائية بتونس في 2016.
تمّ الإفراج عن العشرين متهمًا·ـة بعد ستة أشهر، دون أن توجّه إليهم أيّة تهم. لم يتلقّوا أي اعتذار علني أو تعويض. بينما اتهمت بعض وسائل الإعلام العكرمي بالتقرّب من الحركات الإسلاميّة. زد على ذلك، اعترض محامو بعض الضحايا من الفرنسيين على هذا القرار علناً.*
"تمّ إيقاف بعض الأنفار في عمليّة باردو في البداية، في حين أنّه ليست لهم علاقة بالعمليّة."

فيليب دورسيه، قاضي تحقيق سابق ثم رئيس محكمة التعقيب في نيس، يشغل حاليًا منصب قاضي اتصال فرنسي لدى السفارة الفرنسية في تونس
أخذت القضيّة في غضون ذلك منحى سياسيًا متحزّبا تسبّب في إضاعة وقت ثمين في التّحقيق، لأنّ المنظّمين الحقيقيين لهجوم باردو ظلوا طلقاء يُحضّرون خلف الكواليس لتتمّة الجزء الثاني... هجوم سوسة الذي أردى 39 سائحا·ـة معظمهم بريطانيّون·ـات، باستخدام أسلحة أوتوماتيكيّة في فندق سياحي بسوسة.
"الإيقافات التي حصلت إثر عمليّة سوسة كشفت عمّا كان يحصل في تونس منذ سنة 2012، ومن أين تأتي الأسلحة ومن هو المسؤول عن ذلك."

بشير العكرمي، قاضي تحقيق مكلف بمكافحة الإرهاب، عيّن وكيلا للجمهورية لدى المحكمة الابتدائية بتونس في 2016.
جسّدت القضيّة آنذاك مخاطر منظومة قضائية تحت الضّغط. حيث لا يتوفّر لدى أحد لا الوقت ولا الوسائل اللاّزمة للقيام بمهمته. استُفتحت المحاكمة بعد ثلاث سنوات تقريبًا وظهر في غضون ذلك أن التّعاون الدولي المعقّد المليء بالمزالق، فوضوي.
بدأت في 25 جانفي 2019 محاكمة ما يسمّى بهجمات باردو-سوسة، في نفس القاعة عدد 6 التي تمّ تجديدها بالمناسبة. في ذلك اليوم، حضرت الصّحافة والمراقبون·ـات وبُثّت السماعات من أجل عائلات الضّحايا في فرنسا وبلجيكا. في ذلك اليوم، تحدّث الرّئيس على غير عادته في مصدح صوت.
بدأت المرافعة الأولى على لسان الأستاذ زقروبة :
"نحن نحسّ بألم عميق حين نرى أطفال هذا البلد يُحاكمون بالآلاف، بسبب سياسات القوى العظمى. لكلّ أولئك الذين يشاهدوننا في باريس، الدّفاع يوصل لكم السّلام ويقول لكم: من يزرع الشّوك يجني الجراح".
أحالنا محامي الدّفاع هذا إلى مكان سياسيّ آخر، قد يكون هو فعلا مكمن الدّاء منذ بداية هذه المحاكمات. كانت هذه الجملة مثيرة للجدل وقد تكون قابلة للنّقاش وهو لا شكّ على دراية بذلك. ولكن لا يخفى أن تكون هذه الجملة عاكسة لما يظنّه عدد من الحاضرين·ـات...