الفصل 3 :

في العَودة و اللّارُجوع

هل يجب إرجاع المقاتلين·ـات التونسيين·ـات السابقين·ات أعضاء تنظيم الدولة الإسلامية بأعداد غفيرة بغرض محاكمتهم·ـنّ؟ في تونس، ليس هنالك  إجماع حول هذه المسألة : بالنسبة للكثيرين·ـات، لا سبيل إلى ذلك. وفي حين أنه لا يمكن حاليا الجزم بعدد العائدين·ـات المحتملين·ـات بشكل دقيق نظرا إلى تغيّر التقديرات، فقد حسم مجلس الأمن القومي الأمر: لن يتمكّن سوى عدد ضئيل منهم·ـنّ من العودة حاليا. غير أن معضلة ضمان محاكمات عادلة تبقى قائمة من المنظور القضائي.
بقلم
| 29 أكتوبر 2020 | 20 دقيقة | متوفر باللغة الفرنسيةالإنجليزية
خلص تقرير رُفع إلى مجلس الأمن القومي، في أوت 2015، إلى أن الرّأي العام التونسي ينبذ في غالبه الظّاهرة المتنامية منذ سنة 2014 والمتمثّلة في عودة الجهاديين·ـات السابقين·ـات. وشرع المجلس في العمل بصفة سرّية على الاستعدادات الأمنية والسياسية تحسّبا لعودتهم·ـن. في أواخر  2019، اتّخذ المجلس قرارا يقضي بعدم فسح المجال لرجوع العائدين·ـات* بشكل مكثّف، وذلك باستثناء أربعة مقاتلين سابقين خطرين للغاية تتوفّر لديهم معلومات قيّمة، إلى جانب عدد ضئيل من اليتامى واليتيمات.
" كان الشّرط أن يكون هؤلاء الناس فعلا تحت المراقبة وأن يكون القضاء هو الفيصل".

*Le terme de revenant·es est employé ici dans le sens de la traduction du terme anglais returnees : ex-jihadistes de retour dans leur pays d'origine, ou par extension désireux·ses d'y retourner.

مختار بالنصر ، ناطق رسمي سابق باسم وزارة الدفاع الوطني. رئيس المركز التونسي لدراسات الأمن الشامل في 2014 واللجنة الوطنية لمكافحة الإرهاب في 2018-2019.  

انهيار تنظيم الدولة الإسلامية

منذ 2017، ومع سلسلة الهزائم العسكرية التي تكبّدها تنظيم الدّولة الإسلاميّة ثمّ سقوط آخر معقل عسكري له بباغوز شرقي سوريا، في مارس 2019، خسر التّنظيم جميع المناطق التي كانت تحت سيطرته منذ 2013، مع تسجيل خسائر بشرية جسيمة. نتيجة لذلك، أعلن التحالف الدولي عن انتصار ضرباته على " أهمّ منظّمة إرهابية على الإطلاق". انتصار حاسم – وإن كان مؤقتًا على الأرجح – على المنظّمة القتالية.

من وراء الغبار وخلف الرمال، صوّرت كاميرات القنوات الدولية أطلال مدينة باغوز المنكوبة. طوابير طويلة من المقاتلين المصابين في معظمهم يجرّون ثيابهم الرثّة وصفوفا من الأطفال والطفلات المعفّرين·ـات بالتراب إلى جانب جحافل من النسوة مرتديات براقع سوداء ارمدّت بسبب الغبار. في الساعات التالية والأيّام المُوالية، في الرّقّة ومدن أخرى غيرها، استجوب عملاء المخابرات الأمريكية ونظراؤهم الفرنسيّون المقاتلين الذين يشكّلون مصدر معلومات قيّمة.

وبالفعل، تعتبر هذه المعلومات مادّة نادرة حيث أن قوات التحالف العسكري لم تكلّف نفسها، منذ 2014، بتجميع الأدلة والشهادات. وكما يقرّ بذلك محامون·ـيات وقضاة وقاضيات، فإن التّفوق العسكري لم يكن مصحوبا بتحقيقات كفيلة بضمان محاكمات عادلة للجهاديين·ـات السابقين·ـات. هذا ولم يتمّ التّعرف على هوية الضحايا كما لم يتمّ تحديد هوية مرتكبي جرائم حرب بشكل دقيق، مع الاقتصار على بطاقات إرشادات عادة ما تكون منقوصة. عدا عن ذلك فإنّه لا تكاد تتوفر أية معلومة موثوقة عن نساء داعش والتي يُشهد بدعمهنّ القوي لمختلف جرائم الحرب التي ارتكبها التنظيم.

في ظلّ هذه الظروف، كيف يمكن محاكمة الجهاديين·ـات السابقين·ـات؟ من خلال محاكمات عشوائية وجماعية لمجرد الانتماء إلى جماعة إرهابية وهو ما يمثل خرقا واضحا للعديد من التشريعات الدولية؟ أو بشكل فردي بالاستناد إلى أدلة منعدمة تقريبا؟ على عين المكان في البلدان التي اقتُرفت فيها الجرائم أو في بلدهم·ـن الأصلي؟

إن النقاش المطروح هنا ليس مسألة رأي، بل معضلة في صميم روح القضاء وطريقة سيره وقانون النزاعات المسلحة المضمَّن في اتفاقيات جنيف. تلك هي التحديات التي يجب على المحاكم مجابهتها بشأن المقاتلين السابقين وأسرهم.

نستخلص إذن أنه اعتبارا لحالة التّخبط التي يعيشها القضاء، فإن السّلطات السياسية المحلية لن تعجّل بإرجاعهم·ـن سواءََ تعلق الأمر بالرجال أو النساء أو الأطفال. ونظرا إلى تفاقم الظاهرة على ترابها، فإن تونس ليست في منأى عن هذه المعضلة. قد يُعدّ ذلك مدعاة لابتهاج مناشدي·ـات دولة القانون حيث أن العدالة التونسية لم تنهج نفس التوجه القضائي الذي اتبعته بعض الدول الأخرى، على غرار مصر أو العراق، والتي لم تتردد في إسقاط أحكام بالإعدام بالجملة في إطار محاكمات غير عادلة. كيف يمكن إذن التوفيق بين ضمان حقوق الإنسان واحترام الاتفاقيات الدولية و .. تحقيق الأمن؟

الآلاف من العائدين·ـات ؟

وتجسيما لمدى تعقيد الظاهرة، فإن أوّل سؤال يتبادر إلى الذهن قد يبدو بسيطًا ظاهريا ولكنه في حقيقة الأمر شائك: كم يبلغ عدد الجهاديين·ـات التونسيين·ـات السابقين·ـات الملتحقين·ـات ببؤر التّوتر الأجنبية؟ يجب أخذ الأجوبة المقدّمة هنا باحتراز. في 2014، قدّرت منظمة الأمم المتحدة مبدئيّا عدد المقاتلين·ـات الملتحقين·ـات ببؤر التوتر في كل من ليبيا والعراق وسوريا بـ6000 إلى 7000 مقاتل ومقاتلة، ما يجعل تونس في صدارة قائمة البلدان المصدّرة للمقاتلين·ـات الأجانب والأجنبيات في صفوف داعش.*  

يمتاز هذا الرقم بكونه تقديرا أوليّا، ولكنّه يشمل أيضا التونسيين·ـات المتواجدين·ات في سوريا قبل اندلاع النزاع دون الضلوع في أنشطة قتالية.  

من جانبها، قدّمت تونس رقما رسميا بـ2929 مقاتلًا ومقاتلة تونسيًا·ـة منتمين·ـات إلى تنظيم الدولة الإسلامية* لكن دون الكشف عن الطريقة المنتهجة لإحصائهم·ـن.  

ويبدو هذا الرقم دون الواقع، لكونه لا يتضمن سوى حالات المغادرة المسجّلة دون الأخذ بعين الاعتبار عدد المقاتلين·ـات التونسيين·ـات الملتحقين·ـات بسوريا بجوازات سفر مزوّرة، خاصة الليبية منها، وكذلك أولئك الذين واللواتي غادروا أو غادرن بطريقة غير شرعية خارج المعابر الحدودية الرّسميّة. كما أن هذا الرقم لا يأخذ بعين الاعتبار أولئك الذين واللّواتي تمكنوا أو تمكّنّ من تغيير هويتهم·ـن، وهي ممارسة شائعة بين مقاتلي تنظيم داعش.  

ونظرا إلى ما تقدّم، يتبيّن أنه  من الصّعب تقديم إحصاء دقيق وإن يُرجَّح العدد في حدود 4000 إلى 5000 مقاتل·ـة تونسي·ـة. وتتساوى تقديرات القضاء التونسي مع التصريحات الأمريكية والروسية والتي تشير إلى أن جزءا كبيرا من المقاتلين يقدّر بـحوالي 1100 مقاتل قد لقوا حتفهم على عين المكان.*  

لذا، فإنه يصعب حاليا حصر عدد العائدين·ـات المحتملين·ـات بشكل دقيق. عدّة مئات، عدّة آلاف؟ ذلك لأن معظم المقاتلين الجهاديين الذين لم يلقوا حتفهم في الجبهة لا يعودون، بل ينتقلون إلى مناطق أخرى. ويقدّر عدد الجهاديين·ـات التونسيين·ـات الحاليين·ـات والسابقين·ـات الذين واللّواتي على قيد الحياة بحوالي 2000 جهادي·ـة. لم يتم إلقاء القبض على الكثير منهم·ـن في سوريا وهم·ـن ينتقلن·ـون إلى مناطق نزاع أخرى تمتدّ من ليبيا إلى ... الكونغو.  

" إنّ هؤلاء الناس مكلّفون حاليا بمهام أخرى، لقد تم التلاعب بهم. إنهم فعلا مرتزقة ويمكنهم بسهولة الانحياز إلى الطرف المقابل والقتال في مكان آخر".

مختار بالنصر ، ناطق رسمي سابق باسم وزارة الدفاع الوطني. رئيس المركز التونسي لدراسات الأمن الشامل في 2014 واللجنة الوطنية لمكافحة الإرهاب في 2018-2019.    

  وتشير بعض المصادر الأمنية الأجنبية في ليبيا إلى تواجد 1000 مقاتل·ـة مازالوا ومازلن على قيد الحياة ونشطين·ـات. يبدو هذا الرقم منطقيا، إذا اعتبرنا كذلك أنه تم اعتقال عدة مئات من التونسيين·ـات وتحديد هويّة 500 منهم·ـن وتسجيلهم·ـن في قائمات المرصد التونسي لحقوق الإنسان بالاستناد إلى تصريحات أسرهم·ـن.  

" يعاني أكثر من %75 منهم وضعا اقتصاديا صعبا كما أنهم ينحدرون من مناطق مهمشة، خاصة الداخلية والحدودية منها".

مصطفى عبد الكبير، ناشط حقوقي من بن قردان، رئيس المرصد التونسي لحقوق الإنسان، مستقر  في مدنين.  

كذلك في ليبيا، تشير مصادر أمنية، من ناحية أخرى، إلى تزايد عدد الجهاديين التونسيين والذين كانوا نشطين سابقًا في منطقة النزاع السورية وانتقلوا إلى ليبيا للالتحاق بطرفي النزاع كمرتزقة مدفوعي الأجر. نجد هؤلاء إلى جانب القوات التركية  المناصرة للرئيس المنتخب فايز السراج، وكذلك إلى جانب المارشال خليفة حفتر، حيث يتم تأجير خبرتهم الميدانية.  

ولا يزال الاعتقال محاطا بالغموض. ومن جانبه، أعلن نظام بشار الأسد رسميًا عن اعتقال 41 تونسيًا أُلقي القبض عليهم عند اجتياز الحدود التركية السورية في 2013 (بما في ذلك عضو سابق في ما يعرف بجماعة سليمان)*، لكن دون تقديم عدد آخر للمعتقلين·ـات.  

في الجهة الأخرى من الحدود، لا تحتجز السلطات العراقية سوى بضعة تونسيين·ـات، حيث أن قلّة قليلة  منهم·ـن ذهبوا أو ذهبن للقتال على الأراضي العراقية (%1,5 من العدد الجملي للمغادرين·ـات). هلك معظمهم·ـن منذ ذلك الحين. وحاليا، لا يوجد رسميا سوى 15 تونسيا·ـة، منهم 6 محكوم عليهم·ـن بالإعدام في العراق.  

من جانبها، دعمت تركيا رجوع عدد أكبر من الجهاديين·ـات التونسيين·ـات السابقين·ـات بفضل تعزيز التعاون الأمني بين البلدين ​​منذ سنة 2018. ويقدّر عدد التونسيين·ـات المعتقلين·ـلات في تركيا بـ300 تونسي·ـة، وهو رقم يبدو منطقيا، وإن تمّ نفيه من قبل السفير التركي في تونس.  

ومع ذلك، فإن معظم المقاتلين·ـات التونسيين·ـات السابقين·ـات، المحتملين·ـات والذين أو اللواتي تم اعتقالهم·ـن، قد تمّ التعرّف عليهم·ـن وهم·ـن محتجزون·ات من قبل القوات الكردية السورية في روجافا (غرب كردستان). في 2019، ينتظر أعضاء داعش السابقون وأسرهم تحديد مصيرهم·ـن في مخيمات عشوائية، خاصة منها مخيم الهول، بالنسبة للنساء والأطفال، وفي بعض السجون، على غرار سجن القامشلي، بالنسبة للرجال.  

المفاوضات حول الترحيلات

ترى السلطات الكردية في روجافا أنه، وإن كان هؤلاء المقاتلون·ـات الأجانب والأجنبيات السابقون·ـات مصدر إزعاج، فإنهم·ـن يشكّلن·ـون غنائم حرب يمكن الإستفادة منها. هم·ـن بالتالي،يمثلن·ـون معضلة وفرصة سياسية في نفس الوقت. في البداية، حاولت السلطات الكردية التفاوض مباشرة مع بلدان المقاتلين·ـات الأصلية، ممّا يمهّد لها الطريق للاعتراف بها على الصعيد الدبلوماسي. غير أن معظم هذه البلدان جابهتها بالرفض، قبل أن تشرع السلطات الأمريكية، على أمل انسحاب سريع لقواتها، في الضغط على بلدان المقاتلين·ـات الأصلية. دون جدوى.  

ومع عدم إحراز أي تقدم، عرضت السلطات الكردية في روجافا محاكمة الجهاديين السابقين على عين المكان، ما سيعود عليها بالنفع ماديا وسياسيا. ويعتبر ذلك منطقيا، حيث أنه تمّ اقتراف العديد من الانتهاكات في المناطق الخاضعة لسيطرة الأكراد.  

غير أن المصالح الجيوسياسية الإقليمية حالت دون ذلك، حيث قصفت حكومة أنقرة محافظة روجافا السوريّة ذات الحكم الذاتي، في نهاية عام 2019. هذا القصف استهدف معسكرات الاعتقال بشكل خاص، وساهم في تعقيد الموقف ووضع حدّ للمفاوضات الجارية (على ضعفها). هذا وعلى الرغم من تمكّن السلطات الكردية من استباق الضربات، ونقل بعض المعتقلين·ـات، فإن البعض منهم·ـن قد تمكنوا وتمكّن من الفرار، أو دفعوا ودفعن أموالا مقابل إخلاء سبيلهم·ـن، وهي ممارسة شائعة نسبيا.  

أما بالنسبة للفترة الممتدة من 2011 إلى 2017، فقد أعلنت السلطات التونسية رسميا عن800 عائد·ة، مع التأكيد على أن ليس جميعهم·ـن من المقاتلين·ـات. ويجري الحديث منذ آنذاك عن 200 إلى 300 عودة إضافية.  

" نحن بانتظار القرارات بشأن عودة هؤلاء المقاتلين، ونرجّح ارتفاع عدد القضايا بمجرّد رجوع أو تسليم المقاتلين الحاملين للجنسية التونسية".

القاضي "س"، أحد القضاة المكلّفين بملفات مكافحة الإرهاب، عيّن في قطب مكافحة الإرهاب في تونس. طلب عدم الكشف عن هويته لأسباب أمنية.  

بناءً على عدد العائدين·ـات المحتملين·ـات، فإن القضاء التونسي مدعوّ إلى التفكير في طرق إدارة عودتهم·ـن. تونس ليست في منأى عن التردد الدولي في ما يتعلق بهذه المسألة. ولا مجال للقضاء، كما ذكرنا آنفا، لإصدار أحكام بالإعدام بالجملة، بالاعتماد على ملفات هزيلة أو متضمنة لإعترافات منتزعة بالإكراه. علاوة على ذلك، فإن أحكام الإعدام هذه ستحول دون التعاون الدولي في مجال القضاء، ما سيعمّق توتر هذه المسألة.  

" عندما تطلب فرنسا من تونس تنفيذ طلبات ذات صبغة جزائية من تحقيقات وسماع متهمين وعمليات تفتيش، فإن تونس تمتثل. وفي المقابل، فإنه لما تطلب تونس من فرنسا نفس الطلبات، من سماع متهمين وإجراء عمليات تفتيش وتحقيقات، في ملف متعلق بنفس القضية، فإن فرنسا لن تمتثل".

فيليب دورسيه، قاضي تحقيق سابق ثم رئيس محكمة التعقيب في نيس، يشغل حاليًا منصب قاضي اتصال فرنسي لدى السفارة الفرنسية في تونس.  

القضاء في قلب العاصفة

يجد القضاء التونسي نفسه إذن، في وضع حرج. حيث أنه ليس سيّد الموقف، ويخضع للإملاءات السياسية والأمنية. من منظور دستوري، لا يمكن لتونس رفض عودة المقاتلين·ـات الأجانب والأجنبيات*، غير أن كل اللّبس يكمن في عدم إجباريّة استرجاعهم·ـن، أي عدم اتخاذ أي إجراء في الغرض. بالتالي، فإنّ السّلط تكتفي بترك الجهاديين السابقين يتدبّرون عودتهم وأسرهم بأنفسهم، وبمساعدة محاميهم·ـن ومحامياتهم·ـن. وذلك مهما تعدّدت جملة العوائق الإدارية المنجرة عن ذلك.  

وينطبق الوضع نفسه على النساء والأطفال المنضمّين إلى تنظيم داعش، حيث ترفض النساء بطبيعة الحال فصلهنّ عن أطفالهن ولا تزال السلطات التونسية "تتناساهن".

" يتواجد العديد من أطفالنا في ليبيا، في سجن معيتيقة وربّما في أماكن أخرى. ولم تفلح السلطات التونسية إلى حدّ الآن في استرجاع هؤلاء الأطفال أو ربما لم تكن هناك إرادة سياسية جدية للغرض".

أنور أولاد علي هو أحد المدافعين·ـات الرئيسيين·ـات عن الجهاديين·ـات وأسرهم·ـن في تونس. يرأس حاليا جمعية مرصد الحقوق والحريات بتونس.  

يمكن تفسير الوضع الراهن، جزئياً، بعدم ملاءمة هياكل الإحاطة، حيث أن المؤسسات الإصلاحية غير مهيئة لاستقبال "أشبال الخلافة". زِد على ذلك، غياب أماكن مناسبة لرعاية الأطفال الذين واللّواتي تمّ فصلهم·ـن عن أمهاتهم·ـن. علما وأن القضاء لا يعلم شيئا عن درجة خطورتهن.  

وضع الأطفال تحت رعاية أسر مضيفة، خاصة لدى الأجداد؟ الإمكانية واردة، شريطة تأكد السلطات من انعدام استمرارية "أيديولوجية". في فيفري 2019، شكّلت هذه المسألة موضوع جدل بين المحامي أنور أولاد علي والنائبة والمحامية والناشطة النسوية بشرى بلحاج حميدة، ضمن لجنة شؤون المرأة والأسرة والطفولة والشباب والمسنّين لدى مجلس نواب الشعب، والمكلّفة بالتفكير في مصير العائدين·ـات وأسرهم·ـن.*  

وتمّ إثر ذلك حسم الجدل بقرار من مجلس الأمن القومي في نهاية 2019 : لن يتمكن من العودة سوى عدد محدود من الجهاديين السابقين ومن اليتامى واليتيمات. أما بالنسبة للآخرين، فإن تونس لن تدعم عودتهم.  

وإذا كان هذا الموضوع مثيرا للجدل في الأوساط القضائية، فذلك لأن مسألة الإثبات لم تحسم بعد. ماذا كانت وظيفة المتهم·ـة في منطقة النزاع؟ هل كان·ـت مساعد·ة الطاهي أو "قاطع·ـة رؤوس"؟ هل كان·ـت مجرد بوق دعاية للفكر الداعشي، أو مقاتلا·ـة اقترف·ـت جرائم حرب لا تعدّ ولا تحصى؟ يصعب معرفة ذلك في معظم الأحيان.  

أي عقوبة ستسلّط عليهم·ـن؟ يطرح ذلك إشكالية مصادر الإدانة القضائية، والتي تعتمد هي نفسها على مصادر استخباراتية غالبًا ما تجمعها الدول الأجنبية*. ولكن تحت أيّ ظروف؟ إن الملفات الاستخباراتية لا تعدّ ملفات تحقيق، حيث أن الاستخبارات تقوم بتجميع معلومات متراكمة مجهولة المصدر وفي ظروف غير موثوق بها وفوق كل شيء سرية. في المقابل، يلتزم التحقيق بتزويد المحاكمة بمصادر مؤكدة مستقاة في إطار إستجواب قانوني وشفّاف. كيف يمكن إذن إدانة جهادي سابق بالاستناد إلى معلومات استخباراتية لا تعيرها المحكمة قيمة، في غياب عناصر أخرى؟  

*À titre d'exemple, le régime syrien actuel a pu amasser un nombre très important de fiches détaillées sur les combattants tunisiens.

" في بعض القضايا، يتصّل هؤلاء العناصر بأسرهم عبر السكايب أو عبر الهاتف. وفي أغلب الحالات، يتكتمون على كونهم يقاتلون مع الإكتفاء بالكشف عن مكان تواجدهم وبطمأنة أسرهم بأنهم على قيد الحياة. إلا أن هذا التواصل يمكن أن يشكل بداية حجة".

القاضي "س"، أحد القضاة المكلّفين بملفات مكافحة الإرهاب، عيّن في قطب مكافحة الإرهاب في تونس. طلب عدم الكشف عن هويته لأسباب أمنية.    

كما لا يمكن للعدالة تجاوز عامل آخر ألا وهو التباين في الدافع بين أولئك الذين واللواتي غادرن·ـوا قبل 2014 وبعدها. وقد عادت نسبة لا يستهان بها من المتدربين الجهاديين سنتي 2013-2014.

ونلاحظ هنا تباينا شاسعا بين مختلف الفئات. من ناحية، هناك من لم تكن تجربتهم·ـن كمتدرب·ـة جهادي·ـة مقنعة. وفي وقت يسبق تأسيس داعش رسميًا، ومع استحالة معرفة مجموعة انتماء الجهاديين السابقين الذين عادوا طوعًا، تحلّى القضاء التونسي بتساهل نسبي.

أما بالنسبة للذين واللواتي لم تلطّخ أيديهم·ـن بدماء التونسيين·ـات وعادوا وعدن أو أعلنوا وأعلنّ توبتهم·ـن عن طواعية، فقد تم الإفراج عنهم·ـن سريعا بعد بضعة أيام من الاستجواب. كانت هذه السياسة متماشية مع تصريحات الرئيس السابق المنصف المرزوقي.* وقد تمكن آخرون وأخريات من الإفلات مع التوقف عن ممارسة أنشطتهم·ـن الدامية لدى عودتهم·ـن. تجدر الإشارة أيضًا إلى أن نسبة كبيرة ممن تمتّعن·ـوا بالعفو سنة 2014 تمّ العثور عليهم·ـن لاحقًا، على قيد الحياة أو هالكين·ـات، في بؤر التوتر وخاصة منها سوريا.    

**Depuis le Mont Châambi, le 6 mai 2014 Moncef Marzouki, en accord avec le Conseil de défense, propose l’amnistie aux jihadistes non impliqué·es dans le meurtre de Tunisien·nes et qui désireraient se rendre.

" إذا رغب أي شخص في العودة، فإنه يحقّ له ذلك. ولا يمكن لأي رجل أمن أو سلطة قضائية أو أمنية حرمانه من حقه".

إيمان الطريقي هي إحدى المحاميات الرئيسيات المدافعات عن الجهاديين·ـات وأسرهم·ـن في تونس. وهي ناشطة حقوقية  ورأست أيضًا جمعية حرية وإنصاف بين عامي 2011 و 2014.  

وخلافا للصعوبات التي أثارها القضاء التونسي، يطالب آخرون بعودة الجهاديين·ـات الذين تمّ تحديد جرائمهم·ـن المقترفة في مناطق النزاع بشكل واضح. يعود ذلك لكونهم·ـن قد يشكلن·ـون مصدر معلومات قيّمة من شأنها المساهمة في مكافحة الإرهاب في تونس. تلك هي وجهة نظر بشير العكرمي. بالنسبة للعائدين·ـات الأكثر شهرة، أو الأشدّ خطورة، فإنه يتعين استجوابهم·ـن بشكل معمّق لدى وكيل الجمهورية. وقد قام بشير العكرمي باستجواب الجهاديين الأربعة الذين تمّ جلبهم في منتصف سنة 2019.  

" سيتمّ قبول كل تونسي يقع تسليمه من قبل دولة أخرى. ولا شكّ في أنهم يشكلون خطرا".

بشير العكرمي، قاضي تحقيق مكلف بمكافحة الإرهاب، عيّن وكيلا للجمهورية لدى المحكمة الابتدائية بتونس في 2016.  

بالإضافة إلى معضلة ضمان محاكمات عادلة، تبقى مشكلة الاعتقال قائمة. هذا ويكمن تخوف السلطات القضائية في الخطر المنجرّ عن الزجّ بمقاتلين سابقين محنكين، وربما من الدّعاة، في السجون. لا تزال ذكرى التجييش المنجرّ عن سجن العائدين من أفغانستان والعراق، في العقد الأول من هذا القرن، حاضرة في ذهن القضاء التونسي. إذ تشكّلت، حينها، حركة أنصار الشريعة داخل السجون. وفي تلك الفترة، لعبت بعض الشخصيات، مثل أبي عياض، دورا رئيسيا في تجذير التطرف في عقلية السجناء التونسيين، بما فيهم العديد من سجناء الحق العام.  

إن حلّ معضلة الأحكام والمحاكمات سيستغرق وقتًا طويلاً، ولا تتوفر لتونس حلول إعجازية أكثر من أي مكان آخر. وكما أخبرني وكيل الجمهورية الفرنسي فرانسوا مولينز في مقابلة،" لسنا بحاجة إلى 'أمراء'" في السجون الفرنسية". بالتأكيد، ليست هناك حاجة لتواجد "أمراء" في السجون التونسية كذلك. هذا وإن لم تسجل عودة مكثفة للمقاتلين·ـات، فإن الخطر الداخلي هو ما يشغل القضاء التونسي حاليا، حيث قد تفضي احتمالية اختلاط التونسيين·ـات المحليين·ـات بالعائدين·ـات إلى وضع كارثي.