محمد مفرج ليس حالة منفردة، فالعديد من الأشخاص الذين أجروا عملية زراعة لوالب قلبية يؤكدون أنهم يفتقدون للمعطيات حول أوضاعهم الصحية وأنهم لم يتلقوا أي توجيه أو علاج. في هذا الصدد، يقول مفرّج بأسف، " لا أعرف إلى حد الآن، إن كنت حاملا للولب قلبي منتهي الصلوحية أم لا".
وقع اكتشاف قضية اللوالب المنتهية الصلوحية من قبل متفقد في الصندوق الوطني للتأمين على المرض الذي تفطّن في ماي 2016 إلى وجود هذه اللوالب في مصحتين في العاصمة تونس. لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فبعد مزيد من عمليات المراقبة، تبيّن أن الفضيحة أكبر من ذلك بكثير، فقد أثبتت تقارير الرقابة أن 14 مصحة و49 طبيبا تورطوا في هذه القضية التي مسّت ما لا يقل عن 151 شخصا أُجريت لهم عمليات زرع لوالب قلبية منتهية الصلوحية.
نقص في التواصل مع المرضى
أودعت وزارة الصحة ملف القضية لدى وكيل الجمهورية في جويلية 2016، ومنذ ذلك الوقت، تعهّد بها القطب القضائي والمالي. بالتوازي مع هذا الإجراء، فتحت الوزارة خطا أخضر للتواصل الهاتفي وبعثت لجنة للإعلام والتوجيه بهدف تمكين المعنيين والمعنيات بعمليات اللوالب القلبية المنتهية الصلوحية من التحري عن حالاتهم والتمتع بالإحاطة.
سارع محمد مفرج، منذ أن علم بفضيحة اللوالب القلبية، إلى وزارة الصحة وطلب لقاء أحد أعضاء اللجنة. ولكن الإجابة الوحيدة التي تلقاها جاءت من أحد الأطباء المارين في رواق الوزارة والذي فسّر له أن "نسبة الخطر"، في حالته "ضعيفة".
يقول مفرّج "لم أتحصّل على أية معلومة إضافية حول تفسير عبارة "نسبة الخطر ضعيفة".
لم يطلب أحد من محمد ملفه الطبي أو حتى رقم هاتفه ليتصل به ويبلغه بأية معلومات. حاول أن يتصل بالرقم الأخضر الذي وضعته الوزارة على ذمة المرضى ولكن لا أحد رفع السمّاعة.
نفس الموقف تكرر مع رياض حمادة الذي زُرعت له سبعة لوالب قلبية. توفي هذا الأخير في جويلية 2018 دون أن يحظى بأي نوع من أنواع الإحاطة، علما وأن المصحتين اللتين أجرى فيهما العمليات الجراحية وهي مصحة ابن رشد بنابل ومصحة حنبعل بتونس، مورطتان في القضية. وتؤكد زوجة رياض أن هذا الأخير لم يحظ بأية إجابة من وزارة الصحة حول حالته، مُضيفة بتذمر: "حتى وفاته، لم يعرف زوجي إن كان من ضمن ضحايا اللوالب القلبية منتهية الصلوحية أم لا".
"نسبة خطر تكاد تكون منعدمة"
كان من المفترض أن يخضع كل المرضى الذين يحملون لوالب قلبية منتهية الصلوحية "لفحوصات دورية" أو "تعديلات علاجية"، كل حسب حالته الصحية، وذلك من طرف لجنة الإعلام والإحاطة التي شكلتها وزارة الصحة.
وقد خضع فعلا بعض المرضى من الضحايا للمتابعة الصحية، وتم تعديل طريقة علاجهم حسب نتائج الفحوصات التي أجروها. ومن بين هؤلاء، حالة مريض يبلغ من العمر 61 عاما خضع إلى عملية قسطرة في فيفري 2016، بعد زرع لولب منتهي الصلوحية في سبتمبر 2015.
كان من المستحيل الحصول على المزيد من التفاصيل من أعضاء اللجنة حول هذه الحالات، قد أكد الطبيبان اللذان تم الاتصال بهما، وهما السيدان الهادي بكار ووحيد المالكي، أنهما لا يستطيعان الإجابة عن أسئلتنا، نظرا لكونهما مُحلّفان لدى القضاء.
من جهته، أكَد الدكتور فوزي عداد، دكتور مختص في أمراض القلب بمستشفى محمد مامي بأريانة، كان قد تكفَل بفحص حوالي عشرة مرضى معنيين بقضية اللوالب منتهية الصلوحية، أنهم لا يشتكون من أية مشاكل صحية وأن اللوالب منتهية الصلوحية لا تُشكَل "خطرا حقيقيا". وبالنسبة إليه، فإن "القضية لم تكن تستحق كل هذا الحجم، مضيفا أن اللوالب التي اعتُبرت منتهية الصلوحية هي في الأصل "صالحة" وأن تاريخ انتهاء صلوحيتها المكتوب على الغلاف هو في الأصل تاريخ "وقائي".
كان الدكتور فوزي عداد رئيسا للجمعية التونسية لأمراض وجراحة القلب والأوعية الدموية (STCCV)،عند تفجير فضيحة اللوالب القلبية. وقد أصدرت الجمعية يوم 10 أوت 2016، بيانًا يفيد بأن "نسبة خطر اللوالب القلبية منتهية الصلوحية على المرضى، منعدمة تقريبًا"، كما أن هذه اللوالب المنتهية الصلوحية لا تمثل سوى 0.2٪ من أصل 51.000 لولبا تم زرعها في تونس بين عامي 2013 و 2016.
منتوجات غير مراقبة
كمعظم الأجهزة الطبية الكثيرة المستعملة في تونس، يتم تصنيع أغلب اللوالب القلبية في الخارج. ولمعرفة المسؤول عن الفضيحة، توسعت التحقيقات المفتوحة في الغرض من قبل وزارة الصحة لتطال ثمان شركات توريد، وذلك للتأكد من أن اللوالب المستوردة كانت تحمل رخصة العرض للاستهلاك (AMC). لكن حسب وثيقة داخلية لوزارة الصحة، حصلنا على نسخة منها، فإن 16 لولبا فقط من أصل 68 دفعة من اللوالب المستوردة كانت تحمل هذه الرخصة.
منذ سنة 2014، أصبح الحصول على رخصة العرض للاستهلاك AMC أمرا إجباريا لكل دفعة من أي منتوج طبي مستورد، حيث تُسلّمها إدارة الصيدلة والأدوية DPM للمُزوّد، بعد فحص مطابقة للمنتوج يقوم به المخبر الوطني لمراقبة الأدوية (LNCM). ولا بد من تطبيق هذه الإجراءات بالنسبة لكل عملية تزويد، حتى لو حصل الجهاز الطبي في السابق، على رخصة.
ولكن على مستوى التطبيق، فإنه لا يتم احترام هذه الإجراءات، فالمراقبة المُسلطة على الأجهزة الطبية ليست دائما "صارمة، خاصة إذا كان المنتوج يُستورد بشكل متواتر"، حسب ما أكدته مديرة إدارة الصيدلية والأدوية، نادية فنينة.
في نفس الموضوع
أشار تقرير الرقابة المتعلق بالمستشفى الجامعي سهلول بسوسة والصادر بتاريخ 19 ماي 2016 إلى أن "الأجهزة الطبية الموجودة في صيدلية المستشفى كانت مستوردة دون أن تحمل رخصة عرض الإستهلاك".
نفس الوضعية تكررت في مصحة البحيرة، حيث بيّن تقرير الرقابة الصادر بتاريخ 10 ماي 2016، أن الأجهزة الطبية لم تكن تحمل رخصة عرض الاستهلاك، ناهيك عن الظروف السيئة لتخزينها وغياب أي نظام لتتبع مصدرها.
علاوة على غياب رخصة عرض الاستهلاك AMC، فإن تقرير الرقابة المتعلق بالمستشفى الجامعي سهلول بسوسة يشير إلى أن "الأجهزة الطبية لم تكن مرتبة حسب مواعيد انتهاء صلوحيتها" وأن "أغلب الأجهزة الموجودة كانت بالفعل منتهية الصلوحية"
وحسب هذا التقرير، فإن العديد من الأجهزة الطبية، من بينها ستة لوالب قلبية أصبحت غير صالحة للاستعمال بعد "انقطاع مريب للكهرباء في ليلة 21 جانفي 2016". ورغم الشكاوى العديدة من قبل العاملين في قسم الجراحة القلبية والتحقيق الذي فُتح في شهر مارس 2016، فقد بقيت الأجهزة منتهية الصلوحية في قاعة القسطرة وتم استعمالها عن غير قصد".
وتشير هذه المخالفات إلى أوجه قصور خطيرة في تخزين الأجهزة الطبية داخل هذا المستشفى، حيث يذكر التقرير أنه "لا يوجد أي نظام تتبع فيما يخص التصرف في الأجهزة الطبية"، وأنه لا يتم احترام شروط التخزين، مثل درجة الحرارة، بالإضافة إلى أنه "لم يتم سحب غالبية الأجهزة التي انتهت صلوحيتها من رفوف التخزين".
كان لهذه القضية تداعيات مالية أيضا، حيث أن الصندوق الوطني للتأمين على المرض CNAM عوّض ماليا كلفة اللوالب منتهية الصلوحية. ففي مستشفى سهلول مثلا، كان هناك ستة لوالب قلبية منتهية الصلوحية بقيمة 4500 دينار لكل لولب، وهو ما يعني خسارة بقيمة 27000 دينار بالنسبة للدولة، فقط فيما يخص هذه المؤسسة الإستشفائية.
في شهادتها أمام إدارة الرقابة الطبية التابعة لوزارة الصحة، صرّحت رئيسة قسم أمراض القلب بالمستشفى أن "استعمال أجهزة طبية منتهية الصلوحية لا يمثل أي خطر على المريض، بل إن استخدامها يمثل توفيرا اقتصاديا للمستشفى". وبسبب هذا التصريح، تمت معاقبة هذه الأخيرة وتحويلها إلى مجلس التأديب بوزارة الصحة، كما سُحبت منها رخصة ممارسة "النشاط الخاص التكميلي APC".
أية عقوبات؟
بعد فضيحة اللوالب القلبية، اتخذت وزارة الصحة جملة من العقوبات في حق عدد من المصحات. ووفقًا لقائمة داخلية حصلنا عليها تعود إلى تاريخ 1 أوت 2016، فقد عوقبت المصحات التي تم فيها أكبر عدد من عمليات زرع اللوالب المنتهية الصلوحية، بإغلاق غرفة القسطرة فيها لعدة أشهر، في حين أن المصحات التي لم تُسجّل سوى ثلاث حالات لمرضى أُجريت عليهم هذه العمليات، فقد تلقت فقط مجرد توبيخ.
استدعى القطب القضائي والمالي العديد من المتدخلين في المجال الطبي من صيادلة/ات وأصحاب مصحات وإطارات من الصندوق الوطني للتأمين على المرض ومن وزارة الصحة للتحقيق معهم. لكن إلى حد الآن، وحسب المجلس الوطني لعمادة الأطباء، فإن طبيبا واحدا تم إيقافه بسبب قيامه بعدد كبير من عمليات زرع اللوالب منتهية الصلوحية. ودامت مدة الإيقاف سبعة أشهر فقط، قبل أن يتم إطلاق سراحه.
* المصدر: وزارة الصحة
تعرّض الأطباء المتورطون في الفضيحة بدورهم إلى عقوبات صادرة عن عمادة الأطباء. وحسب رئيس العمادة المتخلي، يوسف الماكني، فإن 45 طبيبا من المشتبه في تورطهم في قضية اللوالب القلبية المنتهية الصلوحية خضعوا للتحقيق. وفي الأخير، ثبت تورّط 27 طبيبا، 7 منهم تلقوا مجرد لفت نظر، في حين تمت إحالة العشرين الباقين على مجلس التأديب، الذي قرّر إيقاف بعضهم عن مزاولة المهنة لـمدة 3 سنوات،إلا أنهم استأنفوا القرار ونجحوا في تقليص مدة إيقافهم عن العمل. بالتالي، أُوقف ستة أطباء عن مزاولة المهنة لمدة ستة أشهر، في حين تم تقليص مدة إيقاف طبيب آخر عن العمل من ستة أشهر إلى 3 أشهر. في هذا الصدد، يقول يوسف الماكني أن "مجلس العمادة تفاعل بشكل سريع مع فضيحة اللوالب القلبية وقام بما يجب عليه فعله لمعاقبة الأطباء المتورطين، لكن كان للقاضي رأي آخر". ويضيف الماكني أن "العقوبة الأكبر بالنسبة للأطباء المتورطين تمثلت أساسا في المس من سمعتهم".
يأتي ذلك في ظل عدم اتخاذ أية عقوبة في حق المزودين، حيث نفى زين العابدين المحسني، المسؤول التجاري عن شركة Toucomex الممثلة للعملاق الأمريكي MEDTRONIC في تونس، أية مسؤولية للمزودين، مشيرا إلى أن الإشكال يتعلق بظروف حفظ اللوالب القلبية داخل المستشفيات.
يقول "باعتباري أحد المزودين، لم أقم بتسليم أية أجهزة طبية منتهية الصلوحية، والشركة غير مسؤولة إذا لم يتم حفظ الأجهزة بشكل مناسب".
تحسين نظام التتبع
أظهرت تقارير الرقابة الصادرة عن وزارة الصحة والتي حصلنا على نسخ منها، أن إحدى الإشكاليات الكبرى في هذه القضية هي استحالة تحديد مسار واضح لللتصرف في الأجهزة الطبية.
وفقا للمنشور عدد 67 لسنة 2006 والصادر في 31 جويلية 2006، "يجب أن تكون الأجهزة الطبية تحت مسؤولية الصيادلة المباشرين في الهياكل الصحية"، وهو أمر لم يتم تطبيقه في كل الحالات. وقد كشفت تقارير الرقابة الخاصة بالعديد من المستشفيات والمصحات، أن التصرف في الأجهزة الطبية كان أحيانا تحت مسؤولية المشرف على قاعة القسطرة، وأحيانا أخرى تحت مسؤولية طبيب القلب نفسه أو رئيس قسم الأمراض القلبية.
"منذ فتح قسم أمراض القلب في المصحة، جرت العادة، كما هو معمول به في القطاع، أن يتمّ التصرف في مخزون اللوالب القلبية من قبل الأطباء، بحيث يتعامل كل طبيب بشكل مباشر مع المزودين". ورد هذا الاعتراف على لسان الرئيس المدير العام لمصحة مونبليزير في تقرير الرقابة بتاريخ 19 جويلية 2016.
حسب أقواله، تلك طريقة الأطباء لفرض بعض الشركات المُصنّعة على إدارة المصحة، دون أن يُحدّد المصالح المحتملة التي قد تجمع الأطباء بهؤلاء المزودين. وفي حال رفضت إدارة المصحة ذلك، فإن "الأطباء يهددون بالذهاب إلى مصحة أخرى".
يُوضّح وزير الصحة الأسبق، سعيد العايدي أن كل هذه العوامل "تزيد من صعوبة تحديد المسؤولية الفردية في قضية اللوالب القلبية المنتهية الصلوحية". ولتلافي تكرار هذه التجاوزات، أصدر الوزير يوم 26 أوت 2016 المنشور عدد 76 لسنة 2016. وبموجبه، تم تدعيم المسؤولية القانونية للصيدلي فيما يخص "التزوّد بالأجهزة الطبية والتصرف فيها وتسلّمها داخل الهياكل الطبية، العمومية والخاصة". كذلك، أصبح لزاما على الصيدلي التأكّد من أن الأجهزة الطبية التي تسلّمها من المزودين تحمل رخصة عرض الاستهلاك AMC والتثبت من موعد انتهاء صلوحيتها.
من جهة أخرى، أصبحت بعض المصحات تستعمل منذ عام 2017 نظام كمبيوتر جديد يسمى "Clinisys" يتيح إمكانية تتبع مسار الأجهزة الطبية، من المُزوّد إلى المريض. ويخضع هذا النظام للإشراف المباشر والحصري للصيدلي.
"بفضل هذا النظام، أصبح من الممكن معرفة الشركة المُصنّعة والمُزوّد ورقم الدُفعة والعلامة التجارية للمنتوج وتاريخ انتهاء الصلوحية"، حسبما تؤكده مريم بن جميع، الصيدلانية في مصحة مونبليزير، مضيفة أنه "عند اقتراب موعد انتهاء صلوحية المنتوج، يُصدر النظام تحذيرا، مما يمكننا من الاتصال بالُمزوّد لاستبداله. ويبقى كل شيء مسجلا في نظام الكمبيوتر". في نفس الصدد، تّبيّن منال البغدادي، الصيدلانية في مصحة ضفاف البحيرة، أنه "أصبح ممنوعا منعا باتا على أي أحد التعامل مباشرة مع المُزوّد، باستثناء الصيدلي المُباشر في المصحة".
تم وضع كل هذه التحسينات لتلافي وقوع فضيحة أخرى مثل فضيحة اللوالب القلبية منتهية الصلوحية. لذلك فقد كان من المنتظر أن تتحقق وزارة الصحة من تطبيق هذه التدابير داخل الهياكل الصحية، إلا أن مصحة مونبليزير لم تشهد سوى زيارة رقابية واحدة منذ 2016، حسب مريم بن جميع. في حين أكدت منال، الصيدلانية في مصحة ضفاف البحيرة أنها لم تتلق أية زيارة إلى حد الآن.