فالضحية في هذه القضية عريف بالادارة العامة للسجون والاصلاح، قُتل يوم 17 جانفي 2011، أي خلال الفترة التي تلت مغادرة بن علي والتي اتسمت بنوع من الفوضى والخروج عن السيطرة كثُر الحديث خلالها عن وجود قناصة تستهدف الناس، علما أنّ تلك الفترة كانت قد سجلت مقتل وإصابة البعض بالعيار الناري 7,62 الذي لم يؤكد أيّ جهاز من الأجهزة المسلحة في تونس، آنذاك، امتلاكه ايّاه ما فتح باب التأويل على مصراعيه حول الجهة التي تمتلك هذا النوع من الأعيرَة ومدى مصلحتها من وراء استهداف الناس.
حالة الغموض غذّت الإشاعات، حتّى وصل الأمر بشقّ من التونسيين لتبنّي فرضية أنّ عددا من الإرهابيين كانوا قد تسللوا عبر الجبال خلال أيام الاحتجاجات وقتلوا المتظاهرين بالعيار الناري 7,62 ثمّ اختفوا. هذه الفرضية وردت على لسان مدير الأمن الرئاسي الأسبق علي السرياطي خلال محاكمته عقب الثورة، وردّدها عدد آخر من المسؤولين الأمنيين في وزارة الداخلية وبعض المقربين من بن علي على غرار صهره سليم شيبوب خلال استضافة تلفزية.
وقد سعى رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي (رئيس الحكومة المؤقتة آنذاك) إلى حسم الأمر حينما أنكر وجود القناصة بشكل قطعي مُطلقا جملة التحدّي المأثورة “ اللّي يشدّ قناص يجيبهولي ” (من يمسك بقنّاص فليأتني به).
قضية أمين القرامي جاءت لتسقط كل هذه الفرضيات المتعاقبة على مرّ السنوات الستّ المنقضية، وتقيم الحُجّة والبرهان على أنّ أحد الأجهزة المسلحة في تونس على الأقل (الجيش الوطني) استعمل هذا النوع من العيار خلال الثورة ما تسبّب في سقوط قتلى.
فما الذي حصل بالضبط في ذلك اليوم ؟ وكيف منح القضاء العسكري صكّ الحرية للمتهم في القضية بعد أن كانت عديد القرائن تتجّه نحو إدانته بتهمة القتل العمد ؟
ملابسات مقتل أمين القرامي
كان عون السجون أمين القرامي، يوم 17 جانفي 2011 ، يباشر مهمّته المتمثّلة في حراسة عدد من المساجين المقيمين بالمستشفى الجهوي ببنزرت وتحديدا بالغرفة رقم 07 الكائنة بالطابق السادس بعد أن تمّ نقلهم لتلقي العلاج على إثر إصابتهم بجروح وحروق جرّاء حالة الفوضى والتمرّد التي جدّت بالسجن المدني برج الرومي تزامنا مع مغادرة بن علي البلاد.
واثر سماع القرامي لصدى طلقات نارية خارج الغرفة مرفوقة بتحليق طائرة عمودية في فضاء المستشفى خاصة بعد رواج أخبار مفادها وجود قناصة بصدد الاشتباك مع الأمنيين والعسكريين، اقترب من النافذة المطلّة على المدرسة التقنية لجيش البر رغبة منه في استجلاء الأمر حينها أصيب الضحية بعيار ناري برأسه أرداه قتيلا في عين المكان.
« سمعنا صوت طلق ناري مكثف صادر عن ثكنة الجيش الوطني المتواجدة بمحيط المستشفى المذكور، وحوالي الساعة 12:00 وأثناء تواجدي بالغرفة رفقة زملائي المذكورين، تحول زميلي الهالك أمين القرامي إلى نافذة الغرفة وباقترابه منها اصابته رصاصة فوق أذنه اليسرى فسقط مباشرة على الأرض، فتحولنا اليه في وضعية الزحف لتفادي الطلق الناري المتواصل والذي أصاب الغرفة المجاورة لنا، فوجدناه جثة هامدة دون حراك ».
من الغد، تقدّم والد القرامي بشكاية جزائية إلى وكيل الجمهورية بالمحكمة الابتدائية ببنزرت، أذنت بموجبها النيابة العمومية بنفس المحكمة وفي نفس التاريخ بفتح بحث تحقيقي “ لتحديد أسباب وفاة الهالك “. وقد تعهد قاضي التحقيق بالمكتب الثالث بالمحكمة الابتدائية ببنزرت عماد بوخريص، آنذاك، بالبحث في ملابسات الجريمة، ونجح في إماطة اللثام عن بعض فصولها قبل التخلي عن القضية لصالح القضاء العسكري.
القضاء المدني: قناص من الجيش في قفص الاتهام
إستهلّ قاضي التحقيق المدني عماد بوخريص مباشرته للقضية بمجموعة من التسخيرات والانابات القضائية لكل من الطبيب الدكتور أنيس بن خليفة لتشريح جثة الضحية وللفرقة المركزية الثانية للحرس الوطني بالعوينة للبحث في كل ما يمكن أن يفيد القضية.
وقد جاء تقرير الطب الشرعي ليبيّن أن الوفاة ناجمة عن “ رضّ دماغي جمجمي “. وفسّر تواجد نقطتي دخول وخروج الرصاصة بنفس الجهة اليسرى من رأس الضحية (عوض تقابلهما بعد اختراق الرصاصة للجمجمة) بكوْن الرصاصة التي أصابت الهالك قرب الأذن اليسرى كانت قد ارتدّت داخل الجمجمة بالجهة اليمنى للرأس وتجزّأت محدثة ثقبا ثان (ثقب الخروج) محاذي لثقب الدخول.
واستنتج تقرير الطب الشرعي في ختامه أن الوفاة نتجت عن إصابة برصاصة قاتلة على مستوى الأذن اليسرى تم إطلاقها بدقة عالية من سلاح طلقة بطلقة (coup par coup). كما نجح الطبيب الشرعي في إستخراج شظيتين كانتا استقرتا برأس الهالك، بعث بهما قاضي التحقيق للمعاينة والاختبار من طرف مصلحة التحاليل والإختبارات بادارة الشرطة الفنية والعلمية.
وبيّن التقرير، بعد معاينة الشظيتين المستخرجتين من رأس الضحية أنّهما تابعتان لرصاصة حربية من الصنف الأول في ترتيب الأسلحة:
من جهتها، تقدمت الأبحاث من طرف الفرقة المركزية الثانية للحرس الوطني بالعوينة بعد استماعها لمجموعة من الشهود على غرار زملاء الضحية المباشرين معه يومها وكل من ارتأت داعيا في الاستماع اليه، وبعثت بتقريرها إلى القاضي المتعهد، ليقوم بمقتضاه بمعاينة ميدانية للمستشفى مسرح الجريمة، بهدف البحث عن مصدر الرصاصة القاتلة بالغرفة 7 علما أنّ الأبحاث شملت رصاصة أخرى كانت قد جرحت أحد المقيمين بالقاعة 4 من نفس الطابق بالمستشفى قبل أن تترك أثرا لها بأحد جدران الغرفة ذاتها. (دون العثور عن أية شظايا أو بقايا لها )
وبتحوله للمستشفى، استعان القاضي بما يسمى بتقنية العدسة المعكوسة، إذ قام بتركيز عدسة كاميرا معكوسة في مكان الرصاصة التي كانت أصابت إصبع المتضرر (م.ش.ز) المقيم وقتها بالغرفة 4 من المستشفى، وكذلك بمكان وفاة الهالك بالغرفة رقم 7، على أساس أن تعطي الكاميرا صورة لمصدر إنطلاق كل رصاصة منهما. و بنهاية المعاينة والتنقيط التناظري (Pointage d’impact) تبين أن مصدر إطلاق الرصاصة القاتلة هو نفسه مصدر الرصاصة الأخرى التي ارتطمت بسرير الغرفة رقم 4، وهو الجهة الخلفية للمدرسة التقنية لجيش البر.
« وحيث يتجلى من شهادة الشهود ومن تقرير الطب الشرعي ومن إختبار الشظيتين المستخرجتين من رأس الهالك عند الإصابة ومحدودية مجال الرماية بالنظر للحواجز المادية التي تم ذكرها بمحضر التوجه والمعاينة بأن الرصاصة التي اصابت الهالك محمد أمين القرامي قد تم رميها من قبل عسكري كان بالمدرسة التقنية لجيش البر ببنزرت ».(قاضي التحقيق عماد بوخريص/ختم قرار التخلي)
بعد ثبوت الهوية العسكرية للجاني، تخلى القاضي المدني عن القضية بتاريخ 31 مارس 2011 لعدم الاختصاص بموجب الفصل 52 من مجلة الإجراءات الجزائية و استنادا إلى الفقرة السادسة من الفصل الخامس من مجلة المرافعات والعقوبات العسكرية التي تنص على أنّ “ المحاكم العسكرية تختصّ بالنظر في جرائم الحق العام المرتكبة من قبل العسكريين أو ضدهم أثناء مباشرتهم للخدمة أو بمناسبتها “.
من القضاء المدني إلى القضاء العسكري
تعهّد قاضي التحقيق بالمكتب الثاني بالمحكمة العسكرية الدائمة بتونس بالملف، ليزيد في تعقيده رغم أهمية ما توصل إليه قاضي التحقيق المدني خلال تحقيقه و ما كان يبدو على القضية من بداهة في أول الأمر لتصبح بعد ذلك قضية الأرقام القياسية.
طيلة أطوار القضية، تعددت روايات المتهم وتباينت، إلاّ أنه كان دائما يستند إلى “ قرينة ” للدفاع عن نفسه مفادهُا أنّه استعمل يوم الحادثة 5 رصاصات وجّهَ واحدة منها فقط نحو إطار إحدى نوافذ المستشفى.
يقول الملازم سفيان الهاني، زميل المتهم، خلال سماعه أمام التحقيق بصفته شاهدا، انّه “ أثناء تواجده مع الوكيل أول المذكور بنقطة حراستهما بممر المبيت وراء إحدى نوافذه شاهدَا نفرا يتطلع برأسه من حين لآخر عبر النافذة المقابلة بالطابق السادس والأخير للمستشفى فتولّى حينها الوكيل أول محمد السبتي مبروك تصويب سلاحه تجاه تلك النافذة وإطلاق النار لاعتقاده أنّ النفر المتواجد خلفها إنما هو من العناصر المجهولة المسلحة “.
المتهم كان أقر بدوره خلال سماعه لدى قلم التحقيق أنّه تولّى الرّمي بواسطة سلاحه صوب تلك النافذة باتجاه إطارها العلوي الخشبي قصد تخويف “ أحد المسلحين كان يطلّ برأسه من النافذة ” وفق قوله. وقد تبين في ملف القضية، وبناء على ما جاء في شهادات العديد من العملة بالمستشفى يومها، أنه تم تفتيش و تجريد أعوان السجون من أسلحتهم في مدخل المستشفى من طرف أعوان الجيش الوطني الذي كانت بعهدته مهمة حراسة المستشفى يومها باعتباره احد المنشآت العمومية الواقعة تحت حمايته.
كما تمسك المتهم بكونه أطلق النار صوب نافذة الغرفة رقم 4 لا الغرفة رقم 7، في حين أثبتت أبحاث قاضي التحقيق المدني منذ البداية أن مصدر الرصاصتين، الأولى القاتلة والثانية التي جرحت أحد المقيمين بالمستشفى، هو واحد : الطابق الأوّل لمبيت الخوارزمي التابع لمدرسة جيش البر، مكان تمركز رامي القناصة المتهم. كما تأكد من خلال تقريريْ التوجّه والمعاينة الذين أجراهُما كلّ من قاضي التحقيق المدني في مرحلة أولى والعسكري في مرحلة لاحقة، أنّه لا وجود لآثار طلق ناري على إطار النافذة التابعة للغرفة رقم 7.
أما بخصوص بقية الرصاصات الأربع المستعملة، فقد جاء على لسان المتهم ولأول مرة خلال جلسة الخميس 17 جانفي 2013، أنه كان “ يستمع ويشاهد أشخاصا بزي مدني يطلقون النار من كل جهة باتجاه الثكنة فطلب من العناصر الموجودة معه عدم رد الفعل على أن يتدخل هو و يستعمل سلاحه في اتجاه مقهى بالمكان تسمى القهوة العالية. وقد إختار التصويب نحو الحائط دون إصابة أي شخص”. كما أضاف أنه “تم إلقاء القبض على حوالي ثلاثة أو أربعة أفراد منهم بجانب الثكنة وقع تسليمهم الى السيد العميد (عميد بالمدرسة التقنية لجيش البر آنذاك) “.
لم تُعر المحكمة اهتماما لهذه التصريحات أعلاه ولمَا جاء على لسان المتهم حول مجموعة المسلحين التي كانت تصوّب نحو الثكنة وحواليها، و كيف تم القبض عليهم و تسليمهم يومها. وعوض بحثها في هذا الاتجاه، فقد طلبت إنجاز إختبار بالستي آخر، زاد مجرى القضية تعقيدا وذهبت نتائجه نحو بداية تبرئة المتهم.
ثبوت الإدانة و خمس سنوات في حق المتهم
قضت الدائرة الجنائية بالمحكمة الابتدائية العسكرية الدائمة بتونس يوم 30 أكتوبر 2012 ابتدائيا حضوريا بثبوت إدانة المتهم، وسجنه من أجل ذلك لمدة خمس سنوات.
شابت بعض الثغرات تعاطي هيئة المحكمة مع القضية إذ ورد بالملف أن القيادة العسكرية استنجدت يوم الحادثة بطائرة مروحية عسكرية للتعزيز. وقامت هذه الطائرة بإطلاق النار لاستهداف بعض المسلحين المتواجدين على أسطح بعض العمارات المقابلة للمستشفى.
وقد تمسّكت هيئة دفاع المتهم والقائمون بالحق الشخصي بطلب التحرير على طاقم المروحية العسكرية. و راسلت المحكمة الجهات العسكرية المعنية، في مناسبتين، لطلب معلومات حول طاقم الطائرة ونوعية الأسلحة التي كانوا يتحوّزون بها خلال تلك الحادثة، غير أنّها لم تحصل على اجابة.
في المقابل، ضمّنت المحكمة الابتدائية العسكرية بتونس في نصّ تعليل الحكم الجنائي الصادر عنها ما مفاده أنّ “ المحكمة لا ترى وجاهة في طلب تحديد أسماء كل من تواجد بمكان الواقعة وتحوّز بسلاح “، مشيرة إلى اكتفائها بالتقرير الصادر عن آمر المدرسة التقنية لجيش البر والذي لا يتضمّن أيّ معلومات حول طاقم الطائرة والأسلحة والذخيرة التي كانوا يتحوّزون بها.
وبالرغم من غياب أدلة على تواجد مسلحين في ملف القضية، وغياب آثار إطلاق نار تجاه المدرسة العسكرية، فقد ذكرت المحكمة في تعليل حكمها ضرورة مراعاة ظروف المتهم الشخصية “ باعتباره يؤدي واجبه العسكري وهو نقي السوابق وحسن السيرة والسلوك (…) إضافة إلى الظروف الموضوعية المتعلقة بتواجد مجهولين كانوا يطلقون النار على القوات العسكرية المتواجدة بالمكان “، والحال أن نفس المحكمة تقر في نفس الحكم باختصاص المتهم في الرماية بواسطة بندقيته القناصة، “التي يصعب معها الإخفاق في تحديد الهدف وضبط حدوده واصابته”. وتذكر أنه “ لا جدال في أن الأفعال المرتكبة من قبل المتهم في غاية الخطورة لصدورها عن عسكري له معرفة بخصائص وخطورة السلاح الذي يمسكه “، وفق ما جاء في نص الحكم.
و ثبت حسب الدائرة الجنائية بالمحكمة الإبتدائية العسكرية الدائمة بتونس بصفة قطعية أن وفاة الهالك أمين القرامي كانت النتيجة المباشرة لتعمد المتهم إطلاق الرصاص نحوه. كما أكدت الدائرة تأييد ذلك ضده بشهادة زملائه الحاضرين معه بالمدرسة التقنية لجيش البر.
من القتل العمد إلى القتل على وجه الخطأ ؟
شهدت أطوار القضية عديد المحطات الغامضة الأخرى، فبالرغم من توجيه تهمة القتل العمد بإضمار للمتهم منذ أكتوبر 2011 فانّ المتهم في قضية الحال بقي في حالة سراح إلى يومنا هذا. بالإضافة إلى أن أغلب أطوار القضية، وبالرغم من كونها علنيّة (شكليا)، كانت قد انعقدت جل جلساتها في السرية، حيث منع كل من عائلة الضحية والصحافة وبعض المنظمات العالمية في العديد من المناسبات من مواكبة أهم جلساتها. فبقي الداعي من إحاطة القضية بكل هذه السرية غير معلوم ومحل تذمّر لدى عائلة القتيل ولدى هيئة الدفاع.
وبالتوازي مع ذلك، ظلّ المتهم بحالة سراح ومباشرا لعمله العسكري إلى حد اللحظة، حتى بعد أن قضت الدائرة الجنائية بالمحكمة الابتدائية العسكرية الدائمة بتونس يوم 30 أكتوبر 2012 ابتدائيا حضوريا بثبوت إدانته، وسجنه من أجل ذلك لمدة خمس سنوات.
خلال الطور الإستئنافي, وأمام تعدد روايات المتهم ومواصلته إنكار ما نسب إليه من أفعال، وأمام غياب أدلة واضحة تبرّئُه أو تدينه، اختارت المحكمة الشروع في مجموعة من الإختبارات البالستية المسترسلة على الشظيتين المتبقيتين من الرصاصة القاتلة، سنقدّم من خلال السلسلة اللاحقة من الرسوم التفسيرية أهمّ ما جاء فيها وما ميّزها.
طبيعة الاختبارات البالستية و دوافع إنجازها وما قدّمته من نتائج يطرح نقاط استفهام عديدة. فبعد كل من الاختبار الأول الذي أشرف عليه القضاء العدلي والذي أقرّ بأنّ الرصاصة من عيار حربي ( تماما كتلك المستعملة بسلاح المتّهم) بالإضافة إلى تقرير الطب الشرعي الذي أثبت أن مصدرها سلاح طلقة بطلقة ذو دقة عالية ( تماما كسلاح المتهم) ثمّ تحقيق القاضي المدني الذي كشف أنّ مصدر الطلقة “ عسكري متمركز بالمدرسة التقنية لجيش البر ببنزرت ” (نفس الوضعية التي كان عليها المتهم يومها)، جاءت الاختبارات التي أشرف عليها القضاء العسكري متضاربة مع ما سبقها من جهة وفيما بينها من جهة أخرى، محدثة منعرجا كبيرا في القضية.
الإختبار الذي أنجزته الإدارة العامة للأسلحة والذخيرة بوزارة الدفاع بتاريخ 21 سبتمبر 2011 جاءت نتائجه مخالفة لذلك الذي أنجزته المخابر الجنائية التابعة لوزارة الداخلية بتاريخ 2 فيفري 2011. ففي حين بيّن هذا الأخير (وزارة الداخلية) أنّ الشظيّتين لا تحملان أيّ آثار أو أخاديد حلزونية empreintes mécaniques على جسميهما وأنه يتعذّر تحديد عيار الرصاصة التابعة لهما، جاء إختبار وزارة الدفاع للقول بأنّه من المرجّح أن تكون الشظايا جزءا من غلاف رصاصة عيار 5.56 علما أنّ بطاقة المعاينة لم تكن مرفقة بأيّ تعليل أو تقرير يفسّر هذه النتائج، وأنه لم يتم ذكر نتائج هذا الإختبار في نص الحكم الجنائي الإبتدائي.
ويبقى الداعي و الجدوى من تسخير القضاء العسكري إدارةَ الذخيرة والأسلحة بوزارة الدفاع للقيام باختبار فني على الشظايا في سبتمبر 2011 غير مفهومين، خاصة أنّ المحكمة تعلم منذ شهر ماي 2011 و بموجب مراسلة سرية من الإدارة العامة للذخيرة والأسلحة بوزارة الدفاع أنه و” نظرا لصغر حجم الشظايا، لا يمكن تحديد نوع الخرطوشة ومصدرها والسلاح المستعمل “.
الغريب أنه بالرغم من معرفتها المسبقة (اختبار وزارة الداخلية و المراسلة السرية) باستحالة تحديد العيار المستعمل، فانّ محكمة الإستئناف العسكرية ذهبت نحو اختبار رابع على الشظايا. و الأغرب أنّ نتائج هذا الاختبار جاءت مغايرة لكل سابقاتها، إذ تمكن هذا الاختبار لا فقط من رؤية تحازيز على الشظايا، بل والإقرار بكونها تتبع رصاصة (نوع غير معلوم) غير متأتية من سلاح المتهم (7,62).
وجاء في نص تقرير الاختبار البالستي الرابع أن الشظايا المستخرجة من جسد الضحية هي أجزاء ممزقة لغلاف رصاصة عادية لخرطوشة صغيرة العيار وأنّ التحازيز التي تخلفها سبطانة البندقية القناصة SSG 7,62 أعرض من تلك المتواجدة على إحداها.
كما قدر التقرير المسافة الفاصلة بين تمركز المتهم والهالك ب 130 مترا، وحدد زاوية الرمي ب15 درجة. وخلص في ختامه إلى أن الرصاصة التي أصابت الهالك تم رميها من مسافة بعيدة تتجاوز ال200 مترا، وذلك وفق خط شبه أفقي بزاوية تقارب الصفر.
كما إستنتج الإختبار أنه لو تمت إصابة الهالك على مسافة 130 مترا وبزاوية الرمي 15 درجة، لكان مسار خروج الرصاصة حتما من الجهة اليمنى قبالة ثقب دخولها، لا بجانبه مثل ما هو الحال بالنسبة للضحية.
المنعرج الخطير في القضية
المنعرج الخطير في القضية كان في طورها الإستئنافي، فنتيجة هذا الاختبار – في حال تمّ اعتمادها – كانت يمكن أن تكون كافية لتبرئة المتهم، لكنّ المحكمة ارتأت أن تعيد تكييف الأفعال المنسوبة للمتهم لتصبح من قبيل “ القتل على وجه الخطأ “، وتصدر حكما استئنافيا بسنتين سجنا مع تأجيل التنفيذ وذلك بتاريخ 25 أكتوبر 2013.
محكمة التعقيب، من جهتها، نقضت هذا القرار (المطعون فيه من قِبَل كل الأطراف المتداخلة في القضية) وقضت بتاريخ 22 ماي 2014 باعادة القضية لمحكمة الاستئناف لإعادة النظر فيها في دائرة مختلفة عن الدائرة التي أصدرت الحكم.
وبعودة ملف القضية إلى الطور الاستئنافي، قررت المحكمة من تلقاء نفسها (مجددا) ودون طلب أي طرف من أطراف القضية (دفاع المتهم/ دفاع القائمين بالحق الشخصي/ النيابة العمومية العسكرية/ المكلف العام بنزاعات الدولة) أن تعيد الاختبار للمرة الخامسة على التوالي.
و جاء في ختام التقرير الذي تقدمت به وزارة الدفاع (الاختبار الخامس) أنه وحسب المظهر العام للشظيتين فإنه لا يمكن معرفة عيار الرصاصة ولا نوع السلاح المستعمل في إطلاقها.
كما أضاف التقرير ذاته أنه بعد إجراء رمايات تجريبية برصاصة من عيار 7.62 تمّ إطلاقها على رأس حيوان (خنزير) تبيّن أنه، وعلى عكس الرصاصة التي قتلت الهالك والتي ارتدّت وتفتّتت مع بقاء أجزاء منها داخل الدماغ، فإنّ الرصاصة التجريبية اخترقت الجمجمة (رأس الخنزير) بالكامل مع إحداث ثقب دخول وثقب خروج متقابلين دون تفتت أو إرتداد. وبناء على ذلك خلص التقرير الى اعتبار أنّ “ مصدر المقذوف الذي أصيب به الهالك أمين القرامي ليس من نوع الذخيرة الخاصة بالسلاح المحتمل استعماله في الواقعة “. مع العلم أن تقرير الإختبار لم يذكر المسافة أو الزاوية المعتمدة خلال الرمايات التجريبية.
و جاء ضمن الاستنتاجات أنه من المرجح أن يكون الطلق الناري أفقيا أو قليل الإنحراف حدد التقرير زاويته ب 0 إلى 15 درجة تقريبا (بما يتماشى مع الإختبار السابق جزئيا، ويتعارض معه في الخلاصة,بإعتبار أن التقرير الرابع كان قد حدد زاوية الرمي ب-15 درجة، واستبعد أن يجعل مكان تمركز المتهم من مسار الطلق أفقيا).
الخبير الذي أشرف على الإختبار الخامس كان قد وضح، خلال التحرير عليه من طرف المحكمة حول سير الإختبار الذي أنجزه، أنه لم يتم الإعتماد على جهاز الليزر(الدقيق) في تحديد المسافات و زاوية مسار الرمي خلال الإختبار.
و بطلب من “انكيفادا”، اطّلع مخبر دولي مختص في العلوم والإختبارات البالستية (طلبَ عدم ذكر إسمه) على تقارير الاختبارات المنجزة في تونس، وأفادنا أنّ بعض الجزئيات غائبة في التقارير بالرغم من أهميتها، و أنّ البعض الآخر غريب وغير مفهوم، كاستعمال مادة الفولاذ خلال الطلقات التجريبية بهدف فهم سلوك الرصاصة غداة اصطدامها بالحواجز (قابلية انفطار الرصاصة) في حين أنّ الفولاذ لا يتجاوب بنفس الطريقة مع الرصاصة مقارنة بعظام الجمجمة.
كما عبّر خبراء المخبر الدولي عن استغرابهم من قيام فريق الاختبار الباليستي التونسي، خلال قيامه بالاختبار ، بتنفيذ طلقات تجريبية على هدف صغير الحجم (صندوق خشبي بداخله قطع من مادة mousse مدعمة بصفائح معدنية، لتجسيد جمجمة بشرية) من مسافة 100 متر (أو دون ذكر المسافة بالنسبة لإختبار5) دون أن يقوم بإجراءات تعديلية على غرار تفريغ جزء من محتوى الخرطوشة وفق ما يتماشى مع احداثيات الهدف ونقطة انطلاق الرصاصة قصد ضمان تطابق سرعة المقذوف خلال التجربة مع نظيرتها الواقعية.
وللتذكير فانّ المسافة الحقيقية التي تفصل بين نقطة انطلاق الرصاصة (تمركز القاتل) ونقطة الوصول (رأس القتيل) سبق وأن حُدّدت ب 130 مترا وليس 100 متر وفق ما تضمّنه تقرير الاختبار الباليستي.
المخبر الباليستي محلّ الاستشارة عبّر عن استغرابه من عدم حجز سلاح المتهم (إجراء بديهي في كل قضية، غاب في قضية الحال) الذي من المفترض أن تُجرى به الإختبارات لا بغيره.
ولئن وضّح المخبر السابق ذكره أنه من الممكن أن تنتهي مخابر مختلفة إلى نتائج مختلفة تهمّ نفس العينة، حيث ترتكز الإختبارات على جملة من المعايير المتغيرة مثل نوعية الاختبارات المنجزة، المهارة والخبرة، مدة الإختبار والتجهيزات المستعملة التي تختلف دقتها وتطورها من مخبر إلى آخر، فانّ صدور الاختبارات الأربع المنجزة عن نفس الجهة (الإدارة العامة للذخيرة والأسلحة صلب وزارة الدفاع) مع عدم تطابق نتائجها وتعارضها في بعض المناسبات، يثير بعض الاستفهامات حول الكيفية التي ستتعامل بها هيئة المحكمة مع هذا الكمّ الكبير من المعطيات غير المنسجمة ومدى تأثير ذلك على صياغة الحكم.
شكوك تُخامر هيئة الدفاع
الاستاذ شرف الدين القليل، عضو هيئة الدفاع، صرّح لإنكيفادا أنّه “ من غير المعقول أن تختلف النتائج بهذه الطريقة المسترابة لمجرد الانتقال من اختبار إلى آخر، إلا في حالة تغيير الشظايا المحجوزة “.
وأشار الأستاذ القلّيل أنه كان قد طلب مرارا وتكرارا من المحكمة أن تعرض الشظايا على مخبر أجنبي لإجراء إختبار محايد لا يشرف عليه القضاء العسكري، وأنّ المحكمة رفضت ذلك أيضا، وأكتفت بالتحرير على الخبراء الذين كانوا قد عاينوا المحجوز كي يوضحوا كيفية توصلهم للنتائج التي تقدموا بها.
ولم تأت التحريرات الكتابية التي أُنجزت مع الخبراء، في مجملها، بإجابة عن سؤال هيئة الدفاع بخصوص إمكانية تغيّر النتائج من اختبار إلى آخر، فقد اكتفت المحكمة فقط بسماع الخبراء حول كيفية قيامهم بالاختبارات والمنهجية التي تم اتباعها.
كما أضاف الأستاذ القلّيل أنّه سبق له أن طلب من المحكمة عرض المحجوز على الإدارة الفرعية للمخابر الجنائية للوقوف على مدى تطابقه مع ذلك الذي سبق وأن أنجز في شأنه التقرير عدد 15 بتاريخ 2 فيفري 2011 (الاختبار الأول بطلب من القضاء العدلي)، غير أن طلبه جُوبِهَ بالرفض.
و كان فريق انكيفادا قد التقى السيد جمال بن سلامة، رئيس قسم التحاليل والإختبارات التابعة لوزارة الداخلية، للاستيضاح حول مُجمل النقاط الخلافية التي تضمّنتها التقارير الباليستية المنجزة من طرف الفرقة الراجعة له بالنظر وتلك التي أنجزتها مصالح وزارة الدفاع، الّا أنه أعلمنا بأنّ الإختبارات التي تنجزها المخابر الواقعة تحت إشرافه تتسم بالسرية، وأنه من غير الممكن الإجابة عن أسئلتنا.
سنة سجنا مع تأجيل التنفيذ
قضت محكمة الاستئناف العسكرية بتونس يوم 18 نوفمبر 2015 بسنة سجنا مع تأجيل التنفيذ في حق رامي القناصة الوكيل أول بالجيش الوطني رقم 655 بالمدرسة التقنية لجيش البر محمد السبتي مبروك، وذلك بتهمة القتل على وجه الخطأ.
وقد أثار هذا الحكم موجة من الجدل على خلفية جملة التعقيدات التي شابته فضلا عن تكييف التهمة من “ القتل العمد مع الإضمار ” إلى “ القتل على وجه الخطأ ” وبالتالي النزول بالحكم من خمس سنوات سجنا إلى سنة واحدة مع تأجيل التنفيذ دون أن تتوفّر في الملف القضائي قرائن جديدة تفيد ببراءة المتّهم من تهمة القتل العمد أو ادانته بشكل جازم.
يقول الدكتور برهان عزيزي في كتاب “ أحكام مجلة الإجراءات الجزائية “، في هذا السياق :
“ يكون الاختبار محدود الحجية كلما وُجدت وسائل إثبات أخرى متضافرة منسجمة وقوية من شأنها أن تؤدي إلى الاستغناء عن النتيجة التي توصّل إليها الخبير المنتدب وذلك إستنادا إلى مبدإ التساوي بين جميع وسائل الإثبات دون تفضيل لأي وسيلة منها “.(د.برهان عزيزي، إثبات الجريمة في أحكام مجلة الإجراءات الجزائية، تونس 2013, ص. 163)
قضية الحال، بكل ما احتوت عليه من تناقضات واخلالات، نجحت في اماطة اللثام عن نقطتين أساسيتين أوّلهما أنّ هنالك قنّاصا ينتمي الى سلك الجيش الوطني كان قد قتل على الأقل شخصا واحدا خلال فترة الانفلات التي عقبت مغادرة بن علي البلاد. وثانيهما أنّ القضاء العسكري داس على عديد القرائن والمؤيدات واتّبع سياسة الفرز و الانتقاء من أجل اغلاق الملف بأخفّ ما يمكن من الأضرار للمتّهم المنتمي الى سلك الجيش الوطني حتّى و ان كان ذلك على حساب الحقيقة.
وبالتوازي مع النقطتين السابق ذكرهما تلُوحُ نقطة ثالثة لا تقلّ أهمية تتمثّل في ما تضمّنه تقرير الاختبار البالستي الرابع الصادر عن مصالح الإدارة العامة للذخيرة والأسلحة بوزارة الدفاع. حيث كشف التقرير -لأوّل مرّة- أنّ الرصاصات التي كان يستعملها المتهم يوم الحادثة (عيار 7.62) تنتمي الى ذخيرة من نفس النوع موزعة على مختلف وحدات الجيش الوطني، وأنه سبق وأن تم التفويت في كميات من هذه القسيمة لفائدة مصالح الإدارة العامة لأمن رئيس الدولة والشخصيات الرسمية، آخرها كان سنة 2001 ما يعني ضمنيا أنّ الجيش لم يكن الطرف الوحيد الذي كان يتحوّز بهذا العيار خلال الثورة وقبلها.