هذا التحقيق لم تقف تداعياتُه على المستويين السياسي والاعلامي فقط بل طالت الجانبَ القضائي والمؤسساتي ما دفع بكلٍّ من وزراء المالية، والعدل، وأملاك الدولة والشؤون العقارية للدعوة الى فتح تحقيق في الغرض. وقد استجابت النيابة العمومية لذلك ليتعهّد القطب القضائي والمالي لاحقا بالقضية. في حين سجّلت الساحة ميلاد لجنة برلمانية ذات صبغة تحقيقية مثيرة للجدل أُريدَ لها أن تتحوّل الى ما يشبه المحكمة الموازية للقضاء عبر مشروع قانون قد يمنحها، في حال تمّ تمريره، صلاحيات واسعة لسَجن وتغريم كل من يرفض المثول أمامها حتّى وان كان صحفيّا دون مراعاة سريّة مصادر المعلومات وخصوصية العمل الصحفي.
بالتوازي مع ذلك، فتحت الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد تحقيقا سرعان ما تمّ التخلّي عنه بعد تلقّي مراسلة من القطب القضائي والمالي.
في نفس الموضوع
“أوراق بنما” .. التحقيق الذي أثار جدلا كبيرا
بعد نحو أسبوعين من نشر موقع انكيفادا الأجزاءَ الأولى من مساهمته في التحقيق العالمي حول ما عُرف ب”أوراق بنما”، تقدّمت مجموعة من النواب البالغ عددهم 127 من مختلف الألوان السياسية في البرلمان التونسي، بعريضة الى رئيس مجلس نواب الشعب مطالبين اياه بانشاء لجنة للتحقيق في الموضوع.
بتاريخ 8 أفريل صوّت البرلمان في جلسة عامة على احداث لجنة للتحقيق في “أوراق بنما”. وبعد نحو أسبوع أعلنت رئاسة البرلمان ميلاد اللجنة فعليا وفق قاعدة التمثيل النسبي للأحزاب في البرلمان. وقد ضمّت 22 عضوا بحساب سبعة أعضاء عن حركة النهضة وستّة عن حركة نداء تونس وثلاثة عن كتلة الحرّة المنشقّة عن النداء واثنين عن الجبهة الشعبية وواحد عن الاتحاد الوطني الحر وواحد عن الكتلة الاجتماعية الديمقراطية وواحد عن آفاق تونس وواحد عن غير المنتمين لكُتل. أي بحساب 18 نائبا عن أحزاب الحُكم مقابل أربعة فقط عن أحزاب المعارضة.
حملت اللجنة رسميا اسم “لجنة التحقيق حول موضوع الفساد المالي والتهرّب الضريبي الذي تمّ الكشف عنه في ما يسمّى “أوراق بنما” و مدى تورّط تونسيين في الموضوع”. اجتمعت اللجنة للمرة الثانية بعد تشكيلها بتاريخ 9 ماي ليتمّ انتخاب النائب عن حزب المبادرة أحمد السعيدي رئيسا لها، فيما آلت خطّة نائب الرئيس الى منجي الحرباوي عن نداء تونس. وتمّ انتخاب زهير الرجبي عن حركة النهضة مقررا أوّل والطاهر فُوضيل عن الاتحاد الوطني الحر مقررا ثان.
في المقابل، كان وزير العدل قد أعطى الاذن للوكيل العام بالمحكمة الابتدائية ل”القيام باللازم” في ما يتعلّق ب”الضجّة” التي أثارتها الأسماء التونسية المرتبطة بفضيحة بنما. وقد فتحت النيابة العمومية، بناء على المعطيات التي تمّ تداولها في الاعلام التونسي، بحثا تحقيقيا ل”لتحرّي والبحث في جملة من الجرائم المحتمل حصولها من قبيل غسيل الأموال ومخالفة مجلّة الصرف”.
أشغال البحث أفضت الى نشر قضية بتاريخ 12 أفريل 2016 في القطب القضائي والمالي، المتعهد بالجرائم ذات الصبغة المالية، علما أنّ القطب هو من تعهّد خلال العام المنقضي بالتحقيق في قضية سويسليكس المتعلقة بتسريبات فرع الحسابات الخاصة للبنك السويسري HSBC.
في الأثناء كانت الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد قد أعلنت، في بيان لها، فتحَها تحقيقا في الغرض ذاته بتاريخ 5 أفريل 2016 أي بعد يومين فقط من نشر موقع انكيفادا مقاله الأوّل في اطار التحقيق العالمي حول “أوراق بنما”. وقد أغلقت الهيئة التحقيقَ بعد تلقّيها مراسلة رسمية من قاضي التحقيق المتعهد بالقضية في القطب القضائي والمالي في حين “تجاهلت” اللجنة البرلمانية تلك المراسلة ولم تُجب عليها.
من “سويسليكس” الى “أوراق بنما”.. رحلة الشتاء والصيف
انطلق مكتب التحقيق الثاني في القطب القضائي والمالي المتعهّد بقضيّة “أوراق بنما”، منذ منتصف شهر أفريل، في المرحلة الأولى من أبحاثه والمتمثّلة أساسا في جمع البيانات والوثائق والمعطيات المتعلقة بالملف. وقد تمّ استداء ممثّلين عن موقع “انكيفادا” بصفتهم “شهودا” للادلاء بما في حوزتهم من معطيات لانارة العدالة.
يقول القاضي المتعهد بالقضية في هذا السياق شارحا الخطوات التي يجب اتباعها في مثل هذه القضايا المعقدة :
“لن أحدّثكم عن جوهر القضية فالسر المهني يمنعني من ذلك، ولكن سأشرح لكم الوضع بشكل عام: هنالك مرحلتان أساسيتان في القضية .. مرحلة جمع البيانات من داخل تونس (الاعلام والشهود والبيانات البنكية الخ) ومن خارج تونس (الانابات العدلية في اطار التعاون القضائي الدولي). بعد ذلك تأتي المرحلة الثانية وتتمثّل في التكييف القانوني لتلك المعطيات لمعرفة ما اذا كانت تشكّل جرائمَ يعاقب عليها القانون التونسي أم لا. وتشمل هذه المرحلة استدعاء الشخصيات التي ذُكرت أسماؤها في أوراق بنما لسماعها”.
ومن المتوقّع أن يعتمد قاضي التحقيق على مجموعة من التساخير لخبراء مختصّين في المادة البنكية والتحليل المالي من أجل تفكيك البيانات وتحليلها وفهم خفايا الشركات والحسابات البنكية التي ثبت انشاؤها في الملاذات البنكية، وهي نفس الخطوات التي تمّ اتّباعها خلال التحقيق في قضية سويسليكس التي تمّ الشروع في نشر أجزائها بشكل موحّد انطلاقا من 8 فيفيري 2015.
في نفس الموضوع
قضيّة سويسليكس، من جانبها، لم تُدفن قضائيا بل خمَدت نسبيا لتطفو على السطح من جديد منذ تفجّر “أوراق بنما”، حيث عاد القطب القضائي للاستماع الى عدد من التونسيين ذوي الصلة بالقضية على غرار المحامي ورجل الأعمال والمرشّح السابق لرئاسة الجمهورية في رئاسيات 2014 سمير العبدلّي.
وللاشارة فانّ قاضي التحقيق المتعهد بالقضية (سويسيليكس) كان قد توجّه بانابة قضائية الى القضاء الفرنسي، في اطار التعاون القضائي، لطلب معلومات حول التونسيين الذين لهم صلة بفضيحة فرع الحسابات الخاصة للبنك السويسري HSBC. وقد استجاب القضاء الفرنسي ومكّن نظيره التونسي خلال جانفي 2016، أي بعد أشهر من فتح التحقيق، من قائمات تضمّ العشرات من الأسماء انطلق مكتب التحقيق في استدعاء بعضها وسماعها.
المأزق الكبير .. وتداخل التشريعي مع القضائي
بعد البدء الفعلي في التحقيقات، قام القطب القضائي والمالي المتعهّد بالقضية بمراسلة كلّ من الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد واللجنة البرلمانية التي تمّ انشاؤها للتحقيق في “أوراق بنما”، حاثّا ايّاهما على وضع المعطيات التي توصّلا اليها في اطار عملهما على ذمّة قاضي التحقيق المتعهّد بالقضية.
المراسلة، وفق العميد شوقي الطبيب رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، لم تتضمّن طلبا مباشرا بالتخلّي عن التحقيق، غير أنّ الرسالة كانت واضحة بالنسبة اليه حيث امتثل سريعا وأجاب كتابيا على رسالة القطب القضائي معلنا وضع حدّ للتحقيق الذي كانت الهيئة قد فتحته في الغرض منذ 5 أفريل المنقضي.
وعلى عكس الهيئة فانّ اللجنة البرلمانية تجاهلت المراسلة ولم تُجب عليها وواصلت أنشطتها. وقد قام عدد من النواب، أغلبهم من حزبي التيار الديمقراطي وحركة تونس الارادة، بالتقدّم بمبادرة تشريعية تتمثّل في مشروع قانون يتعلّق بتنظيم اللجان البرلمانية.
هذه المبادرة تمّت احالتها مؤخرا الى أنظار لجنة النظام الداخلي في البرلمان وسط غياب تامّ لأيّ نقاش في الفضاء العام بشأنها رغم أنّها تحتوي على فصول خطيرة تهدّد بالهيمنة على جزء من صلاحيات القضاء وتحويل لجان التحقيق البرلمانية الى ما يشبه المحاكم الموازية بالاضافة الى انتهاك السرّ المهني وضرب حرية الصحافة من خلال عدم استثناء الصحفيين من اجبارية الكشف عن المصادر والتحفّظ بشأن المعطيات السرية المتعلّقة بأعمالهم الصحفية.
صراع الشفافية داخل اللجنة البرلمانية
مازالت أشغال اللجنة التحقيقية البرلمانية لم تنطلق بعدُ غير أنّ الاحتجاجات ضدّها وضدّ النتائج التي قد تخلص لها قد انطلقت بمجرد الاعلان عن تركيبة قيادتها.
أحمد السعيدي، رئيس اللجنة، اسم معروف لدى المنظومة القديمة وليس غريبا عن مبنى البرلمان حيث جلس تحت قبّته طيلة فترتين نيابيّتين خلال عهد بن علي. وقد تمّ فرض اسمه، وفق وصف النائب غازي الشواشي عضو اللجنة عن التيار الديمقراطي، من قِبَل أحزاب الائتلاف الحاكم من أجل طمس الحقيقة ودفن التحقيق.
الشواشي أكّد انّ “عملية انتخاب أعضاء لجنة التحقيق في وثائق بنما تعدّ في حقيقة الامر افرازا لتوافق مشبوه بين نواب الاحزاب الحاكمة”، مشيرا الى أنّ نواب التيار والجبهة الشعبية طالبوا بأن يكون الرئيس أو على الاقل المقرر أو مساعده من المعارضة لاضفاء مصداقية على هذه اللجنة وفق قوله. مضيفا استغرابه من وجود اسم النائب عبادة الكافي ضمن لجنة التحقيق عن كتلة الحرة والحال أنّه أحد محامي محسن مرزوق في قضية بنما وكان يتحدث باسمه في الاعلام ويدافع عليه. “فهل من الممكن أن يكون محاميا لأحد الأسماء المذكورة في القضية ومحققا في القضية ذاتها؟ هل يعقل أن يكون خصما وحكما في الآن ذاته” وفق قوله.
انّ الاسماء المذكورة فى وثائق بنما تنتمي الى الاحزاب الحاكمة ما من شأنه أن يمس من مصداقية اللجنة التى تضم 18 عضوا ينتمون الى هذه الاحزاب من ضمن 22 نائبا .. لا ننتظر من هذه اللجنة شيئا. وأنا أتّهم الاحزاب الحاكمة بالسعي الى تمييع اللجنة وتهميش دورها علما أنّ الهدف من وراء بعثها هو البحث عن المسؤوليات السياسية، وليس الطابع الجزائي، وتفعيل الدور الرقابي للسلطة الشريعية على السلطة التنفيذية التي يمكن أن يكون لها يد في هذا الفساد.غازي الشواشي.
وكان الأستاذ عبادة الكافي، النائب عن كتلة الحرّة وأحد قيادات حزب “مشروع تونس” الذي يتزعّمه محسن مرزوق، قد صرّح لوكالة الأنباء الفرنسية بتاريخ 6 أفريل 2016 أنّ “القضية التي رفعتها هيئة الدفاع ضدّ موقع انكيفادا تتعلّق بالثّلب”.
وباتّصالنا به هاتفيا، مساء الجمعة 27 ماي، لمجابهته بما صرّح به زميله في اللجنة غازي الشواشي، أفادنا الكافي بأنّه “ليس هنالك وجود فعلي لهيئة الدفاع عن محسن مرزوق”، مضيفا أنّ “اللجنة البرلمانية لا قيمة لها (…) وهي تُعتبر تعدّيا على صلاحيات السلطة القضائية وانتهاكا لاستقلالية القضاء”. وختم محدّثنا بالقول “اعتبروني مستقيلا من الآن من هذه اللجنة اذا كان وجودي فيها يعكس تضاربا في المصالح”.
من جانبه، يراهن رئيس اللجنة أحمد السعيدي، كثيرا على تمرير مشروع القانون المتعلق بتنظيم أعمال اللجان البرلمانية على اعتبار أنّه سيعطي لجنته صلاحيات فعلية للعمل، مهددا بالاستقالة ان لم يتمّ المصادقة على المقترح.
ويعتبر السعيدي انّ هذا القانون سيمكّن اللجنة من كسب “صلاحيات شبه قضائية تجبر كلّ من يتمّ استدعاؤه على الحضور للاستماع له أمام اللجنة. وان رفض الحضور فانّ اللجنة ستصدر فيه بطاقة جلب تنفّذ بالقوّة العامة، حتّى وان كان من صحفيي انكيفادا الذين اشتغلوا على تحقيق بنما”.
ولا يرى السعيدي في هذه الصلاحيات التي يُطالب بمنحها للجنة التي يترأسها أيّ تداخل مع السلطة القضائية معللا ذلك بكون القانون الداخلي للبرلمان يتيح انشاء لجان تحقيقية. ويعتبر أنّ “اللجنة ستضع نتائج تحقيقاتها لاحقا على ذمة القضاء وستواصل مراقبته وقد تشهّر به ان لم يقم بواجبه” حسب قوله.
في المقابل، يرى النائب غازي الشواشي انّ “رئيس اللجنة يناور من خلال هذه التصريحات لكسب الوقت ودفن التحقيق”.
قانون لتكريس “القضاء الاستثنائي”
يحتوي مشروع قانون تنظيم اللجان البرلمانية، الذي تمّ اقتراحه خصّيصا لتوسيع صلاحيات لجنة التحقيق في فضيحة بنما، على 31 فصلا. وقد خصّ أعمال لجان التحقيق ب 12 فصلا.
الفصل 24 من مشروع القانون عدد 20/2016 المتعلق بتنظيم اللجان البرلمانية
يرى القاضي أحمد الرحموني، رئيس المرصد التونسي لاستقلال القضاء، “انّ هذا القانون غير دستوري ويتنافى مع مبدأ التفريق بين السلط، على اعتبار أنّ اللجان البرلمانية تتحدد صلاحياتها في حدود ما يقتضيه القانون الداخلي للبرلمان. بمعنى أنّ صلاحياتها يجب ألّا تتجاوز الصلاحيات المقررة للبرلمان”.
الصلاحيات المقترحة لهذه اللجنة التحقيقية تضعها في مستوى القضاء الاستثنائي. وتجعلها تدوس على الحدود الدستورية الفاصلة بين السلطتين القضائية والتشريعية (…) لا يمكن للجان البرلمانية توجيه استجوابات لأشخاص بصدد الاستماع اليهم في قضايا جارية فما بالك بتكوين لجان تحقيق موازية لقضايا تحقيقية جارية في القطب القضائي والمالي… نعم هنالك استثناءات ولكنّ فقه القضاء يعتبر أنّ ذلك يضرّ بسير التحقيق القضائي”.
أحمد الرحموني
نقابة الصحفيين : “قانون يعادي حرية الصحافة”
النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين أكّدت بدورها، على لسان مديرها التنفيذي الفاهم بوكدّوس، أنّها فوجئت بمشروع القانون نظرا “لتأثيراته الخطيرة على حرية التعبير و الإعلام، وقضمه حتى للحقوق المضمنة في الدستور التونسي”.
بوكدّوس تطرّق الى ما اعتبره “ثغرة متعمّدة” في هذه القانون والمتمثّلة أساسا في عدم استثناء الصحفيين من اجبارية خرق السر المهني والادلاء بمصادر معلوماتهم.
إنّ الاستثناء الذي تمّ فرضه في القانون الأساسي المتعلق بمكافحة الإرهاب ومنع غسيل الأموال، في ما يتعلّق بسرية مصادر المعلومات وحمايتها، يسعى المشروع الجديد إلى سلبه في اتجاه مزيد التضييق على العمل الصحفي واستقلاليته، وهو ما من شأنه أن يؤزّم العلاقة بين القطاع الصحفي ومجلس نواب الشعب.
وترى النقابة أنّ تفعيل عمل اللجان لا يتأسس على تحويلها إلى سلطة تنفيذية أو محكمة موازية بقدر ما يعتمد على الإرادة السياسيّة لمكوناتها التي لا تزال توصف ب”التردد والتباطؤ والتواطؤ” وفق قول المدير التنفيذي للنقابة.
لئن كانت التداعيات القضائية للجانب التونسي من “أوراق بنما” مدوّية ومثيرة للجدل فانّ التداعيات السياسية والاعلامية -وفق بعض المتابعين- جاوزت كل الانتظارات وانزلقت بجانب من النقاش العام الى خانة تصفية الحسابات السياسية بين مختلف الفرقاء الفاعلين في المشهد السياسي.