تعلقت آمال داوود لأكثر من عام بالحصول على بطاقة إقامة نهائية، تلك الوثيقة الثمينة الكفيلة بتذليل العقبات في وجه كل شخص أجنبي مقيم في تونس. حصل الشاب في السابق على بطاقة إقامة مؤقتة صالحة لمدة ثلاثة أشهر أي ما يطابق الوقت الممنوح للأجهزة الاستخبارية للتحري في شأن كل متقدم ومتقدمة بطلب في الغرض قبل منح حق الإقامة النهائي. "كنت أعود إلى مركز الأمن كلما انتهت صلاحية بطاقتي المؤقتة لأتفاجأ بأن بطاقتي النهائية لم تجهز بعدُ، دون مدي بأي تبرير يُذكر" يروي داوود. وبعد مرور سنة، فقد الطالب كل أمل في الحصول عليها شأنه شأن معظم أبناء وطنه المقيمين مثله في حي باب سويقة.
قرر داوود في نهاية المطاف بناءً على نصيحة أحد الأصدقاء الانتقال للإقامة في مكان آخر بغرض تغيير مركز الأمن الراجع له بالنظر بيد أن الإجراءات أضحت أكثر تعقيدًا وإرهاقًا من ذي قبل.
"لست هنا بغرض التنزه بل للدراسة. منذ انتهاء صلاحية بطاقتي المؤقتة، أُعتبر في وضعية غير قانونية. ماذا لو قبضت عليّ الشرطة؟"
في يوم 6 فيفري الماضي نددت جمعية الطلبة والمتربصين الأفارقة في تونس (AESAT) بحملة "الإيقافات التعسفية التي تطال الأجانب من ذوي البشرة السوداء" في العديد من أحياء العاصمة، خاصة منها منطقة أريانة. وفي ظل سياقٍ يغيب فيه اليقين بالنسبة إلى الأشخاص من جنوب الصحراء، أصبح الحصول على بطاقة إقامة نهائية مسألة أمنية بامتياز أكثر من أي وقت مضى.
موجة اعتقالات تعسفية وتحليلات جينية
يروي صموئيل* طالب كونغولي الجنسية مقيم في تونس: "كنت في انتظار المترو للالتحاق بشقيقي الذي كان قد وصل لتوه إلى تونس حين أوقفني رجال الأمن طالبين مني الاستظهار بوثائقي الشخصية، ورغم أن وضعيتي كانت سليمة زجوّا بي بكل عنف في شاحنة واقتادوني إلى مركز الأمن بأريانة". عند وصوله إلى هناك، تفاجأ بوجود حوالي خمسين مواطناً آخر من دول جنوب الصحراء الذين كانوا في الانتظار هناك منذ عدة ساعات. ولم يكن يخفى عن صموئيل خبر "الإيقافات التعسفية" التي تمارسها الشرطة على الأجانب من ذوي البشرة السوداء خلال الفترة الأخيرة بحثًا عن مهاجرين غير نظاميين من بينهم.
لم يكترث أعوان الأمن لوثائقه الشخصية التي كانت سليمة لا يشوبها غبار بل "بادروا برفع بصماتنا وبجمع عينات من لعابنا لإجراء تحاليل جينية، ثم التقطوا صورنا ماسكين لافتات تحمل أسماءنا باللغتين العربية والفرنسية".
"كان ذلك مهينا وعنصريا، كان الأمر أشبه بأحداث فيلم".
رصدت جمعية الطلبة والمتربصين الأفارقة في تونس على مدى شهر ونصف حوالي 300 عملية إيقاف مشابهة لتلك التي تعرض لها صموئيل وتكرّرت كلها على نفس النحو سواء كان ذلك أمام الجامعات أو داخل المنازل أو في المتاجر المجاورة. يدقّ كريستيان كوونغانغ رئيس الجمعية ناقوس الخطر قائلا: "يُقتاد طلابنا إلى مراكز الأمن حيث يُنكل بهم [...] ويُعاملون معاملة مهينة"، ولكن لا أثر لأي تبرير رسمي لهذه الظاهرة إلى حد هذه الساعة بينما يتذرع أعوان الأمن بدوافع "إحصائية" عند توجيه السؤال لهم وتمتنع وزارة الداخلية عن الرد على استفسارات إنكفاضة.
"هذا التسجيل غير قانوني" يؤكد أحد المحامين المطلعين على الملفّ. "أولا لأن عملية الإحصاء، إن وُجدت حقا، لا تُجرى في مراكز الأمن وإنما يُعهد بها إلى مكتب مختص". ويشدد المحامي على أنه طالما لم يتم الإعلان عن هذه الممارسات للعموم، فإنها تُعد خارج الأطر القانونية إذ "لا يمكن إجراء هذا النوع من رفع العينات - وفقًا للعديد من النصوص الدولية - في غياب قانون ينص عليها صراحةً وقت حدوث الوقائع".
تندد روضة السايبي عن الجمعية التونسية لمساندة الأقليات من ناحيتها بمثل هذه الأساليب في التعامل وتعتبره "أمرا مخزيا حقا والسلطات تعرف ذلك حق المعرفة وهو ما يبرر تكتمها عليه. كيف يمكن جمع عينات من الحمض النووي لأشخاص في وضعية قانونية سليمة ولم يقترفوا أي جنحة؟". ومن جانبها أعربت جمعية الطلبة والمتربصين الأفارقة خلال مؤتمر صحفي منعقد في مقر النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين يوم 10 فيفري عن "استعدادها لمساعدة السلطات في إطار صون كرامة الطلاب" في صورة الإعلان عن قواعد تسجيل جديدة.
في نفس الموضوع
كل مركز أمن يطوّع القانون حسب هواه
"أشعر بالخوف" يسرّ داوود الطالب القُمري. مع مرور الأيام، تعمقت شكوكه وتزايدت مخاوفه، ورغم حرصه على تسوية وضعيته، باءت محاولته للحصول على بطاقة إقامة من مركز الأمن الجديد بالفشل بعد أكثر من شهر منذ شرع في الإجراءات. اكتشف الطالب الشاب بعد تغيير مقر إقامته أن القواعد المعمول بها في مركز الأمن الجديد مختلفة عن تلك المعتمدة في المركز السابق كما تختلف الوثائق وعدد النسخ المطلوبة باختلاف المراكز. "يضطرونني إلى القدوم إلى مركز الأمن كل يوم طالبين مني مدهم بوثائق جديدة في كل مرة. لقد عيل صبري، لما لا يمدونني بقائمة كاملة للوثائق المنقوصة؟". تتعدد الشهادات التي تفيد باختلاف الوثائق المعتمدة من مركز أمن لآخر على الرغم من ضبط قائمة الوثائق المطلوبة على بوابة الإرشاد والاتصال الإداري ( SICAD ).
ومع ذلك، يفترض بالعملية أن تكون منظمة بإطار قانوني يتمثل في قانون سنة 1968 المتعلق بحالة الأجانب بالبلاد التونسية إلى جانب مرسومه التطبيقي. ويرى أحد المحامين الذين تواصلنا معهم أن "الإشكال يكمن في الإلمام بالقواعد الدقيقة" ويضيف أن "هذا القانون لا يأخذ بعين الاعتبار لا التواريخ الفعلية للحصول على الشهادات المدرسية ولا التعطيلات الإدارية"، فبطاقة الإقامة صالحة نظريا لمدة سنة واحدة ولكن بفعل التأخير في إصدارها، فإنها في واقع الأمر لا تكون سارية المفعول إلا لبضعة أشهر فحسب.
في مكتب الأجانب التابع لأحد مراكز الأمن بالعاصمة، زاد تعيين رئيس جديد قبل بضعة أشهر أوضاع الأفارقة جنوب الصحراويين تأزما حيث فرض الأخير مثول المستأجر والمالك لدى منطقة الأمن العمومي وطلب إصدار شهادة خطّية في سعي منه إلى التصدي إلى عقود الإيجار المزورة التي يعتقد أن "الأفارقة" يتداولونها فيما بينهم.
وافق صاحب البيت الذي يؤجّره داوود على اصطحابه لإتمام هذا الإجراء الذي يستغرق ما لا يقل عن ثلاثة أيام: "أجبرونا على الانتظار لساعات طويلة ثم أحالونا إلى البلدية التي طلبت منا بدورها الرجوع إلى مركز الأمن. عانى مؤجري الطاعن في السن الأمرين جراء هذا التنقل ذهابًا وإيابًا"، يروي الطالب الشاب.
هذا الإجراء يثير استياء أعوان مكتب بطاقات الإقامة أنفسهم إذ "يزيد هذا الأمر من تعقيد الإجراءات كما أنه يستغرق وقتًا أطول بكثير" حسب قول إحداهن. ولا يشمل الإجراء المذكور سوى أصيلي دول جنوب الصحراء ؛ على نفس شاكلة رفع البصمات وجمع اللعاب. ولكنه "قانون جديد" حسب تبرير إحدى موظفات مكتب الأجانب في حين أنه لا يوجد أي إطار تشريعي ينص على معاملة تمييزية تختلف باختلاف الجنسية. تشرح إحدى الموظفات في مركز أمن آخر بالعاصمة بنبرة التواطئ أن ذلك "سر من بين أسرار مراكز الأمن" وأن إجراءات "التسجيل" الجديدة هذه جاءت كردة فعل على "السرقات والجرائم" المزعومة التي يرتكبها أصيلو جنوب الصحراء.
يؤكد أحد المحامين المطلعين على الملف: "إننا إزاء تمييز مؤسساتي بحت لا أكثر".
تمييز وسوء معاملة
يقول داوود: "دائمًا ما أُعامل معاملة سيئة للغاية في مركز الأمن. يعطونني انطباعا بأنني مجرم في حين أنني أبذل كل ما في وسعي للالتزام بالقانون في هذا البلد". ويفصّل الشاب كافة أشكال سوء المعاملة التي يحظى بها هناك من استهزاء به بلغة لا يتقنها بعدُ واستفساراته التي جلّما تبقى عالقة دون إجابة، وساعات الانتظار المريروالصراخ عليه أحياناً، والقائمة تطول. كل هذا الوقت المهدر في مركز الأمن يمثّل بالنسبة إلى الطالب الشاب حصص دراسة صباحية ضائعة محسوبة عليه ويحق لجامعته إلغاء سنته الدراسية في حال تغيب أكثر من ثلاث مرات. "لحسن حظي كانوا متفهمين ولم يصبني ذلك بضرر في نهاية الأمر".
بالعودة إلى مكتب الأجانب، استلمت الموظفة كوثر* لتوها العشرات من بطاقات الإقامة المؤقتة التي صدّق عليها رئيس المكتب وشرعت تفرزها. في جانب، أصيلو دول جنوب الصحراء وفي جانب آخر، بقية المتقدمين بطلب للحصول على بطاقة إقامة. تلتفت الموظفة إلى شخص فرنسي الجنسية قائلة: "بطاقتك جاهزة". أما أصيلو وأصيلات دول جنوب الصحراء فسيتعين عليهم الانتظار لمدة شهر آخر وهو الأجل الأقصى لإصدار بطاقة إقامة مؤقتة، دون التفضّل عليهم بأي تفسير يُذكر حول أسباب هذا التمديد في حين أن البطاقات جاهزة.
إلى جانب كل ذلك، تُعتبر الرشاوى الصغيرة واستعمال الواسطات ممارسات شائعة. فمثلا تقدم مطرب ليبي شاب معروف لدى أعوان مركز الأمن إلى مكتب الأجانب دون تقديم أية وثيقة فطُلب منه أن يعود قُبيل وقت الإغلاق "لتسوية الأمر فيما بينهم". أما معاملة بعض موظفي مراكز الأمن تجاه الأفارقة جنوب الصحراويين بازدواجية وعنصريّة فتكاد تكون عن اقتناع تام بل ويذهبون إلى المطالبة بترسيخها: "هل تريد أن يسرقنا الأفارقة ويقتّلونا؟ هكذا أحسن".
يقول محام مقرب من الملف أن الأمر وصل إلى حد إيهام الطامحين إلى الحصول على بطاقة إقامة من بين الأفارقة جنوب الصحراويين بقبول طلبهم ثم "يُطلب منهم إمضاء وثيقة محررة بالعربية هي في الواقع تنص على رفض منحهم بطاقة الإقامة وعلى وجوب مغادرة التراب التونسي في غضون ثمانية أيام. وبما أنهم لا يفهمون ما هو مكتوب فإنهم ينصاعون ويوقعون عليها".