منذ نشر القائمة التي طال انتظارها، لم تـ·يتوقف هؤلاء وغيرهم·ـن كثيرون وكثيرات عن الاحتجاج. في 19 ماي 2021، وقصد المطالبة بتحقيق العدالة، شارك زياد برفقة جواهر وليلى للمرة الألف في اعتصام نُظّم أمام الهيئة العليا لحقوق الإنسان والحريات الأساسية التي تتخذ مقرا لها أين كانت قبلها "لجنة شهداء الثورة ومصابيها" التي ضبطت القائمة الرسمية. على الأرضية، جلس·ـت بعض المتظاهرين والمتظاهرات معلنين·ـات استعدادهم·ـن للمكوث "إلى أن يزيحونا بالقوة".
تكررت في السنوات الأخيرة مظاهرات من هذا القبيل أمام الهيئات المسؤولة عن الملف للمطالبة بنشر القائمة الرسمية. ولكن نشرها في الرائد الرسمي يوم 19 مارس 2021 لم يهدئ الأنفس، لتتعالى إثر ذلك الأصوات مطالبة بمراجعتها وتعديلها لإدراج أسماء الأشخاص ممن يعتبرون أنفسهم منسيين.
اعتراف أول في 2011
في 17 جانفي 2011، أُردي كريم قتيلا برصاصة قناص حينما كان يشارك في حراسة حيه برادس في الضاحية الجنوبية لتونس. حين بلغت أمَّه الفاجعة، لم تقدر على الحركة للمطالبة بالعدالة لابنها : "من هول الصدمة لم أُقدم على أية عملية إدارية". تستفيض الأم مفسرة أن "الحقد" و"السخط" الذين أحسّتهما أفقداها حركتها.
لم تمض بضعة أيام حتى اتصلت بها ولاية بن عروس حيث تقطن وطلبت منها جلب شهادة وفاة تثبت موت ابنها، فتوجهت للمستشفى لاستخراجها. ولم يطل الأمر حتى اعترفت الولاية بكريم كشهيد الثورة. على إثر ذلك، تلقت ليلى تعويضات أولية، تصف : "جاءني كل شيء دون جهد مني : تسلمت 40.000 دينار وبطاقة تنقل، وعُينت ابنتي في الوظيفة العمومية".
منذ 2011، قامت الولايات بتعداد الشهداء والشهيدات والمصابين والمصابات ليُستعمل بعدئذ كقاعدة بَنَت عليها وزارة الداخلية قائمة وقتية. ورغم أن القائمة الرسمية لم تكن جاهزة بعد في ذلك الحين، سمحت هذه المبادرة بجبر الضرر من خلال تعويضات وبطاقات تنقل وعلاج. ومثلما حدث لابنة ليلى، تم تشغيل 2700 مصاب ومصابة و200 شخص من عائلات الشهداء والشهيدات في الوظيفة العمومية وفق الأرقام الواردة عن وزارة حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية في أكتوبر 2013.
أُصيب زياد هو الآخر برصاصة قناص خلال حراسته لحي بسوسة يوم 14 جانفي 2011 : "اتصل بي صديق كان يخشى أن تتم سرقة المجوهرات في محلات المدينة العتيقة وطلب مني مرافقته لحراستها"، فلم يتردد زياد عن القبول حسب روايته.
على عين المكان، شهد الشاب أحداثا أشبه بساحة حرب. طلقات نارية تقطّع الأجواء في كل اتجاه، أصابته واحدة منها في ذراعه ليُنقل إلى المستشفى على عجل.
"أجروا عملية على ذراعي ثم تركوني أذهب. مكّنوني من إذن بالتوقف عن العمل لمدة 60 يوما ومنحوني أدوية للتخفيف من الآلام. بحوزتي كل الوثائق التي تثبت ذلك."
منذ 2011، تلقى زياد تعويضا أوليا بـ6000 دينار على قسطين.
تلقت جواهر، مثل زياد، تعويضا بـ6000 دينار. أُصيبت هذه المرأة يوم 25 فيفري 2011 حينما كانت بصدد التظاهر خلال أحداث القصبة 2 في تونس العاصمة : "أطلقوا علي رصاصة في رجلي. لدي شهادة طبية تثبت ذلك ومقطع فيديو وشهود من بين صفوف المناضلين الآخرين".
وسرعان ما سُجّل اسمها على قائمة ولاية المهدية. وعلاوة على التعويضات التي تسلمتها، تم توظيفها في وزارة التربية سنة 2013، كما أنها تتمتع ببطاقة علاج وتنقل. تروي : "كانت الولاية تتصل بي كلما انضاف إجراء جديد يخص الشهداء والمصابين. ظننت فعلا أن الأمر قد قضي".
خيبة أمل الضحايا
طال انتظار القائمة الرسمية لشهداء وشهيدات الثورة ومصابيها ومصاباتها طيلة 10 سنوات. كما شاب عملية إعدادها تعتيم كبير، وقلّما تواصلت اللجنة بشأن أعمالها. تؤكد جواهر من جهتها أنها "لم أحط علما بهذه اللجنة أبدا" إلا حينما نُشرت القائمة على الانترنت في 2019، قائلة : "لم أكن على دراية بأي شيء بما أنهم لم يكشفوا عن عملهم ولم يعلنوا شيئا البتة".
في نفس الموضوع
عند ذلك كانت المفاجأة الكبرى، حين نُشرت القائمة أخيرا في 2021 ولم يجد زياد وجواهر اسميهما، كما غُيّب اسم كريم نجل ليلى من القائمة وكأن التعداد لم يشملهم·ـن.
وفي حين كان من المفروض على اللجنة أن تقوم بالتحقيق وإجراء مقابلات مع المعنيين والمعنيات بالأمر، تؤكد ليلى أن أحدا لم يتصل بها.
تقول متأسفة : "لم يتصل بي أو يتحدث معي أحد من اللجنة. لم أجد اسم ابني على القائمة الرسمية. إذن في البداية تم الاعتراف به كشهيد ولكن الأمر تغير بعد ذلك. أنا لا أفهم شيئا".
تعتبر جواهر أيضا أنّه كان من المفترض أن تتصل بها اللجنة : "أظن أنها لم تقم بعملها على أتم وجه، وأنها لم تقم بإجراء مقابلات مع المعنيين بالأمر، وأنا أولهم".
وفي حين أن وضعية جواهر تتسق مع المعايير التي أقرها مرسوم 97 وقانون 26 اللذين يعرّفان الشهداء والشهيدات والمصابين والمصابات من بين من تظاهر·ت فحسب. وهو تعريف يهمّش أولئك الذين أُصيبوا وأُصبن أو قُتلوا وقُتلن على هامش الاحتجاجات.
بما أنها أُصيبت خلال أحداث القصبة 2، تدخل جواهر تماما في هذا التعريف الرسمي -رغم تحفظاتها الشخصية حوله باعتباره ذا صبغة استبعادية. ولكن على المستوى الشخصي، تعتبر حالتها "واضحة"، الأمر الذي يجعلها لا تفهم سبب تغييبها عن القائمة.
زياد هو الآخر لا يفهم شيئا. فوفقه، حتى المحكمة العسكرية اعترفت بوضعيته كمصاب.
"كانت حالتي واضحة، ولم يكن هنالك أي مشكل على هذا المستوى. فحصني الطبيب الشرعي بالمحكمة العسكرية وأكد لي أن سقوطي البدني يبلغ 18 %".
يجدر التذكير بأن القانون يحدد السقوط البدني الأدنى بـ6% حتى يتم الاعتراف بالشخص كجريح الثورة.
هكذا، وبعد عشرية كاملة، قد يُحرم المنسيون والمنسيات من جبر الضرر الذي تحصلوا وتحصلن عليه. هذا ما أكده عبد الرزاق الكيلاني رئيس "الهيئة العامة للمقاومين وشهداء وجرحى الثورة والعمليات الإرهابية" حين أعلن في ماي أن بطاقات النقل والعلاج ستُحذف بداية من 30 جوان المقبل بالنسبة لمن لم تشملهم أو تشملهن القائمة الرسمية.
"يتلاعبون بنا"
تعتبر جواهر أن ورود اسمها بالقائمة يرادف الاعتراف بنضالها وتضحيتها وتسرّ قائلة : "أنا مرهقة، ناضلت من أجل هذا البلد. ليس ذلك مزية ولكن ليس من المعقول أن يُحذف اسمي. هذا رمزي بالنسبة لي وبالنسبة لتونس".
حاليا ليس للضحايا الذين يريدون ويُردن رؤية العدالة تتحقق إلا حل وحيد : رفع شكوى لدى المحكمة الإدارية. هذا بالضبط ما لجأت إليه ليلى أم كريم وما فعله زياد وجواهر، ولكن لم تأت إجابة تذكر.
يفسر إلياس بن سدرين كاهية مدير مكلف بالتحقيق صلب هيئة الحقيقة والكرامة المنتهية ولايتها أن "الشكاوى المرفوعة لدى المحكمة الإدارية تستهلك وقتا طويلا بما أن هذه الأخيرة تلجأ إلى القيام بتحقيقات".
"عبد الرزاق الكيلاني نفسه قال أن المحكمة الادارية تأخذ وقتا طويلا، ورغم ذلك يتم إرسالنا إلى هناك. إنهم يتلاعبون بنا"، هكذا يقول علاء الذي أُصيب يوم 13 جانفي 2011 بالقصرين حين كان يتظاهر. لم يرد اسمه هو أيضا في القائمة الرسمية.
وفق إلياس بن سدرين، كان عبد الرزاق الكيلاني قد وعد في جانفي 2021 بتكوين لجنة صلب الهيئة تتولى إعادة فحص الملفات وتعديل القائمة قبل نشرها، مؤكدا "أن عددا كبيرا من طلبات التظلم تم إيداعها من قبل الضحايا [لدى الهيئة، ملاحظة المحرر] ولكن لم يتم إحداث أية لجنة ونُشرت القائمة كما هي".
تقول جواهر التي لا تزال تنتظر تفاعلا : “لدي ما يثبت إيداع هذا التظلم، ولكن لم يردني أي جديد. قرر السيد الكيلاني بمعية نفسه أنه لن يأخذ في عين الاعتبار هذه الشكاوى. أرى أن التعامل مع هذا الملف يتمّ بكامل الاستخفاف".
في المقابل، ينفي عبد الرزاق الكيلاني هذه التصريحات ويؤكد أن الهيئة "ليست من مهامها معالجة التظلمات" وأنها لم تتلق "أي تظلم" أصلا.
من جهته، يقول علاء أن توفيق شرف الدين، الرئيس الجديد للهيئة العليا لحقوق الإنسان والحريات الأساسية قد اقترح مؤخرا حلا للتجاوب مع مطالب المحتجين والمحتجات من خلال دمج القائمة الرسمية مع القائمة التي نشرتها هيئة الحقيقة والكرامة في إطار أعمالها للتوثيق حول انتهاكات حقوق الإنسان في الفترة الممتدة بين 1955 و 2013 في تونس، والتي شملت أسماءً لم يرد ذكرها بالقائمة الرسمية، على غرار جواهر وزياد وعلاء.
وإذ يرى إلياس بن سدرين أنه اقتراح ينم عن "طيب نية"، لكنه في واقع الأمر، لن يتم تطبيقه. ذلك أنه "لا بد من إعادة مراجعة القانون حتى يمكن من دمج القائمتين"، وهي مبادرة من غير الوارد أن تتحقق باعتبار "وضع الساحة السياسية اليوم".
تقع مسألة الاعتراف بالشهداء والشهيدات والمصابين والمصابات في قلب مسار العدالة الانتقالية المصابة بالشلل حاليا نظرا لعوائق متعددة. وعلاوة على الشكاوى المودعة لدى المحكمة الإدارية من قبل المنسيين والمنسيات، تُضاف قضايا أخرى تتولاها المحكمة العسكرية، ولكن، دون أي ينتج عن كل ذلك أية مخرجات تُذكر.
تابعونا وتابعننا في الحلقة الرابعة المقبلة للحديث عن العوائق التي تعطل العدالة الإنتقالية، قريبا وحصريا على إنكفاضة.