"أشبه بالسجن".. مبيت كارافال بأريانة، مثال عن أزمة السكن الجامعي في تونس

غادرن عائلاتهن، فوجدن أنفسهن في مكان لا يشعرن فيه بالأمان.. يتقاسمن غرفاً خانقة، جدرانها تصبغها الرطوبة.. يُصبن بنزلات البرد المتكررة لغياب التدفئة.. يشعرن بالقرف من الحمامات، ومن المطبخ المشترك على حد سواء.. وكثيرات منهن تعرضن للتحرش في محيط المبيت… هذه قصّة طالبات مبيت كارافال بأريانة، الذي يجسّد لوحده أزمة السكن الجامعي والخدمات الجامعية بتونس، بكافة أوجهها المتشعبة. 
بقلم | 09 أوت 2025
15 دقيقة
في عام 2022، كان نجاح مريم المبهر في امتحان البكالوريا، شعبة الآداب، بمثابة نقطة تحول فارقة في حياتها، فتحت أمامها الطريق لتحقيق حلم كبير: الانتقال إلى تونس العاصمة لمواصلة دراستها في كلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية.

استقبلت عائلتها المنتمية إلى الطبقة الوسطى والمثقلة بالأعباء، خبر قبولها في السكن الجامعي بمبيت 'كارافال' بفرحة عارمة بدّدت تخوفًا من الأعباء المالية الإضافية التي قد تطرأ في حال لم تُوفَّق مريم في الحصول على السكن الجامعي. لم يكن 'كارافال' في نظر مريم مجرد مبيت، بل مساحة يُروَّج لها كبيئة متميزة مخصصة للطلبة المتفوقين·ـات، قريبٍ من الجامعة، ويوفر ظروفًا مثالية للتحصيل الأكاديمي.

في كل سنة جامعية جديدة، يغادر آلاف الطلبة والطالبات أماكن إقامتهم وأحضان عائلاتهم نحو المبيتات الجامعية، بحثًا عن فرصة تعليم ومستقبل أفضل. ويمثل ضمان سكنٍ جامعي، بالنسبة للكثيرين والكثيرات منهم·ـن، الشرط الأول لمواصلة الدراسة.

ويتم إسناد السكن الجامعي في تونس للطلبة الجدد الموجهين·ـات إلى مؤسسات التعليم العالي، إضافة إلى الناجحين·ـات في مناظرة إعادة التوجيه الجامعي، وفقًا لشروط محددة:

في بلدٍ يحتوي على أكثر من ربع مليون طالب وطالبة، ولا يتجاوز فيه عدد المتحصلين·ـات على سكن جامعي 24% منهم·ـن، وتُخصَّص فيه ميزانيات محدودة للخدمات الجامعية تشهد ركودا منذ سنوات، تتحول تجربة الإقامة الجامعية إلى معركة يومية من أجل الكرامة. غرفٌ مكتظة، مرافق معطلة متردّية، طعام رديء في غالب الأحيان، حالات تحرّش، ونقص في الأمن والنظافة... واقعٌ يشترك فيه عشرات الآلاف من الطلبة المقيمين·ـات في المبيتات الجامعية من شمال البلاد إلى جنوبها.

 في إطار ضمان حق الردّ، أودعت إنكفاضة في أكثر من مناسبة، طلبات إجراء مقابلة مع إدارة المبيت ومسؤولين·ـات بديوان الخدمات الجامعية للشمال، وذلك عبر المراسلات والتذكير بالبريد الإلكتروني من أجل الاستفسار عن الإشكاليات المعروضة في هذا المقال ومدى وجود حلول لها. إلا أننا لم نتلق ردا إلى حد تاريخ النشر.

من خلال مثال مبيت 'كارافال'، ترسم إنكفاضة في هذا التحقيق، بالأرقام والشهادات، ملامح منظومة خدمات جامعية تعيش أزمة صعبة تلقي بظلالها على معيش طلّابي أصعب. وهي أحد عوارض تدهورٍ متواصل منذ سنوات في قطاع التعليم العالي العمومي، والذي يتجلّى كذلك في انخفاض مطّرد لعدد الطلبة في الجامعات العمومية مقابل تزايدهم في التعليم العالي الخاص، وذلك منذ 2011 على الأقلّ.

«أشبه بالسجن»

في سبتمبر من سنة 2022، جمعت مريم أغراضها ومستلزماتها وتركت بلدتها الوادعة، الكريب، في الشمال الغربي التونسي منطلقةً نحو العاصمة رفقة والدها تحدوها آمال في حياة طلابية زاهرة. بلغت المبيت، وبعد تأخير كبير في تسلّم المفاتيح، دخلت الغرفة التي قيل إنها "ممتازة"، وهناك، سرعان ما تبدّدت الصورة المثالية التي رُسمت في مخيلتها، وكشف الواقع عن وجه قاتم.

"لم تكن تتسع حتى لشخص واحد" تروي مريم لإنكفاضة، لكن إدارة المبيت كان تخصصها لشخصين. تحركت هي ووالدها بصعوبة وسط الغرفة الصغيرة وانتابها شعور بالضيق الخانق، تقول: "كانت المساحة ضيقة، 4 أمتار في 4 أمتار، لدرجة أن ترتيب الأغراض الشخصية كان معضلة". وما زاد الطين بلة "كثافة الغبار في أرجاء المكان والندى المتراكم على الجدران المتشققة والأرضية المهترئة".

تروي مريم: "مع محاولتي ترتيب أغراضي مع والدي، بدأت مشاعر الحماس تتحول إلى خيبة أمل عندما لاحظتُ نظراته الحزينة، وهو يحاول مواساتي قائلا أن هذا الوضع شائع بين الطلبة، وليس حالة استثنائية".

الغرفة التي خُصصت لمريم كانت نظريا "مزدوجة"، أي مصنّفة لتأوي طالبتين اثنتين. غير أن ظروفها كما عاينتها الطالبة غير مناسبة، وهو ما يعكس إحدى أبرز التناقضات في سياسة الإيواء الجامعي: التصنيف الإداري لا يعكس دائمًا الواقع المعيشي.

ولئن كانت مريم تقيم في غرفة ثنائية، فإن الإحصاءات الرسمية تُظهر تزايدًا مقلقًا في الاعتماد على الغرف الجماعية ثلاثية ورباعية الأسِرّة، في مخالفة صريحة لخطة وزارة التعليم العالي الرامية إلى التخلص التدريجي منها واعتماد ذلك كمؤشر من مؤشرات "الجودة لتحسين ظروف الإيواء".

تعكس هذه الأرقام عجزًا واضحًا عن تحقيق المؤشرات المعلنة لتحسين ظروف الإيواء الجامعي، وذلك مرده "قلة توفر الاعتمادات التي تتماشى مع هذه الاستراتيجية"، وفق تقرير حول الخدمات الجامعية صادر عن محكمة المحاسبات. وبالفعل، ورغم تضاعف ميزانية التعليم العالي منذ سنة 2011 من حيث الحجم، فإن نسبتها من الناتج المحلي الخام تضاءلت بشكل منهجي.

لكن بالنسبة لمريم وزميلاتها، لا تهمّ كثيرًا لغة المؤشرات أو التصنيفات الإدارية، المهمّ هو المعيش اليومي والواقع العياني. تكتب إحدى الطالبات لإنكفاضة: "الغرفة صغيرة جدًا، فيها كتبي، أحذيتي، مأكولاتي... بالكاد أستطيع التحرك".

يضم المبيت الجامعي طريق المطار بأريانة، المعروف باسم "كارافال" 535 طالبةً مقيمة، وقد أجرت إنكفاضة استبيانا موجها إليهن خلال السنة الجامعية المنقضية، لتؤكد 70 إجابة أن تجربة مريم بالفعل ليست استثناءً، بل تعكس "الحالة المزرية" للمبيت على حد وصف إحداهن. في الرسم البياني التالي تقييمهن للظروف المعيشية بمبيت كارافال.

على مدار سنتين من تجربتها في كارافال، واجهت مريم ظروفًا صعبة اضطرّت خلالها إلى التحلي بصلابة غير مسبوقة للتعامل مع الواقع المفروض عليها وزميلاتها. كانت الأعطاب والنواقص التي تلاحظها في كل مرة تتكرر، ما جعل تجربتها في هذا المبيت "أشبه بالسجن" على حد تعبيرها. وقد تحصّلت إنكفاضة على صور القطتها بعض المقيمات تؤكّد اهتراء أجزاء من المبيت، وانتشار الرطوبة في الجدران التي تسببت في مشاكل تنفّس لعدد من الطالبات.

صور ملتقطة خلال السنة الجامعية المنقضية من داخل بعض وحدات مبيت كارافال تحصّلت عليها إنكفاضة من المقيمات.

كانت الحمامات التي يُفترض بها أن تلبي احتياجات المئات، قليلة العدد و "في حالة متدهورة". تصف مريم قاعات الأدواش – البالغ عددها 8 بعدد وحدات المبيت، "كأنها مخازن مهجورة، جدرانها مغبرة وماؤها قاتم اللون، كأنني أستحم في التراب".

تكتب طالبة أخرى في إجابتها على استبيان إنكفاضة: "ليس لديكم أدنى فكرة عن بشاعة أو رائحة الماء الذي سبب لي ولأصدقائي مشاكل صحية".

وعلى 8 وحدات سكنية مكونة للمبيت، "فقط وحدتان مجهزتان بالماء الساخن للاستحمام"وفق مريم، وبالتالي تضطر كثيراتٌ منهنّ إلى التنقّل طويلابين الوحدات لمجرد الاستحمام. فيما تذكر مقيمة أخرى بالمبيت في إجابتها على الاستبيان أن "الماء في أدواش المبيت إما ساخن جدًا أو بارد كالثلج ومعظم الشبابيك مكسورة". وفي ظل غياب التدفئة، تؤكد عدة طالبات إصابتهن المتكررة بنزلات البرد، في حين تشكو إحداهن من  "تسرب المياه من الحمامات وغياب الصيانة رغم التشكيات المتكررة"

صور ملتقطة خلال السنة الجامعية المنقضية من داخل بعض وحدات مبيت كارافال تحصّلت عليها إنكفاضة من المقيمات.

تخبرنا المقيمات أيضا أن المطبخ المشترك، الذي كان يفترض به أن يكون متنفسًا لتجربة الطهي الجماعية، ضيّق ويفتقر لتجهيزات أساسية مثل الأفران والثلاجات الضرورية لحفظ الطعام. الحوض كان دائم التلف و "لا يتم إصلاحه إلا بشكل موسمي"حتى تضطرّ إحداهن إلى "غسل الأواني حيث تُغسل الأقدام"، بينما المواقد التي لم يتجاوز عددها سبعة أو ثمانية "فكانت بالكاد تعمل".

تقول إحدى الطالبات فضلت عدم الكشف عن هويتها: "المطبخ سيء جدًا جدًا، أشعر بالقرف أثناء إعداد الطعام خاصة في شهر رمضان".

هذا الوضع يجبر بعض الطالبات على الاعتماد على أجهزة كهربائية صغيرة للطبخ داخل غرفهن "خلسةً"، تحت خطر التفتيشات العشوائية التي تنفذها الإدارة على حد قولهن، بحجة البحث عن أدوات "غير قانونية"

الوضع لا يقتصر على المرافق فقط، بل يمتد إلى مشاكل النظافة؛ إذ تشتكي عدة طالبات ممن تحدثت إليهن إنكفاضة أن "العاملات المكلفات بالتنظيف يمتنعن عن صعود الطوابق بحجة أن ذلك ليس من مهامهن"، ما يضع عبء النظافة بالكامل على عاتق الطالبات، دون توفير أدوات تنظيف كافية. تقول إحداهن إن "عاملات النظافة لا يقمن بعملهن، بل يسلطن رأيهن علينا وكأننا المسؤولات". ومع انتشار الأوساخ، لاحظت مريم أيضا انتشار  "الحشرات مثل الجراد والخنافس والبعوض التي جعلت من الواضح أنه يتم أيضا تجاهل تنظيف الأشجار المحيطة بالمبيت".

صور ملتقطة خلال السنة الجامعية المنقضية من داخل بعض وحدات مبيت كارافال تحصّلت عليها إنكفاضة من المقيمات.
تتأسف إحدى المجيبات على الاستبيان قائلةً: "أوضاع رديئة وأقل ما يقال عنها مهينة، مبيت متهالك وغرف لا يطيب فيها المقام، وقد أثر ذلك على نفسيتي ومردودي الدراسي".

المبيتات بالمناولة حل جزئي للاكتظاظ.. على حساب الجودة

تتكرر الشهادات التي تذكر ضيق غرف 'كارافال' وتأثيره على حياة المقيمات. تكتب إحداهن في إجابتها على الاستبيان الذي أطلقته إنكفاضة: "غرفتنا لم تكد تتسع لسريرين لكن تم إجبارنا على قبول إلصاق سرير ثالث مقابل إزالة طاولاتنا الفردية التي ندرس عليها".

وتؤكد الأرقام مشكلة الاكتظاظ المزمن الذي يعاني منه السكن الجامعي، إذ تطور عدد الطلبة المقيمين·ـات بالمبيتات الجامعية من 54 ألفاً سنة 2013 إلى قرابة 60 ألفاً سنة 2024. وارتفعت نسبة الإيواء من 17% إلى قرابة 24%، مقابل بقاء عدد المبيتات العمومية على حاله تقريبا عند 94 مبيت عمومي.

مبيت 'كارافال' هو واحد من ثلاثة مبيتات جامعية في ولاية أريانة، ضمن شبكة تضم 33 مبيتًا في تونس الكبرى، من إجمالي 94 مبيتًا عموميا على مستوى البلاد بأكملها، تتوزع هذه المؤسسات بين المبيتات التقليدية والأحياء الجامعية التي توفر خدمات إضافية مثل المطاعم. ويُضاف إلى ذلك 70 مبيتاً بالمناولة* التجأت الدولة إلى اكترائها انطلاقا من 2016 بكلفةٍ بلغت سنة 2019 قرابة 1 مليون دينار، تلافيا للنقائص التي يعاني منها قطاع السكن الجامعي.

يتوزّع الطلبة في تونس على ثلاث مناطق رئيسية، يتولى فيها ديوان الخدمات الجامعية مهمة تأمين ظروف العيش والدراسة الملائمة للطلبة، عبر الإشراف على السكن والإطعام الجامعي، وتقديم الإحاطة الصحية والنفسية، بالإضافة إلى تنظيم الأنشطة الثقافية والرياضية، وصرف المنح والقروض والمساعدات الاجتماعية.

وينقسم الديوان إلى ثلاث إدارات جهوية: ديوان الشمال، ديوان الوسط، وديوان الجنوب، تُغطّي مختلف جهات البلاد. بينما يتبع أكثر من نصف المقيمين·ـات بالمناولة ديوان الجنوب الذي يضمّ 40 مبيتا بالمناولة، تتركز بشكل رئيسي في مدنين وقفصة وقابس.

في قفصة، على سبيل المثال، وإلى حدود سنة 2023، لم تكن توجد أحياء جامعية، حيث توزّع 1176 طالبًا وطالبة على مبيتَين اثنين فقط. وفي نفس السنة، استقبل 16 مبيتًا عبر المناولة 2180 طالبًا·ـة. ثم بعد إنشاء مبيت جامعي جديد في 2024، ارتفع عدد المقيمين·ـات بالمبيتات العمومية قليلا إلى 1274، في حين قفز عددهم بمبيتات المناولة إلى 3352 طالب·ـة. تجد 

يرجع التقرير الرقابي لمحكمة المحاسبات سبب الازدحام إلى كون دواوين الخدمات الجامعية تجد صعوبةً في "تحديد الشغورات بالدقة المطلوبة مما يؤدي إلى تضخيم طاقة الاستيعاب"، علاوةً على أنّ قرابة 40% من المنتفعين·ـات بالإيواء تجاوزوا عدد السنوات القانونية.

فليس غريبا إذاً ألّا تنال جودة خدمات السكن الجامعي رضا "نسبة كبيرة من الطلبة وخاصة منهم المقيمين بمبيتات المناولة في جوانب الصحة والسلامة وظروف الغرفة"

ويضيف التقرير استناداً لنتائج استبيان أُجري في الغرض: "إن نسبة عدم رضا الطلبة على ظروف الإقامة في مبيتات المناولة تراوحت بين 80 و 100 بالمائة، كونها تفتقر للعديد من المرافق الضرورية رغم خضوعها لكراس شروط".

في ضوء أزمة الزحمة التي تعاني منها عدة مبيتات جامعية، وتردي حالتها المادية لنقص الصيانة الدورية، يواجه الطالب·ـة التونسي·ـة اليوم أزمة أكثر خطورة تتمثل في "تراجع طاقة الاستيعاب بالسكن الجامعي ببعض الجهات"، أو بتعبير أدق خطر البقاء دون سكن جامعي. ويرجع التقرير ذلك إلى "الإقبال المتزايد على بعض الاختصاصات الدراسية" و "تعطّل بعض أجنحة مؤسسات الإيواء" بفعل أشغال التهيئة والبناء والتوسعة، وكذلك  "البطء والتعطيل الذي ارتبط باستكمال العديد من المشاريع في الآجال المحددة لها".

يقول نائب الأمين العام للاتحاد العام لطلبة تونس، لواء الدين النابلي، في تصريح إذاعي أن  "حوالي 400 طالب في ولاية جندوبة وحدها افتقروا إلى أي مأوى جامعي بعد أن قوبلت طلباتهم بالرفض من قبل الجهات المشرفة في مطلع السنة الجامعية 2024-2025".

ويضيف النابلي أن "إسعاف السكن أصبح ضرورة وليس بذخًا نظرًا للظروف الاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها البلاد وتضخم أسعار الكراء"، خاصة أن الطالب·ـة الذي لا يسعفه الحظ بالحصول على سكن جامعي "قد يجد نفسه مهددًا بشبح التخلي عن الدراسة والعودة إلى مسقط رأسه" .

يتساءل النابلي: "كيف يُتوقع من الطالب تحقيق إنتاج علمي وأكاديمي في ظل غياب الأساسيات الضرورية، من مأوى يحفظ كرامته إلى وجبة جامعية تضمن استمراره؟".

وفيما تتعلّل السلطات بـ "الطاقة الاستيعابية والموارد المخصصة"، يستغرب الناشط الطلابي قائلا: "كأنها تنظر إلى الطالب على أنه عبء وليس استثمارًا في مستقبل البلاد".

وبالفعل، بالرغم من تضاعف اعتمادات برنامج الخدمات الجامعية منذ 2013 من حيث الحجم، إلا أن نسبتها من ميزانية التعليم العالي تشهد ركودا وفق ما تظهره قوانين المالية المتعاقبة.

  3 طلاب للأكلة واحدة  

في سنة 2023، صرح وزير التعليم العالي أن "تحسين الخدمات الجامعية وخاصة الأكلة الجامعية صار ضرورة، ويجب أن تستجيب للمواصفات المطلوبة، مع مراعات الأكلة المقدّمة خلال رمضان". ولئن بلغت بعض المطاعم الجامعية درجات متقدمة من الاحترافية ك مطعم القطب التكنولوجي بسوسة، إلا أن الأمر بعيدٌ عن أن يكون معمّما، مثلما تثبته تشكيات الطلبة المتواترة على مواقع التواصل الاجتماعي، وحالات التسمّم التي تحدث بين الفينة والأخرى.

ترى مريم أن الإطعام الجامعي يعاني من مشكلتين ؛ أوّلا "لا تقدم جميع المطاعم وجبات بجودة لائقة". وهي تجربة تشاركها فيها نسبة كبيرة من المجيبات على استبيان انكفاضة من المقيمات في مبيت 'كارافال':


ويذكر التقرير الرقابي حول الخدمات الجامعية تدني معايير الجودة والسلامة في عدة مطاعم ومن ذلك "عدم احترام القواعد الأساسية لحفظ الصحة"، و "عدم الفصل بين المواد الغذائية حسب أنواعها عند الخزن"، وكذلك "تقاطع المواد النظيفة بالملوثة خلال إعداد الأكلة وطبخها".

وبينما تقر الوزارة بـ "تفاوت مستوى الخدمات بالمطاعم"، فإنها تسعى إلى "الإدراج المرحلي لكافة المطاعم في المسار الإشهادي، بهدف ضمان التزامها بالمعايير الدولية للجودة، إلى جانب تكوين أعوان المطابخ في مجالات الوقاية والسلامة الغذائية".

ويبلغ عدد المطاعم الجامعية بما فيها الموجودة في الأحياء الجامعية 82 مطعمًا، توفر 74,032 وجبة يوميًا، ما يكفي نظريًا لتغطية حاجيات الطلبة المقيمين·ـات في المبيتات العمومية. غير أن احتساب العدد الإجمالي للطلبة المسجلين·ـات في التعليم العالي العمومي، الذي يقارب 267 ألف طالب·ـة، يكشف عن معدل 3 طلاب لكل وجبة واحدة. وهذا يعني عمليًا استحالة تغطية حاجيات جميع الطلبة من جهة، ويظهر أيضا "عزوفا نسبيا" للطلبة من جهة أخرى، بحسب التقرير.

وفي المقابل تشهد المطاعم الجامعية ظاهرة هدر كبيرٍ للطعام، بلغت في مطعم المعهد الوطني للعلوم الفلاحية 17% وفق دراسةٍ علمية منشورة سنة 2022، بينما 12% من الأكل المُعدّ لم يتم تقديمه إطلاقا.

الإشكالية الثانية التي تطرحها مريم تتمثل في "موقع بعض المطاعم الجامعية غير الملائم، إذ تبعد عن المبيتات الجامعية مسافات طويلة"، مما يشكل عبئًا إضافيًا على الطلبة. 

أقرب مطعم جامعي لمبيت 'كارافل' على سبيل المثال، هو مطعم المعهد الوطني للعلوم التطبيقية والتكنولوجيا (INSAT) ويقع على بعد كيلومترين، أي ما يزيد عن نصف ساعة سيرًا على الأقدام، ولا يقدّم سوى وجبات الغداء. ثم هناك مطعم '2 مارس' التابع للحي الجامعي بأريانة، والذي يقدّم وجبات العشاء لكنه أبعد. 

تواجه طالبات 'كارافال' معضلةً في التوفيق بين أوقات الوجبات وأوقات إغلاق المبيت، إذ تفتح المطاعم أبوابها في الخامسة والنصف مساءً إلى الساعة السابعة، وهو توقيت لا يزال فيه العديد من الطلبة منشغلين بمزاولة دروسهم أو القيام بأنشطة أكاديمية أخرى، في حين يُغلق باب المبيت عند الساعة الثامنة مساءً. 

هذا الوضع يضعهنّ تحت ضغط مستمر في سباقٍ مع الزمن للحاق بالمطعم، ثم العودة إلى المبيت في الوقت المحدد. تقول مريم: "دقيقتان تأخير لا.. بالمعنى الحرفي."

تضيف الطالبة:  "لم يكن بوسعنا الخروج لأنشطة ثقافية أو فنية أو تحركات أو حتى قهوة مع الأصدقاء. كنت أشعر كأني مسجونة، ينتهي اليوم مع الساعة الثامنة دون أي اعتبار لاحتياجاتنا كشابات، طالبات، وناشطات في المجتمع، أو دون أي اعتبار للبنية التحتية المهترئة للنقل العمومي".

مشاكل الطالبات في 'كارافال' لا تتوقف عند ضيق الغرف والحالة المزرية للمرافق، أو حتى ضجيج الطريق السيارة الملاصقة الذي يحرم بعضهن من النوم الهنيء وفق شهاداتهن، بل تتعداه إلى وضعيات تضع حرمتهنّ وسلامتهن الجسديّة في خطر.

التحرّش

تلقّت إنكفاضة عديد الشهادات التي تذكر حالات التحرّش المتكرّرة في محيط مبيت 'كارافال'، لكن إحداها صادمة بشكل خاص:

تقول الطالبة: "يقوم عدد من الرجال بإيقاف سياراتهم بجانب المبيت ويقومون بإلقاء الحجارة على النوافذ أو تسليط أضواء ليزر عليها إلى أن تفتح الفتيات النافذة، فيقوم أحدهم بنزع سرواله والاستمناء علنا"

خلال السنة الجامعية 2021-2022، جدّت واقعة تحرّش في محيط مبيت كارافال تركت صدمة في نفوس المقيمات، لا يزال صداها يتردد في شهاداتهن إلى اليوم. في حديثها مع إنكفاضة، تروي شيماء الجبالي، الكاتبة العامة السابقة للاتحاد العام لطلبة تونس وممثلة الطلبة السابقة، والمقيمة سابقاً بالمبيت: "كانت سنةً تكرر فيها ظهور شخص غريب أمام شرفات الغرف، متعمّدًا التعرّي والقيام بإيحاءات جنسية مستفزة".

تتذكر الجبالي كيف اضطرّت في إحدى المرات إلى التدخل هي وثلاثة من زملائها في اتحاد الطلبة. تقول: "تلقينا نداء استغاثة من الطالبات، فتوجهنا إلى المبيت مساءً. عند وصولنا، وجدنا حالة من الهلع والهستيريا تسود بين الفتيات، حتى أن الإدارة نفسها طلبت تدخل اتحاد الطلبة لاحتواء الموقف".

في الاستبيان الذي قامت به إنكفاضة على عينة من المقيمات في المبيت، أبلغت أكثر من 18% من المُستجوبات عن تعرضهن أو شعورهنّ بشكل من أشكال التحرش الجنسي داخل المبيت أو في محيطه، بينما أشارت 44% منهن إلى معرفتهن بطالبة تعرضت لمثل هذه الانتهاكات، وهو ما يفسر حقيقة أن أكثر من 50% من الطالبات لا يشعرن بالأمان في المبيت.

طالبت المقيمات بتعزيز الحراسة، لكن الإجابة تلخّصت في كون  "سياسة غلق الانتدابات في الوظيفة العمومية تحول دون ذلك" وفق الشهادات التي جمعتها إنكفاضة. تصاعد الغضب في صفوفهن، ما أجبر أحد المسؤولين على التعهّد بالتواصل مع الأمن لتسيير دوريات في محيط المبيت. غير أن هذا الإجراء "لم يدم سوى شهر واحد" قبل أن تعود الأمور إلى سابق عهدها، بحسب الجبالي.

وتضيف: "لاحقًا، مرت بعض الطالبات بالمكان نفسه، فوجدن الرجل ذاته عاريًا أمامهن، مما تسبب في انهيار إحداهن نفسيًا".

تلخص شيماء المشكلة البنيوية التي يعاني منها 'كارافال'، وربما غيره من المبيتات العمومية، في أن "الخلل يتجاوز الأحداث المعزولة" ليصل إلى مستوى غياب معايير السلامة المفترضة في مبيتات الطالبات. تقول: "هذا المبيت ببساطة لا يستوفي شروط الأمان، يقع في منطقة معزولة ومظلمة، ما يجعله عرضة للاقتحام. بنيته التحتية متهالكة ويسهل اختراقها، أما أعوان الحراسة، فمعظمهم متقدمون في السن، تم تعيينهم في ظل إيقاف الانتدابات، ويفتقرون إلى الكفاءة اللازمة لضمان الأمن أو حتى إدارة الجوانب اللوجستية للمبيت".

وتؤكّد عدة شهادات تلقّتها إنكفاضة ذلك، حيث تروي إحداها "دخول غرباء للمبيت عدة مرات" في حين تورد أخرى  "يدخل رجال سكارى خلسة من الأسوار ويقومون بالفحشاء".

تضيف الكاتبة العامة السابقة للاتحاد العام لطلبة تونس: "تنبّه الطالباتُ الإدارةَ فلا يجدن سوى إجابة محبطة: 'ما عندي ما نعمل' ؛ 'سكّر شباك بيتك وأدخل'.. وفي كثير من الأحيان يُطلب منهن الاتصال بالأمن مباشرةً، الذي في حال استجاب يقوم بجولة في المكان، غالباً ما تنتهي إما بهروب المتحرّش أو إيقافه ومن ثمّة إطلاق سراحه بعد فترة قصيرة".

لا عجب أن علاقة الطالبات بإدارة المبيت إذاً، وفق ما تظهره عدة شهادات، أقلّ ما يُقال عنها متوتّرة. تقول شيماء الجبالي: "إدارة المبيت عادةً ما تتنصّل من المسؤولية عندما يتعلّق الأمر بقضايا لا تندرج ضمن المسائل التنظيمية الداخلية". وهو نمط يظهر أيضا في انطباعات جزء كبير من المقيمات حول تعامل موظفي·ـات المبيت معهنّ، وفق استبيان إنكفاضة:

تقود كل الشهادات التي جمعتها إنكفاضة إلى أن الوضع في 'كارافال' يبدو في غاية الاختلال. غير أنه يبقى مثالا من بين أمثلة عديدة عن أزمة حادّة تعيشها منظومة الخدمات الجامعية، أوّل المتضرّرين·ـات منها هم أنفسهم المنتفعون بهذه "الخدمات".

تختتم شيماء حديثها بمرارة: "في مرحلة معينة، حتى نحن كطلبة توقفنا عن المطالبة، لأننا أصبحنا ندرك حدود الإمكانيات. الدولة رفعت يدها تمامًا، والإدارة تكتفي بإرسال مراسلات يومية بلا أي استجابة".

 في إطار ضمان حق الردّ، أودعت إنكفاضة –في أكثر من مناسبة– طلبات إجراء مقابلة مع إدارة المبيت ومسؤولين·ـات بديوان الخدمات الجامعية للشمال، وذلك عبر المراسلات والتذكير بالبريد الإلكتروني للاستفسار حول الإشكاليات المعروضة في المقال ومدى وجود حلول لها. إلا أننا لم نتلقّ ردا إلى حد تاريخ النشر.

Inkyfada Landing Image

منصة إعلامية مستقلة في طليعة الابتكار التحريري

أنشئ حسابك الآن وتمتع بميزات النفاذ الحصري ومختلف الخاصيات المتقدمة التي توفرها لك. تحصّل على عضويتك وساهم في تدعيم استقلاليتنا.

منصة إعلامية مستقلة في طليعة الابتكار التحريري. تسجيل الدخول