"مللنا الوعود الزائفة": أصحاب الشهائد المعطّلون·ـات، بين طول البطالة وطول الانتظار

يوم الثلاثاء 29 جويلية، نظم خريجو·ات الجامعات ممن طالت بطالتهم وقفات احتجاجية في أنحاء مختلفة من البلاد تعبيرا عن غضبهم من "سياسة المماطلة" التي تنتهجها السلطات في ملفّهم، وخيبتهم بعدما علقوا آمالهم في احتمال صدور قرار رئاسي ينصفهم بمناسبة 25 جويلية، وهو أمر لم يحدث. جاء ذلك بعد تمرير المقترح 23 - 2023 إلى مكتب مجلس النواب، الذي وعد بعقد جلسة عامة في أكتوبر القادم للنظر فيه. ووراء الوعود والخيبات المتكررة، تمضي السنوات وتبقى حياة هؤلاء معلّقة…
10 دقائق
يوم 29 جويلية 2025 وتحت حر الشمس، وقف وسيم الجدي، الكاتب العام للمكتب الجهوي لاتحاد أصحاب الشهائد المعطلين·ـات عن العمل بسيدي بوزيد، خاطبا أمام جمع من المحتجين·ـات، واصفاً معاناة أمثاله من أصحاب الشهائد العليا وحرمانهم·ـن المتواصل من حقهم في الانتداب والتشغيل.
"رسالتي موجهة إلى ساكن قرطاج، السيد رئيس الجمهورية: كفاية مماطلة، كفاية تسويف، كفاية ضحك على الذقون. لقد مللنا كل هذه الوعود والشعارات. البطالة والتهميش ليسا قدراً، بل هما سياسة ممنهجة تُمارسها السلطة على حساب أحلام وآمال خيرة شباب هذا الوطن."

كان المشاركون·ـات في الوقفة من حاملي·ـات الشهائد العليا الذين طالت بطالتهم (أي أكثر من 10 سنوات بطالة حسب الاصطلاح)، قدموا من مختلف معتمديات ولاية سيدي بوزيد للمطالبة بـ "الانتداب المباشر دون أي قيد أو شرط". رفع المتظاهرون·ـات شعارات من قبيل: "يا بطّال ثور ثور، هذا حقّك في الدستور"، "التشغيل استحقاق يا عصابة السراق"، "شغل، حرية، كرامة وطنية"، وغيرها مما كان يتردّد في الشوارع خلال ثورة 2011 والسنوات التي تلتها.

الوقفة الاحتجاجية التي نظمها أصحاب الشهائد المعطّلون·ـات عن العمل ممن طالت بطالتهم بسيدي بوزيد. 29 جويلية 2025. عدسة: وسيم الجدي

لم يكن ذلك التحرك الاحتجاجي الوحيد، بل تزامن مع تحركات مماثلة في عدد من الولايات، على غرار قفصة والقصرين في نفس اليوم، وأيضا أمام القصر الرئاسي بقرطاج في اليوم السابق.

تحرّكات ليست بالجديدة، بل تتكرّر منذ سنوات في مشهد يعكس انسداد الأفق أمام هؤلاء وخيبة أملهم. غضب الشارع رافقته موجة من التدوينات على وسائل التواصل الاجتماعي، عبّر من خلالها المعطّلون·ـات عن رفضهم لما يصفونه بـ "سياسة التسويف الممنهجة" للسلطة في التعاطي مع ملف الآلاف من خريجي·ـات الجامعات الذين ذاقوا الأمرّين من طول البطالة – وإن كان عدد هذه الفئة إلى اليوم غير معلوم، كون الإحصائيات الرسمية لا تصنّف المعطلين·ـات حسب سنوات البطالة.

خيبة أمل أخيرة تُضاف إلى "سنوات من القهر"

تقول زهور فريجي، عضو المكتب الجهوي بسيدي بوزيد في حوارها مع انكفاضة:   "انتظرنا طويلاً، وعلّقنا آمالنا على يوم 25 جويلية المنقضي، لكن مرّت الليلة ولم يصدر القرار. في كل مرة يتم إقصاؤنا، وكأن سنوات البطالة التي عشناها لا تعني شيئًا"

تصاعد الاحتقان في صفوف المعطلين·ـات في الآونة الأخيرة إثر ما اعتبروه خيبةً جديدة، بعدما عقدوا آمالهم في احتمال صدور بلاغ رئاسي بمناسبة عيد الجمهورية بخصوص تسوية وضعياتهم وفتح باب الانتدابات لمن طالت بطالتهم. وما غذى آمالهم أكثر، كانت المصادقة يوم 18 جويلية على الصيغة النهائية لمقترح مشروع القانون 23 - 2023 داخل لجنة التخطيط بالبرلمان، وتمريره إلى مكتب المجلس مع طلب استعجال النظر. غير أن الصمت الرئاسي، على غير العادة في ذلك اليوم، كان مدوّياً.

لكن وراء الخطابات والتصريحات –أو غيابها–، يعاني الآلاف من خريجي·ـات الجامعات ممن طالت بطالتهم·ـن من واقع معيشي مهين، تغيب عنه أدنى الحقوق الأساسية. إسلام ذات الـ39 سنة، صاحبة إجازة في اللغة والحضارة الإنقليزية من سيدي بوزيد، عانت ويلات البطالة قرابة 13 سنة. تروي لإنكفاضة خيباتها المتواصلة في العثور على شغل كريم، وتأثير كل ذلك على صحتها النفسية:

[للاستماع إلى الشهادة، انقر·ي على زر التشغيل في أسفل الركن اليسار]

تؤكّد الشهادات التي جمعتها إنكفاضة أن واقع البطالة المزمنة لدى هذه الفئة من خريجي·ـات الجامعات لم يمنعهم·ـن من محاولة إيجاد حلول فردية. تروي سندة (اسم مستعار) تجاربها مع المناظرات التي تحكمها "الرشوة والمحسوبية" وفق تعبيرها، ومحاولاتها امتهان الخياطة وصنع الحلويات وغيرها من التجارب التي لا تمتّ لتكوينها الأكاديمي بصلة، والتي باءت كلها بالفشل:

[للاستماع إلى الشهادة، انقر·ي على زر التشغيل في أسفل الركن اليسار]

"وعود زائفة"

تعتبر زهور الفريجي عن مكتب سيدي بوزيد لاتحاد أصحاب الشهائد المعطلين·ـات، أن موقفها الشخصي من تعاطي رئيس الجمهورية مع هذا الملف يتأثر بتجربة سابقة "مريرة" على حد قولها، في إشارة إلى تعاطيه مع القانون عدد 38 - 2020 المتعلق بأحكام استثنائية للانتداب في القطاع العمومي، والذي ألغاه بحجة أنه "سُنّ آنذاك من أجل التلفاز".

تقول الفريجي: "لقد مللنا من سماع الوعود الزائفة: الملف على الطاولة.. لمسات أخيرة.. مقاربة وطنية..".

في يوم 29 جويلية 2020، صادق البرلمان التونسي المنحلّ، بأغلبية 159 نائبًا ونائبة، على فصل إضافي ضمن مشروع قانون المالية لسنة 2021، يقضي بتخصيص اعتمادات مالية لتمويل انتداب 10 آلاف عاطل·ـة عن العمل من حاملي·ـات الشهادات العليا الذين تجاوزت فترة بطالتهم عشر سنوات.

جاء هذا الإجراء في إطار القانون عدد 38 لسنة 2020، الذي يضع أحكامًا استثنائية للانتداب في القطاع العمومي لفائدة هذه الفئة من المعطّلين·ـات عن العمل. ومثّل القانون آنذاك مبادرة تشريعية جمعت عدداً من الكتل داخل المجلس المنحلّ، من بينهم التيار الديمقراطي، حركة الشعب وحركة النهضة.

في 16 أوت 2020، ختم رئيس الجمهورية قيس سعيّد النص، وتم نشره في الرائد الرسمي ليدخل حيز النفاذ كقانون من قوانين الدولة. غير أن تفعيله كان متوقفا على صدور أوامر ترتيبية في الغرض، وهو ما لم يحدث، فظلّ حبراً على ورق.

غير أن المنعرج الحقيقي في مسار الملف حدث في أعقاب أحداث 25 جويلية 2021، حين التقى رئيس الجمهورية بمجموعة من خريجي·ـات الجامعات المعطّلين·ـات عن العمل ممن طالت بطالتهم بالقصر الرئاسي يوم 19 نوفمبر 2021. و أكد سعيّد لزائريه أن "القانون عدد 38 - 2020 وُضع كأداة للحكم واحتواء الغضب وبيع الأحلام، وليس للتنفيذ الفعلي". وتعهد بـ "استقطاب خريجي التعليم العالي ممن طالت بطالتهم ضمن الشركات الأهلية التي ستحدث بالأموال المنهوبة المسترجعة من قبل الدولة".

تقول زهور الفريجي: "في يوم ما، كان هو من اقترح علينا في 2018 و 2019 الخروج والاحتجاج والضغط على مجلس النواب لسن ذلك القانون. وقد وعدنا بأن يكون له دور إيجابي في تفعيله"

"لكن بعد وصوله لسدة الحكم، وخاصة بعد أحداث 25 جويلية، جاء القرار صادماً، كون من أمضى على القانون وأصدره بالرائد الرسمي هو نفسه من أسقطه".

سرعان ما توالت التصريحات من طرف رئيسة الحكومة، نجلاء بودن، ووزير التشغيل والتكوين المهني، نصر الدين النصيبي، اللّذين استعادا قرار الرئيس بإلغاء تفعيل القانون. وكان التبرير "عجز الوظيفة العمومية عن استيعاب المزيد من الانتدابات"، رغم أن بودنّ، ومنذ توليها منصبها، قد أكّدت أن تفعيل هذا القانون سيكون من أولويات حكومتها، وأن إدماج المعنيين·ـات مُبرمج ضمن الميزانية التكميلية لسنة 2021.

في مواقع التواصل كما في الشارع، فجّر التراجع الرئاسي موجة من الغضب، واندلعت تحرّكات احتجاجية في عدد من الجهات، عبّر خلالها المحتجون·ـات عن "رفضهم التنازل عن حقهم لو كلفهم الأمر حياتهم".

ورغم توالي الاحتجاجات، شهد الملف ركودا دام سنتين، إلى أن تقدّمت كتلة 'لينتصر الشعب' بالبرلمان، في جويلية 2023 بمقترح قانون عدد 23 - 2023 الذي يهدف إلى سن أحكام استثنائية تمكّن خريجي·ـات التعليم العالي ممن طالت بطالتهم وتجاوزوا سن الأربعين، من الانتداب المباشر في القطاع العام والوظيفة العمومية.

يقول وسيم الجدي عن اتحاد أصحاب الشهادات المعطلين: "رسالتي إلى الغرفة التشريعية: اليوم أمامكم فرصة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، هناك مبادرة على طاولتكم، سارعوا في النظر فيها".

مشروع القانون الحالي "ليس سليل القانون 38" ؟

لا تخفى أوجه الشبه بين القانون 38 المقبور و المقترح 23 الجديد، رغم تأكيد النائب بالبرلمان النوري الجريدي على إذاعة موزاييك، أن الأخير "ليس سليل القانون 38، وإن كان كذلك فهو ابن عاق''، على حد وصفه.

ولعلّ الاختلاف هنا، طول المدة التي استهلكها النظر في المقترح الجديد، والتي تجاوزت أكثر من سنتين، من يوم إحالته إلى لجنة التخطيط الاستراتيجي بالبرلمان سنة 2023، إلى يوم المصادقة على صيغته النهائية أواخر جويلية المنقضي، ثم تمريره إلى مكتب المجلس لتحديد جلسة عامة.

في بيان صادر عنها يوم 22 جويلية 2025، تذكر كتلة لينتصر الشعب (جهة المبادرة) أن "النظر في هذا المقترح تعطل تعطلا ممنهجا ومتعمدا [...] رفضت الوظيفة التنفيذية حضور جلسات استماع صلب لجنة التخطيط مرات عديدة".

وبالفعل، رصدت إنكفاضة ما جملته 8 جلسات صلب لجنة التخطيط للنظر فيه، معظمها في الأشهر الأخيرة، دون أن يحضر في أي منها ممثل·ـة عن وزارة التشغيل والتكوين المهني، الجهة التنفيذية الأولى المعنية بهذا الملف. وبسؤاله عن أسباب ذلك، يقول محمد ضو، رئيس كتلة لينتصر الشعب أنهم "علّلوا غيابهم بأنهم بصدد الاشتغال من جهتهم على مبادرات من نوع آخر تتعلّق بأصحاب الشهائد العليا الذين طالت بطالتهم". لكن ذلك لا يمنع، وفقه، أن "السلطة التشريعية تعمل  في تناغم مع الوظيفة التنفيذية".

صادقت اللجنة أخيرا يوم 22 جويلية على تقريرها النهائي، وأحالته إلى مكتب البرلمان لتحديد موعد جلسة عامة للمصادقة على المقترح، مع طلب استعجال النظر. وفي نفس الوقت، شدد بيان الكتلة على ضرورة أن تكون "الجلسة العامة قبل انطلاق العطلة البرلمانية، أو أن تُعقد جلسة استثنائية خلال العطلة بطلب من رئيس الجمهورية أو ثلثي الأعضاء".

لكن "لم تقع الاستجابة لهذه المطالب تعلّلا بضرورة إنجاز يوم أكاديمي بحضور رئاسة الحكومة ووزارة التشغيل والهيئة العامة للوظيفة العمومية"، يضيف البيان.

وفي حديثه مع إنكفاضة، يستدرك محمد ضو أن "ضيق الوقت"، على حد قوله، قد حال دون ذلك. ويضيف النائب أن "لقاءً جمعه برئيس مجلس نواب الشعب، إبراهيم بودربالة، أكد له فيه على تنظيم اليوم الأكاديمي في شهر سبتمبر القادم، وأن الجلسة ستُعقد في مفتتح أكتوبر للمصادقة النهائية على المقترح".

[للاستماع إلى التصريح، انقر·ي على زر التشغيل في أسفل الركن اليسار]

غير أن تأجيل النظر في المقترح إلى شهر أكتوبر يطرح تساؤلات حول مدى إمكانية إدراج هذه الانتدابات الاستثنائية في قانون المالية 2026. وفي هذا الصدد، تعلّق زهور الفريجي، عن مكتب سيدي بوزيد لاتحاد أصحاب الشهادات المعطلين·ـات: "تأخير الجلسة إلى أكتوبر يعني تأخير الانتدابات إلى 2027، ونحن نرفض ذلك رفضا تاما".

إعادة فتح الانتدابات في الوظيفة العمومية

بعد أكثر من سبع سنوات على تجميد الانتدابات في الوظيفة العمومية، والذي بدأته حكومة يوسف الشاهد سنة 2017 وواصلت العمل به كل الحكومات المتعاقبة، أقرت ميزانية 2025 ما يعادل 20 ألف موطن شغل في الوظيفة العمومية، سيحظى قطاع التعليم بقرابة النصف منها، ويليه قطاع الصحة، ثم الدفاع والداخلية. وقد صرّح وزير التشغيل مؤخرا عن احتمال ارتفاع الرقم إلى أكثر من ذلك في ميزانية 2026. 

يأتي ذلك في سياق أزمة بطالة بلغت نسبتها 15.7% من جملة السكان النشطين، فيما ترتفع إلى 37,7% لدى الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 سنة.

يقول النائب محمد ضو في حواره مع إنكفاضة أنه من الوارد "في اعتقادي، أن تضم هذه الانتدابات نسبة من الانتدابات الاستثنائية [المعنيّة بالمقترح 23-2023]".

ويضيف:   "ربما يدخل المستفيدون ضمن تعليمات الرئيس المتعلقة بتشغيل أصحاب الشهادات العليا، فهو دائمًا يؤكد على أهمية ذلك".

لكن لا شيء مؤكد إلى حد الساعة، سوى أن تصريحات الرئيس منذ إعادة انتخابه لعهدة ثانية في أكتوبر الماضي شددت في أكثر من مناسبة على " إعادة فتح باب الانتدابات" ، و "إيجاد تصوّرات جديدة لتمويل الميزانية والصناديق الاجتماعية" ، و "سد الشغورات، خصوصًا في القطاعات الحيوية مثل التعليم".

وتبقى إمكانية تنفيذ ذلك محلّ شك في سياق تأزم المالية العمومية. ففي ميزانية سنة 2025 وحدها، بلغت كتلة الأجور لأكثر من 600 ألف موظف في الوظيفة العمومية، حوالي 24.4 مليار دينار، وتمثل هذه النفقات نحو 13.3% من الناتج المحلي الخام، و40.8% من إجمالي نفقات الميزانية.

وبين تثبيت "الدور الاجتماعي للدولة" الذي يصر عليه الرئيس وما يتيحه الواقع عمليا، يتمثل أحد الحلول المقدّمة في "تطهير الإدارة ممن تسللوا إليها" وتعويضهم. إذ يرى سعيّد أن الفساد في الانتدابات التي جرت من 14 جانفي 2011 إلى 25 جويلية 2021، يُعدّ أحد الأسباب الرئيسية لتفاقم البطالة في صفوف حاملي·ـات الشهادات العليا.

ومن أجل ذلك، انطلقت عملية تدقيق شامل منذ 2023، لتشمل الانتدابات في مختلف هياكل الدولة، من وزارات وهيئات ومؤسسات عمومية، إلى جانب البنوك ذات المساهمة العمومية وغيرها. إلا أن عديد التساؤلات تحوم حول نتائج عملية التدقيق، حيث لم توفّر لجنة القيادة المكلفة بإجرائها تحت إشراف رئاسة الحكومة أية معطيات أو إحصائيات في هذا الصدد.

وبين تعثر البيروقراطية، وتأزم المالية العمومية، وتكرر الوعود وإخلافها، تبقى حياة المعطلين·ـات عن العمل "حابسة" على حد تعبير إسلام. وفي المقابل، تختم سندة المعطّلة عن العمل منذ 25 سنة بنبرة تراوح بين الأمل واليأس:  

"لعلّ الآتي خير، عسانا نحقق ما تبقّى من أحلامنا ومطامحنا، حتى لا نكره هذه البلاد ونهجرها".
Inkyfada Landing Image

منصة إعلامية مستقلة في طليعة الابتكار التحريري

أنشئ حسابك الآن وتمتع بميزات النفاذ الحصري ومختلف الخاصيات المتقدمة التي توفرها لك. تحصّل على عضويتك وساهم في تدعيم استقلاليتنا.

منصة إعلامية مستقلة في طليعة الابتكار التحريري. تسجيل الدخول