الحرائق ونيران الغابات في تونس: خطر لا تخمد جذوته

شهدت البلاد اندلاع حرائق غابات عديدة منذ حلول الصائفة الحالية وهو نمط يتواصل منذ سنوات ويزداد سوءاً مع اشتداد الاحتباس الحراري. نظرة بالأرقام على هذه  الظاهرة الحارقة.
بقلم | 22 أوت 2024 | reading-duration 10 دقائق

متوفر باللغة الفرنسية
يوم الأحد 21 جويلية 2024، أعلن المعهد الوطني للرصد الجوي عن ارتفاع استثنائي في درجات الحرارة بلغ 42 درجة مئوية في بعض جهات البلاد. في وقت لاحق من ذلك اليوم، اندلعت حرائق في جبل ديس في نفزة بولاية باجة فهرعت وحدات الحماية المدنية إلى مكان الحريق وتمكنت من السيطرة عليه. لكن وبالرغم من كل الجهود أتت الحرائق على خمسة هكتارات من المساحات الغابية.

بحلول عام 2030، من الممكن أن تتسبب الحرائق في خسارة 180,000 هكتار أو 17% من المساحة الغابية في تونس نظرا لأن ارتفاع درجات الحرارة وانخفاض هطول الأمطار يزيدان تدريجياً من شدة الحرائق. حيث سُجلت منذ بداية السنة درجات حرارة مرتفعة بشكل خاص وجفاف اجتاح عدة مناطق من العالم، مما أدى إلى مخاوف من ارتفاع مخاطر الحرائق في صيف 2024. 

الحرائق في ازدياد

تقول شيراز بلحاج خضر، أخصائية الجغرافيا وعضو المركز الإقليمي للاستشعار عن بعد لدول شمال إفريقيا: ”خلال السنوات العشر الماضية، يمكننا القول أن عدد الحرائق ومساحتها قد ازدادت بشكل ملحوظ“.

قبل 2010 كان عدد الحرائق المسجلة سنوياً أقل من 215 حريقاً. وبحلول 2022 ارتفع الرقم إلى 549 حريقاً أي بزيادة أكثر من مرتين ونصف، بينما بلغت المساحة المتضررة من الحرائق في 2017 مستوى قياسياً بـ 17,300 هكتار. ثم في 2021 تم تجاوز هذا الرقم القياسي لتبلغ المساحة المحترقة 25,808 هكتارًا أي بزيادة بنسبة 50% تقريبًا.

عدد حرائق الغابات والمساحات المتضررة بالهكتار في تونس من 2007 إلى 2022

تطور عدد الحرائق والمساحات المتضررة في منطقة المتوسط 

اليوم، تتيح تكنولوجيات الاستشعار عن بُعد إمكانية منع الحرائق ومراقبتها بدقة، لكن الحال لم يكن كذلك في السابق. وفقًا لشيراز بلحاج خضر، فإن "70% من المساحات المحترقة المسجلة منذ سنة 2000 لم يتم تقديرها بما فيه الكفاية".

وتضيف الباحثة أن هوامش الخطأ في جرد الحرائق على المستوى الوطني يرجع إلى ”التحقيقات المتعجّلة أو الرغبة السياسية في التقليل من شأن الأضرار". في دراسة نُشرت سنة 2017، قامت الباحثة وزملاؤها بمراجعة التحليلات الوطنية لتتفطن إلى أن الحرائق في سنة 2010 على سبيل المثال التهمت 3037 هكتارًا وهو رقم يتناقض مع التصريحات الرسمية التي سجلت 806 هكتارًا فقط.

مقارنة بين مسحيْن للأراضي المحترقة سنويا (بالهكتار)

وعلى الرغم من تباين الحرائق من عام إلى آخر وافتقار بعض البيانات إلى الدقة إلا أن بعض الأنماط الرئيسية تظهر، منها أن جهة الشمال الغربي لا تزال الأكثر تضررًا سواء من حيث عدد الحرائق أو من حيث حجم المساحات المحترقة.

توزع حرائق الغابات في تونس على المستوى الوطني

ويرجع ذلك جزئيًا إلى حجم الغابات التي تغطي أكثر من 20% من بعض ولايات الشمال الغربي وطبيعة مكونات هذه الغابات. إذ يُعد الصنوبر الحلبي وهو من الأنواع القابلة للاشتعال بشكل خاص، الأكثر انتشارًا في المنطقة ويغطي مساحة 361,221 هكتارًا من الغابات.

في سنة 2023، أتت الحرائق في معتمدتيتيْ الكريب بولاية سليانة وملولة بولاية جندوبة على "حوالي 1200 هكتار لكل منهما"، وفق المدير العام للغابات محمد نوفل بن حاحا.

"كانت المساحة المحترقة في غضون يومين تعادل تقريباً المساحة المحترقة خلال الأيام الثلاثة السابقة. إن حريق ملولة كارثي حقًا لأنه أضرّ بالمساكن"، تقول شيراز بلحاج خضر. 

اندلع الحريق في 18 جويلية 2023 وغطت ألسنة اللهب ما يقرب من 500 هكتار في ثلاثة أيام فقط قبل أن تتم السيطرة عليه. وتم إجلاء 300 شخص من سكان جندوبة عن طريق البحر ونقل أكثر من 156 شخصًا إلى المستشفى على خلفية صعوبات في التنفس. بعد ذلك بيومين، تسببت الرياح العنيفة في استعار النيران مرة أخرى حيث أتت هذه المرة على أكثر من 500 هكتار في ظرف يومين فحسب. وللتعامل مع حجم النيران، حشد الديوان الوطني للحماية المدنية (ONPC) فرقًا من جنوب ووسط البلاد بالإضافة إلى عدد كبير من المتطوعين.

تونس الأقل تأثراً بالحرائق في المنطقة

الزيادة الإجمالية في عدد الحرائق ومساحاتها في تونس حسب ما يلاحظه مختلف الخبراء تتبع منحى مشابها على مستوى المنطقة. لكن تظل البلاد مع ذلك أقل تأثراً من جيرانها، سواء من حيث عدد الحرائق أو عدد الهكتارات المتضررة.

تعلّق شيراز بلحاج خضر "إن المساحات الغابية في شمال البحر الأبيض المتوسط أكبر وبالتالي فإن الأضرار أكثر".

مقارنة بين عدد الحرائق السنوية في تونس ومتوسط عدد الحرائق في منطقة المتوسط

بين عامي 2017 و2023، تضاعف عدد الحرائق السنوية في المنطقة المتوسطية ثلاث مرات تقريبًا ليرتفع من 1,175 إلى 4,890 حريقًا في غضون ست سنوات.

تسببت موجة حر في جويلية 2023 حول الحوض المتوسطي في اندلاع عدة حرائق واسعة النطاق أتت على آلاف الهكتارات من الجزائر إلى اليونان مروراً بإيطاليا. وشهد هذا العام استمراراً لمنحى متصاعد منذ عقد من الزمن لأعداد الحرائق في المنطقة.

منذ مطلع سنة 2024، تم تسجيل درجات حرارة مرتفعة للغاية وموجات جفاف في عدة مناطق من العالم أثارت مخاوف من خطر نشوب حرائق هائلة في الأشهر المقبلة.

ومن الممكن أن تشهد المنطقة مستقبلا فصول صيف ساخنة جدا وبالتالي خطر حرائق متزايد. فوفقًا لدراسة أجراها ألكسندر تويل والفاتح الطاهر، يمكن أن يصبح البحر الأبيض المتوسط نقطة ساخنة للتغير المناخي. ووفقًا لتوقعاتهما سترتفع درجات الحرارة ومعها تساقطات الأمطار في جميع مناطق العالم باستثناء منطقة المتوسط أين ستنخفض كميات الأمطار المسجلة بنسبة تتراوح بين 10% و60%.  

أسباب متعددة

إلى جانب انخفاض كميات الأمطار، تشير التوقعات المناخية إلى انخفاض عدد الأيام الماطرة المتتالية في جميع أنحاء البلاد. مما سيؤدي إلى زيادة حالات الجفاف ويؤثر على رطوبة التربة من بين أمور أخرى. توضح شيراز بلحاج خضر أن "المشكلة ليست في الغابات نفسها بل في جفافها، هذا هو الخطر".

تمدد موسم الحرائق في جميع أنحاء العالم بنسبة 20% في الفترة الفاصلة بين عامي 1979 و2013. أما في تونس فقد شهد موسم الخطر زيادة تقدر من شهرين إلى ثلاثة أشهر في السنوات الأخيرة. وقد تبين مؤخراً أن توسع فترات جفاف الغطاء النباتي له تأثير مباشر على طول فترات الحرائق واتساع المساحات المعرضة لخطرها.

تقول شيراز خضر بلحاج: "أصبحت فترة خطر الحرائق أطول بما أننا شهدنا زيادة في الحرائق على مدار العام. في السنة الماضية، رأينا حرائق في شهر ديسمبر ولذا من المؤكد أن فترة الجفاف صارت أطول".

منذ ثمانينات القرن العشرين، كانت لاتساع فترات الجفاف نتيجة مباشرة تتمثل في زيادة تواتر الحرائق العظمى. ولئن كان تأثير هذه الظاهرة أقل أهمية في تونس إلا أن مناطق مثل أستراليا وسيبيريا وكاليفورنيا تترك فيها هذه الحرائق دمارا كبيرا.

”وفقًا للإحصائيات، كان هناك عدد كبير من الحرائق في السنوات الأخيرة لكن السيطرة عليها لا تزال ممكنة من حيث المساحة. ومع ذلك فإن هناك حرائق كبيرة بشكل استثنائي" يقول محمد نوفل بن حاحا.

هناك ظاهرة واحدة على وجه الخصوص في جنوب البحر الأبيض المتوسط "تزيد من انتشار الحرائق ويمكن أن تجعلها تفلت من السيطرة“ تشرحمن جانبها شيراز بلحاج خضر مشيرةً إلى رياح السيروكو وهي رياح صحراوية حارة ترفّع من درجات الحرارة بأكثر من 5 درجات مئوية وتخفض من رطوبة الهواء.

هذه العناصر المناخية هي التي تحدد مدى انتشار الحريق بمجرد اندلاعه. فالغطاء النباتي الجاف ودرجات الحرارة المرتفعة والرياح القوية هي العوامل الرئيسية التي تساعد على انتشار الحريق بسرعة. تشرح خضر أنه في معظم الحالات التي تمت دراستها "تكون هذه العوامل في أقصى حالاتها قبل خمسة أيام من اندلاع الحريق وبعده".

من جهته يضيف إبراهيم الجزيري، جغرافي وأستاذ باحث في جامعة تونس أنه "خلال فصل الصيف، يؤدي نقص الأمطار إلى جعل الأنواع النباتية قابلة للاشتعال بشكل كبير وهو ما يفسر العدد الكبير من حرائق الغابات" مؤكدا أن الغطاء النباتي لا يشتعل من تلقاء نفسه وأن "معظم الحرائق تكون من صنيع البشر سواء كانت عرضية أو متعمدة". كما يصر الباحث على وجود صلة مباشرة بين إزالة الغطاء النباتي للأراضي وزيادة الحرائق وهي ممارسة شائعة في تونس، غالبًا ما يتم اللجوء إليها خلال فترات الأزمات الاجتماعية أو عدم الاستقرار السياسي، وقد ظهرت بشكل واضح منذ سنة 2011.

يقول إبراهيم الجزيري أن "إشعال الحرائق هو أبسط الطرق وأكثرها فعالية لإخلائها وتوسيع الأراضي الزراعية".

وفقا لفلوران مويو "ازدادت مساحة الأراضي المحروقة في تونس ستة أضعاف بعد ثورة 2011" . كما يضيف إبراهيم الجزيري أنه في الآونة الأخيرة "كان هناك ارتفاع طفيف بعد كوفيد لأن بنية الدولة قد ضعفت وأصبحت المناطق الغابية أقل حراسة وبالتالي سعى الناس إلى التربّح من ذلك".

موارد مكافحة الحرائق غير كافية ولكن تشهد تطورا

بمجرد ظهور ألسنة اللهب الأولى، يتدخل أعوان الغابات على عين المكان مباشرةً للحد من انتشارها في انتظار وصول الحماية المدنية.

وعلى الرغم من سرعة التدخل والتعاون الوثيق بين الإدارة العامة للغابات والديوان الوطني للحماية المدنية، إلا أن نقص الموارد البشرية والمادية لا يزال يشكل عقبة رئيسية أمام مكافحة الحرائق. فبدون طائرات إطفاء الحرائق يكون التدخل في المناطق صعبة النفاذ أبطأ وأكثر خطورة.

في سنة 2022، طلبت الرئاسة التونسية مساعدة من الجزائر في التعامل مع الحرائق العديدة المندلعة في الضواحي الجنوبية لتونس العاصمة. وبعد سنة من ذلك تم إرسال طلب إلى المديرية العامة للحماية المدنية الأوروبية وعمليات المساعدة الإنسانية (دي جي إيكو) عندما تضررت ثماني ولايات بالجمهورية. فأرسلت إسبانيا بالمناسبة فريقًا لوجستيًا مع طائرتيْن لبلوغ المناطق النائية وإخماد الحريق بجهة ملولة.

"نحن نتعاون مع دول العالم منذ سنوات بما في ذلك ألمانيا وإيطاليا وفرنسا خصوصا في مجال تدريب الأعوان. وقد وقعنا اتفاقية في مارس 2018 مع الاتحاد الأوروبي تتيح لنا الحصول على المساعدة الدولية"، يقول العميد معز تريعة، الناطق الرسمي باسم الحماية المدنية.

ويتطلب الحصول على تجهيزات جديدة وصيانة الغابات موارد كبيرة ”غير متوفرة" على حد قول المدير العام للغابات. ولذا تبذل الهيئتان الحكوميتان قصارى جهدهما للحد من المخاطر. إذ تشجع الحماية المدنية المتطوعين على الانضمام إلى فرقها، بينما تقوم الإدارة العامة للغابات بتطوير برنامج لتنظيف مسارات وخنادق التصدي للحرائق.

يشرح محمد نوفل بن حاحا: "نحن نحاول التدخل بما بحوزتنا من موارد لضمان حسن استعداد المناطق ذات الأولوية الواقعة بشكل رئيسي في الشمال الغربي". كما تم وضع خطة طوارئ للمناطق الحساسة* التي تم تحديدها أين صار الأعوان متواجدين بالمعدات اللازمة على مدار 24 ساعة في اليوم.

”إنها موارد صغيرة لكن فعالة للغاية في الميدان مما يتيح السيطرة على الحرائق بمجرد اندلاعها. فالوقت قد يعني خسارة الكثير من الأراضي" يقول المدير العام.

ماذا بعد الحرائق؟

يشرح المدير العام للغابات أن "منذ 2016 وحتى يومنا هذا فقدنا 56,000 هكتار من الغابات والتي يمكن أن يتجدد معظمها بشكل طبيعي". أما في غابة ملولة التي لا تزال متفحّمة إلى حد كبير فإن الغطاء النباتي الأسفل بدأت تدب فيه الحياة. يقول إبراهيم الجزيري "علينا أن نترك الطبيعة تقوم بعملها".

بعد سنة من اندلاع حريق ملولة، بدأت الحياة تدب في المستويات السفلى من الغطاء النباتي تحت جذوع الأشجار المتفحّمة

لا يجب إعادة تشجير الغابة مباشرةً بعد الحريق ولكن يجب تطهيرها من جميع الأخشاب المحترقة لتجنب انتشار الحشرات الطفيلية التي تهاجم الأشجار السليمة. ومن ناحية أخرى "إذا لم يكن هناك إعادة نمو طبيعي بعد خمس سنوات عندها يجب الشروع في إعادة التشجير".

وتقدر الإدارة العامة للغابات المسؤولة عن عمليات إعادة التشجير أن ما يقرب من 16,000 هكتار يمكن إعادة تشجيرها أو مساعدتها على التجدّد تلقائيا. لكن وبالرغم من الجهود المبذولة فإن إعادة التشجير تظل غير كافية لتعويض المساحات المفقودة. يوضح إبراهيم الجزيري: "بعد عام 2011، تناقصت مساحة الأراضي المعاد تشجيرها بشكل مطرد وصارت المساحات ضئيلة للغاية، باعتبار كل الأنواع، من الغابات في الشمال إلى تلك الموجودة في وسط البلاد". 

يقول خبيرالجغرافيا أن إعادة التشجير تتطلب استثمارا كبيرا إلا أن الموارد منذ الثورة صارت شحيحة وتناقصت الصيانة". علما أن عملية إعادة التشجير ليست مضمونة النجاح دائما.

يرى الجزيري أن سبب انخفاض معدل نجاح إعادة التشجير في تونس "هو اختيار الأنواع". فلطالما أُهملت الأنواع المستوطنة مثل بلوط الفلين (الخفّاف) والخروب والزيتون البري لصالح أشجار الكلتوس. هذا الصنف هو في الواقع نوع غازٍ وله قابلية عالية للاشتعال. ”كما أنها أصناف سامة للأنواع الأخرى فهي تقلل من جودة التنوع البيولوجي ولا تترك شيئاً ينمو على الأرض".

إدراكًا منها لمحدودية هذا النوع من إعادة التشجير، فضّلت إدارة الغابات مؤخرًا تنمية الغابات المختلطة، المكونة من مجموعة متنوعة من الأصناف المحلية من أجل ”الحد من خطر احتراق الغطاء النباتي وضمان تنوع منتجات الغابات على مدار العام".