قانون الجمعيات مشروع يهدد المجتمع المدني في تونس

في يوم 10 أكتوبر 2023، أُودع مشروع قانون جديد لدى مجلس نواب الشعب يهدف إلى إعادة تشكيل المشهد الجمعياتي التونسي. وبعد حوالي شهرين من ذلك أعلن رئيس الحكومة بدوره عن إحداث لجنة مكلّفة بصياغة مشروع قانون في الغرض. لكن ما لبث مقتَرح القانون المذكور أن أثار موجة من القلق لدى العديد من أعضاء الجمعيات والنشطاء الذين نددوا بما ينطوي عليه من تكبيل  لحرية العمل الجمعياتي.
بقلم | 13 ديسمبر 2023 | reading-duration 10 دقائق

متوفر باللغة الفرنسيةالإنجليزية
"قد نتجه نحو اندثار الحياة الجمعياتية لا سيما على مستوى الجمعيات الصغرى الناشطة على أرض الميدان وذلك أبرز أوجه الخطر في الموضوع" ينبه أمين بنغازي، منسق البرامج صلب منظمة محامون بلا حدود (ASF).

يبدو أن المشروع المقترح ببادرة من مجموعة من النواب والنائبات، والذي من المفترض أن يقنن تنظيم الجمعيات، يمثل في الواقع تهديدا جديا لمبدأ حرية المجتمع المدني. حيث يمنح الإدارة سلطة تقديرية واسعة ويطرح تهديدات بحل الجمعيات ويفرض قيودا على تعبئة الموارد.وسرعان ما أثارت جملة التعديلات هذه مخاوف الوسط الجمعياتي الذي بات مستهدفا من قبل رئاسة الجمهورية ورئيس الحكومة على حد السواء.

وبالفعل، كان رئيس الحكومة أحمد الحشاني قد أعلن يوم الاثنين 11 ديسمبر عن إحداث لجنة مكلفة بصياغة مشروع قانون جديد للجمعيات "مع إمكانية النظر في تنقيح قوانين أخرى متعلقة بتمويل الجمعيات وتبييض الأموال". كما شدد بيان صادر عن رئاسة الحكومة على ضرورة أن يساهم هذا القانون الجديد في "تدعيم دور المجتمع المدني، وذلك في كنف احترام المبادئ والحقوق والضمانات المنصوص عليها في الدستور، في إطار دولة القانون". 

تنقيحات جوهرية

لدى لقائه بوزيرة العدل يوم 7 ديسمبر 2023، أعرب الرئيس قيس سعيد عن شديد استنكاره قائلا أن "منظمة لن أذكر اسمها تلقت لوحدها، منذ سنة 2016، تمويلات من الخارج بقيمة سبعة ملايين دينار بزعم أنها باسم المجتمع المدني. وهذه الجمعيات ماهي إلا امتداد للدوائر الاستخباراتية الأجنبية. لا بد من تطهير البلاد ووضع حد لهذا الوضع". وكان قبل أسبوعين من ذلك يوم 24 نوفمبر بالتحديد، قد اتهم جمعية أخرى - دون تسميتها هي الأخرى- بتلقي مليارات من الدنانير.

يشكل هذا المناخ السياسي المتوتر أرضية خصبة لتمرير مقترح القانون الأساسي عدد 027 لسنة 2023 المتعلق بتنظيم الجمعيات. إذ يؤكد أمين بنغازي أن هذا المقتَرح يتنزل في سياق يتسم بـ"الانفراد بكافة السلطات منذ 25 جويلية 2021 والسعي إلى تقويض أسس دولة القانون ونسف القوى المضادة والأجسام الوسيطة، علاوة على المساس باستقلالية القضاء وتقييد الحريات وشيطنة الجمعيات، حتى من أعلى هرم السلطة."

تتكون جهة المبادرة بالمقترح من عشرة نواب ونائبات مستقلي، بمن فيهم فاطمة المسدي. وقد نشرت الأخيرة في 7 سبتمبر 2023 على موقع فيسبوك ملخصا مقتَضبا لفحوى المبادرة التشريعية "التي سنتقدم بها قريبا لتحويلها إلى قانون". واستنسخت الوثيقة الرسمية التي عُرضت على أنظار لجنة الحقوق والحريات إثر بضعة أشهر من ذلك الخطوط العريضة التي وردت في تدوينة النائبة على موقع التواصل الاجتماعي.

باتصالنا بها، لم ترد فاطمة المسدي على مراسلاتنا وإن سبق وأن أدلت ببعض التصريحات إلى وسائل الإعلام للدفاع عن مقترَحها.

إذ كانت قد صرحت، يوم 30 أكتوبر الماضي، في مداخلتها على قناة التاسعة التلفزية : "تمارس جملة من الجمعيات على غرار منظمة العفو الدولية والجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات العديد من الضغوطات لتعطيل تمرير القانون. هذا الضغط مرده في حقيقة الأمر تجفيف منابع التمويلات الأجنبية المرصودة للجمعيات. وتُعد الأموال التي تتلقاها هذه الجمعيات خطرا يخرب الديمقراطية التونسية."

في الواقع، ينحرف مشروع القانون المعروض على لجنة الحقوق والحريات بشكل كبير عن الإطار القانوني الجاري به العمل، أي المرسوم عدد 88 لسنة 2011 المتعلق بتنظيم الجمعيات.

ففي حين ينص الفصل السادس من مرسوم 2011 على أنه "يحجَر على السلطات العمومية عرقلة نشاط الجمعيات أو تعطيله بصفة مباشرة أو غير مباشرة"، يقترح مشروع القانون الجديد عكس ذلك تقريبًا إذ جاء في أحد فصوله أن أنشطة الجمعيات تخضع لرقابة وإشراف الوزارة المختصة التي تتبعها كل جمعية.

تقول أميمة مهدي عن المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية (FTDES): "يجدر التساؤل حول سبب اقتراح تبعية الجمعيات للوزارات. فبموجب هذا المرسوم، [...] أصبحت الوزارات هي الجهة الوحيدة المخولة لتحديد ما إذا كانت طبيعة أنشطة الجمعيات تستوفي 'الشروط'، دون ضبط أي مبادئ توجيهية واضحة أو مجموعة قواعد محددة بخلاف السلطة التقديرية للوزارة المعنية نفسها".

كما أولى النص الجديد أهمية خاصة للرقابة على الجمعيات التي تتلقى تمويلات أجنبية، سواء كانت جمعيات وطنية أو منظمات أجنبية ناشطة داخل التراب التونسي. ووفقا لمشروع القانون الجديد، يخضع التمويل الأجنبي إلى موافقة مسبقة من رئاسة الحكومة.

تعلق أميمة مهدي حول هذه النقطة "إن تعنت الحكومة في رفض الكشف عن المعايير التي تعتمدها يشير إلى أن هذه 'الموافقة' المزعومة تكتسي صبغة سياسية بالأساس. فالتمويل الأجنبي هو في نهاية المطاف مجرد وسيلة وليس نتيجة".

وترى مهدي أنه حتى لو افترضنا جدلا أن المعايير تكتسي صبغة فنية بحتة، فإنه كان من الأجدر التنصيص عليها بوضوح صلب القانون كي تتمكن جميع الجمعيات من اتباعها.

كما تلاحظ أن القانون يحجّر على الجمعيات التماس تمويلات من دول لا تربطها بتونس علاقات دبلوماسية أو من منظمات أخرى تدافع عن مصالح تلك الدول. وهو إجراء يبدو غير ضروري وفقها باعتبار جملة التحوطات الموجودة بالفعل لتفادي ذلك إذ " تمر جميع التمويلات لفائدة الجمعيات عبر البنك المركزي ما يفترض أنه سيقع دون شك مراقبة كل تمويل أجنبي مشبوه والإبلاغ عنه" تضيف أميمة مهدي. 

وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن الجمعيات لا تخضع للمرسوم عدد 88 فحسب، بل تسري عليها كذلك أحكام القانون المتعلق بمكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال. فعلى سبيل المثال، أعلنت سامية الشرفي مديرة ديوان رئيس الحكومة، في 20 نوفمبر الفارط، عن اتخاذ إجراءات قضائية لحل 176 جمعية بسبب خروقات مالية. وتم إلى حد الآن إصدار حكم قضائي بحل 69 منها فيما رُفض طلب حل 57 جمعية أخرى.

وعلاوة على الجوانب الجبائية، يركز مشروع القانون على التمويل الأجنبي بشكل خاص. إذ يؤكد النشطاء على أن ذلك ليس سوى "التعلة المفضلة" المستعملة للترويج لفكرة أن التمويل الأجنبي يدعم الإرهاب والتدخل السياسي الأجنبي في الشأن الداخلي.

تقول أميمة مهدي حول هذه النقطة: "لقد كشفت التحقيقات عن أنه لم يتم حل سوى أربع جمعيات من أصل 19.000 جمعية للاشتباه في ارتباطها بالإرهاب. وبالتالي، يبدو التمويل الأجنبي مجرد ذريعة مماثلة لإحياء هاجس 'الإرهاب' ولا تهدف سوى إلى تخويف الجماهير وتضييق الخناق على النشاط الجمعياتي".

من جهته يرى أمين خراط، أحد كبار المحللين بمنظمة البوصلة، أن هذه الأحكام القضائية التي أُصدرت بالاستناد إلى الترسانة القانونية الجاري بها العمل حاليا ما هي إلا دليل آخر على "سخافة" مشروع القانون الجديد. 

وفي تقديره " يؤكد هذا الأمر مما لا يدعو مجالا للشك أن الإطار القانوني الحالي يتضمن ما يكفي من الآليات لرقابة الجمعيات وزجر التجاوزات في حال ثبوت عمليات فساد أو غسل أموال".

لقيت تحذيرات النشطاء والناشطات التونسيين·ات صدىً لدى المنظمات الدولية الناشطة بالبلاد. حيث أعربت الأخيرة عن تخوفها من أن يشكل القانون المقترح انتهاكا للحقوق الأساسية التي تعتبرها الجمعيات شرطا ضروريا لضمان حسن سير عملها.

وبالفعل، وقّعت العديد من هذه المنظمات يوم 7 نوفمبر الماضي على رسالة مفتوحة تدعو فيها إلى رفض مشروع القانون نظرا لكونه "سيؤدي حتما إلى تفكيك المجتمع المدني" على حد تعبيرها.

أصداءُ دكتاتوريةٍ سابقة

تجاوزت الانتقادات في الوسط الجمعياتي حول مشروع القانون التحليلات القانونية وأشارت إلى وجود العديد من أوجه التشابه بين هذا النص وكيفية إدارة الجمعيات ومكونات المجتمع المدني في ظل النظام الدكتاتوري لزين العابدين بن علي.

إذ سعى النظام آنذاك إلى اختزال دور المجتمع المدني في الأنشطة الخيرية والتبرعات، وكانت كل مؤسسة مطالبةً خاصة بالتصريح بمجال نشاطها. "وكأن كل جمعية مطالبة بأن يقتصر نشاطها على قضية واحدة" تقول أميمة مهدي بنبرة السخرية. وفي تلك الفترة كان التشريع الجاري به العمل يخوّل، من بين أمور أخرى، اختراق الجمعيات بغرض تكميم أفواه المعارضة.

وخير مثال على ذلك كان تصنيف الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، في ذلك الوقت، كجمعية ذات صبغة عامة حتى يتمكن أعضاء التجمع الدستوري الديمقراطي الحزب الحاكم آنذاك من اختراقها، حسب ما توضح نسرين جلالية، عضو المكتب التنفيذي لمنظمة البوصلة.

وتضيف الناشطة أن مقترحيْ نظام التصنيف وتبعية كل جمعية لوزارة إشراف الوارديْن في مشروع القانون يذكّران بنفس الأساليب الرقابية البالية ويفتحان الباب على مصراعيه أمام السلطة التقديرية للإدارة.

كما نعتبر جلالية أن "تبعية الجمعيات للوزارات تُعد ضربا للاستقلالية الأساسية التي يرتكز عليها المجتمع المدني والذي يُفترض أن يتمتع بحرية مطلقة على مستوى التنظيم والتعبير عن النقد دون أي تدخل حكومي".

كما تلاحظ جلالية أنه منذ فترة حكم بن علي وحتى يومنا هذا، تواصل الطابع التقييدي المهيمن على المشهد السياسي التونسي وإن اتسم بـ "نفس تحرري قصير المدى في عهد الترويكا بالتزامن مع نشوة الموجة الثورية".

في الواقع، لم يكن قيس سعيد أو فاطمة المسدي أول من سعى إلى تضييق الخناق على حرية تكوين الجمعيات وعلى الفضاء المدني. فمنذ سنة 2016، نهج مهدي بن غربية، وزير العلاقة مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني في حكومة يوسف الشاهد نفس هذا المنهج. ويبدو أن مشروع القانون الحالي "الذي كان قيد الإعداد منذ عهد بن غربية والشاهد" ليس إلا تواصلا لسعي الدولة الدائم لتصيد الثغرات بهدف تكبيل حرية النشاط الجمعياتي مع التذرع بالسياق الإرهابي في أغلب الأحيان، مثلما توضح جلالية.

وعلاوة على أوجه التشابه مع الفترة الدكتاتورية التي عرفتها البلاد، يحذر العديد من النشطاء والمحللين·ـات من أن مقترَح القانون هذا ما هو إلا انعكاس لأنظمة أكثر استبداديةً في المنطقة على غرار مصر أو الأردن. تقول حفيظة شقير، أستاذة جامعية متقاعدة مختصة في القانون العام وناشطة نسوية ونائبة رئيس الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان، أن "القانون المقترَح يشبه إلى حد كبير ذلك الذي سنه النظام الاستبدادي المصري بغية إحكام قبضته الخانقة على العمل الجمعياتي".

يؤكد أمين خراط في هذا الصدد أن "أي نظام استبدادي سيسعى لا محالة إلى التهجم على المجتمع المدني والجمعيات. ولذا يمكننا إقرار أننا نسير في نفس الاتجاه الذي اتبعته مصر تحت حكم السيسي أو حتى كل من روسيا والأردن."

"تداعيات أوسع نطاقا بكثير"

"في صورة توقف الجمعيات عن النشاط بين عشية وضحاها، لن يكون هناك حافلات مدرسية للأطفال ولن يتم تنظيف الأحياء بانتظام. ولذا، فإنه من واجبنا تحسيس المواطنين بهذه القضية وعلى وجه السرعة!".

نال هذا النداء الذي أطلقته إحدى الحاضرات خلال نقاش مشروع القانون المقترح في مؤتمر حول حقوق الإنسان والإدماج انعقد يوم 5 ديسمبر 2023 موافقة الحاضرين·ـات: فالحق في النفاذ إلى الرعاية الصحية ومراكز إيواء النساء ضحايا العنف والعدالة… وغيرها الكثير من المرافق والخدمات المتاحة للمواطنين·ـات عبر جميع أنحاء البلاد توفرها أو تدعمها مشاريع جمعياتية أو يقف وراءها المجتمع المدني.

"في منظمة محامون بلا حدود، نقدم المشورة والمساعدة القانونية للآلاف منذ عدة سنوات. ماذا سيكون مصير كل هؤلاء الأشخاص في المستقبل في صورة تخلي المجتمع المدني عنهم خاصة وأنه يسد تقصير الدولة في عديد المجالات؟" ينتفض أمين بنغازي.

من جانبها، تفيد نسرين جلالية أنه حتى عندما أحدثت وزارة المرأة في سنة 2022 مركزا لإيواء النساء المعنّفات بتطاوين ببادرة من المجتمع المدني، بالكاد كلّف المسؤولون·ـات الحكوميون·ـات أنفسهم عناء زيارة هذه المؤسسة الجديدة.

وتضيف قائلة: "إزاء هذا الوضع اضطرت الوزارة إلى الاستعانة بمنظمة منتصبة بمدينة جرجيس لتكوين الأعوان التابعين لهذا المركز. [...] ويتضح أن الدولة تعمد إلى تفويض بعض هذه المسؤوليات إلى المجتمع المدني ملقية علي كاهله عبئا تُعرض الوزارة نفسها عن تحمله."

ثم هل أن الدولة غافلة عن الدور الذي تلعبه الجمعيات والمجتمع المدني في مجال التشغيل؟ إذ من المرجح من المرجح أن يوفر هذا القطاع عددا هاما من مواطن الشغل، رغم غياب أرقام دقيقة وموثوقة حول عدد العاملين·ات فيه.

في واقع الأمر تعتمد الدولة العديد من الآليات في سياستها المحفزة للتشغيل وإن كان من عجيب المفارقات أنها تستفيد لتنفيذها من دعم الجمعيات والمانحين الأجانب. فعلى سبيل المثال تُشكل عقود الخدمة المدنية المبرمة مع الجمعيات إحدى آليات البرامج النشيطة للتشغيل التي تلجأ إليها الدولة.

يفيد أمين خراط بأن "وفقًا لبيانات الوكالة الوطنية للتشغيل والعمل المستقل (ANETI) بلغ عدد المنتفعين بعقود الخدمة المدنية أكثر من 168.000 شخصا بين سنتي 2011 و 2019 . بالتالي إذا تم منع العمل المأجور داخل الجمعيات مثلما ينص على ذلك الفصل الثاني من المقترح، يجعلنا ذلك نشك في عدم جدية هذا المشروع".

كما تعطي جلالية مثالا آخر في ما يهم مكافحة فيروس نقص المناعة البشرية والإيدز حيث "تتجاهل الوزارة عن عمد حقائق واقعية مثل تعاطي المخدرات والعلاقات الجنسية بين الرجال والمشاكل الخاصة بكل من الرجال والنساء والممارسات الجنسية داخل السجون".

وهنا يأتي دور المجتمع المدني الذي يتعهد بالعديد من المسؤوليات كإبدال الحقن والوقاية وتوزيع الأوقية الذكرية. لكن حين يكون التنسيق مع الوزارة دون مستوى الانتظارات "تشن وزارة الداخلية حملة اعتقالات عشوائية في صفوف المتطوعين·ات علما وأنه من المفارقات الغريبة أن وزارة [الصحة] تلتمس موارد مالية من الصندوق العالمي لمكافحة الإيدز لصرف أجور أعوانها"، وفق ما تقول جلالية. 

"يفضح هذا السلوك نفاق الحكومة التي لا تُبدي دعمها للمجتمع المدني إلا عندما يخدم ذلك مصالحها".

ومن جانبهم، يقدم المدافعون عن حرية تكوين الجمعيات تبريرا بديلا يتمثل في الجانب الاقتصادي، يقول بنغازي: "يسدد المجتمع المدني الضرائب المستحقة عليه وهو ما يغذي خزينة الدولة ويوفر احتياطيات إضافية من العملة الأجنبية الدولة في أمس الحاجة إليها".

ويبدو أن أكبر معضلة تواجهها الحوكمة حاليا تتمثل في التدخل القوي للجمعيات في الشأن الاجتماعي والسياسي. ترى أميمة مهدي أن "حتى الجمعيات المحلية الصغرى التي تتحدى بلديات منطقتها وتتحدث بلسان المواطنين العاديين يُنظر إليها على أنها شكل من أشكال المعارضة للسلطة".

يقول أمين خرراط: "عندما تُثار مسألة التمويل الأجنبي، غالبا ما يقع التغاضي عن ذكر أن هذه الأموال هي التي سمحت بتشييد قاعة الرياضة في حي ما، بل ندعي على عكس ذلك أنها متأتية من أجهزة استخباراتية أجنبية وأنها تخدم أجندة معينة"...إنه خطاب تآمري وشعبوي بامتياز تتجاوز تداعياته حدود المجتمع المدني".

من جانبها ترى الناشطة حفيظة شقير في الآليات والاتفاقيات الدولية وسيلة ناجعة للتصدي لتآكل حرية نشاط المجتمع المدني والجمعيات: "كما نعلم، سبق وأن تمت إدانة تونس من قبل المحكمة الإفريقية! تونس أبرمت عديد المواثيق والاتفاقيات الدولية ويجب ألا نتردد في اللجوء إلى هذه الهيئات".

في سنة 2012، أوصى المقرر الأممي الخاص المعني بالحق في التجمع السلمي وتكوين الجمعيات بأن تخضع عملية إنشاء الجمعيات إلى "نظام التصريح" ولا إلى "الترخيص المسبق" مما يُغنيها عن موافقة السلطات.

ويجمع ممثلو·ات الجمعيات والمجتمع المدني على ضرورة التصدي لكل محاولة مساس باستقلالية الجمعيات والتجند من أجل عدم الاستسلام للتعلات "الشعبوية" التي تتذرع بها السلطة، خاصة فيما يتعلق بالتمويل الخارجي.

من جانبه، يرى أمين خراط أن التهديد الذي يمثله مشروع القانون لا يبدو وشيكاً: "في اعتقادي أن الدولة منشغلة بأولويات أخرى، مثل المداولات حول قانون المالية لسنة 2024 أو قانون استقلالية البنك المركزي. ويبدو لي أن هذين الموضوعين من المتطلبات الأساسية السابقة لإقرار قانون الجمعيات نظرا لاقتران هذه الملفات ببعضها البعض".

وعلى الرغم من أن مشروع القانون يشكل تهديدا محدقا بالعمل الجمعياتي وأن المواقف حوله تردد صداها في أعلى مستويات الدولة، إلا أنه يُرجح ألا توافق الرئاسة على أي تنقيحات جوهرية، كما سبق وأن حدث لدى مناقشة مشروع قانون تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني. ويعتبر أمين خراط أن البرلمان يصيغته الحالية لا يتمتع بأي استقلالية حتى عندما يتعلق الأمر بقضايا تنخرط في الخطاب الرسمي للسلطة.