قيس سعيّد يحكم قبضته الخانقة على القضاء واستقلاليته

وعد قيس سعيد طوال حملته الانتخابية باحترام استقلالية القضاء والحد من تداخلاته مع السلطة السياسية. لكن الرئيس بعدما استفرد بكل الصلاحيات في 25 جويلية 2021، شرع في عملية تدمير منهجي وتدريجيّ لاستقلالية القضاء التونسي.
بقلم | 26 جويلية 2023 | reading-duration 15 دقيقة

متوفر باللغة الفرنسيةالإنجليزية
"القضاء هو عماد الديمقراطية الحقيقية وهو خير من ألف فصل في نص الدستور"، هكذا صرّح قيس سعيد في مقابلة أجراها مع الجزيرة في أوائل شهر جوان 2019 حين كان لا يزال مرشحا للرئاسة وأضاف أن "تاريخ القضاء التونسي مليء بتدخل السلطة التنفيذية فيه وبالتجارب المرة". 

هو إذاً موقف مؤيد لاستقلالية القضاء الذي كان يمثل في ذلك الوقت جانبا من مهنة رئيس الدولة المستقبلي التي امتهنها لسنوات، فهو رجل قانون شغل منصب مدير قسم القانون العام بكلية الحقوق والعلوم الاقتصادية والسياسية بسوسة ثم بكلية العلوم القانونية والسياسية بتونس بين عامي 1994 و 2018.

ولئن كان سعيد يتمسك في حواره من الجزيرة بأن "القضاء التونسي اليوم لم يصل بعد إلى مستوى طموحات المتقاضين"، فمن اللافت للنظر أنه يعزو عيوب المنظومة القضائية إلى "تسلل السياسة إلى قصور العدالة".

عندما انفرد قيس سعيد بكل السلط في 25 جويلية 2021، أعلن عن توليه صلاحيات رئيس للنيابة العمومية ثم في وقت لاحق أخذ يفكك تدريجيا كل المبادئ التي كان يدافع عنها سابقا، فقام بحل الهيئات القضائية، والإعفاء التعسفي لقضاة، وإصدار دستور يكرس تبعية القضاء للسلطة التنفيذية. ونجح قيس سعيد في ظرف سنتين إلى عزل القضاء وهدم أي شكل من أشكال استقلالية القضاء.

القضاة، كبش فداء لقيس سعيد

برز قيس سعيد بشكل تدريجي منذ 25 جويلية 2021 في موقف عدائي متزايد الحدّة تجاه المؤسسات القضائية التونسية، وتبنى منذ يوم حل البرلمان خطابا ناقدا ضد منظومة العدالة برر من خلاله التدابير الاستثنائية التي وضعها مذّاك بغياب كفاءة القضاة التونسيين، متهما إياهم على وجه الخصوص بـ "دفن" ملفات معينة.

سرعان ما وجد القضاء نفسه في طليعة أهداف قيس سعيد. في بداية شهر أوت 2021، وضع 45 قاضيا قيد الإقامة الجبرية دون سابق إنذار أو موافقة من المجلس الأعلى للقضاء الذي يفترض به إصدار مثل هذه الأذون. ووفقا لدستور 2014، فإن المجلس الأعلى للقضاء مسؤول عن ضمان استقلالية القضاء وضمان حسن سير عمله، والنظر في المسارات التأديبية للقضاة. 

في الأشهر الموالية ليوم 25 جويلية 2021، استدعي قيس سعيد رئيس المجلس الأعلى للقضاء يوسف بوزاخر في أكثر من مناسبة لينتقد بطء تقدم الملفات. وفي 6 ديسمبر، خلال اجتماع آخر مع بوزاخر وعدد من القضاة الآخرين، أرسل رئيس الدولة إشارات أكثر إلحاحا داعيا إلى " تطهير" القضاء.

جاءت سلسلة التصريحات والضغوط هذه منذرةً باضطرابات عميقة ستشهدها لاحقا استقلالية القضاء التونسي. وكان المجلس الأعلى للقضاء الهدف الأول الذي وضعه قيس سعيد لنفسه، وأول طرفٍ سيتحمل وطأة هذه السياسة. 

حل المجلس الأعلى للقضاء مسٌّ بالعدالة المستقلة

في 12 فيفري 2022، انتقل رئيس الجمهورية لأول مرة من الكلام إلى الفعل في تهجّمه على استقلالية القضاء وأصدر المرسوم عدد 11 لسنة 2022 معلناً حل المجلس الأعلى للقضاء. 

قال رئيس المجلس آنذاك، يوسف بوزاخر أن "قيس سعيد نجح في خلق رأي عام معاد للمجلس الأعلى للقضاء". ووفقا له، فإن هذا الاستهداف ينبع من الرغبة في تعيين جانٍ من قبيل إلقاء اللوم على المجلس بسبب "الإجراءات البطيئة" و "عدم القدرة على حل بعض القضايا" في حين أن "سلطات المجلس لا علاقة لها بكل ذلك" يواصل بوزاخر.

ويضيف يوسف بوزاخر أن"رئيس الدولة اعتبر أن المجلس الأعلى للقضاء هو أحد الأطراف التي تريد 'تفجير الدولة من الداخل' كما قال هو نفسه"، في إشارة إلى التصريحات التي أدلى بها قيس سعيد قبل سنة من انفراده بالسلطة.

علاوة على ذلك ينص المرسوم عدد 11 - إلى جانب حل المجلس الأعلى للقضاء - على إنشاء هيئة بديلة جديدة تسمّى المجلس الأعلى المؤقت للقضاء مع اختلاف رئيسي يكمن في كيفية تعيين أعضائه التي تُعتبر أكثر عرضة للخضوع إلى إرادة الرئيس.

يذكّر بوزاخر أن "المجلس كان مستقلا ومنفتحاً ويتم انتخاب ثلثي أعضائه من قبل أقرانهم"، لكن سعيّد ألغى آلية انتخاب الأعضاء بشكل كلّي واستبدلها بمنطق التعيين المباشر. وينص المرسوم المذكور على أن رئيس الجمهورية يختار بشكل مباشر 9 من أصل 21 عضوا للمجلس من بين قضاة متقاعدين "بدون تحديد معايير الاختيار التي يجب أن يتوخاها" مثلما يقول رئيس المجلس المنحلّ. 

"لقد منح رئيس الدولة لنفسه سلطات لم يُر لها مثيل حتى في نظام ما قبل 2011"

من "السلطة" إلى "الوظيفة" القضائية

بعدما تقوضت استقلالية القضاء إلى حد كبير، جاء استفتاء 25 جويلية 2022 لصالح الدستور الجديد ليقبرها كليا. فلم نعد في النص الجديد نتحدث عن "سلطات" تنفيذية أو تشريعية أو قضائية بل عن "وظائف". ويظهر الفصل الخامس المكرَّس لـ "الوظيفة القضائية" الأقصر من بين الثلاثة بفصوله الثمانية التي تضع أسس النظام القضائي الجديد في تونس.

يقول المحامي عياشي الحمامي أن "الدستور الجديد مبهم إلى حد ما من وجهة نظر العدالة"، كما يأسف لاختفاء ذكر المجلس الأعلى للقضاء في النص الدستوري الجديد بينما "كان وجوده مكفولا في دستور 2014". من جهته يقول يوسف بوزاخر أن "دستور 2014 كان يُعتبر ثمرة نضال القضاة التونسيين والعائلة القضائية بشكل عام منذ الاستقلال". 

ويندرج الدستور الجديد في التمشّي الذي تتبعه المراسيم المنشورة منذ 25 جويلية 2021 بشكل يتيح لقيس سعيد إبقاء قبضته على تشكلية المجلس الأعلى المؤقت للقضاء ويمنحه الحق في إعفاء القضاة إذا أراد ذلك.

يقول الهمامي أنه "من وجهة نظر بنيوية، لم يعد بإمكاننا القول بأن القضاء في تونس مستقلّ".

وبالرغم من التقلّص الكبير الذي تشهده سلطة القضاء، فإن القضاة والمسؤولين "لهم أن يرفضوا تنفيذ تعليمات أو أفعال تبيّنت لهم عدم قانونيتها" مثلما يقول أحمد صواب، وهو قاض إداري سابق، في إشارة إلى فقه القضاء في القانون الدولي خلال  إحدى حلقات برنامج "إنكي توك" على إنكفاضة بودكاست. 

ويضيف صواب أن "المشكلة تكمن في أن القضاة ينفذون حتى ما هو من الجليّ أنه غير قانوني".

إعفاء القضاة وبث الذعر

بعدما تفرّغ من المجلس الأعلى للقضاء، صوّب قيس سعيد سهامه نحو القضاة مباشرة. في 1 جوان 2022 صدر المرسوم 35 لسنة 2022 في الرائد الرسمي ليمنح في نصه المقتضب امتيازا لم يسبق لرئيس الدولة أن حازه من قبل في التاريخ التونسي، وهو القدرة على إعفاء أي قاض بشروط معينة وبمقتضى أمر رئاسي فحسب. كما تلاه في ذات النسخة من الرائد الرسمي الأمر الرئاسي عدد 516 ليعفي 57 قاضيا وقاضيةً بدون توفير أي معلومات تتعلق بأسباب هذا القرار. "لقد كانت مفاجأة للجميع بنسبة 100٪" يستحضر عياشي الهمامي، وهو محام من حيث المهنة والناطق باسم هيئة الدفاع عن القضاة المعفيين. 

علاوة على ذلك، تنص مقتضيات المرسوم عدد 35 على أن تُثار الدعوى العمومية ضد كل قاض مفصول، والذي يُتاح له الطعن في القرار وطلب إعادة تنصيبه شريطة صدور حكم جزائي بات في "الأفعال المنسوبة إليه". وهكذا فإن الأمر الرئاسي عدد 516 لا يترك سوى فسحة ضئيلة من الأمل للقضاة المعفيين في العودة إلى مقاعدهم، ويضعهم تلقائيا في موضع المتهم من دون إثبات إدانتهم.

يتعجب عياشي الهمامي قائلا "لا أعرف دولة واحدة في العالم لرئيس السلطة التنفيذية فيها حق إقالة القضاة، بدون احترام مبدأ المواجهة، وبدون أن يكون للمعنيّ الحق في الاطلاع على ملف قضيته مسبقا أو الدفاع عن نفسه أو أي شيء على الإطلاق".

استهدف الأمر الرئاسي عدد 516 عدة شخصيات بارزة في ساحة القضاء التونسي منها محمد كمون، على سبيل المثال، وهو عميد قضاة التحقيق بالمحكمة الابتدائية بتونس. كما بادر قيس سعيد بإعفاء وكلاء الجمهورية للمحاكم الابتدائية في ولايات زغوان وتونس ومنوبة وأريانة وبنزرت والكاف ونابل وقفصة، و "بطبيعة الحال أدى ذلك إلى إبطاء وتيرة العمل" بحسب عياشي الهمامي. 

كما منح المرسوم عدد 11 رئيس الدولة سلطة إجراء الحركة القضائية السنوية، والتي لم تتحقق بالنسبة لسنة 2023، حيث لا تزال معظم المناصب التي كان يشغلها القضاة المعفيون شاغرة، باستثناء عدد من أهم الشغورات في العاصمة والتي تم سدّها نهاية شهر ماي 2023: رئيس محكمة الاستئناف بتونس، ووكيل الجمهورية بالمحكمة الابتدائية بتونس، وعميد قضاة التحقيق بالمحكمة الابتدائية وغيرهم…

يقول الهمامي: "قررت وزيرة العدل تعيين قضاة جدد لكنهم قضاة "رهن إشارتها" ينفذون التعليمات".

إجراء غير قانوني

قدم قيس سعيد تبريرات قراره خلال خطاب متلفز تم بثه في نفس اليوم حيث أشار رئيس الجمهورية على وجه الخصوص إلى عرقلة التحقيقات في قضايا الإرهاب والفساد المالي. ومع ذلك فإن 8 فقط من القضاة الـ 57 المعفيين يواجهون المحاكمة في حين لم يقدم الأمر الرئاسي عدد 516 أي سبب محدد لإعفاء القضاة المتبقين. جدير بالذكر أنه لم يتم إعلام هؤلاء الأخيرين بشكل رسمي من أن إعفاءهم سيدخل حيز النفاذ في اليوم نفسه. 

"الآن حتى الفاسدون حقا صار بإمكانهم تقديم أنفسهم كضحايا. قيس سعيد لم يحارب الفساد من خلال طريقة الإعفاء هذه بل ساعده، لأنهم الآن جميعا ضحايا إجراء غير قانوني".

المصدر : اللجنة الدولية للحقوقيين (ICJ)

تذرّع رئيس الجمهورية خلال خطابه بـ "الفساد الأخلاقي" أو المشاركة في "الجلسات الخمرية" لتفسير إعفاء بعض من القضاة. من بين هؤلاء خيرة بن خليفة التي تم إعفاؤها على خلفية قضية زنا قُضي فيها بعدم سماع الدعوى منذ 19 جانفي 2023. 

يوضح عياشي الهمامي أن هذه القضية كانت "مأساة"، خاصة وأن القاضيات الست الأخريات المفصولات كن مستهدفات في البداية أيضا بالشائعات وزُجّ بهن في القضية بناء على نفس السبب. "توجّب على خيرة بن خليفة أن تعلن في مؤتمر صحفي إنها هي المعنيّة من أجل أن تُترك الأخريات وشأنهن. لقد كان أمرا جَسوراً".

يشترك العديد من المتهمين والمتهمات في آرائهم المناوئة لقيس سعيد في وسائل الإعلام، أو كانوا في وقت ما طرفا في نزاع مع قوات الأمن. وهي حالة مساعد وكيل الجمهورية بالمهدية، رمزي بحرية، الذي تجري محاكمته بتهمة تكوين وفاق إرهابي وعدم الإعلام بمعلومات على معنى الفصليْن 32 و39 تباعاً من قانون مكافحة الإرهاب لسنة 2015. وفي اجتماع عقده المجلس الوطني لجمعية القضاة التونسيين بتاريخ 4 جوان 2022، صرح رمزي بحرية أن إعفاءه كان مرتبطا برفضه الإذن بتنفيذ مداهمات من قبل قوات الأمن في إطار مكافحة الإرهاب، وكان قد استند في قراره إلى كون المداهمات قد استهدفت ثمانية مساكن دون أي مبرر أو معلومات ذات قيمة ضدّ الأشخاص المعنيين.

تثير بعض الإعفاءات الأخرى مسألة حرية التعبير للقضاة حيث صرح العديد منهم أن إعفاءهم كان على خلفية انتقادهم للسلطات. هذه هي حالة حمادي الرحماني، القاضي في محكمة التعقيب، والمتهم على أساس الفصل 67 من المجلة الجزائية المتعلق بارتكاب أمر موحش ضد رئيس الجمهورية. ويواجه القاضي المذكور عقوبة تصل إلى 3 سنوات في السجن بسبب منشور على موقع فايسبوك يتهم فيه قيس سعيد بارتكاب "انقلاب" يوم 25 جويلية 2021. كما ورد أن مراد المسعودي، وهو قاض في محكمة الاستئناف بتونس العاصمة، قد تم استهدافه بسبب مهامه كرئيس للجمعية التونسية للقضاة الشبان، والتي لم تتوانَ عن انتقاد الرئيس منذ 25 جويلية 2021 داعيةً القضاة إلى الوقوف صفا واحدا لحماية استقلالية القضاء*.

إعفاءات غير قانونية ومتهمون قيد الانتظار

رفض معظم القضاة المعفيين أن يظلوا سلبيين في مواجهة الضغوط، وإلى جانب خطاباتهم في وسائل الإعلام أو الأفعال الرمزية من قبيل الإضراب عن الطعام بالنسبة لبعضهم، اختارت أغلبية كبيرة منهم رفع قضية إلى المحكمة الإدارية العليا. 

تتمتع المحكمة الإدارية بمقتضى الدستور بسلطة إلغاء الإجراءات التي تتخذها الإدارة، فسرعان ما نطقت لصالح القضاة اعتبارا من 10 أوت 2022. وتم نقض قرار الإعفاء لـ 49 قاض لم تُثر في حقهم الدعوى قبل إصدار الأمر عدد 516، فأُعيدوا - نظريّا - إلى مناصبهم. اكتسب هذا الحكم أهميته الكاملة بعد بضعة أيام، عندما أعلنت وزارة العدل عن فتح 109 شكاية ضد جميع القضاة المعفيين. علما وأن ما لا يقل عن 13 من جملة الـ109 ملفا تم عرضها على أنظار القطب القضائي لمكافحة الإرهاب في موفى شهر ديسمبر 2022

عللت المحكمة الإدارية قرارها بأن المجلس الأعلى المؤقت للقضاء "لم يتمكن من توفير عناصر ملموسة كافية" لتبرير قرار إعفاء القضاة ذوي الشبهة.

غير أن موقف المحكمة الإدارية بقي حبرا على ورق وظل القضاة على حالهم في وضعٍ مخالف لما يقتضيه القانون، مما دفع بـ 37 منهم إلى مواصلة الطعن وتقديم شكاية في 23 جانفي 2023 بناءً على الفصل 315 من المجلة الجزائية ضد وزارة العدل بسبب عدم تنفيذ الحكم الصادر عن المحكمة الإدارية، ومنذ ذلك الحين والمتهمون معلّقون في حيّز انتظار مزدوج. فمن ناحية، لم تنفذ الحكومة بعد قرار المحكمة الإدارية ولم تعد القضاة إلى مناصبهم. 

"عدم تنفيذ قرار قضائي هي جريمة"، يقول عياشي الهمامي.

ومن ناحية أخرى، طالب قضاة التحقيق المكلّفين بملفات القضاة المعفيين من المجلس الأعلى المؤقت للقضاء رفع الحصانة عن المتهمين قبل الشروع في النظر في الملفات. "من حيث المبدأ، فإن النيابة العمومية هي التي يجب أن تقوم بهذا العمل من خلال إرسال الملف إلى المجلس الأعلى للقضاء. لم يتم احترام هذا الإجراء على الرغم من أهميته البالغة". وجدير بالذكر أنه من المتوقع صدور القرار في 19 سبتمبر المقبل.

وتلعب هذه الإعفاءات وما تلاها من معركة قانونية دور الرادع بالنسبة لما تبقى من القضاة. يقول الهمامي: "بات يسود مناخ من الذعر في صفوف القضاة غير المعفيين". ويخلص المحامي إلى أن "مناخ الذعر هذا هو الذي ينتج التبعيّة".

توظيف القضاء.. للقضاء على المعارضة

بالتوازي مع قضية القضاة المعفيين، فإن عياشي الهمامي نفسه مستهدف في المحاكم بسبب مواقفه الناقدة للحكومة. وتمثل قضيته مظهرا من مظاهر تعدد الإجراءات والتحقيقات المفتوحة ضد الشخصيات التي تفصح بمعارضتها لانحرافات رئيس الدولة. 

صار القضاء على خلفية فقدانه لاستقلاليته أحد أسلحة السلطة الرئيسية. ففي فيفري 2023، ألقي القبض على 17 شخصا من بينهم موظفون حكوميون وصحفيون ورجال أعمال، في قضية تُعرف بملف "التآمر على أمن الدولة"، ولم تلبث ملفاتهم أن وجدت سبيلها إلى المحاكم.

من رفض من القضاة الجالسين الانصياع لتدبير قيس سعيد ضد خصومه تحول بدوره إلى هدف مباشر. حيث أوقف وزارة العدل قاضي التحقيق في المكتب رقم 23 التابع للقطب القضائي لمكافحة الإرهاب عن العمل، علما وأنه رفض إصدار بطاقة جلب في حق أحد المتهمين، الأمر الذي يبين أن القضاة في تونس قد فقدوا استقلاليتهم.

يقول الهمامي "في مناخ الخوف الذي خلقه الرئيس، 'من يبرئهم فهو شريك لهم' مثلما جاء على لسانه".

تعود أطوار القضية إلى رسالة بعث بها القطب القضائي لمكافحة الإرهاب إلى وزيرة العدل ليلى جفال، وهي معلومة أكدها محامو الموقوفين. في اليوم نفسه، تم البعث بنفس الرسالة إلى وكيل الجمهورية لدى المحكمة الابتدائية بتونس العاصمة، تدعوه إلى "إجراء التحقيقات اللازمة والإذن بها". وردا على ذلك، كلف وكيل الجمهورية فرقة امنية بالتحقيق في الملف.

من الجدير بالذكر أن وزيرة العدل قد أصدرت تعليمات مباشرة وكتابية إلى وكيل الجمهورية لتأذن له بالشروع في إجراء التحقيقات، في حين أنه وفقا مجلة الإجراءات الجزائية ومبدأ استقلالية السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية، لا يتمتع وزير العدل بسلطة على مكتب وكيل الجمهورية أو أعضائه.

"الملفات فارغة لكنها تواصل تضخّمها"، يقول القاضي السابق أحمد صواب.

يذكر أحمد صواب كمثال على ذلك اعتقال نور الدين بوطار، مدير إذاعة موزاييك إف إم التي تمت في ظرف أقل من يوم، أي 13 فيفري المنقضي، عندما أُحيل الصحفي على وكيل الجمهورية - بعد الاستماع إليه من قبل فرقة أمنية - التي أحالته بدورها إلى القطب القضائي لمكافحة الإرهاب. نُقل نور الدين بوطار بعد ذلك إلى قسم السجلات الجنائية، ومن ثمة إلى الوحدة المتخصصة في البحث في الجرائم المالية قبل أن ينتهي به الأمر قيد الإيقاف. 

كان الصحفي الشخصية التاسعة في قائمة المعتقلين في أقل من يومين. ناشطون سياسيون، ورجال أعمال، وقيادي سابق في حركة النهضة، وموظفون حكوميون... إجمالا، شمل الإيقاف 17 شخصا وجهت إليهم تهمة "التآمر على أمن الدولة" بموجب قانون مكافحة الإرهاب والمجلة الجزائية في القضية التي سرعان ما أطلق عليها اسم "قضية الـ 17" والتي تتعلق بعدة عناصر من المعارضة.

يقول عياش الهمامي: "الرئيس ووزيرة العدل يتآمران ضد المعارضة التونسية بمثل هذه التهم الخطيرة ويستخدمان قانون مكافحة الإرهاب الذي يسمح لهما بالاحتفاظ بالأشخاص لمدة 15 يوما، ويسمح لهما بحظر نفاذهم إلى محامي لمدة 48 ساعة، وقبل كل شيء يسمح لهما بإدراج شهادات مجهولة المصدر لا يمكن حقا الاعتراض عليها والتي تحتوي على جميع الاتهامات". 

كما يذكر المحامي بأن هذه القوانين تعاقب بالسجن لسنوات طويلة وقد تصل حد عقوبة الإعدام. "وفقا لتحليلي، فإن تنفيذ أوامر قيس سعيد يرمي إلى القضاء على المعارضة التونسية. أنا أسميها قضية تآمر الحكومة على المعارضة وليس قضية تآمر المعارضة على الدولة التونسية".