كانت الهيئة القارية التي أُنشئت منذ سنة 2004، قد حكمت بالفعل في عدة مناسبات انتُهكت فيها حقوق الإنسان على القارة الأفريقية ومنذ ذلك على سبيل المثال لما أدانت جمهورية مالي في سنة 2018 بتهمة التمييز ضد النساء وانتهاك حقوقهن.
دور المحكمة
يقع مقر المحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب في أروشا، تنزانيا. وهي بوصفها الذراع القضائي للاتحاد الأفريقي تكمل عمل اللجنة الأفريقية في مجال حماية حقوق الإنسان في القارة فضلا عن تفسير الميثاق الأفريقي. كما يسمح لها اختصاصها بإصدار أحكام وتوصيات بشأن مدى امتثال الدول الأعضاء للميثاق.
تحظى المحكمة التي تتألف من 11 قاضيا وقاضية باختصاص النظر في "جميع القضايا والمنازعات المعروضة عليها فيما يتعلق بتفسير وتطبيق الميثاق والبروتوكول وأي صك آخر من صكوك حقوق الإنسان التي صادقت عليها الدول المعنية". وإلى جانب ذلك، يجوز للمحكمة أيضا أن تصدر آراء استشارية بشأن "أي مسألة قانونية في علاقة بالميثاق أو صكوك حقوق الإنسان الأخرى ذات الصلة".
كما يجوز للمحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب مثلاً أن تأمر بسبل الانتصاف من خلال التعويضات وجبر الضرر وغيره. ويمكنها أيضًا أن تأمر باتخاذ تدابير مؤقتة إذا كانت الحالة "خطرة للغاية وعاجلة وتفرض بالضرورة تجنب حدوث ما لا يمكن إصلاحه".
كيفية عمل المحكمة الإفريقية:
صادقت تونس على البروتوكول بوصفها دولة عضوا وأودعت إعلانا بقبول اختصاص المحكمة شأنها كشأن ثماني دول إفريقية أخرى يسمح لمواطنيها ومنظماتها غير الحكومية التي تتمتع بصفة مراقب لدى اللجنة الأفريقية بتقديم شكاوى مباشرة إلى المحكمة. وهكذا تمكن إبراهيم بلغيث المحامي التونسي من تقديم عريضته ضد تونس أمام أنظار المحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب.
يقول: "لقد تصرفت كأي مواطن لديه شعور بالمسؤولية لكن أيضًا كمحام".
«إبراهيم بلغيث ضد الجمهورية التونسية»
يرى بلغيث تاريخ 25 جويلية على أنه «تغيير كبير». "قلت لنفسي: ها نحن ذا، إنها الديكتاتورية". ومنذ ذلك الحين شرع المحامي في الاطلاع بشكل منتظم على ما ينشر بالرائد الرسمي من مراسيم رئاسية يتم إصدارها مع الرجوع دائما إلى "نصوص الأمم المتحدة ومعاهدات حقوق الإنسان وقبل كل شيء الميثاق الإفريقي".
"لقد اتبعت الإجراء وقدمت طلبي عبر البريد الإلكتروني وأرسلت الأصل بالبريد. لكن رسالتي أُعيدت إليّ "تطبيقًا لمنشور" بحثت عنه ولم أجد له أثرا. إذ يبدو أن البريد التونسي يرفض إرسال رسائل إلى تنزانيا فما كان مني إلا أن أرسلتها عبر صديق لي من فرنسا".
في عريضته التي تلقتها المحكمة رسميًا في يوم 21 أكتوبر 2021، يزعم المحامي أن الرئيس قيس سعيد "قد ألغى الدستور [أي دستور 2014]، وأوقف المسار الديمقراطي ومنح نفسه مزيدا من السلطات من خلال إصدار المراسيم الرئاسية المعتمدة بموجب حالة الاستثناء".
وكان رئيس الجمهورية قد أصدر في الأشهر التي أعقبت الانقلاب ستة مراسيم جمدت أعمال مجلس النواب وأعضاءه وأعضاء الحكومة. وجاء الدستور الذي أُقيم حوله الاستفتاء في سنة 2022 ليؤسس لـ"نظام رئاسي" ويعزز سلطات الرئيس، وفق ما قالته سلسبيل القليبي، أخصائية القانون الدستوري في مقابلة أجرتها معها إنكفاضة في سنة 2022.
أضافت الأخصائية آنذاك أن "هذا النظام يوجد فيه اختلال في توازن السلط، حيث لا تحتل رئاسة الجمهورية واجهة المسرح فحسب وإنما المشهد السياسي برمته، وجميع المؤسسات الأخرى ليست إلا صورا رمزية تدور حول الرئاسة التي تمثل المركز".
في نفس الموضوع
بمجرد الشروع في الإجراءات، انطلق إبراهيم بلغيث ومقابله الطرف الثاني أي الدولة التونسية يمثلها علي عباس المكلف العام بنزاعات الدولة - مبادلاتهما الكتابية حيث تعين على كل منهما الدفاع عن مصالحه ووجهة نظره.
يقول بلغيث: "لم تكن المسألة مرتبطة بحقائق يجب إثباتها لذلك كان الأمر سهلاً بالنسبة لي". "لقد استندت إلى نصوص القانون وكان علي فقط تحليلها والإجراءات التي اتخذها الرئيس ومن ثمّة إثبات أنها تتعارض مع الفصل 80 من الدستور الذي يُعتبر فصلا إجرائيا".
أهم المحطات في قضية إبراهيم بلغيث ضد الجمهورية التونسية:
وبينما إجراءات التقاضي على قدم وساق، زعم بلغيث - بالاستناد إلى جملة من الوثائق التي أرسلها إلى المحكمة - أن رئيس الجمهورية (وبالتالي الجمهورية التونسية نفسها) قد انتهك بموجب هذه المراسيم حقوق الإنسان التالية: الحق في الاستماع إلى قضيته، والحق في المشاركة في إدارة شؤون الوطن، والحق في ضمان حقوق الإنسان والحريات من بين أمور أخرى.
فيما يتعلق بانتهاك الحق في المشاركة في إدارة شؤون الوطن كان رد تونس كما جاء في ملصص الحكم الصادر عن المحكمة أن "الدولة المدّعى عليها تتساءل عمن خوّل للمدعي الحلول محل الشعب التونسي بكامل أفراده [...] وأين هو التفويض الشعبي الذي تحصل عليه المدعي للقيام في حق شعب بأكمله".
نفس اللهجة اعتمدتها الجمهورية التونسية عندما تعلق الأمر بالحكم على انتهاك ضمانات حقوق الإنسان: "الدولة المدعى عليها تطالب المدعي أن يثبت الحق الإنساني الذي تم سلبه إياه من طرفها وكيفية انتهاكها لهذا الحق إن وُجد".
بالنسبة لبلغيث فإن ردود المكلف بنزاعات الدولة "ليست سليمة من وجهة نظر قانونية": "يتحدثون كما لو كانوا أمام مجلس الأمن ويجادلون بأن تونس لم ترتكب عملا حربيا ليتم استجوابها بهذا الشكل".
تذرّعت الدولة التونسية كذلك بمبدأ السيادة وعدم التدخل للتشكيك في اختصاص المحكمة الإفريقية للنظر في هذه القضية: "ليس لأي جهة خارجية كانت أن تتدخل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي للدولة المدّعى عليها". وهو ذات الموقف الذي تتخذه الحكومة بشكل مطّرد أمام ما يلحقها من انتقادات دولية، سواء كانت صادرة عن مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان أو ممثلي الاتحاد الأوروبي.
غير أن تونس تمثل جزءا من الاتحاد الأفريقي، ولكونها إحدى الدول الموقعة على الاتفاقيات المتعلقة بالاتحاد فإن المحكمة ترى أنه لا يصح لها "أن تثير مسألة الدفاع عن سيادتها للالتفاف على التزام سابق أو عدم التقيد بواجب ناجم عن قاعدة كانت قد وافقت بإرادتها الطوعية على الالتزام بها".
يقول بلغيث: "يمكن للدولة أن تبسط هيمنتها على أراضيها باستخدام الجيش والشرطة ولكنها لا تستطيع القيام بذلك أمام المحكمة الإفريقية".
في نهاية المطاف، قررت المحكمة عدم تنظيم مكافحة شفوية بين الطرفين المتنازعين وباشرت بالمداولات. يروي بلغيث: "لقد عملت على أن تتطرق عريضتي إلى جميع النقاط بالحجة بينما بقيت الدولة تكرّر ردودها، ولذلك قررت المحكمة أنه ليس من الضروري المرور عبر المرافعات. انتابني بعض الخوف عندما أُحطت علما بذلك لكنني أعلم أنه كان قرارا مدفوعا".
في يوم 22 سبتمبر 2022 وإثر المداولات، أيدت المحكمة المدّعي في جميع النقاط التي أثارها وأمرت بإلغاء الأوامر الرئاسية عدد 117 و 69 و 80 و 109 و 137 و 138 وطالبت بالعودة إلى الديمقراطية الدستورية في غضون عامين من تاريخ الإشعار بالحكم. كما يتعين على تونس أيضا في أجل قدره سنتان اتخاذ جميع التدابير اللازمة لإرساء المحكمة الدستورية وإزالة جميع العقبات القانونية والسياسية التي تعوق تحقيق هذا الهدف.
ذلك أنه بالرغم من الآمال التي ولّدها الدستور الجديد المصادق عليه في سنة 2014، بقي واقع هذه المؤسسة السيادية عالقا ويواجه سلسلة من التحديات. حيث خلقت الخلافات السياسية المتواصلة وانعدام توافق الآراء والمشاكل التي نشبت عند محاولة تسمية أعضاء المحكمة الدستورية، مأزقا مؤسسيا مثيرا للقلق.
في نفس الموضوع
«الديمقراطية مسألة قانونية لا سياسية»
وفقا للنظام الداخلي للمحكمة، يتوجب على الدولة المعنية بالحكم أن ترسل "تقرير امتثال" إلى قلم المحكمة بمجرد اتخاذها للتدابير المنصوص عليها في الحكم، ثم يتبع ذلك عملية تقييم تستند إلى مصادر أخرى لتقييم مدى امتثالها للحكم. وفي حال لم تمتثل دولة ما، فإن هذا التقصير يتم ذكره في تقرير المحكمة إلى مؤتمر رؤساء الدول والحكومات.
لكن ردود الفعل الرسمية منذ صدور الحكم كانت شديدة البطء. يقول بلغيث إن "السلطات ملتزمة بالصمت. لم نسمع قط مسؤولاً حكوميا يتحدث عن الأمر. وهذا برهان أنه ليس بحوزتهم إجابة ولا يتمتعون بالجرأة لطرح القضية كسؤال عام".
يصر المحامي على أنه "لا يمكن إعلان القبول باختصاص المحكمة ثم التراجع عن ذلك إذا كانت النتائج التي تسفر عنها غير مرضية".
من ناحيتها، يبدو أن الدولة التونسية لم تمتثل سوى لأحد متطلبات المحكمة الإفريقية والمتمثل في تقديم تقرير كل ستة أشهر عن تنفيذ التدابير المطلوبة. وتظهر هذه التقارير التي اطلعت عليها إنكفاضة أن تونس تدافع بشراسة عن شرعية ودستورية المراسيم التي اعتمدها قيس سعيد.
وفيما يتعلق بالتدابير الاستثنائية فقد اكتفى الدفاع بالاستشهاد بالفصل 22 من الأمر الرئاسي 117 - الذي طعنت فيه المحكمة في حكمها - والذي جاء فيه: "يجب أن تهدف مشاريع هذه التعديلات إلى التأسيس لنظام ديمقراطي حقيقي يكون فيه الشعب بالفعل هو صاحب السيادة ومصدر السلطات ويمارسها بواسطة نواب منتخبين أو عبر الاستفتاء ويقوم على أساس الفصل بين السلط والتوازن الفعلي بينها ويكرس دولة القانون ويضمن الحقوق والحريات العامة والفردية".
كما وعد المكلف بنزاعات الدولة بإرساء وشيك للمحكمة الدستورية مستحضرا "خرائط طريق" لبدء الخروج من حالة الاستثناء بما في ذلك الاستدلال بتنظيم الاستفتاء والانتخابات التشريعية.
يرى إبراهيم بلغيث أن هذه الحجج قد عفا عليها الزمن ويقول: "موقف الدولة قائم على سلطات غير دستورية. لم يتم انتخاب السلطة لإصدار مجرّد خرائط طريق".
في نفس الموضوع
في واقع الحال فإن تونس تكافح للامتثال لأوامر المحكمة. حيث قدم مجلس النواب في الآونة الأخيرة وعودا بإرساء المحكمة الدستورية "في أقرب الآجال". غير أن قانون المالية لسنة 2023 خصّص ميزانية «0 ملّيم» لإنشاء المحكمة المذكورة وهو ما يدفع بالمحامي إلى ترجيح أنه "لا توجد أي رغبة في إنشاء المحكمة الدستورية في المستقبل".
وقد يكمن تفسير هذا التقاعس من جانب الدولة التونسية في ماهية المحكمة الإفريقية ونطاقها، فهي في الواقع ليست قوة ملزمة، وهو ما توصل إليه تحليل الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان للفصل 30 من بروتوكول إنشاء المحكمة والذي تقول فيه أن "تنفيذ قرارات المحكمة إلزامي ولكنه طوعي".
وعلاوة على ذلك لا توجد أي آلية رصد تضمن التنفيذ السليم لقرارات المحكمة ولا ينص البروتوكول المتعلق بإنشائها على تدابير إنفاذ. حيث تمت إحالة مسؤولية رصد تنفيذ الأحكام إلى المجلس التنفيذي للاتحاد الأفريقي، والذي يتألف من مجموع وزراء خارجية الدول الأعضاء في الاتحاد. ولذلك، وفقًا لبنجامين كاجينا طالب الدكتوراه في القانون، فإن "منظومة المراقبة السياسية هذه [...] تظل غامضة وذات فعالية مشكوك فيها".
يشرح بلغيث: "هذه أيضا مشكلة المفوضية الإفريقية. إنها هيئات تابعة تخضع لقيود ممثّليها. هنالك نزعة لاعتبار الديمقراطية قضيةً سياسيةً بينما الصواب هو أنها قضية قانونية".
إذا رأت المحكمة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب مستقبلا أن تونس قد انطلقت فعلا في تنفيذ التدابير فإنها ستطالبها بتقرير آخر في غضون الأشهر الستة التالية إلى أن تقتنع وتطمئن لكون التدابير قد دخلت بالفعل حيز التنفيذ. ولكن إذا ما أعطت المحكمة الحق مرة أخرى لبلغيث وأعلنت أن تونس رفضت الامتثال وواصلت الخوض في مسار لا دستوري، فسيتعين عليها أن تذكر ذلك في تقريرها إلى الاتحاد الإفريقي.
يقول المحامي: "سيتم بالتأكيد مناقشة تجميد عضوية تونس في الاتحاد ما قد يمنع البلاد من المشاركة في الهيئات التابعة له".
يؤكد بلغيث أن هدفه هو "أن تلحق الجزاءات المحتملة التي تفرضها المحكمة الأشخاص المسؤولين بعينهم".
وفي نفس السياق يعرب بلغيث عن "فرحه" بلجوء أهالي المعتقلين السياسيين إلى المحكمة الإفريقية: "من الجيد أن يدرك التونسيون أن هناك هيئة قانونية قارّية تتيح لهم المطالبة بحقوقهم. إنها انتهاكات واضحة لحقوق الإنسان وآمل فقط أن يتم إنصافهم". "إذا رفعنا هذه القضايا إلى المحكمة فإننا نفعل ذلك أيضا من منطلق المبدأ، ومن أجل التاريخ".