في تونس، المرسوم عدد 54 يريد كمّ أفواه الأصوات المناوئة

اعتقالات بالجملة، رقابة على شبكات التواصل الاجتماعي، مراسيم تعسّفية وغيرها … فهل أن حرية التعبير مهددة في تونس؟  تحلّل إنكفاضة في هذا المقال وضع حرية التعبير بعد عام تقريبا من اعتماد مرسوم أجمع على اعتباره كثيرون بأنه "ضارب للحريات".
بقلم | 18 جويلية 2023 | reading-duration 15 دقيقة

متوفر باللغة الفرنسيةالإنجليزية
أصدر رئيس الدولة منذ الإعلان عن حالة الاستثناء التي فرضها انقلاب 25 جويلية 2021 عددا كبيرا من المراسيم، من بينها المرسوم الرئاسي عدد 54 لسنة 2022 المؤرخ في 13 سبتمبر 2022 والمتعلق بـ "بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال". ويهدف هذا المرسوم بحسب ما جاء في نصه إلى "إلى ضبط المقتضيات الرامية إلى التوقّي من الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال وزجرها". 

وفقا لتقرير "تونس: إسكات الأصوات الحرة - ورقة موجزة بشأن تنفيذ المرسوم 54 المتعلق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال" الصادر عن اللجنة الدولية للحقوقيين (ICJ)، فإن هذا المرسوم "يسمح للسلطات التونسية بفرض قيود غير مشروعة وتعسفية على الممارسة المشروعة للحق في حرية التعبير، تحت مسمى مكافحة الجريمة السيبرانية و "الأخبار الزائفة".

تصيّد "الأخبار الزائفة"

نقيب الصحفيين التونسيين مهدي الجلاصي يرى في هذا المرسوم "إرادة سياسية تهدف إلى خفض حرية الصحافة ومنع وسائل الإعلام من ممارسة الحقوق والحريات والدفاع عنها بلا قيود". 

لم يكد يمر شهر عن صدور المرسوم حتى تقدمت وزارة النقل  بشكاية ضد وجيه الزيدي الكاتب العام للجامعة العامة للنقل التابعة للاتحاد العام التونسي للشغل، تتهمه فيها بـ"نشر أخبار كاذبة بهدف الاعتداء على حقوق الغير". وشملت الشكاية الصادرة بتاريخ 12 أكتوبر 2022، من بين عدة أمور أخرى، تعليقات أدلى بها الزيدي في وقت لاحق على إذاعة ديوان إف إم في جانفي 2023 انتقد فيها "اهتراء معدات شركة نقل تونس وتدهور أداء وزارة النقل". 

يقول نقيب الصحفيين: "كيف يمكننا القول بأن رأياًَ ما هو معلومات كاذبة؟ هذا غير منطقي، إنهما شيئان مختلفان"

وفق اللجنة الدولية للحقوقيين، يتيح المرسوم "التحكم في ما يقوله الأشخاص، في ما في ذلك السياسيون، والصحفيون، والمدافعون عن حقوق الإنسان، من خلال الرقابة، والعقوبات الجزائية، في انتهاكٍ للالتزامات القانونية لتونس بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان والمعايير الدولية". 

ومن جهتها تؤكد إيناس الجعايبي، المحامية المختصة في الجرائم الإلكترونية ومؤسّسة Lab Politik 117، أن هذا المرسوم هو "أداة تتيح مهاجمة الجميع، حتى لو كان هدف المرسوم شديد الوضوح".

وتُوجه أصابع الاتهام بشكل خاص إلى الفصل 24 من المرسوم المذكور. حيث تحذر اللجنة الدولية للحقوقيين في تقريرها من أن "مقتضيات الفصل [...] فضفاضة ومبهمة بما أنها لا تتضمن أي تعريف بماهية "الأخبار الكاذبة" و "الإشاعات". ونتيجة لذلك فهي تطرح تهديدا خطيرا على ممارسة الحق في التعبير". وتجدر الإشارة إلى أن إنكفاضة توصّلت استنادا إلى أبحاث اللجنة الدولية للحقوقيين إلى أن غالبية التتبعات القضائية هي بالفعل مبنيّة على الفصل 24. 

تقول إيناس الجعايبي: "عند قراءتنا للفصل لا نعرف بالضبط ما هي الجرائم التي يتحدث عنها. ما هي الأخبار الزائفة؟ ماذا يعني "النشر"؟ عندما أعبر عن رأيي فهل يمكن اعتباره أخبارا كاذبة؟".

يعاقب الفصل 24 بالسجن مدة خمسة أعوام وبخطية قدرها خمسون ألف دينار كل من يتعمّد استعمال أنظمة اتّصال لترويج أخبار أو بيانات أو إشاعات كاذبة، بهدف الاعتداء على حقوق الغير، أو الإضرار بالأمن العام أو الدفاع الوطني، أو بث الرعب بين السكان.

وتطال نفس العقوبات أي شخص يتعمد استعمال أنظمة معلومات لإشاعة أخبار مصطنعة أو وثائق مزورة بهدف التشهير بالغير أو تشويه سمعته أو الإضرار به ماديا أو معنويا أو التحريض على الاعتداء عليه أو الحث على خطاب الكراهية. و تضاعف العقوبات المقررة إذا كان الشخص المستهدف موظفا عموميا أو شبهه.

غير أن قطاع الإعلام في تونس قد تم تنظيمه بالفعل في جانبه التشريعي منذ 2011. يقول مهدي الجلاصي أنه "بعد الثورة صدرت نصوص مثل المراسيم 115 و116 لسنة 2011 لتنظيم هذا القطاع". وعلاوة على ذلك فإن حرية التعبير مكفولة بموجب الفصل 37 من الدستور في حين يكفل الفصل 38 الحق في الإعلام والحق في النفاذ إلى المعلومة.

ويؤكد نقيب الصحفيين أن "هناك ما لا يقل عن عشرين محاكمة جارية إلى اليوم ضد صحفيين بموجب المرسوم 54"، علما وأنه لم يتم الإعلان إلى حد الساعة عن العدد الدقيق للتتبعات القضائية المفتوحة على أساس هذا المرسوم.

"الكلّ في خطر"

أحصت إنكفاضة عشرين حالة تشمل مهناً كثيرة: صحفيون ومحامون وأساتذة وسياسيون ونقابيون وطلاب ناشطون في المجتمع المدني وما إلى ذلك، وهو ما يعبّر عنه مهدي الجلاصي بقوله "الكل في خطر". 

نزار بهلول، عياشي الهمامي، منية العرفاوي، أحمد حمادة، محمد بوغلاب، إسلام حمزة، جوهر بن مبارك، غازي الشواشي... هي شخصيات معروفة على الساحات القضائية والسياسية والإعلامية والمدنية، وقد تابعت وسائل الإعلام أغلب هذه المحاكمات عن كثب، غير أن هناك أيضا العديد من المواطنين والمواطنات الذين طالتهم يد المرسوم.

تعرض الرسوم البيانية التالية خمسة أشخاص تمت مقاضاتهم بموجب المرسوم عدد 54 بالإضافة إلى أسباب الشكاية والجهات القائمة بها. 

انقر·ي على السهم الموجود في الركن الأسفل الأيمن أو الايسر للانتقال بين مختلف الجذاذات:

زياد الهاني هو آخر الصحفيين الذين تحمّلوا وطأة المرسوم 54، على خلفية مزحة أطلقها في مداخلة إذاعية خلال برنامج صباحي على IFM بتاريخ 20 جوان 2023 بشأن الفصل 67 من المجلة الجزائية والمتعلق بجريمة إرتكاب أمر موحش ضد رئيس الدولة.

"ليس الهدف من هذا الفصل أن يُستخدم ضد ما يُكتب أو يُقال في الصحافة. ارتكاب أمر موحش ضد رئيس الدولة يعني على سبيل المثال ضربه بالطماطم أو بالبيض أو القيام بإيماءة فاحشة في ظهره!"

ألقي القبض على الصحفي في نفس المساء ليتم استنطاقه لدى الفرقة المركزية الخامسة لمكافحة جرائم تكنولوجيا المعلومات والاتصال في ثكنة العوينة. وباستنطاقه عما إذا كان يشير إلى رئيس الدولة، أجاب الهاني بالنفي قائلا إنه كان "ببساطة بصدد شرح القانون". مكث الهاني قيد الإيقاف لأكثر من 24 ساعة قبل أن يمثل أمام مساعد وكيل الجمهورية بالمحكمة الابتدائية بتونس العاصمة في يوم 22 جوان 2022 والذي أذن لاحقا بالإفراج عنه. ومنذ ذلك الحين و الهاني في انتظار المحاكمة. 

على الجانب السياسي، حوكم غازي الشواشي وشيماء عيسى، عضوا جبهة الخلاص الوطني، على أساس الفصل 24 من المرسوم المذكور على خلفية تعليقات الأول على موقع فيسبوك وتصريحات الثانية على موجات الإذاعة. وكانت الأخيرة قد نددت بـ "المأزق الدستوري والسياسي الذي سقطت فيه البلاد منذ انقلاب 25 جويلية 2021" معربةً عن "شكوكها في ما إذا كانت مؤسسات الدفاع [وتقصد الجيش] ستستمر في دعم هذا المسار".

غازي الشواشي من جهته كان موضوع شكاية تقدمت بها وزيرة العدل اتهمته فيها بـ "نشر أخبار زائفة بغاية الإضرار بالأمن العام من خلال وسائل الإعلام السمعي البصري" و "نسبة أمور غير حقيقية إلى موظف عمومي". وتستند التهم إلى مقابلات أجراها الشواشي في شهر نوفمبر 2022 مع إحدى الإذاعات ومع قناة تلفزية، قال فيها إن وزارة العدل قد لفقت قضايا ضد شخصيات من المعارضة والقضاة المعفيين. 

مثُل الكاتب العام السابق لحزب التيار أمام قاضي التحقيق بالمكتب رقم 18 بالمحكمة الابتدائية بتونس العاصمة في يوم 30 جوان 2023، وتمت تبرئته بعد أكثر من ستة أشهر من رفع الشكاية ضده، لكنه لم ينعم بحريته طويلا حيث شمله الاعتقال هو وشيماء عيسى في ملف آخر يُعرف بقضية "التآمر ضد أمن الدولة".

استمعت محكمة عسكرية إلى الشواشي في جانفي 2023. في حين ظلت عيسى تحت قيد الاحتجاز منذ 25 فيفري قبل أن يتم الإفراج عنها أخيرا مساء يوم 13 جويلية بناءً على طلب من فريق الدفاع. 

لم يسلم المجتمع المدني الذي يقع هو الآخر في مرمى نيران المرسوم. حيث تم توجيه تهمة "التحريض على التظاهر" و "نشر أخبار زائفة بهدف التشهير برئيس الدولة" على التوالي إلى الناشطيْن حمزة العبيدي ومحمد زنطور استناداً إلى منشورات فايسبوكية لهما. ولئن تم إسقاط الدعوى عن حمزة العبيدي في يوم جلسة الاستماع أمام النيابة العمومية، مثُل زنطور في يوم 6 جوان أمام دائرة الاتهام بالمحكمة الابتدائية بسوسة رفقة محاميه. ووفقا لمعطيات اللجنة الدولية للحقوقيين فقد قررت المحكمة خلال الجلسة تمديد الاحتفاظ به مؤقتا في انتظار استكمال الأبحاث.

مرسوم في تضارب مع القانون الدولي

قامت عدة هيئات دولية بتحليل وتفكيك محتوى المرسوم منذ صدوره، وقيّمته في ضوء الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي صادقت عليها تونس لتخلص بالإجماع إلى أنه يتناقض مع العديد من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية.

تذكّر اللجنة الدولية للحقوقيين في تقريرها بأن المرسوم صدر من دون أي "استشارات أو نقاش عام"، معربةً عن قلقها "إزاء عمليات الملاحقة التي تدق ناقوس الخطر والتي صدرت بموجب المرسوم عدد 54، [...] وتدين الملاحقات الجنائية للحق المشروع في حرية التعبير، بما في ذلك في سياق حملات القمع الأخيرة على المعارضة السياسية في تونس".

كما أورد تقرير صادر عن منظمة المادة 19 أنه - وفي حين أن بعض مقتضيات المرسوم مستوحاة من الاتفاقية المتعلقة بالجرائم الإلكترونية - فإن "معظمها لا يحترم المعايير الدولية لحقوق الإنسان ويفتقر إلى ضمانات الحماية في الإجراءات القانونية الواجبة ولا يحترم مبدأيْ الضرورة والتناسب". 

وباعتبار مبدأ التناسب تبدو الطبيعة القاسية للعقوبات المنصوص عليها في المرسوم مشكوكا فيها. إذ ترى اللجنة الدولية للحقوقيين أن "معاقبة جرائم معينة يجب أن تكون متناسبةً مع خطورة الجريمة نفسها، علماً أن هذا المبدأ ينطبق على جميع الجرائم، بما في ذلك التي تنشأ من ممارسة الحريات الأساسية، مثل الحق في حرية التعبير.". كما تذكّر المنظمة بما جاء في ا لتعليق العام رقم 34 للجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان بشأن التشهير والقائل بأنه "لا ينبغي في أي حال من الأحوال، الإقرار بتطبيق القانون الجنائي إلا في أشد الحالات خطورة، وألا تكون عقوبة السجن على الإطلاق هي العقوبة المناسبة". وفي هذا الصدد، تشجّب المحامية إيناس الجعايبي بـ "وسائل الإثبات" التي أقرها المرسوم:

"من الصعب تطبيق الإجراءات المعهودة في إطار المرسوم وخاصة تلك المتعلقة بالمؤيّدات إذ ليس من السهل مثلا على عون المحكمة إدراج أدلّة إلكترونية. ماذا نفعل بلقطات شاشة أو بالأشخاص الذين يحذفون منشوراتهم؟"

أخيرا، تُوجّه أصابع الانتقاد إلى وسائل المراقبة المنصوص عليها في المرسوم، إذ يسمح الفصل عدد 10 باعتراض الاتصالات والنفاذ إلى بيانات ذوي الشبهة من قبل وكلاء الجمهورية وقضاة التحقيق وأعوان الشرطة العدلية، بناءً على قرار كتابي معلّل. وتعتبر اللجنة الدولية للحقوقيين أن هذه التدابير فضفاضة للغاية ولا تحدد بوضوح الظروف والأشخاص المعنيين، مما يقوض الحق في الخصوصية المكفول بالمادة 17 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.

"يتنصّتون إلى الراديو ويتصفحون الفايسبوك ويقرأون التعليقات... هذا النوع من الرقابة مهلك"، يحذر نقيب الصحفيين.

علاوة على ذلك، يمكن للفصل 9 أن ينطبق على البيانات التي يحتفظ بها الصحفيون والصحفيات وهو لا يضمن حماية كافية، مما يهدّد سرّية المصادر الصحفية، وهو أحد مكونات الحق في حرية التعبير الذي يكفله المرسوم عدد 115 لسنة 2011 المتعلّق بحرية الصحافة. ومما يصاعد من القلق أيضا أن سابقة قضائية قد أثارت السخط قبل بضعة أشهر وتمثلت في إدانة الصحفي خليفة القاسمي في مناسبة أولى بالسجن لمدة عام لرفضه الكشف عن مصادره، ثم تمديد الحكم إلى خمس سنوات في طور الاستئناف على خلفية اتهامه بـ "إفشاء معلومات".

وفي هذا الصدد، يتحدث كلّ من مهدي الجلاصي وإيناس الجعايبي عن إنشاء "مناخ من الصنصرة الذاتية".

تقول المحامية: "حتى وإن كان في شكل مزاح، يقول الناس أنه من الأفضل التزام الصمت بدلا من المخاطرة بالوقوع تحت طائلة المرسوم".

وبالنظر إلى مناخ التهديد هذا، تأمل الجعايبي في "أن يتم إلغاء المرسوم وأن نتمكن من البدء من جديد". 

في نفس التمشي، اختتمت اللجنة الدولية للحقوقيين تقريرها بعدد من التوصيات التي تشمل على سبيل الذكر لا الحصر الإلغاء الفوري للمرسوم، وإسقاط جميع التهم عن أي شخص يحاكم بموجبه، فضلا عن جبر الضرر الناجم عن الملاحقة التعسفية.