جدل الصنصرة في رحاب معرض الكتاب

شهد افتتاح الدورة 37 لمعرض تونس الدولي للكتاب سحب النسخ المعروضة من كتابيْ "فرانكنشتاين تونس" لكمال الرياحي و "قيس سعيد ربان سفينة تائهة" لكاتبه نزار بهلول، بتعلة أسباب إدارية. هاج عالم النشر وماج وندّد بالرقابة المسلّطة. فما الذي حدث فعلا؟
بقلم | 08 ماي 2023 | reading-duration 10 دقائق

متوفر باللغة الفرنسية
يوم الخميس 4 ماي. لا تكاد أروقة قصر المعارض بالكرم تخلو من أدفاق الزائرين والزائرات. بعض الأجنحة تغص بالقارئين والقارئات المتلهّفين لاكتشاف عناوين جديدة بينما تجذب أجنحة أخرى بألعابها اللوحية من منهم أصغر سنا. للوهلة الأولى، من الصعب على المرء تخيّل أن هذا المكان العامر شهد في الأسبوع الماضي جدلا واسعا سببه كتابان من جملة مئات الآلاف المعروضة فيه.

لا يزال الجو ناحية الجناح المخصص لدار الكتاب يغلّفه بعض التوتر. " فرنكنشتاين تونس ممنوع ولن يُطرح للبيع قبل نهاية المعرض"، يُسرّ لنا أحد الباعة في الجناح بعد أن جذبنا إلى ركن بعيد عن الأسماع. إجابته الخاطفة هذه تخبرنا الكثير عمّا يحوم من توترات منذ سحب الكتابيْن الناقديْن للرئيس.

تنديد بضرب الحريات

يوم الجمعة 28 أفريل وبعد أقل من ساعة من افتتاح المعرض من قبل قيس سعيد نفسه - الذي شجع خلال كلمته على "حرية الفكر" - سُحبت جميع النسخ المعروضة لكتاب كمال الرياحي الأخير، فرانكشتاين تونس، والتي تحمل على غلافها رسما كاريكاتوريا للرئيس. ثم في اليوم الموالي، وقع الدور على قيس سعيّد، رئيس سفينة تائهة، لصاحبه الصحفي والمؤلف نزار بهلول ليختفي من الرفوف. 

يروي القائم على جناح الدار التونسية للكتاب التي نشرت مؤلَّف نزار بهلول أن "مسؤولين من وزارة الثقافة جاؤوا برفقة أعوان الحراسة بالمعرض للبحث عن مخزوننا من الكتاب قائلين أنه مجرد تثبّت". ظل جناح الدار مفتوحا على عكس نظيرتها دار الكتاب للنشر  التي بقيَ جناحها محجوبا بقماش أسود مشمع علّق عليه الناشر قصاصةً يدين فيها إغلاقاً "ب قرار تعسفي". 

توجه قيس سعيد يوم الثلاثاء 2 ماي إلى مكتبة الكتاب بوسط العاصمة ليتأكد بنفسه من توفّر "فرانكشتاين تونس" للبيع، في محاولة لإخماد الحريق الذي أشعله هذا الحدث بعد ما وصفه عدة ناشرين تونسيين بعملية "صنصرة". وصرح الرئيس خلال زيارته للمكتبة بأن"هذا الكتاب الذي قيل أنه قد تم حظره ومع ذلك ها هو يباع في مكتبة الكتاب في تونس. إنه كذب وافتراء"، متبعا بأن "لا مجال للحديث عن منع أي كتاب". 

تتناقض زيارة الرئيس هذه والتي نشرتها الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية، مع رواية سلمى جباس، مديرة مكتبات الكتاب. حيث تؤكد الأخيرة في اتصالنا بها أنها تلقت يوم السبت 29 أفريل زيارة من طرف أعوان أمن في مكتبتها كان الهدف منها حجز نسخ من كتاب "فرانكشتاين تونس". 

"جاء اثنان أو ثلاثة منهم يحملون كاميرات. عرضوا صورةً للكتاب على شاشة هاتف وسألونا هل لديكم هذا الكتاب؟ نود التقاط صورة له فقط". أثارت هذه الأسئلة على الفور شكوك المديرة التي تضيف: "سألونا أيضا لمن بعناها".

"نحن لا نجيب على أسئلة من هذا القبيل. لم نفعل ذلك في عهد بن علي ولن نفعله اليوم".

غادر  أعوان الأمن على إثر ذلك خالي الوفاض. "وعلى أية حال كان لدينا المزيد من النسخ، لقد بعنا منها قبل مجيئهم. وكنا قد تلقينا مخزونا في نفس يوم زيارة قيس سعيد" تختتم سلمى جباس.

 لا يقتصر الجدل حول هذا الكتاب إذاً على أجنحة المعرض وحده، نظرا لأن سحبه قام على حجة أنه غير متواجد في قائمة الكتب المصرح بعرضها خلال التظاهرة. فما الذي يفسّر قدوم الشرطة إلى مكتبة الكتاب؟

فرنكنشتاين تونس معروضا على رفوف مكتبة الكتاب بُعيْد زيارة قيس سعيد. عدسة: إدريس الرجيشي

قائمة علنيّة، لكن لا أثر لها

بالعودة إلى جناح دار الكتاب يقترح علينا أحد الموظفين توجيه أسئلتنا إلى "الرجل في الزاوية هناك". هذا الرجل هو حبيب الزغبي، رئيس دار النشر الذي أعرب عن سخطه على الشبكات الاجتماعية بعد إغلاق جناحه منددا بأن "وزيرة الثقافة تغلق جناح دار الكتاب بالأمن وتسحب هذا الكتاب من البيع بدعوى أنه يمس من الأمن العام. وذلك دون أي إعلام مسبق أو تنبيه أو إذن مكتوب"، قبل أن يتراجع في اليوم الموالي عن تصريحه ويؤكد بعد أن أُعيد فتح جناحه أنه كان خطأً إداريا وأن فرنكشتاين تونس "لم يكن على القائمة المقدمة في الآجال لإدارة المعرض".

صار الناشر في الوقت الحالي يخيّر عدم الإجابة على أسئلة الصحفيين·ـات، لكنه يؤكد أن لجنة إدارة المعرض اختارت ذريعة القائمة متسائلا "هذه هي الحجة التي استخدمتها اللجنة. فهل هي صائبة أم لا، لا أدري. خصوصا وأنه لا شيء يشير إلى عقوبات مفروضة على الكتب غير المتواجدة في القائمة". "لكن ما هو مؤكد هو أنني لم أسترجع بعدُ النسخ المحجوزة".

يقول مصدر مقرب من القضية فضّل عدم ذكر اسمه إن مديريْ دور النشر، ومنهما الحبيب الزغبي، قد تلقّيا اتصالا هاتفيا من رئاسة الجمهورية للتراجع عن أقوالهما. ويضيف المصدر أن الهدف من المكالمة كان مطالبتهم بالتظاهر بأنهم نسوا تسجيل الكتب في القائمة المقدَّمة لمنظمي المعرض.
سمح منظمو المعرض لكتاب نزار بهلول "قيس سعيد، ربان سفينة تائهة" - على عكس نظيره "فرنكنشتاين تونس" - بالعودة إلى رفوف العرض. عدسة: إدريس الرجيشي.

أغلقت دار مسكيلياني للنشر جناحها المجاور لدار الكتاب تضامنا مع الأخيرة، بينما يرى رئيسها مرتضى حمزة أن ذريعة القائمة هي "تعلّة لصنصرة" الكتاب. 

في اتصال هاتفي مع إنكفاضة أشار كمال الرياحي مؤلف كتاب فرنكنشتاين تونس والمقيم في كندا إلى التناقض الذي يشوب القائمة المقدمة إلى منظمي المعرض. "تم تسجيل الكتاب المذكور من قبل الناشر في قائمة تكميلية أُرسلت إلى إدارة معرض الكتاب. أُحيطت المديرة علما بذلك في 25 أفريل أي قبل ثلاثة أيام من الافتتاح. لكن ما يثير التعجّب أنه عندما أغلقوا الجناح لم يُسحب سوى كتابي فقط من ضمن 19 عنوانا مشمولا في القائمة التكميلية".

يرجّح الرياحي أن "هذا الكتاب على وجه التحديد يبدو أنه كان مستهدفا من قبل السلطات".

وردا على سؤال إنكفاضة يؤكد المنظمون·ـات قبولهم إضافة الكتب في اللحظة الأخيرة ويقولون إنهم أكثر تساهلا بالأخص مع الناشرين التونسيين. "نحن نقبل التحديثات على القوائم حتى خلال المعرض"، تقول مديرة المعرض، زاهية جويرو. 

وُضع إجراء القوائم هذا في عهد الحبيب بورقيبة لمنع عرض الكتب "السلفية والأصولية". ثم تواصل العمل به في عهد بن علي في سياق اتسم بتشديد الرقابة على الأدب والسينما من قبل لجان مختصّة، ولم يتغير الأمر حتى بعد ثورة 2011. 

عُيّنت زاهية جويرو من قبل وزارة الثقافة يوم 20 ديسمبر على رأس لجنة تنظيم معرض الكتاب. وبين اجتماعيْن، قبلت السيدة استقبال صحفيي إنكفاضة في مكتبها لتوضح لنا أن هذه القوائم موجّهة للجمهور، والهدف منها لا فقط تبسيطُ تنظيم المعرض، ولكن أيضا لمنع عرض أي كتب قد تشكّل هجمات "لا تطاق" ضد الإنسان على حدّ تعبيرها. تستهدف عملية التحقق من قائمات العناوين المعروضة مواضيع "التعصب أو الإرهاب أو التمييز ضد الأقليات أو احترام السلامة الجسدية والمعنوية للإنسان". وفي حين يفترض بهذه القائمات أن تكون مخصصة للجمهور إلا أن إنكفاضة لم تتمكن من الوصول إليها على الرغم من طلباتها. 

ولتبرير غياب فرنكنشتاين تونس من رفوف المعرض تستحضر زاهية جويرو "نفاد المخزون" منه، حتى بالرغم من وجوده في مكتبات الكتاب.

من جهته يؤكد كريم بن إسماعيل، مدير دار سراس للنشر، في منشور على موقع فايسبوك أن هذه القضية غير مسبوقة: "على حد علمي هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها إغلاق جناح دار نشر تونسية". وهي معلومة تنفيها رئيسة المعرض بشدة: "لقد أغلقنا أجنحةً في عديد المناسبات، منها على سبيل المثال [الأجنحة] غير المصرح بها، أو تلك المتعلقة منشوراتها بالتعصب أو غير الصالحة للأطفال … في الدورة السابقة مثلا أغلقنا جناح كتب موجهة للأطفال". 

بالنسبة لزاهية جويرو، لا يمكن الحديث عن صنصرة في هذه الحالة مهما تعالت الانتقادات. كما تسلط رئيسة المعرض الضوء على "ضربة المْعلّم" التي قام بها قيس سعيد خلال زيارته لمكتبة الكتاب بالعاصمة. إلى جانبها يصرّ زميلها العادل خضر، عضو اللجنة الثقافية، أنه "لا توجد صنصرة"، قبل أن يضع حدا للمقابلة مكتفيا بالقول: "الرئيس رجل قانون".

زوّار وزائرات معرض تونس الدولي للكتاب. عدسة: إدريس الرجيشي.

"أعتقد أن هناك رغبة في إخراس الكتّاب"

"ضربة معلم" تنخرط في سياق انزلاق سُلطوي متصاعد النسق يدلُّ عليه تقهقرُ تونس - بمناسبة اليوم العالمي للصحافة 4 ماي - من المرتبة 94 إلى المرتبة 121 في تصنيف المؤشر العالمي لحرية الصحافة لمنظمة مراسلون بلا حدود. ويرجع ذلك إلى سياسة قيس سعيد التي تفتح الباب أمام مزيد القيود على الحريات الفردية.

من جانبه يندّد نزار بهلول مؤلف كتاب "قيس سعيد ربان سفينة تائهة بوضعٍ ينذر بالخطر. ويوضح لإنكفاضة أنه من بين الصحفيين المهددين بمقتضى المرسوم 54 لسنة 2022* الذي أصدره الرئيس التونسي في سبتمبر 2022 والمتعلق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال.

على جدران مكتبه، يرينا الصحفي عددا من الاستدعاءات المؤطّرة والمعلقة التي تلقاها من الضابطة العدلية. "ثلاث استدعاءات تحت ثلاثة أنظمة. قبل الثورة في عهد بن علي، ثم في عهد منصف المرزوقي، والآن في عهد قيس سعيد. تلقّيت شكايةً من وزيرة العدل تحت طائلة المرسوم 54 أواجه بسببها 10 سنوات في السجن". 

وفي ظل استدعائه للمثول أمام القضاء بسبب مقال نشره في موقعه بيزنس نيوز، لا يخفي نزار بهلول توجّسه من تصريحات قيس سعيد الأخيرة والتي أكّد فيها - مجددا - أنه لم تتم مقاضاة أي صحفي·ـة بسبب "آرائه".

"نظام قيس سعيد متوتر وهو بصدد تشديد الخناق بشكل متزايد والحريات تُقمع بشكل متزايد. أعتقد أن هناك رغبةً في إخراس الكُتّاب".

يذكر نزار بهلول إلى جانب ذلك أن كتابه، المنشور منذ ثلاث سنوات، كان حاضرا بالفعل في الدورتين الأخيرتين من المعرض. "أرسلنا نسختين عربية وفرنسية إلى رئيس الجمهورية، بل وكتبت إهداءً على النسخة الفرنسية. لم نلق أيّ ضغط عند صدور الكتاب، حتى أن وزير الشؤون الاجتماعية الذي عينه الرئيس قيس سعيد آنذاك جاء للحصول على توقيعٍ لنسخته من الكتاب في دورة سابقة من المعرض".

فرط حماس؟

بالعودة إلى رحاب المعرض، من الواضح أن أسباب الفضيحة ليس محلّ إجماع من قبل الجميع. "إنها ضربة دعائية ضخمة" يُسرّ لنا عضو في جناح دار الكتاب: "لو كانت هناك 1000 نسخة متاحة لبيعت في غضون يوم واحد."

"حيلة دعائية ضخمة" حصد منافعها كتاب نزار بهلول أيضا الصادر قبل ثلاث سنوات. فناحية جناح الناشر الخاص به، من الأفضل تناسي الجدل الحاصل والتركيز على المخزون الكبير المعروض قصد تلبية الطلبات المتزايدة عليه بعد عودته للرفوف. "في البداية جلبنا معنا إلى المعرض ثلاث نسخ فحسب، واليوم أعدنا التزوّد منه للمرة الثالثة، ما حدث أعطى للكتاب حياة ثانية" يقول المسؤول عن الجناح بحماس ملحوظ. 

ترى وجهات نظر أخرى أن الرئيس قيس سعيد لم يكن أصل هذا الجدال. إذ يقول مصدر خيّر عدم ذكر اسمه لإنكفاضة "إن الأمر ليس بالضرورة ضغطا من طرف قيس سعيد، ولكن ربما من شخص آخر يعمل لديه". ومن جهتها تطرح سلمى جبّاس إمكانية أن يكون "بعض المسؤولين قد جرفهم الحماس أكثر من اللازم" فأرادوا فرض أنفسهم. 

"صرح الرئيس خلال زيارته إلى المكتبة إن ما حدث لم يكن تحت أوامره وأنهم تصرفوا بتلقاء أنفسهم".

على كل حال لم يستسغ الكثيرون زيارة الرئيس خصوصا في سياق السياسة المقوّضة للحريات الفردية التي يتّبعها. يرى صاحب موقع بيزنس نيوز  أن الرئيس - من خلال ذهابه إلى مكتبة الكتاب - إنما هو "أراد إنكار الصنصرة" فقام بإهانة "إهانة جميع التونسيين". 

خطاب الرئيس الذي وصف فيه استخدام كلمة "الصنصرة" على أنه "إرهاب فكري" لم يمر مرور الكرام. "لا يمكن لرئيس الجمهورية أن يقول ذلك. لا أرى صلة بين الصنصرة وحقيقة أن الكتاب متاح في المكتبات. لم نتحدث قط عن صنصرةٍ في المكتبات وإنما في معرض الكتاب !" يتعجّب الصحفي. 

أثارت قضية الحال مخاوفَ من عودة الرقابة كتلك التي فرضها نظام بن علي. وبالنسبة لنزار بهلول فإن الطريق الذي خاض فيه الرئيس قيس سعيد لم يعد صالحاً: "لا يمكن أن ينقذ تونس، سوف يتفجّر الوضع عاجلا أو آجلا".

من جهته يشير كمال الرياحي إلى ما سببه الأمر من وصمٍ على الصعيد الدولي: "هذا لا يحدث حتى في أعتى الديكتاتوريات. ذهب الرئيس إلى المكتبة ليعطينا انطباعا بأن الحرية لا تزال مكفولة، لكن ذلك أثبت فقط أن المكتبة قد تحدّت السلطة".