منصة إعلامية مستقلة في طليعة الابتكار التحريري
أنشئ حسابك الآن وتمتع بميزات النفاذ الحصري ومختلف الخاصيات المتقدمة التي توفرها لك. تحصّل على عضويتك وساهم في تدعيم استقلاليتنا.
تسجيل الدخولاستحال على كل مؤسسة قصدتها تزويدها بالأدوية المجهضة بسبب نقص المخزون، حتى تمكنت زينب في نهاية المطاف من الإجهاض بفضل تدخل إحدى معارفها التي مدتها بالعلاج خلسة. "لولا هذا التضامن النسوي لما تمكنت من ذلك" تروي الشابة.
"سواء خوّل القانون ذلك أم لا فهذا حقي. وأنا مستعدة لانتزاعه انتزاعا إذا لزم الأمر".
تونس استثناء في المنطقة لكونها شرعت الإجهاض منذ سنة 1973 إذ يحق لكل امرأة الإجهاض مجانا خلال الأشهر الثلاثة الأولى من الحمل إما عن طريق الشفط (الإجهاض الجراحي) أو عن طريق الإجهاض الدوائي*.
رغم مضي حوالي خمسين عامًا من دخول هذا القانون حيز التنفيذ، لا تزال العديد من العقبات تُلقي بظلالها على أوضاع النساء، لعل أهمها نقص الأدوية، وثنيهنّ عن الإجهاض من قبل مهنيي الصحة، والتفاوتات الإقليمية ونحو ذلك، وهو أمر يجعل الطريق إلى الإجهاض محفوفا بالمشاق للكثير من النساء، كما توضع شرعيّته أحيانا موضع تساؤل في النقاش العام مثلما حدث سنة 2013 حين اقترحت عضوة المجلس الوطني التأسيسي نجيبة بريول تجريم الإجهاض ضمن الدستور الجديد آنذاك.
"يتم تضييق النفاذ إلى الإجهاض بشكل متزايد ولكن دون وجود ما يحظره صراحة"، هكذا تلخّص سلمى الحجري الوضع، وهي مؤسسة جمعية توحيدة بن الشيخ الهادفة إلى تعزيز حقوق الإنسان الجنسية والإنجابية. وتزامنا مع إعادة النظر في الحق في الإجهاض من قبل المحكمة العليا في الولايات المتحدة وغيرها من الدول، نطرح السؤال عن الحال هنا في تونس وهل أن هذا الحق مكفول هنا بالفعل أم لا؟
حق متغير بتغير المكان
لجميع النساء الحق، من الناحية النظرية، في الإجهاض مجانا في كافة مؤسسات الصحة العمومية. سنة 2010، رصد تقرير صادر عن صندوق الأمم المتحدة للسكان 72 مؤسسة منها خمسون مستشفى بالإضافة إلى مراكز التنظيم العائلي الـ24 المنتصبة في كل ولاية تُتاح فيها عمليات الإجهاض الجراحي. أما اليوم، لا يُوفر حاليا هذه العملية سوى "مستشفيان اثنان لا غير: أحدهما في تونس والآخر في سوسة"، بحسب فاطمة التميمي، كاهية مدير بالديوان الوطني للأسرة والعمران البشري (ONFP). ويبدو أن بعض مراكز التنظيم العائلي تُتيح ذلك أيضا لكن لا وجود لإحصائيات دقيقة حول هذه المسألة.
في صورة استحالة الإجهاض بالأدوية بسبب نقصها أو بعد انقضاء الآجال المحددة له، تجد النساء أنفسهن أمام اختيارات محدودة للإجهاض في المؤسسات العمومية.
"في حالة نفاد مخزون [الأدوية المجهضة]، يستحيل على النساء الإجهاض" تقول سلمى الحجري، مديرة جمعية توحيدة.
زينب هي واحدة ممن عايشن هذا الوضع حين اكتشفت حملها ولم يكن أمامها سوى أسبوعين على أقصى تقدير للإجهاض الدوائي. تروي الشابة كيف "عادت رئيس قسم [أحد المستشفيات]" لكنه طلب منها الانتظار بسبب نفاد الأقراص. غير أن حالة زينب كانت مستعجلة بما أنه لم يكن في وسعها اللجوء إلى الإجهاض الجراحي لأسباب طبية و"لم أكن في وضع يسمح لي بالانتظار" على حد قولها.
تشكو المؤسسات العمومية إلى جانب النقص في الأدوية نقصا على مستوى الأعوان.
"في حالة تقاعد أحدهم أو نقلته، لا يتم سد الشغور الحاصل"، تروي إحدى القابلات العاملات بقفصة.
تكون أوجه القصور هذه أشد وطأة في المناطق المحرومة من غيرها من الجهات. في تونس العاصمة مثلا، نعد ثمانية أطباء مختصين في أمراض النساء والتوليد لكل 10.000 امرأة مقابل أقل من طبيب واحد لكل 10.000 امرأة في ولايتي تطاوين وسليانة.
عدد أخصائيي وأخصائيات أمراض النساء والتوليد لكل 10.000 امرأة في سن الإنجاب
علاوة على ذلك، الافتقار إلى السرية وعدم كتمان هوية النساء في المناطق الريفية يدفعهن إلى قطع مسافات طويلة بغرض الإجهاض وفقًا لتقرير آخر لصندوق الأمم المتحدة للسكان. "غالبًا ما يقطن الأعوان في نفس المكان وهو ما يطرح إشكالا وينال من خصوصية النساء الراغبات في الإجهاض" تشرح قابلة تعمل في أحد مراكز الرعاية الصحية الأساسية في شمال شرقي البلاد.
اللجوء إلى القطاع الخاص، حل لا مناص منه
أمام ذلك تُخير بعض النساء اللجوء إلى القطاع الخاص نظرا إلى أوجه القصور في المؤسسات العمومية، حيث تؤكد الإحصائيات أن عدد عمليات الإجهاض المجراة في المصحات الخاصة يبلغ الثلاثة أضعاف وفقًا لتقديرات تعود إلى سنة 2011. وبحسب العديد من الأطباء والطبيبات يتراوح معدل تكلفة عملية الإجهاض عن طريق الشفط في مصحة خاصة بين 300 و 500 دينارا، وعادة ما يقع تفضيل هذه الطريقة الجراحية بدل الإجهاض الدوائي.
في نفس الموضوع
يُبرر الأطباء والطبيبات الذين تحاورنا معهم لجوءهم إلى هذه الطريقة بنقص الأدوية. تقول أخصائية أمراض النساء والتوليد سيرين بن ميلاد أنها أحيانًا ترسل "النساء الراغبات في الإجهاض إلى المصحات للحصول على الأدوية ليتفاجأن في الأخير بنفادها". نفس الملاحظة يبديها الدكتور اسكندر بن علية: " نعاني نقصا على مستوى الأدوية المجهضة منذ عامين، ما يضطرني إلى الاقتصار على إجراء عمليات الإجهاض الجراحي". ويعزو طبيب أمراض النساء والتوليد هذا الوضع خاصة إلى وباء كوفيد-19 موضحا أن ذلك ليس حكرا على تونس بل يشمل عمليات الإجهاض "على نطاق عالمي".
ترى سلمى الحجري عن جمعية توحيدة أن الأسباب الكامنة وراء هذه الممارسة هي في الحقيقة مادية قبل كل شيء، "فالإجهاض الدوائي لا يدر الكثير من المال سواء على الأطباء أو المصحات". كما تعترف أخصائية أمراض النساء والتوليد سيرين بن ميلاد من ناحيتها بأن الإجهاض الجراحي يُعتبر "أكثر ربحية بالنسبة للأطباء" كما أن هذه الطريقة "أكثر أريحية نظرا لتواضع عدد حالات الإخفاق أو انعدامها حتى".
لا يزال هذا النوع من الممارسات - رغم توفر بعض الإحصائيات حوله - يكتنفه التعتيم في القطاع الخاص ما قد يحول دون النفاذ إلى بيانات دقيقة في هذا القطاع.
"لم يحدث وأن تعرضت إلى المساءلة. التبعات وحالات الإخفاق وما إلى ذلك لا يتمّ احتسابها على الإطلاق، لا يوجد حتى سجل معد للغرض"، توضح سيرين بن ميلاد.
تنجر عن الافتقار إلى الرقابة على القطاع الخاص عواقب وخيمة و"قد توجد تجاوزات" مثلما تكشف الدكتورة بن ميلاد. أحيانا، تُجرى عمليات الإجهاض حتى في الشهر الخامس أو السادس من الحمل. وتُعد هذه الممارسة غير قانونية طالما لا يمثل الحمل تهديدا على الصحة الجسدية أو النفسية للمرأة أو في غياب خطر حقيقي لإصابة الجنين بمرض خطير أو بإعاقة ما. وفي هذه الحالات نتحدث عما يُسمى بالإجهاض العلاجي أو الإسقاط الطبي للحمل (Interruption Médicalisée de Grossesse IMG).
عدا عن ذلك، لا يتم التقيد دائمًا بالتكلفة الحقيقية للعملية، خصوصا إذا تعلق الأمر بالراغبات في الإجهاض من الأجنبيات مثل المغربيات والليبيات والجزائريات أو حتى الخليجيات واللواتي يُحظر الإجهاض في بلدانهن الأصلية. يكفي القيام ببحث سريع على الإنترنت للعثور على وكالات تقدم عروضًا "شاملة" مقابل ما لا يقل عن 600 يورو وحتى أكثر من 1000 يورو للبعض منها.
في نفس الموضوع
"عودي بعد أسبوع أو اثنين"
أجرت سلمى الحجري عن جمعية توحيدة بالشيخ دراسة أبرزت فيها أن ربع النساء المستجوَبات حُرمن من الإجهاض. وبالفعل، اعترف·ت العديد من مهنيي ومهنيات الصحة الذين حاورتهم انكفاضة بثنيهم الراغبات في الإجهاض عنه. بينما يُشدد أحمد* وهو أخصائي في أمراض النساء والتوليد في القطاع العام منذ حوالي عشرين عامًا، على أهمية النقاش مطولا مع المرأة الحامل للإلمام بوضعيتها: "لا أوافق كل امرأة على اللجوء إلى الإجهاض ويحدث ألا أُوصي به".
من جانبها، تعتبر أسماء وهي قابلة أن الإجهاض تدخل طبي لا يخلو من أذى، مضرٌ بصحة المرأة ولا يجب اللجوء إليه إلا كملاذ أخير. تشرح قائلة أنها وزملاءها "دائمًا ما نحاول إقناع [النساء] بالعدول عن الإجهاض لكننا نضطر إلى توجيههن [إلى مركز التنظيم العائلي] في حالة تمسكهن بذلك". أما سلمى الحجري فترى أن لا وجوب بتاتا لشيطنة الإجهاض كما هو سائد. في بعض الحالات "يكون إتمام الحمل إلى نهايته أخطر بكثير من الإجهاض نفسه".
كما هو الشّأن بالنسبة لأسماء، عموماً يُتذرع بأسباب طبية لا أساس لها من الصحة لثني النساء الراغبات في الإجهاض عنه، ومن ذلك ما حدث لامرأة مصابة بمرض السكري حُرمت من الإجهاض بتعلة ارتفاع مستوى السكر في الدم حسب رواية سلمى الحجري. كما تُشير شهادات أخرى إلى التعقيدات البيروقراطية المقيتة أو إلى طلب فحوصات لا يقتضيها القانون على غرار اختبارات فقر الدم والتي من شأنها تأجيل العملية.
زيادة على ذلك يختلف احترام الآجال النهائية المحددة باختلاف الطبيب·ـة الممارس·ـة. ويعزى ذلك إلى الغموض الذي يحيط بمقتضيات الفصل 214، إذ ترخص المجلة الجزائية إبطال الحمل خلال "الأشهر الثلاثة الأولى منه". أما على الصعيد الدولي، تُحسب الآجال القصوى للإجهاض عادة باعتبار عدد أسابيع انقطاع الطّمث أي عدد الأسابيع التي تغيبت فيها الدورة الشهرية.
يترك غياب حدود دقيقة للآجال القصوى الباب مفتوحا على مصراعيه لتأويلات الأطباء والطبيبات حيث "يرفض بعضهم إجراء عمليات الإجهاض بعد 9 أسابيع من انقطاع الطمث في حين أن البعض الآخر يمتنع عن ذلك بعد 10 أسابيع وبعد 12 أسبوعا بالنسبة للعديد من المصحات"، توضح الدكتورة سيرين بن ميلاد. ومع ذلك فإن حملا لمدة ثلاثة أشهر يوافق في الحقيقة 14 أسبوعًا من انقطاع الطمث وليس 12 أسبوعًا.
تلك هي جملة العناصر التي تُعيق اللجوء إلى الإجهاض وتؤدي إلى مضاعفة مخاطر الحمل غير المرغوب فيه على النساء. "إننا بذلك نُهدر وقت النساء. نجعلهن يتكبدن رحلات ذهاب وإياب لأي سبب كان"، تقول رئيسة جمعية توحيدة.
"هناك إضراب. الطبيب غير موجود. الجهاز معطل. عودي بعد أسبوع أو اثنين...".
يتفق معظم أعوان الصحة الذين استجوبناهم على أن الحق في الإجهاض أصبح معرضا للتشكيك منذ سنة 2011 أي في أعقاب صعود حزب النهضة السياسي الإسلامي. لكن حتى وإن أعرب ممثلون وممثلات عن هذا الحزب ومن بينهم النائبة نجيبة بريول عن معاداتهم لهذا التشريع، تعود مناهضة الإجهاض في حقيقة الأمر إلى ما قبل ذلك بكثير.
تصف إيرين مافي، عالمة الأنثروبولوجيا المتخصصة في دراسات النوع الاجتماعي ذلك بقولها: "لوحظ تفشي أشكال من إذلال أعوان الصحة للنساء منذ الثمانينات". وهي ترى أن انتهاج خطاب خُلقيٍّ بعد سنة 2011 يعكس في الواقع تحرر الكلمة أكثر من كونه تغييرًا أيديولوجيًا. "أصبح من الممكن للمرء التعبير عن رأيه علنًا والتصرف بكل حرية دون الخوف من التعرض للطرد".
نقص الإرادة السياسية
إلى جانب الخطاب المناهض للإجهاض، يشدد كثيرون على مدى تدهور الخدمات العمومية في أعقاب اندلاع الثورة. تستنكر سلمى الحجري نقص التكوين الموجه للعاملين والعاملات في مجال الرعاية الصحية صلب الديوان الوطني للأسرة والعمران البشري، المؤسسة المسؤولة عن التنظيم العائلي.
تعاني هذه المؤسسة عديد النواقص الأخرى. يكشف الكاتب العامّ لنقابة الديوان الوطني للأسرة والعمران البشري أنور الوافي عن سوء التصرف المالي والتعيينات العشوائية التي جعلت الديوان يخضع لإدارة "مافيوزيّين". من ناحيته يستنكر أحمد* أخصائي أمراض النساء والتوليد ما آل إليه وضع المؤسسة منذ "تم تعيين أشخاص على رأسها لا علاقة لهم بالموضوع لا من قريب ولا من بعيد". تعاقب على رأس المؤسسة على مدى 10 سنوات تسعة مديرين عامين، استقال آخرهم في 29 أفريل نقلا عن بعض الأعوان. وبحسب أنور الوافي، فإن هذا الوضع يؤثر أيما تأثير على نشاط مراكز التنظيم العائلي ويقوض بالتالي الحق في الإجهاض.
لوّحت نقابة الديوان الوطني للأسرة والعمران البشري بشن إضراب خلال شهر جويلية لجلب انتباه السلطات إلى ضرورة التدخل العاجل بعد أن كانت قد توجهت بعدة مطالب في الغرض إلى كل من وزارة الصحة والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد. يعدد النقابي أنور الوافي هذه المطالب قائلا: "لا نطالب سوى بوضع استراتيجية لهذه المؤسسة وتعيين رئيس مدير عام جديد وتطهيرها من جميع الضالعين في قضايا فساد جارية طالما لم تثبت براءتهم".
حاجة ماسة إلى الإصلاح
هكذا، بعد أن كانت تونس من البلدان الرائدة في مجال تقنين الإجهاض الذي يعود إلى سنة 1973، برزت اليوم العديد من النقائص على مستوى تطبيق هذا الحق. ترى الناشطة النسوية نسرين جلالية نقصا ملحوظا على مستوى "مساءلة" أعوان الرعاية الصحية.
"لم تتقدم أي امرأة إلى حد الآن بشكوى ضد طبيب رفض إجهاضها".
"آن الأوان" إذا لإثارة مسألة العقوبة وفقا للناشطة جلالية. وتجدر الإشارة إلى أنه على عكس البلدان الأخرى، لا تـ·يتعرض مهنيو الصحة الذين يرفضون القيام بهذا التدخل الطبي في الواقع إلى أي عقوبة تُذكر. تؤكد سيرين بن ميلاد على أنه "يجب تجريم مثل هذه الأفعال"، كما يتعين على الأقل إلزام الأطباء والطبيبات الذين يمتنعون عن القيام بذلك "بتوجيه النساء الراغبات في الإجهاض إلى زميل آخر يمارسه". "لا أحد يلجأ إلى الإجهاض عن طيب خاطر [...] لذا وجب على الجميع مد يد المساعدة للنساء ومرافقتهن بدلاً من تحميلهن ما لا طاقة لهن به".