في كل صباح، تجلب شاحنة متداعيةٌ صهريج مياه صالحة للشرب من قفصة البعيدة نحو 70 كم إلى القرية. "في أحد أيام الصيف الماضي، عجز ناقل المياه عن القدوم بسبب مشكلة طرأت في اللحظة الأخيرة فلم نشرب لمدة يوم كامل في ذلك القيظ. لولا هذا الصهريج لمتنا ظمأً"، يقول عمر وهو فلاح من المنطقة يبلغ من العمر 55 عاما. ووفقا لسكان سقدود، نشفت مصادر المياه العذبة في المنطقة منذ سنوات بسبب الفلاحة المكثفة ناحية واحة قبلي التي استنزفت منسوب الموائد الجوفية.
يمتد في كلا جانبي القرية سهل على مد البصر، يميل لونه إلى الاصفرار وتنتشر فيه بعض مزارع التمور التي تعاني أشد المعاناة من عواقب تغير المناخ والآفات التي يجلبها الجفاف كحال هذه السنة حيث لم يتسن للسكان المعتمدين إلى حد كبير على هذا الانتاج بيع أي شيء تقريبا. على بعد بضعة كيلومترات من هناك، يقع منجم الفسفاط بالرديف وهو الأهم في تونس، وفيه يعمل جزء كبير من رجال القرية. ولكن المنجم توقف عن الانتاج منذ انتشار الجائحة، تاركا السكان في حالة على غاية من الهشاشة.
"لم يعد هناك شغل، ونحن مفتقرون لكل شيء. لا طرق، ولا مدرسة، ولا حتى مقهى. لكل منا هنا أقارب انتقلوا إلى الساحل. لكنني أريد أن يبقى أطفالي هنا وأن يتزوجوا هنا"، عبد الله، أحد أهالي سقدود.
في هذه المنطقة المنكوبة، تعتزم شركة فرنسية مغربية تدعى إنجي ناريفا Engie-Nareva الاستثمار لاستغلال مورد يشتد الطلب عليه في أوروبا: الشمس. وفي الوقت الذي يحتدّ فيه السباق إلى بديل للغاز الروسي في ضوء احتلال روسيا لأوكرانيا، تطفح الصحراء التونسية بإمكانيات هائلة تغري هؤلاء المستثمرين.
ولكن هذه الطاقة في رأي العديد من أعضاء المجتمع المدني التونسي تُعتبر مكسبا عاما لا تجب خوصصته على حساب المجتمعات المحلية لصالح قلة من الناس. بل ويذهب أعضاء المنصة التونسية للبدائل إلى اقتراح نموذج آخر يتمثل في إنشاء تعاونيات طاقية بقصد الدفع في سبيل السيادة الطاقية.
مشروع طاقة شمسية ضخم بقدرة 120 ميغاواط
في 3 مارس 2022، تمت المصادقة على خمسة مشاريع عملاقة للطاقة الشمسية في جو من الأبّهة خلال حدث أقيم في قصر القصبة بحضور رئيسة الوزراء نجلاء بودن إلى جانب العديد من المسؤولين الآخرين. وفي سياقٍ تراجع فيه حكومات العالم استراتيجياتها الطاقية وفيما تعتمد تونس بنسبة 90٪ على الغاز الجزائري لإنتاج كهربائها، ترى رئيسة الحكومة أن "هذه المشاريع ستساهم في [...] تحسين استقلالية تونس في مجال الطاقة وتخفض من واردات الغاز الطبيعي بأكثر من 6٪".
قرية سقدود هي أحد الأماكن التي وقع عليها الاختيار لتنفيذ هذه المشاريع الشمسية كبيرة الحجم، فالإشعاع الشمسي فيها يجعلها من بين أكثر المناطق المرغوبة في البلاد. "يريدون البناء هنا"، يقول عمر مشيرا بإصبعه إلى السهوب الممتدة جنوب القرية على بعد أمتار قليلة من المنازل بسيطة الحال.
سيتولى مجمع إنجي-ناريفا إذن قيادة عمليات هذا المشروع الضخم المقدر بطاقة تبلغ 120 ميغاواط بعد أن كان المجمع الفرنسي المغربي قد أنشأ في 2014 مزرعة الرياح بطرفاية في المغرب هي إحدى أكبر المزارع من نوعها في أفريقيا. ومن المنتظر وفقا للكتيب الإعلاني لـ"مشروع قفصة" أن تُزود المحطة الشمسية المستقبلية أكثر من 100,000 أسرة تونسية بالطاقة وتجنّب البلاد 150,000 طن من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون سنويا. "من المتوقع أن تنطلق الأشغال في نهاية عام 2022 ولكننا لا نعرف شيئا تقريبا عن هذا المشروع"، يؤكد عبد الله، أحد سكان سقدود.
يغيب الإجماع في القرية الصغيرة بشأن المشروع، فهو يمثل بصيص أمل بالنسبة للبعض لأن "مستثمرين جاؤوا إلى هنا، ووعدونا بمواطن الشغل والطرق ومقهى للقرية"، أما البعض الآخر فيبدون ريبة إزاءه. "سيكلف زهاء 90 مليون يورو، ولكن ماذا سيجلب لنا؟ هل لك أن تتخيل كم من الطرق والآبار يمكن بناؤها بهذه الأموال؟"، ينتفض عبد الله.
من ناحيته يرى وسيم العبيدي عن منصة البدائل أنه "لا يمكننا السماح بتنفيذ النموذج الاستخراجي لشركات النفط في مشاريع الطاقة المتجددة". ومثلما هو الشأن مع استخراج المحروقات في جنوب تونس كما حدث في الكامور مثلا، فإن الأرباح لم تتم أبدا إعادة توزيعها على المناطق المهمشة على الرغم من تعطل الإنتاج عدة مرات كسبيل للضغط.
في نفس الموضوع
خلّفت مشاريع الطاقة المتجددة مرارة أينما حلّت في المجتمعات التي استضافتها. فعلاوة على الاستيلاء على أراضيها ومواردها، لم تستفد من مداخيل الطاقة المنتجة في عقر دارها، وظلت مواطن الشغل الموعودة سرابا. على بعد كيلومترات من سقدود، في برج الصالحي تحديدا، وهي قرية صيد في الطرف الشمالي لتونس، يكافح السكان منذ أكثر من عقد من الزمان للحصول على تعويض بعد إنشاء أول مزرعة رياح تونسية عام 2000 في ظل نظام بن علي.
في نفس الموضوع
وعلاوة على الاستيلاء على أراضي فلاحية توارثتها أجيال، تتسبب النواعير الهوائية المشيدة عليها في أضرار من قبيل انقطاع التيار الكهربائي والمشاكل الصحية الخطيرة الناجمة عن القرب منها. يحذر إلياس بن عمار النقابي في الشركة التونسية للكهرباء والغاز STEG وأحد المتمسكين بالسيادة على الطاقة من أن "ما حدث في برج الصالحي سيتكرر في سقدود. يستقر المستثمرون الأجانب في منطقة مهمشة بمساعدة الدولة ويستنزفون مواردها دون أن يستفيد السكان المحليون منها شيئا، بينما هم يراكمون الأرباح الطائلة من هذه الطاقة".
"إنها أرضنا وشمسنا"
يوم 12 مارس 2022، تتصاعد جلبة في القرية أين يتجمع نحو خمسين دراجةٍ نارية أمام باب منزل محمد رمضان. فتح هذا الساكن بيته لعقد نقاش بين المواطنين حول إنشاء حقل الطاقة الشمسية في سقدود. ويهدف هذا النقاش من تنظيم نشطاء المنصة التونسية للبدائل ونقابيين من "الستاغ" إلى رفع الوعي بمفهوم السيادة الطاقية.
"تتحمل الشركة مسؤولية اجتماعية تجاهكم. ما هي الضمانات التي قدمتها لكم؟ هل تمت استشارتكم فقط؟ خوضوا المعركة للتحقق من أنكم ستستفيدون من هذه الكهرباء"، ينادي وسيم عبيدي عن منصة البدائل مخاطبا السكان.
"استولت شركة الفسفاط على أراضينا ومواردنا وصحتنا دون أن نرى منها تعويضا عن أي شيء. لليوم نعاني من المخلفات، لذا يجب ألا يعيد التاريخ نفسه".
من المتوقع أن يمسح حقلٌ من آلاف الألواح الشمسية 400 هكتار، أي ما يعادل 550 ملعب كرة القدم على أراض فلاحية هي في الواقع اشتراكية يديرها مجلس التصرف في الأراضي الاشتراكية بالرديف، غير أن الدولة أخذت نصفها بعد إصدار الخطة التونسية للطاقة الشمسية في عام 2015. واليوم، يتمسك هذا المجلس بملكية الأراضي ويسعى إلى استعادتها. وزيادة على وضعية هذه الأرض المثيرة للجدل، فإن لها أيضا مميزات فلاحية حسب تأكيد المجلس ذاته."لماذا اختاروا أرضا خصبة؟ كان بإمكانهم العثور على عديد الأراضي المالحة وغير الصالحة للزراعة على بعد بضعة كيلومترات بالقرب من شط الغرسة "، يتعجب إبراهيم بن عبد الله، وهو مزارع محلي وعضو في مجلس التصرف في الأراضي الاشتراكية بالرديف.
في عام 2019، جاء قانون جديد للطاقة المتجددة لتنقيح قانون 2015 بهدف تحسين مناخ الاستثمار. ووفقا للنقابيين في "الستاغ"، فإن هذه خطوة أخرى نحو تحرير سوق إنتاج وتوزيع الكهرباء المنتجة من الطاقات المتجددة. ولكن بدلا من التصرف العمومي البحت في هذه المشاريع، يبدو أن الدولة التونسية أضحت الآن تفضل الشراكة بين القطاعين العام والخاص، أي بين الدولة والشركات التي تكون غالبا أجنبية. ولكن النقابي إلياس بن عمار يرى في هذا النص القانوني خطرا لأن "الفصل 8 ينص على أنه يجوز الترخيص بالمشاريع على الأراضي الفلاحية دون الحاجة إلى تغيير صبغتها إلى صبغة صناعية. بعبارة أخرى تفعل الدولة ما تريد حيثما تريد".
تعاونيات الطاقة
ولعكس هذا الاتجاه دون التخلي عن إنشاء مشاريع لضمان الانتقال الطاقي في البلاد، تقترح المنصة التونسية للبدائل مع نقابيّي "الستاغ" على مجتمعات الجنوب التونسي إنشاء تعاونيات للطاقة، يكون من خلالها المواطنون والمواطنات أسياد الطاقة المنتجة على أراضيهم. والفكرة تبدو بسيطة مثلما يوضحها إلياس بن عمار حيث "يجب أن يكونوا قادرين على الحصول على خطوط تمويل تسمح لهم ببناء محطات الطاقة الشمسية الخاصة بهم، ثم بيع الكهرباء المنتجة إلى الستاغ". ويواصل النقابي قوله بأن الإلهام يجب أن يكون مأتاه من نموذج المؤسسات الاجتماعية والتضامنية. "آليات التمويل من هذا النوع موجودة بالفعل في تونس. وتستفيد هذه المؤسسات الاجتماعية والتضامنية من خط تمويل مخصص يسمح لها بدعم بعضها البعض. هذا هو النظام المستوجب تطبيقه في قطاع الطاقة".
"حلمنا أن نجعل بلادنا مستقلة في مجال الطاقة بالتوازي مع معالجة هذه القضايا الاجتماعية. إنها شمسنا، الطاقة ملك عمومي ويجب أن تكون مملوكة للشعب".
من الممكن اعتماد نفس النموذج أيضا في تطاوين أو سيدي بوزيد أو توزر أو المتبسطة بولاية القيروان أين تقوم الشركات الأجنبية التي انتقتها وزارة الطاقة في بداية العام (سكاتيك Scatec النرويجية ومجمع آخر صيني إماراتي) بدراسة إمكانية إنشاء محطات أخرى للطاقة الشمسية. علما أن تونس حددت لنفسها هدفا بإنتاج 30٪ من كهربائها من الطاقات المتجددة بحلول عام 2030 ( أجندة تونس 2030 ).
"نحن لسنا ضد إنتاج الطاقة الخضراء، ولكن يجب أن تكون مستدامة بيئيا واجتماعيا"، إلياس بن عمار، نقابي في الشركة التونسية للكهرباء والغاز.
"غالبا ما يتم تصوير الصحراء على أنها منطقة شاسعة وخالية وقليلة السكان، أشبه بجنة للطاقة المتجددة"، يقول حمزة حموشان، خبير الانتقال العادل والباحث في المعهد عبر الوطني TNI في هولندا. "لكن هذا الخطاب مضلل لأنه يحجب علاقات الهيمنة العالمية المتواصلة التي تسهل نهب الموارد وخوصصة المكاسب المشتركة، وتعزز الأساليب غير الديمقراطية في إدارة الانتقال الطاقي".