تقول الناشطة مستنكرة: "عندما كنت صغيرة، كنت أستحم في هذه المياه. لكن كل شيء تغير منذ ثلاثين عاما خلت. شهدنا تغير لون البحر ورائحته وأصبح الوضع لا يُطاق اليوم". فبعد أن كان في ما مضى قبلة البايات العثمانيين لعيونه المائية، أصبح الحوض الساكب الجنوبي لخليج تونس تدريجيا المصب اليومي لمياه الصرف الصحي لولاية بن عروس، المنطقة الصناعية الأولى في البلاد. وأجمع·ـت الناشطون والناشطات على تحميل الديوان الوطني للتطهير ONAS مسؤوليّة ذلك.
بادرت جمعية العمل المواطني في شهر جويلية 2020 بطلب إجراء تحاليل بكتريولوجية لاختبار جودة مياه بحر مدينة الزهراء، كخطوة من الجمعية تعبر من خلالها عن استيائها من تقاعس السلطات واحتشام ردود الفعل.
بحر الضاحية الجنوبية، امتداد لمجاري الصرف الصحي
"أنظر، إنه لم يعد واديا بل مجاري مفتوحةً في العراء"، هكذا يندد هيكل الخمسي، العضو الناشط في جمعية "مقرين للتحديث والصيانة" وأصيل الضاحية الجنوبية للعاصمة. هذا الوادي هو واد مليان الذي تصب مياهه في خليج تونس بين مدينتي رادس والزهراء. يستفيض هيكل قائلاً: "منذ أكثر من عشرين عامًا، دأب الديوان الوطني للتطهير على تصريف جميع المياه المستعملة لجزء من المساكن (...) التابعة لولاية بن عروس فيه [أي واد مليان]، دون تطهيرها".
من جهتها، تضيف دنيازاد التونسي موضحة: "في السابق، كانت جميع المنازل مجهزة بخزانات صرف صحي خاصة بها. لذا لم يكن مشكل تصريف المياه المستعملة في البحر مباشرة مطروحا". غير أنه منذ إحداث الديوان الوطني للتطهير في منتصف السبعينات، وجب ربط المنازل تدريجيًّا بشبكات هذه الشركة و"منذ ذلك الحين، بدأت الأمور في التأزم".
تتعهد محطة التطهير جنوب مليان برادس في ولاية بن عروس دون غيرها بمعالجة المياه المستعملة لما يزيد عن 700.000 ساكن وساكنة. ويعرب هيكل الخمسي عن أسفه من هذا الوضع قائلا: "من الواضح أن ذلك غير كاف بالمرة. ضف إلى ذلك عدم مطابقة المحطة للمعايير المعمول بها، فهي بالية، كما أن المياه لا تُعالج بشكل كامل".
يضاف إلى ذلك المياه الملوثة المتأتية من المصانع المجاورة والتي لا تحظى بمحطات تطهير خاصة بها. ذلك هو الشأن مثلا لمصنع "ماجول للأغذية المعلبة" الذي تصب مياهه المستعملة مباشرة في واد مليان رغم أنه يقع على بعد أقل من 100 متر من محطة التطهير برادس، وفقا لهيكل.
يضاف لكل ذلك إشكال آخر: تنساب مياه الصرف الصحي ومياه الأمطار عبر نفس القنوات "ما من شأنه إثقال كاهل محطة التطهير التي لا تقدر على معالجة هذه الكمية الهائلة من المياه غير المتمايزة. وفي نهاية المطاف، يصب جميعها في البحر".
بكتيريات برازيّة على الشواطئ
تقوم وزارة الصحة في كل سنة وقبل حلول فصل الصيف، بالإعلان عن الأماكن التي تُحظر فيها السباحة في جميع أرجاء البلاد، استنادا إلى التحاليل التي يجريها معهد باستور بتونس بصفة منتظمة. تعبّر دنيازاد التونسي عن بالغ قلقها من هذا مصرحة: "ما زلت أرى أشخاصا يسبحون برفقة أطفالهم على بعد أمتار قليلة من مصب واد مليان"، ذلك لأن السباحة محظورة في بضع نقاط فحسب وليس في شواطئ بأكملها.
"إنه أمر في غاية من الخطورة، لكن السلطات تستمر بالمقابل في السماح بالنفاذ إلى هذه المناطق وكأن وزارتي الصحة والبيئة متواطئتان لإيهامنا بأن هذه الشواطئ لا تزال صالحة للسباحة في مناطق معينة".
حثّ ذلك دنيازاد وأعضاء جمعيتها على إجراء تحاليل بكتريولوجية بأنفسهم من خلال أخذ عينات من مياه بحر الزهراء في خمس مناطق مختلفة. في المرة الأولى، سنة 2019، حُللت العينات في معهد باستور حيث تُجري وزارة الصحة أيضًا تحاليلها. وجاءت النتيجة "غير قابل للعد"، أي بعبارة أخرى، "كانت البكتيريا كثيرة للغاية لدرجة يصعب على المختصين في علم الأحياء عدّها".
"صممنا على تقييم هذا التلوث كميا، لذا قررنا، في جويلية 2020، اللجوء إلى مختبر 'مركز تونس الدولي لتكنولوجيا البيئة CITET'". وكانت النتائج قاطعة: نسبة تركيز تقدر بـ350 جرثومة قولونية برازية (بكتيريا من أصل برازي) لكل 100 مليلتر من الماء على الشاطئ الواقع على بعد 150 مترًا من واد مليان، ناحية الزهراء، أي ما يعادل 3 أضعاف ونصف للحد الأقصى المسموح به حسب المعيار الوطني.
تحذر الأستاذة بالمعهد الوطني للعلوم الفلاحية بتونس INAT الدكتورة ليلى بن عياد التي شاركت في تحرير تقرير حول نتائج هذه التحاليل الميكروبيولوجية من كون "القيم المسجلة لا تطابق المعيار المعمول به وتتجاوز بكثير نسب التركيز القصوى المسموح بها".
كما يدل الكشف عن هذه الجراثيم على وجود عناصر مسببة للأمراض على غرار السالمونيلا أو بكتيريا الضمة الكوليرية المتسببة في عدوى الكوليرا والتي ثبت وجودها بالفعل على مستوى واد مليان. وتشرح ليلى بن عياد في هذا الصدد: "وجود هذه الجراثيم، بغض النظر عن نسب التركيز الموصى بها، يُعتبر في حد ذاته خطيرًا للغاية".
بالنسبة للبشر، يمكن أن يتسبب وجود هذه البكتيريات في الإسهال والتهاب المعدة والأمعاء وفي أمراض جلدية وبصرية وغيرها. وحسب قول دنيازاد التونسي فإن هذا الأمر "مقلق للغاية، كما أن كل هذا من شأنه أن يُؤثر كذلك على النظم البيئية وأن يخل بتوازن المياه والنظام البحري".
"الديوان الوطني للتطهير هو المسؤول الأول"
يؤكد الناشطان من رادس والزهراء على أنه لا مجال للشك في أن الجزء الأكبر من المسؤولية يقع على عاتق الديوان الوطني للتطهير. وتستنكر دنيازاد التونسي غياب تجميع مياه الصرف الصحي ومعالجتها رغم أنه المسؤول الأول والأخير عن ذلك.
"هنالك جزء من فواتير استهلاك الماء التي نسددها هو نظير التطهير ويدعم موارد الديوان الوطني للتطهير. إننا ندفع ثمن خدمة منعدمة".
يشدد "علي جميّل"، رئيس قسم صلب الديوان الوطني للتطهير لتونس الكبرى على أن "كل المياه المتأتية من الضاحية الجنوبية للعاصمة تتم معالجتها في محطة التطهير. أُقر بأنها بالية، لكنها لم تبلغ بعدُ طاقة استيعابها القصوى". كما أنه لم يتردد في الدفاع عن ديوان التطهير في ما يتعلق بمياه الصرف الصحي التي ثبت وجودها في الوادي قائلا : "في بعض الأحيان، تُفصل قنوات تصريف مياه الصرف الصحي عن شبكة الديوان الوطني للتطهير بفعل فاعل، فتصب هذه المياه مباشرة في واد مليان. لكنها مجرد حوادث عرضية. هنالك أيضًا مدن لم يتم ربطها بشبكتنا، على غرار جبل الوسط، لكن هذا الوضع سيتغير".
في المقابل، تقول دنيازاد التونسي آسفة: "أعلمنا الديوان الوطني للتطهير في سنة 2016 أنه سيقع تنظيف واد مليان بحلول عام 2020. بلغنا سنة 2021 ولم يُحقّق أي تقدم يُذكر". كما تجدر الإشارة إلى أنه على الرغم من إعلان عديد وسائل الإعلام عن انطلاق أشغال توسعة محطة معالجة مياه الصرف الصحي برادس وإعادة تأهيلها، لم يُنجز أي شيء من ذلك. "نحن في مرحلة الموافقة على الملف"، يبرّر علي جميّل مضيفا "لقد عبأنا كل الموارد اللازمة [134 مليون دولار، ملاحظة المحررة] وستتولى شركة ألمانية إنجاز الأشغال التي ستنتهي بحلول سنة 2023".
من جهتها، تعرب دنيازاد التونسي عن أسفها قائلة: "إننا على يقين بأن ذلك هراء. كما أن أقوال ممثلي الديوان الوطني للتطهير متضاربة مع بعضها البعض. التقينا بهم في شهر أوت الماضي واعترفوا لنا بعدم حصولهم على التمويلات اللازمة رغم ادعاء الرئيس المدير العام للديوان عكس ذلك. حتى أنهم طلبوا منا التدخل لدى المانحين للحصول على التمويل. فلا لوم علينا إن لم نعد نصدق أيا من وعودهم".