تحضيرات غرّة جوان
في تونس، كانت التحضيرات لهذه العودة تجري على قدم وساق. نظمت الشبيبة الدستورية ومختلف فروع الكشافة التونسية هذا الحدث برئاسة عزوز الرباعي، أحد قياديّي الحزب الدستوري الجديد. بحلول ليلة غرة جوان، كان جدول الأعمال جاهزا ومراحل الموكب متأهبة وفقا لبرنامج محكم.
احترازا لكلّ الطوارئ، أُولي اهتمام خاص لتدابير ضمان سلامة الموكب. إذ نصت التقارير الاستخبارية على أن أعضاء الحزب القديم أو بعضاً من مجموعة الحضور الفرنسي قد يدبرون خطة لقتل رئيس الحزب الحر الدستوري الجديد.
"يُقال إن الحزب الحر الدستوري الجديد أقام وحدة أمنية صارمة تضم في عداد أعضائها بعض الفلاقة القُدماء."(ملاحظة بتاريخ 9 ماي 1955).
"في الأوساط القومية، يلمح بعضهم إلى وجود مجموعة من الحرس الشخصي لبورقيبة تسهر على سلامته، بينما لم يحظَ سائر أعضاء المكتب السياسي إلا بحراسة جماعية." (ملاحظة بتاريخ 31 ماي 1955)
لم يُغفل أيضا عن سلامة الجماهير، فقد حرص أعضاء الحزب على إنشاء مراكز إسعاف مُجندة لضمان أمن الحشد في مختلف المواقع التي يمرّ بها الموكب: حلق الوادي، الكرم، تونس، باب سويقة...
ولضمان مرور بورقيبة في سلام في مسافة يبلغ طولها 25 كيلومترا، أنشأ الحزب الدستوري الجديد وحدة أمنية داخلية تضم 20,000 عضو من الشبيبة الدستورية والكشافة. وقُسمت تلك المجموعة إلى خلايا لكي تتكفل كل منها بالسهر على أمن أعضائها.
وتزامناً مع إنشاء تلك الوحدة الأمنية، حشدت قوات الأمن الاستعمارية 2000 شرطي بالزي الرّسمي والمدني، و6000 جندي يُفتَرض بهم مرافقة الموكب عن بعد ليفسحوا المجال للوحدة الأمنية الدستورية لقيادة العمليات. ورُتب هذا التوافق بفضل الطيب المهيري، مدير الحزب الدستوري الجديد، بعد تفاوضه مع السلطات الفرنسية بشأن المسارومطالبتها بتحمل مسؤولية ذلك الحدث كاملة.
يوم 31 ماي، وصل الحبيب بورقيبة إلى محطة سان-شارل في مارسيليا وتوجه إلى الميناء ليستقل باخرة "مدينة الجزائر" في اتجاه تونس العاصمة. وبحسب ما ورد في الاستمارات الاستخبارية للضباط على متن تلك الباخرة، كان يرافقه ابنه الحبيب بورقيبة الابن، وأعضاء من الحزب الدستوري الجديد (منهم المنجي سليم، أحمد التليلي...) وعدة صحفيين من أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، بينما تجمهر على الرصيف عدد من التونسيين والتونسيات في صخب من التهاليل يرددون ويرددن نشيد "نموتُ"*. وفي أثناء الرحلة البحرية، أجرى بورقيبة مقابلات مع وسائل الإعلام الدولية، بل واستسلم لمتعة المثول أمام عدسات التصوير.
بلوغ حلق الوادي
عندما وصلت الباخرة إلى ميناء حلق الوادي، طوقها العديد من زوارق الصيد البحري القادمة من مختلف السواحل التونسية. وصادف أن كان بينها ذلك الّذي ركبه بورقيبة في مارس 1945 من جزر قرقنة للذهاب خلسة إلى ليبيا برفقة عدد من الصيادين. وعلى متن ذلك الزورق، تنتصب مجموعة موسيقية تعزف ألحانا قرقنية.
حطت باخرة "مدينة الجزائر" رحالها في ميناء حلق الوادي على الساعة العاشرة صباحاً. "ظهر بورقيبة في لباس أزرق داكن -على الموضة الأوروبيّة- وطربوش على رأسه"، يحمل في يدٍ منديلاً أبيض وفي الأخرى منظاراً (لابراس، 2 جوان 55). ورغم أنّ الباخرة كانت تزخر بالمسافرين·ـات المنتمين·ـات إلى الوفد، فلم يُعَر هؤلاء أي اهتمام.
اكتظت أرصفة الميناء بجمع غفير من أشخاص جاؤوا من كل أنحاء البلاد على القطار،على الحافلة، على السيارات أو مشيا على الأقدام. وأتى لاستقبال زعيم الحزب عدد من الشخصيات البارزة، فقابلته على المدرج الأميرة عائشة، ابنة الملك محمد الأمين باي. وما إن داست قدمه اليابسة، حملته سواعد أعضاء من الفلاقة والشبيبة الدستورية إلى أعناقهم. وإكراما للحضور القوي لشباب الكشافة، حياهم بورقيبة بتحيتهم الخاصة ولف على عنقه وشاحا أحمر.
ثم وُجّه لاحقا إلى قاعة استقبال مهيأة خصيصا للمناسبة داخل مستودع بالميناء لإلقاء أول خطاب له. شهد ذاك الخطاب عدد من الشخصيات المرموقة: حاخام تونس الأكبر، وشارل حداد، رئيس الجماعات 'اليهودية' في تونس العاصمة، وقائدا الفلّاقة ساسي الأسود والأزهر شرايطي، والشيخان الحنفي والمالكي، وبعض مدرسي الزيتونة، ووفود من الاتحاد العام التونسي للشغل ترفع لافتات بشعار " الاتحاد العام التونسي للشغل يحيي عودة المجاهد الأكبر"...
لم تغفل الصحافة الفرنكوفونية الحضور النسائي في الجمهور، وإن كان ذلك من منظور استشراقي:
"حذو أولئك الشباب، وقفت فتيات لابسات تارة فساتين بيضاء وأوشحة حمراء، وطوراً أقمصة بيضاء وتنانير حمراء. وتصدرت الأميرة عائشة مجموعة من الفتيات يحملن باقات من أروع الأزهار. تجدر الإشارة إلى أن جميع النساء والفتيات كن غير محجبات تماما. وفي وسط هذا الجمع البهيج، كانت أرملتا فرحات حشاد والهادي شاكر برفقة أطفالهما بين ثلة من الشخصيات" (لابراس، 2 جوان 55).
كما تبين فيديوهات التحقيقات التي غطت أحداث ذلك اليوم*، توجه الحبيب بورقيبة فيما بعد إلى قصر الباي في قرطاج (بيت الحكمة حاليا) ليحيي الملك محمد الأمين باي الذي منحه وسام "عهد الأمان" (وسام يسلمه الباي لإحياء ذكرى عهد الأمان لعام 1857).
الطريق إلى تونس العاصمة
انطلق الركب من قرطاج متجها إلى تونس العاصمة. كان بورقيبة يحيي الجماهير من سيارته، ترافقها وحدة فرسان تضم في صفوفها مناضلي فلاقة الجلاص من القيروان ويقودها القائد العجيمي بن مبروك. وعند وصول الركب إلى العوينة، امتطى بورقيبة حصانا أصيلا وفرته له فرقة فرسان الجلاص. وعلى صهوة جواده، كان بورقيبة متمرسا تلك الرشاقة بفضل دروس ركوب الخيل التي "نظمها مؤخرا رئيس المجلس، إدغار فور، في كنف السرية التامة بباريس، عندما كان الطرفان في أوج المفاوضات."*
يمكن أن نلمح شخصا جالساً وراء بورقيبة، ألا وهو محجوب بن علي. وقد تولى قائد الفلاقة دور حارس بورقيبة الشخصي، أو ربما كان يساعده على التحكم في جواده أثناء الركوب، إلا أن المصادر لم تحدد دقائق هذه المعلومة. وقدم قائد فرسان الجلاص قبعة الريش الخاصة بجهة القيروان إلى الزعيم الذي ارتداه بترحاب.
لما حل رئيس الحزب ببورجل، نُقل مرة أخرى إلى سيارة ليتوجه مع ركبه إلى منزل زوجته ماتيلد بورقيبة، ومنه إلى بيته السابق الكائن في المدينة العتيقة. انتهت مسيرة الركب أمام مسكنه في رحبة الغنم التي تغير اسمها فيما بعدُ إلى "معقل الزعيم"، وبات حيّه القديم مرادف تلك اللحظة التاريخية. وبين هتاف جماهير تغني "نموت"، اعتلى بورقيبة منصة لإلقاء خطاب ثان* يرمي إلى طمأنة الفئات الفرنسية في تونس والدعوة إلى توحيد الصفوف.
وبدو أن قوات الأمن لم تتدخل أو كادت خلال تلك الفعاليات. إذ ورد في الصحف أن الشرطة الفرنسية لم تتدخل إلا "لتدارك الوضع على مستوى باب البحر حيثُ استُبدل العلم الفرنسي بالعلم التونسي، ورفرفت الرايتان في نهاية الأمر جنبا إلى جنب على الوتد ذاته" (لابراس، 2 جوان 55). ونددت تلك الصحيفة بانتهاك الجمالية الحضرية للمدينة، كما ذكرت إيقاف عدد من الشباب التونسيين بعد قطعهم النخيل من شارع القمبطّة (شارع محمد الخامس حاليا) ليصنعوا منها أقواس نصر.
ولكن ظلت وحدة الأمن تراقب شارع العاصمة الرئيسي، شارع جول فيري (شارع الحبيب بورقيبة حاليا)، إذ يكمن فيه مقر الإقامة العامة: "مجموعات حراسة بين درك متنقل وجنود، سيارات مزودة بأجهزة لاسلكية، شاحنات محملة بلفائف الأسلاك الشائكة احترازا لما قد يحدث من تجاوزات، مدرعات رابضة في باب البحر..."
فضلاً عن ذلك، أشارت الصحيفة إلى بعض الحوادث؛ فذكرت مثلا حادثة شاب ذي 14 عاماً علق بإحدى عربات القطار الرابط بين تونس العاصمة والمرسى فسقط على السكة وبُترت ساقه؛ ومظلة مسجد سيدي محرز التي انهارت بسبب ثقل الحشود؛ ورجل تشبث بشاحنة فدهست ساقيْه سيارة؛ وآخر تمسك بالسلم الخلفي في حافلة فوقع منها، ما أسفر عن إصابات بالغة ساقت به إلى المستشفى.
بغض النظر عن كل تلك الأحداث، فقد اعتبر سائر الصحف وأهم أعضاء الحزب الحر الدستوري الجديد ذلك اليوم ناجحا من حيث التنظيم والحشد الهائل. وبحسب مختلف الإحصاءات، أتى الناس من كل حدب وصوب وقارب عددهم بضعة مئات الآلاف. بينما أُقفلت المحلات التونسية بلا استثناء. ورغم أن المحلات الأوروبية ظلت وحدها مفتوحة، لم يعمل عَمَلتها من التونسيين والتونسيات. علاوة على ذلك، تغيب عدد من التلاميذ والتلميذات خوفا من خروج الأمور عن السيطرة من الجانب الأوروبي، أو رغبة في المشاركة في الاحتفال من الجانب التونسي.
اختُتم اليوم بسهرات موسيقية أحياها سكان أحياء باب الخضراء وباب سويقة وباب منارة وغيرها. أما في "المدينة الأوروبية"، فكان الهدوء مستتبا كل يوم في تمام الساعة السابعة مساء" (لابراس، 2 جوان 55).
تحمست بعض الصحف للحدث فوصفته "بغير مسبوق"، و"رائع"، و"ناجح"، و"أجواء احتفالية وبهيجة"، و"مناخ يوحي بالاتحاد المقدس". بيد أن هذا الثناء لم ينجح في كتم الأصوات المعارضة. ففضلا عن القوات السياسية الفرنسية –على غرار حزب التجمع الفرنسي بتونس الذي احتج قائلا إن الحضور الفرنسي في تونس بات مهددا-، نقد الحزب الشيوعي التونسي اتفاقات الاستقلال الداخلي، مشيرا بدوره إلى الخطر الذي يداهم السيادة الوطنية التونسية. وفي نقد الحزب لهذه السيادة المشتركة، حذر مما قد يحدث على مستوى مواصلة الرقابة المدنية وتقييد الاقتصاد التونسي واستدامة الرابط بين تونس وفرنسا.
وبالفعل، بالتمعن "في بعض المجالات الاستراتيجية مثل الشرطة والعدل وقطاعات شاسعة من الاقتصاد، بالإضافة إلى الديبلوماسية والجيش، لوجدنا أن الاستقلال التونسي محدود، إن لم نقل منعدم تماما." * ليتسبب اعتماد معاهدات الاستقلال الداخلي في اندلاع صراع شرس بين مناصري بورقيبة ومساندي بن يوسف.
نحو الاستقلال الداخلي
بدأت بوادر هذه التصدعات تلوح خلال فترة غياب رئيس الحزب الحبيب بورقيبة، إذ اضطلع الأمين العام صالح بن يوسف بدور رئيسي عندما استُهلت عمليات التفاوض الرامية إلى الاستقلال.
وفي الفترة الفاصلة بين عامي 1945 و 1952، نظم بورقيبة بدوره حملات تعبئة على الصعيد العالمي، من مصر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، لكسب حظوة الرأي العام بشأن مسألة استعمار تونس. وإزاء عرقلة فرنسا لكل سبل المفاوضة، احتدم الكفاح المسلح ضد المستعمر.
"منذ يوم 18 جانفي 1952، أضحى الكفاح المسلح بين أيادي فاعليه الأساسيين، أي الحزب الحر الدستوري الجديد والنقابات الوطنية والكشافة والفلاقة. ولم يكتفِ هؤلاء بإحباط آمال القوة المستعمرة التي تتطلع إلى احتكار ممارسة العنف على الأراضي التونسية، بل تحدوا المصالح الاقتصادية والسياسية الخاصة بها وبحلفائها المحليين. فهجموا مراراً على القوات المسلحة الفرنسية، وعمدوا إلى اغتيال عدد من المستعمرين والتونسيين المتواطئين مع سلطات المستعمر واستهدافهم بهجمات متكررة، علاوة على عمليات التخريب التي استهدفت البنى الأساسية الاقتصادية الفرنسية."
- خنساء بن ترجم، "فتح العلبة السوداء: أجهزة الأمن وتغيير النظام"، تونس: ديمقراطية لا ريب فيها؟، فانسون غيسر، أمين علال، باريس، المركز الوطني للبحوث العلمية، 2018، ص. 232، متوفر هنا
على إثر عودة بورقيبة إلى تونس، أُوقف الزعيم في جانفي 1952 ونُقل إلى طبرقة ثم رمادة، قبل أن يُنقل إلى جزيرة جالطة في شهر ماي من العام ذاته. وبعد مرور عامين، نقل إلى جزيرة غروا الفرنسية توقيا مما قد يصدر عنه من أذى. في يوم 21 جويلية 1954، أمر رئيس المجلس بيار منداس فرانس بنقله إلى قصر 'لافرتي' في بلدة أميلي (على بعد 110 كم عن باريس) للاستعداد إلى المفاوضات القادمة.
وبحلول نهاية شهر ماي، كان بورقيبة يتطلع إلى العودة إلى الوطن أي تطلع، فحاولت السلطات الاستعمارية إقناعه بتأجيل عودته نظرا إلى التوتر السائد في الإيالة التونسية. وعندما سُمح له أخيرا بالرجوع إلى تونس العاصمة، دعا صالح بن يوسف إلى مرافقته. ولكن رفض هذا الأخير دعوته وقرر البقاء في القاهرة.
كتابة التاريخ
لم يترك في الواقع صخب الموكب المرافق لبورقيبة في غرة جوان 1955 مجالا للتشكيك في معاهدات الاستقلال الداخلي، بل أن اختيار تاريخ عودته قُبيل إبرام المعاهدات رسميا يوم 3 جوان لم يكن من محض الصدفة. فعندما عاد بورقيبة مباشرة بعد "الفوز" في المفاوضات، استأثر بذلك التاريخ وجعل من اليوم يومه، ولم يعكر أي حدث مؤسسي أو رسمي آخر صورة البطولة التي تجسدت في شخصه. ورغم أنه لم يكن عضوا في الحكومة، ولا قادرا على إبرام معاهدات بحكم محدودية صلاحياته كرئيس حزب، فلم يعقه ذلك عن صنع قدسية نفسه بنفسه. وساندته في ذلك الصحف التي وصفته بـ"المجاهد الأكبر" و"سيد الأحرار"، فحاكت معه أسطورة المنقذ الذي جاد بالحرية على وطن بأكمله.
قد يوحي التصوير المُحكم لعودة بورقيبة والانتباه إلى أدق تفاصيله بأن هذا الحدث قد صاغه بورقيبة نفسه وأعضاء حزبه ليُضرب به المثل في المستقبل. فقد قال زعيم الحزب في خطاب ألقاه إثر وصوله إلى ميناء حلق الوادي إنه "ليوم مشهود". يبدو إذن أن دقائق غرّة جوان رُتبت واستُعرضت وكأنها ذكرى قيْد التشييد. وفي ذلك اليوم، انساق رئيس الحزب الجديد في نزعته الأبوية ليعلن أمام الحشد أنه "ينبغي استخلاص عِظة وحِكم من هذا اليوم التاريخي، لعلكم تستنيرون بها إلى أبد الآبدين."
في سبيل صياغة تاريخ منتصر وثابت، لم يتردد الحزب الحر الدستوري الجديد، وعلى رأسه بورقيبة، عن التلاعب بالذاكرة.
أولا، محو أثر رموز المنافسة السابقة
في شهر جويلية من عام 1937، عاد إلى تونس الشيخ الثعالبي، مؤسس الحزب الحر الدستوري التونسي، بعد قضاء سنوات في المنفى، وحل في حلق الوادي ملوحا بمنديل أزرق. كان قائد الحزب الجديد المنشق في انتظاره أسفل مدرج الباخرة.
"تأثر بورقيبة بهيبة المشهد لدرجة أنه عزم في قرارة نفسه على تقليده في الوقت المناسب. بل وأضاف إليه لمسته الشخصية لتحسينه، فشق صفوف الجماهير على صهوة حصان كالفارس المغوار. وفي نظر "المجاهد الأكبر"، لم يكن هنالك متسع لمنقذيْن في آن واحد، فكان يعتقد أن الثعالبي سيسلم أمره وينضم إلى الحزب الحر الدستوري الجديد ويقبل بزعيمه. لكن لما لم يسر الأمر كما توقعه، عمد إلى إحباط اجتماع التوافق المُزمع بين وفدين من شقي الحزب "القديم" و"الجديد". [...]"
- -ط. بالخوجة، العقود الثلاثة لحكم بورقيبة...، ص. 12.
وهكذا، تقلد قائد الحزب الجديد المنشق عن الحزب القديم منصب المناضل القومي الوحيد. وبعد أن كرر مشهد عودة الثعالبي، أرسل به في خبر كان ولم يترك له أثرا.
لم تبدد صورة بورقيبة على الحصان ذكرى الشيخ الثعالبي فحسب، بل طغت أيضا على رمزية الاستعمار الحضرية. ففي عام 1976، رُفع نصب تذكاري لبورقيبة على متن حصانه في آخر الشارع المُسمى بجول فيري سابقا، والذي اتخذ اسم الحبيب بورقيبة بعد الاستقلال. ومثلما سيطر بورقيبة على اسم شارع العاصمة، حل نصبه محل نصب جول فيري، رئيس الإدارة الاستعمارية السابق، الذي حُطم إثر الاستقلال.
عمل أصلي من إنجاز الفنان عاطف معطاللّه في إطار إعداد هذا المقال.
ثانيا، استحداث رموز جديدة
يحيي النصب البرونزي العظيم ذكرى غرة جوان، ولكنه مثل صورة نصف خيالية لأن بورقيبة لم يمتطِ حصانه بمفرده بل كان مرافقا بحارسه الشخصي محجوب بن علي لحمايته. وهنا تكمن قوة التمثال الفعلية، فقد تحولت الأسطورة بفعلها إلى حقيقة ملموسة.
صُنع ذلك التمثال بيدي النحات الهاشمي مرزوق (وُلد عام 1940) الذي كُلف بإنجاز عدد من تماثيل بورقيبة تتعلق بأحداث غرّة جوان (سواء أكانت عودته أم نفيه)، ومنها نصبان له على الفرس رُكزا في تونس والمنستير*.
يمثل هذان النصبان لحظة امتطاء بورقيبة حصانه في طريقه إلى تونس، نراه في الأول بطربوش وفي الثانية بالمظلة القيروانية. وإثر فوز الهاشمي مرزوق في مسابقة نحت تمثال الفروسية لمدينة تونس العاصمة، شرع في تصميم النموذج الأولي. واستغرقت العملية ستة أشهر، كما تدخلت فيها لجنة وزارية طالبت النحات بتمثيل جواد عربي أصيل ومحاكاة صور فوتوغرافية لغرّة جوان. وبحسب ما يتذكر النحات –وقد اتصلنا به لهذا الغرض-، حرص بورقيبة على متابعة التقدم المُحرز في العمل. وتحدث عنه قائلا:
"كثيرا ما كان بورقيبة يزورني في ورشتي، وهي حظيرة طائرات في العوينة. كان شديد الولع بتمثاله، شديد الحرص على رؤيته. ووافاني ببضعة ملاحظات بشأن انخفاض السرج، وطلب مني ألا أنسى وضع الطربوش على رأسه. كان يمكث نصف ساعة في كل زيارة، فصرنا صديقيْن في نهاية المطاف. أرادني أن أجسد سعادته في غرّة جوان، وكان يصفها "بإحساس منقطع النظير". أراد أن يعكس التمثال فيض الأحاسيس التي تملكته في ذلك اليوم. وكان سعيدا جدا بنتيجة العمل في النهاية."
في السياق ذاته، تذكر الهاشمي مرزوق ما شعر به من ضغط أمام جسامة العمل المكلف به، أي تجسيد لحظة تاريخية لحفظها في صفحات التاريخ. لم يتردد عن تكسير جزء كامل من الهيكل وإعادة تشكيله بعد أن أمضى بضعة أشهر من العمل عليه، لا لشيء بل لإضفاء "مزيد من الخُيلاء" على الفرس. ويتذكر قائلا: "كنت قد نحتُّ نصفه العلوي، ولكن كان يجب أن يبرز فيه طابعه الأصيل، وأن يحمل الرئيس مرفوع الرأس بكل ما يجدر به من نخوة ونبل." وحرصا على أن تنم تفاصيل التمثال عن تلك العظمة الفروسية، جعل النحات قائمة الفرس الأمامية مرفوعة ليبين أن التمثال ذو بعد سياسي لا حربي، وكان هذا البعد يمثل، حسب رأي النحات، بوضع قوائمه الأربعة ثابتة على الأرض.
وأخيرا، تجسيد الوطن في شخصه
في موكب غرّة جوان، عزز حضور وفود من مختلف الولايات التونسية فكرة تماسك الوطن والتفافه حول شخص واحد، الأمر الذي سيغذي لاحقا خطاب البطل المنشود. وجمع حفل عودة بورقيبة بين مختلف الولايات التي قدمت "فنونها الشعبية"، مثل خيالة الجلاص أو موسيقى جزر قرقنة. وفضلا عن البعد الجغرافي، أُدرج في تمثيل تلك اللحمة بعد سياسي، إذ شاركت في الحفل مجموعات عديدة: من الكشافة إلى الأساتذة الزيتونيين مرورا بعائلة الباي والفلااقة. وضم الحدث أيضا ممثلي الجماعات الدينية في البلاد.
في أثناء أداء عرض العودة، تظافرت الجهود لتبرز أن الوطن بأكمله جاء من أجل بورقيبة، وأن بورقيبة بدوره اندمج في الوطن عندما عاد إليه. واستعرض الزعيم ترسانة من الرموز الوطنية، فلبس الطربوش رمز النخبة ثم استعاض عنه بمظلة الجلاص، وهي رمز القياديين، وامتطى فرسا عربيا أصيلا، ولف وشاح الكشافة حول عنقه، فكأن جسد رئيس تونس المقبل "امتص" الهوية وأسسها في آن واحد.
اجتمعت كل العناصر الرمزية والملموسة الضرورية لإرساء أسس الوطن: من النشيد الوطني المستقبلي والعلم إلى أراضي الوطن محددة وممثلة في وفود جهوية، مرورا بالفنون الشعبية ومشهد الشعب المتآزر... لم يكن ناقصا إلا حدث قادح لخط أول سطور السردية الوطنية، ألا وهو عودة البطل المظفر.
فيما يتعلق بتمثيل الوطن، أصابت تلك العودة عصفوريْن بحجر واحد، إذ أنشأت صورة للشعب وزعيمه في آن واحد. وبقدوم بورقيبة محمولا بسواعد مناضلي الاستقلال، بارزا بين غمار الأعلام التونسية المرفرفة، بات الزعيم في ذاك المشهد رمزا للوحدة الوطنية، بل هو تجسد الوطن في شخص.
في ذلك اليوم، تبنى بورقيبة رموزا وطنية متنوعة وجسد الوطن في صورته، ففرض نفسه ممثلا مشروعا للاستقلال. وما أن أُحرز هذا الاستقلال كاملا حتى غدا تاريخ غرّة جوان عطلة رسمية [إلى أن تولى بن علي مقاليد الحكم فألغاه] واعتُبر عيدا وطنيا يُسمى بـ"عيد النصر". وهكذا، تمازجت السردية الوطنية برواية حياة بورقيبة الخاصة.
ورغم أن الشعب لم يتفق بالإجماع بشأن معاهدات الاستقلال الداخلي، لم يتسن لأحد المروق عن ذلك التوجه. ولئن صدحت أصوات معارضة تصبو إلى استقلال جذري تام، فقد غمرها صخب مشروع وطني لا يقنع بالقليل.