وهزم الدستوريّين
إذ ابتسمَ ومكرَ
فخَانَ التّونسيّين"
على إثر شراسة القمع الذي مارسه المستعمر خلال أحداث 9 أفريل، جاء المقطع أعلاه ضمن منشور أصدره الدستوريون باللغة الفرنسية للتعبير عن الإحباط أمام استحالة المفاوضات مع قوى الاستعمار. أخذت المقاومة يومئذ منعطفا جديدا في نضالها الوطني ضد المستعمر الفرنسي، واندرج يوم 9 أفريل 1938 في سياق وطني ودولي متوتر، ليُسمىى بعدئذ في التاريخ الرسمي المعاصر باسم "عيد الشهداء".
هاجس الفاشية
في مطلع سنة 1938، شهدت أوروبا تجذر نظامي هتلر وموسوليني. ففي العام ذاته، أثار غزو ألمانيا للنمسا يوم 11 مارس قلق فرنسا، لا سيما وأن لها في تونس حدودا مشتركة مع ليبيا الإيطالية. وعلى خلفية هذا السياق، كلما ازداد إلحاح الحزب الحر الدستوري الجديد على مطالبه، اتهمته الحكومة الفرنسية بالتآمر مع النظام الفاشي الإيطالي.
نددت بهذا التواطؤ الجبهةُ الشعبية التي كانت تتصدر آنذاك الحكم في فرنسا* وتتألف من تحالف أحزاب يسارية منها الحزب الشيوعي الفرنسي. كان الائتلاف واعيا بضرورة الحفاظ على وحدة الإمبراطورية الفرنسية لتفادي أسوأ العواقب، إلا أنه من غير الواضح إن كان هذا الخوف لشأن فرنسا أم لمصير الشعوب المستعمَرة. في هذا السياق، كتب موريس توريز، الأمين العام للحزب الشيوعي الفرنسي، قائلا إن "يجدر بالشعوب المستعمرة الانضمام إلى الصفوف الفرنسية لمقاومة الفاشية [...]، فليس من صالحهم أن ينساقوا في مواقف قد تدعم المخططات الفاشية وتوقع الجزائر وتونس والمغرب في شراك موسوليني وهتلر"**.
أيّاً كان الأمر، فقد كانت الصحف الاستعمارية تسلط الضوء على هذه الحجة بالذات لانتقاد الاحتجاجات الوطنية التونسية، وكانت ترى أنها "محاولة لاستغلال أسوأ ما يكون من الظروف التي تمخض عنها الوضع العالمي، لا كاحتجاج على أعمال الحكومة التي لا يختلف عاقلان في حسن نواياها [...]، وكرمها وإنسانيتها [...]" (لاديبيش تونيزيان، 9 أفريل). لكن في واقع الأمر، تتناقض أقوال هذه الصحيفة مع السياسة الفرنسية في تونس.
سياسة استعمارية عدائية
عندما تولى اليسار مقاليد الحكم في فرنسا عام 1936، بدا الأمر مبشرا بالخير. فبعد اعتداءات المقيم العام السابق بيروتون، تطور النشاط الوطني بنسق سريع في عهد المقيم العام الجديد غيون الذي عينته حكومة الجبهة الشعبية. هذا التغيير أدى إلى إغلاق المعسكر الصحراوي ببرج لُوبوف والإفراج عن المساجين السياسيين المعتقلين فيه (ومنهم الحبيب بورقيبة). لكن سقوط حكومة ليون بلوم في جوان 1937 أفشل المفاوضات التونسية من أجل الاستقلال، لتزداد السياسة الفرنسية في تونس صرامةً.
انطلقت عقب ذلك سلسلة من العوامل التي أججت نار المقاومة ورسخت الوعي السياسي لدى التونسيّين·ـات: ارتفاع نسبة البطالة، إفقار المجتمع، مخاطر المجاعة، حلّ النقابات وإخضاع الجمعيات الرياضية والطلابية للرقابة، قمع المظاهرات في العديد من مراكز التعدين، فضلاً عن منع حمل العلم التونسي ورفض المطالبة ببرلمان تونسي بذريعة أن التونسيين لم يبلغوا أو يبلغن ما يكفي من التطور للحصول على حق الاقتراع العام*...
أدت أحداث بنزرت في 8 جانفي 1938 (أين قتل أعوان أمن سبعة مناضلين بسبب احتجاجهم على نفي أمين وِحدة الحزب الدستوري في بنزرت ونفيه للجزائر) إلى قيام الحزب بعدد من الجولات نادى خلالها بالتمرد والعصيان المدني. وسرعان ما اتُّهم الحزب الحر الدستوري الجديد بالتآمر ضد أمن البلاد واستغلال مواطن الضعف السياسية للدولة الفرنسية من أجل شن "حملة كراهية ضد فرنسا".
وفيما تولى الشق "الأصولي" (ويمثله الحبيب بورقيبة) إدارة الحزب بعد انهزام الشق "المعتدل" (ويمثله محمود الماطري) على إثر مؤتمر 1937، وضعت السلطات الحزب نصب أعينها: فقد اعتُقل حوالي عشرين شخصا من المناضلين أو رؤساء الوحدات الدستورية في كامل أرجاء البلاد، وكان من بينهم سليمان بن سليمان، ويوسف الرويسي، وصالح بن يوسف، والهادي نويرة، ومحمود بورقيبة.
مع اقتراب 9 أفريل، بدأ الغضب يجتاح صفوف الشعب، وسرعان ما تعاقبت الأحداث وتراكمت إلى أن بلغت أوجها يوم 9 أفريل.
7 أفريل، يوم قبل المظاهرة العامة
انطلقت مظاهرة من أمام قصر الباي الكائن في حمام الأنف حيث استقبل أحمد باي الثاني وفداً ضم الطاهر صفر وآخرين. احتج أعضاء الوفد على حظر رفع العلم التونسي وإغلاق المعهد الصادقي وتصيّد المناضلين القوميين. فطلب منهم الباي دعوة الشعب إلى ملازمة الهدوء، واعداً إياهم بالتدخل لدى المقيم العام. كما أنه أذن برفع العلم التونسي خلال المظاهرة المرخصة ليوم الغد. وعلى الرغم من قانونية هذه المظاهرة، إلا أن السلطات الفرنسية ظلت متوجسة منها.
"لقد بلغ حماس الشعب منتهاه، ولا ريب في رغبة العاطلين عن العمل والمطاوة و"الزّوفرة" في إثارة البلبلة [...]، مؤكدين بفخر أنهم مصممون على بذل أرواحهم في سبيل بلادهم." (تقرير يوم 7 أفريل 1938).
أما على صعيد القوى السياسية التونسية، فقد بدأت التصدعات تظهر للعيان. ثنى الحزب الحر الدستوري القديم مناصريه عن المشاركة في المظاهرة، وتبنى الحزب الشيوعي التونسي مخاوف الحكومة الفرنسية وعلى غرار ما فعل نظيره الفرنسي، اتهم الحزب الشيوعي التونسي سياسة الحزب الدستوري الجديد "بمساندة الفاشية التي تهدد تونس بالاحتلال العسكري"، ويرى أن سعيه إلى "التحريض على العصيان المدني والإعراض عن الخدمة العسكرية والإضراب عن دفع الضرائب (...) يُعد مساندة للأعمال الفاشية في تونس [...] بل ويوحي بالتواطؤ مع الفاشية الإيطالية." ("قرار المكتب السياسي للحزب الشيوعي التونسي" الصادر في صحيفة المستقبل الاجتماعي بتاريخ 7 أفريل).
أفريل، بهجة قبيل الارتجاج
غمرت بهجة النضال عدداً من المدن التونسية يوم 8 أفريل: مكنين، طبلبة، جمال، المنستير، جربة، القلعة الكبيرة، باجة، المهدية، نابل، صفاقس، سوسة، سوق الأربعاء (جندوبة حاليا)، بنزرت، الحامة، تستور... وأكدت مختلف التقارير أن آلاف المتظاهرين⋅ـات شاركوا وشاركن في هذا الحدث غير المسبوق الذي نظمه الحزب الحر الدستوري الجديد. أما في تونس العاصمة، فقد انطلقت حشود المتظاهرين⋅ـات من باب سويقة وباب الجديد قبل الاجتماع في باب بحر للانتقال أمام مقر الإقامة العامة (سفارة فرنسا حاليا). وبحسب ما نقلت الشرطة أو الصحف، فقد شارك ما يتراوح بين 7000 و10,000 شخص في تلك المظاهرة.
امتثل الجميع لطلب الحزب الدستوري الجديد بإغلاق المقاهي والمتاجر، بيد أن تقارير الشرطة أشارت إلى أن بعض التجار أذعنوا على مضض. وذكر أحد التقارير أن 300 شخص من التونسيين انتشروا في أرجاء سوق القرانة متسلحين بهراوات "يهددون بها ويخربون لإجبار اليهود الذين تركوا محلاتهم مفتوحة على إغلاقها". وبحسب التقرير ذاته، كان الهدف "ضمّ الفئات اليهودية إلى الحشود السائرة نحو مقر الإقامة العامة للتظاهر أمامها، وخاطبوهم قائلين ’إنكم تونسيون مثلنا ويجب عليكم الانضمام إلينا‘".
قدم تقرير الشرطة اليهود·يات على أنهم·ـن جماعة غير مسيسة ومسالمة، همها إنجاح أعمالها التجارية، في حين تحدث عن المتظاهرين⋅ـات بازدراء تام: "أشخاص مبتذلون: عتّالون وعمال يوميّون وملمّعو أحذية وأطفال وطلاب الجامع الأعظم"، ويُقال إنهم صرخوا قائلين: "يحيى الدوتشي! يحيى موسوليني! كفانا ظلما، لا نريد بقاء فرنسا في تونس!".
طُوّق شارع جول فيري (شارع الحبيب بورقيبة حاليا) بالمصفحات والأسلاك الشائكة *.
وأمام الشرطة المرتابة وأعينها الساهرة التي تراقب وتحمي المدينة المسماة بـ"الأوروبية"، سار في المظاهرة المرخصة حشد من النساء والرجال (300 امرأة بحسب ما ورد في مقال نُشر يوم غد في صحيفة الزهرة الناطقة باللغة العربية). رُفعت الأعلام التونسية في جلبة امتزجت فيها الزغاريد بشعار "برلمان تونسي"؛ إذ كانت مجموعة تنادي بـ"برلمان" فترد أخرى بـ"تونسي" (صحيفة النهضة الناطقة باللغة العربية، 9 أفريل). ورفع البعض لافتات تعلوها شعارات بالعربية أو بالفرنسية من قبيل "تسقط الامتيازات" أو "لا بد من حكومة وطنية". لم تخف الشرطة اندهاشها من تواجد النساء في هذه المظاهرة وقرنت مشاركتهن بمشاركة الأطفال:
"حتى النّساءُ طالبن، بين زغاريدهنّ، ببرلمان تونسي، وكذلك الأطفال."
العنوان الثاني: "في تونس، عدد المتظاهرين قرابة 7000"
الأرشيف الوطني التونسي
خطب كل من المنجي سليم وعلي درغوث وعلي البلهوان وغيرهم من أعضاء الحزب، وقيل إن بشيرة بن مراد، رئيسة الاتحاد النسائي الإسلامي التونسي*، لزمت جانب علي البلهوان أثناء خطابه**.
بعد تفريق المظاهرة وعودة جماعات المتظاهرين⋅ـات إلى المدينة "العربي"، يُحكى أن علي البلهوان صرح في رحبة الغنم قائلا إنه إن لم يُطلق سراح المعتقلين من أعضاء الحزب الدستوري الجديد (وقد أٌوقفوا في شهر مارس بتهمة "التفوه بأقوال مثيرة للفتنة والتحريض على أعمال التخريب ورفض أداء الخدمة العسكرية")، فسيتوجب عليهم الهجوم على مقر الإقامة العامة والسجن. وسرعان ما نقل أحد مخبري الشرطة أقوال المناضل الوطني، لا سيما وقد سُلّطت عليه مراقبة مشددة بسبب تقديمه دروسا مناهضةً للاستعمار في المعهد الصادقي، مما أدى إلى استدعائه لدى المحكمة الفرنسية في الغد لاستنطاقه*.
انتهى يوم المظاهرة التي نظمها أعضاء الحزب الدستوري الجديد بإقرار العزم على التظاهر مجددا يوم 10 أفريل للمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين، ولم يُقرّر ليوم 9 أفريل سوى لقاءُ وفدٍ من الحزب مع رئيس الوزراء. لكن لم تجرِ الأمور كما كان من المتوقّع، واندلعت مظاهرة لم تكن في الحسبان.
خريطة العصيان
اضغط·ـي على النقاط من 1 إلى 8 للاطلاع على مُجريات المظاهرات خلال هذا اليوم المشهود. في الساعة العاشرة والنصف، توجه وفد بتظلّم لدى الوزير الأول بدار الباي. في مساء نفس اليوم، وفي نفس المكان، أُعلن عن حالة حصار تشمل مدينة تونس لما شهدته من اندلاع للمظاهرات والاحتجاجات.
حالة حصار
طوال عشية 9 أفريل، شهدت الجهة الغربية من المدينة العتيقة صداما بين المتظاهرين وقوات الأمن بسبب القبض على المناضل علي البلهوان. انطلقت آنذاك الانتفاضة من قصر العدالة لتمتد من باب سويقة إلى باب الجديد. لم تتورّع الشرطة عن إطلاق النار على الحشد مخلفة العديد من القتلى وعشرات الجرحى. وفي أثناء تلك الاشتباكات، جُرح عدد من أعوان السلطات الاستعمارية بما فيهم الزواف والكتائب السنغالية، فضلاً عن قذف العديد من السيارات بالحجارة وقلب عربة ترامواي*.
لا تزال هذه الذكرى تنبض إلى يومنا هذا في الإشارات الحضرية. أخذ أحد أنهج باب سويقة، وهو من الأحياء التي مرّت بها المظاهرة، اسم نهج علي البلهوان بعد الاستقلال. أما الأشغال التي دارت في غرب المدينة العتيقة، فقد خُلدت في تسمية شارع 9 أفريل 1938 الذي يمتد على مسار الأسورة القديمة مروراً بأماكن المظاهرة ليرسم خطا موازيا لأحداث 9 أفريل 1938 بشتى مراحلها. تحفظ أسماء الأماكن إذن ذكرى الملحمة الجماعية التي دار معتركها في ذلك اليوم المعهود من باب الجديد إلى باب سويقة.
ردا على أعمال التمرد، شهدت ليلة 9 أفريل سلسلة من المداهمات والاعتقالات، واتُّخذت قرارات لجلب تعزيزات من الجزائر وعدد من المدن الفرنسية. في مساء ذلك اليوم، عُلقت في كافة شوارع العاصمة تحذيرات مفادها كالآتي:
"الفصل الأول: أُعلنت حالة الحصار على كامل نطاق تونس الحاضرة؛ الفصل الثاني: تُمنع التجمعات التي تضم أكثر من ستة أفراد منعا باتا".
انتهز الجيش حالة الطوارئ لاحتلال المدينة. فباتت القوات العسكرية تجوب شوارع العاصمة طيلة الليل، ولم يكن يُسمح لأحد بدخول المدينة في ساعة مبكرة باستثناء الفلاحين الذين يموّنون السوق المركزية بالسلع.
تضاربت تقارير الشرطة في الأيام الموالية، فأقر بعضها بسقوط 19 ضحية، بينما تراوح العدد بين 16 أو 10 في بعضها الآخر. أما الجرحى والجريحات فقد قُدر عددهم·ـن بالعشرات، منهم·ـن من لم ينجوا أو ينجين من جروحهم·ـن المميتة، ومنهم·ـن من تفادوا أو تفادين الذهاب إلى المستشفى خشية الاعتقال. عدّت الحصيلة الرسمية اليوم 23 من الموتى، منهم 22 تونسيا (تتراوح أعمارهم من 12 إلى 70 عاما) و جدرمي فرنسي واحد.
سردية مسلوبة
"عملية بائسة"، "أعمال شغب"، "حماس هستيري"، "مهمة قذرة"... سارعت السلطات الحاكمة، بمساعدة بعض الصحف، برسم ملامح مدينة حاصرتها "العصابات" وأنقذتها قوات الأمن مما لا تُحمد عقباه. وصورت الرواية نوعيْن من "التونسيين·ـات"، فئة صالحة وأخرى طالحة:
"كان أغلب المتظاهرين من أوباش المدينة، أفرادٌ لا هدف لهم ولا مهنة، لا يفلحون إلا في النهب. أما الفئة الصالحة من المسلمين من السكان، بما فيها البورجوازية والتجار والموظفون والحرفيون والعُمّال والنقابات، فقد بقيت في منأى عن هذه التحركات." (تقرير الشرطة بتاريخ 12 أفريل).
"في ظل الظروف الراهنة، يجب أن تلتف فئات الشعب الصالحة حول السلطات التي تسهر على الأمن العام. [وستتمكن] الحكومة بفضل هذه الإجراءات من مواصلة مهمتها بروح المودة الراسخة فيها [...]." (بيان الإقامة العامة)
"هل ستُجدي الموعظة نفعا؟ (...) إن هذا البلد في حاجة إلى عمل مثمر، لا إلى بلبلة عقيمة [...]. ارحلوا، أيها الرعاة السفهاء، وأفسحوا المجال لأصحاب النوايا الحسنة ليعملوا يدا في يد من أجل مصلحة تونس." (لاديباش تونيزيان، 10 أفريل).
وقيل في احتقار الأرياف: "عناصر مزعجة غالبيتها ليست من سكان الحاضرة" (صحيفة تونس الفرنسية، 10 أفريل)؛ فضلا عن احتقار عنصري واضح وصريح بتعلة أن هذه المظاهرة أججت نيران "الفوضوية البربرية ودفعت سكان الأرياف إلى إنكار سلطة قادتهم الطبيعيين". (لاديباش تونيزيان، 8 أفريل).
بعد اجتثاث الشر من عروقه، أضحى الخطاب المهيمن يدور حول ضمير "نحن" الناطق باسم المستعمر. فقد شددت صحيفة لاديباش تونيزيان على أن المظاهرة "ترمي إلى ترويعنا"؛ وأن "حثالة الشعب سُلطت علينا". هذا دون الخوض في البلبلة التي انبثقت عن موت الجدرمي الفرنسي الشهيد الذي "بذل روحه في سبيل الواجب".
لم تتوانَ الصحف الاستعمارية من التشفي إزاء الحزب الدستوري الجديد وادّعاء أن أعضاءه لا يستحقون "عطاء" اليسار الحاكم و"ليبراليته"، بل وترى في ذلك "علامة [...] ضعف". ذلك أن "الحرية" بالنسبة لهؤلاء "سريعا ما تُتخذ كرُخصة، رخصة للعصيان" (لاديباش تونيزيان، 12 أفريل).
يبدو إذن أن الدستوريين يتنافون جوهريا مع الحرية ولا يستحقون إلا القمع، بل وقد لا يتلاءمون مع رقّة الفلسفة الغربية: "قد ترتبك السلطات في تقديمها هذه الصيغ الغربية التي اكتُسبت إثر تطور استغرق قرونا طويلة [...] إلى وسطِِ شرقي غير جاهز لتقبلها، بل وميّال إلى إساءة استغلالها وإبراز أضرارها." (صحيفة تونس الفرنسية، 10 أفريل).
تعرّض أهم مناضلي الحزب إلى الإهانة بلا هوادة، بحجة أنهم "عناصر مثيرة للشغب وينبغي التخلص منهم بترحيلهم إلى إحدى المستعمرات النائية".
اتهمتهم الصحف بالجبن* والتلاعب بالجماهير من خلال بث أفكار "مسمومة" في تلك الأذهان المفتقرة إلى الوعي السياسي: "يستترون وراء محابرهم ويرسلون بالجهلاء المساكين لمجابهة الموت [...] بينما يقبعون في مكامنهم ناعمين بالدفء ورغد العيش. ومن الأجدر أن نسلب هؤلاء المشاكسين حريتهم، بدلا من الاضطرار إلى القضاء على التعساء المجبورين بفعلهم على ارتكاب أفظع التجاوزات." (لاديباش تونيزيان، 12 أفريل).
رافقت الخطاب الذي تناقلته الصحف حملة اعتقالات شاسعة أُتيحت بفعل مرسوم وسّع نطاق حالة الحصار ليشمل منطقتي قرمبالية وسوسة.
الاعتقال ردا على المطالب
بات يحق للسلطة العسكرية أن تداهم منازل الأشخاص المشتبه فيهم ليلا أو نهارا لتفتيشها، ما أسفر عن اعتقالات عديدة: 272 في تونس العاصمة و659 في كل أنحاء البلاد بين يوم 9 أفريل والأيام الموالية. كما واصلت الشرطة في اقتحام الأحياء ولا سيما تلك المجاورة للمدينة العتيقة، خصوصا حي الملاسين أين ألقت القبض على العديد من الأشخاص. بهذا، خُتمت تحركات ذلك اليوم من أجل تحرير المعتقلين بحصيلة جديدة من سجناءَ يطول ذكرهم.
وأُلقي القبض على بعض الإيطاليين أيضا في غمار حملة الاعتقالات تلك، بيد أن القضاء أبدى لهم من الرفق ما لم يحظَ به التونسيون. فقد حُكم على أحد الموقوفين باسم أحمد بن عزيزي بالسجن لمدة عام وغرامة 500 فرنك بتهمة حيازة خنجر؛ وعوقب حسان بن عمار بالسجن لمدة 6 أشهر بسبب "التمرد على أعوان الأمن العام"؛ وحُكم على العربي بن حمادي بالسجن لمدة عام وغرامة مقدارها 1000 فرنك جزاءَ حمله شفرة حلاقة ومشرط جلد، وزُعم إن "هذا ’الفطايري‘ أصيل مدينة مطماطة يبدو مسالما، لكنه كان يخفي شفرة حلاقة في قلنسوة برنوسه." و"على الرغم من صدقه الظاهر، عاقبته المحكمة بالسجن لمدة عام وغرامة بـ1000 فرنك".
وفي مقابل ذلك، حظي جوفاني جيليو الذي كان يحمل مسدسا بمراعاة الظروف المخففة (كان يريد "حماية حمولته من الخرشوف التي كان بصدد أخذها إلى السوق المركزية") فعُوقب بـ8 أيام سجن وغرامة بـ100 فرنك؛ وحُكم على ألدو كالوجيرو، وقد كان بحوزته "مسدس آلي في صندوق سيارته"، بقضاء يوم واحد في السجن؛ أما جوزيف سانتيني، وكان قد لَكم أحد الأعوان (أمر لم يجرؤ عليه أحد من التونسيين المحاسبين قبلهُ)، فقد حُكم عليه بالسجن لمدة 3 أشهر*.
متهمون على أبواب قاعة المحاكمة
المركز الوطني للتوثيق
بقي صدى 9 أفريل يتردد لدى الشعب التونسي. شرع الطلاب الزيتونيون في تحركات للاحتجاج والإضراب، وواصلت مختلف الجمعيات نضالها بلا هوادة. علاوة على ذلك، ساهم ذلك اليوم الدموي في تعزيز مشاركة النساء في الحياة السياسية التي برزت أكثر فأكثر منذ منتصف العشرينات. فعند قدوم المقيم العام الجديد الجنرال لابون يوم 22 نوفمبر 1938، استقبلته ثلة من المناضلات في ميناء حلق الواد بباقة من الزهور. وفي اللحظة التي تلقى الباقة هتفت المناضلات قائلات: "يحيى الحزب الحر الدستوري!" فقُبض عليهن.
لم تتردد الصحافة من جهتها في تقزيم هذه الحركة التي جاءت لتزعزع العفو الصادر بعد أحداث 9 أفريل: "إننا لنأسف لما في هذا الموقف من قلة نضج سياسي [...]. لماذا احتلت هؤلاء النساء صدارة مظاهرة فأضفيْن صبغة تحد على فعل لا ينمّ في جوهره إلا عن الصبيانية؟ (...) ألم يستشرن من هم أكبر سنا وأكثر اتزانا؟" (صحيفة لابراس التونسية، 28 ديسمبر 1938).
أما الحزب الحر الدستوري الجديد، فقد أُوقفت أنشطته ومُنعت وحداته في جميع أرجاء البلاد بما في ذلك هيكله الأساسي المسمى بـ’العمل التونسي‘. واعتُقل يوم 10 أفريل 13 مناضلا، منهم الحبيب بورقيبة، ثم خضعوا لمحاكمة عسكرية بتهم "التمرد" و"التحريض على الكراهية العنصرية" و"حوز أسلحة ممنوعة" و"إهانة الجيش الفرنسي".
من معارضة السلطة إلى ممارستها
ذاق أعضاء الحزب الحر الدستوري الجديد من قمع المستعمر ألوانا ساهمت في تقديسه إثر الاستقلال حينما استلم مقاليد الحكم. ولعل هذا التقديس هو ما صرفَ الأنظار عمّن سقط·ــت أمام الرصاص وجُرح·ـت في المظاهرات دون أن يكون ذلك بالضرورة ولاءً للحزب.
ولكن الأصوات صدحت بعد الاستقلال تتغنى بتضحيات الحزب الحر الدستوري الجديد، تضحياتٌ ستستقي منها الدولة القومية الفتية حبكة سرديتها الوطنية. فأُدرج يوم 9 أفريل في ملحمة تاريخ الحركة الوطنية الذي طالما قام على سيرة الرئيس بورقيبة وحده. وتفانى هذا الأخير في تمجيد ذكرى ضحايا تلك المظاهرة رغم غيابه عن تحركات أفريل، إذ لم تكن تضحيتهم·ـن في سبيل الوطن وفقا له سوى تضحية من أجل حزبه.
أصبح يوم 9 أفريل يُعد لحظة من لحظات اللحمة الوطنية بعد أن كان في البداية حادثة خطيرة في نظر سلطات المستعمر. وعلى خلاف ما ذكرته النصوص الاستعمارية التي شددت على هامشية الحزب الحر الدستوري الجديد في الساحة السياسية وعلى الانشقاقات التي تصدّع وحدة الشعب، أضحى الحزب في صميم الرواية الوطنية التي جعلت منه رمزا من رموز الوحدة الشعبية.
بدأ الأمر إذن بيومٍ بالغت سلطات الاستعمار في تأويله لإبراز التصدّعات الاجتماعية، والانشقاقات بين المسلمين·ـات واليهود·ـيات، والشيوعيين·ـات والدستوريين·ـات، والحزب القديم والحزب الجديد، والبورجوازية والطبقة الشعبية، والريف والمدينة... وانتهى بيوم قدمته السلطة الوطنية كتجسيد لفكرة واحدة تجمع الشعب، ألا وهي الاستقلال والتضحية بالنفس.
دويّ هذه السردية الوطنية غلب على صوت تعددية المعارك (على غرار نسوية النساء، والحركات الزيتونية، والنضال العمالي والشعبي والنقابي والشيوعي...). وأغشت هالة الحزب الوحيد الأبصار طيلة عقود من الزمن، إلى أن تشققت الصورة التي رسمها التاريخ الرسمي لترمّمها ذاكرات أخرى.