يبدو أن فضيلة لم تكن حالة معزولة، حيث ذُهل آدم* بدوره عندما اطّلع على قيمة المبالغ المستحقّة مقابل إقامة والده الذي وافته المنيّة في أوائل شهر نوفمبر جراء إصابته بكوفيد-19. وجد الاِبن نفسه مجبرا على دفع 48 ألف دينار مقابل 13 يوما من العلاج. كانت تصله الفواتير الأولية تباعا وتتضاعف قيمتها المالية بشكل يومي. لا يكاد آدم يخفي استغرابه قائلا: "أنا أهلوس ! في ظرف 24 ساعة، تضاعفت قيمة الفاتورة".
كلّ المصاريف محمولة على عاتق المريض·ـة
تخفي هذه الفاتورة المشطّة وراءها رسوماً صيدليّة تتجاوز الـ 9000 دينار، وعلاجات طبية تقدر بـ 10.000 دينار. في هذه المصحة، تـ·يجد المريض·ـة وذووه·ـا أنفسهم·ـن مضطرّين·ـات لتحمّل جميع المصاريف دون استثناء، بدءاً بتلك المتعلّقة بالقفازات والأدوية وصولا لأتعاب الأطبّاء. تلقّت هادية* التي وُضعت لمدة عشرة أيام على جهاز التنفس الاصطناعي الذي توفّره مصحة خاصة، فاتورة بقيمة 3000 دينار مقابل توفير معدات الحماية كالقفازات والأقنعة الطبية (2 FFP).
عادة ما تقتني بلقيس* المتخصّصة في المواد شبه الطبية، المعدات بسعر الجملة ما مكّنها من معرفة دقيقة بأسعار السوق. تعتبر الصيدلية أن هامش الربح الذي تتقاضاه المصحات مبالغا فيه ومجحفا :"هذا تضخيم في الأسعار وضرب من الجنون!". في نفس السياق، أكّدت إحدى طبيبات الطوارئ في مستشفى بتونس الكبرى أنّ كمية العباءات في فاتورة هادية تبدو مبالغا فيها حيث استخلصت أن " 40 أو 50 عباءة كانت ستفي بالغرض".
يبسط كريم شياتة، رئيس الجمعية التونسية للدفاع عن الحق في الصحة (ATDS)، احتمال توظيف المصحات الخاصة لهوامش كبيرة على معاليم الإقامة: "من اليسير أن نلاحظ مغالاة في سعر الغرفة والأكل وغيرهما". مثال على ذلك، بلغ سعر قارورة ماء على فاتورة هادية 3 دنانير.
تجاوزت معاليم إقامة مريض·ـة في العناية المركزة لمدة 14 يوما الـ.30.000 ألف دينار
غياب الشفافية
بعد أيام معدودة من وفاة والده، توجّه آدم إلى المصحة لسداد المعاليم الأخيرة المستحقّة. اكتشف في النهاية أنّ الفاتورة لم تحتوِ على تفاصيل الخدمات المسداة. "كنت مجبرا على التردد على المصحة عديد المرات لأتمكّن من الظفر بتوضيحات". لم يخفِ آدم سخطه وامتعاضه مواصلاً: "لم أتمكّن من استرجاع حقوقي إلا مؤخّرا خلال زيارتي الأخيرة".
بالنسبة لفتحي وزوجته هادية، لم ترسل لهما المصحة أي فاتورة أولية. اكتشف الزوج في اليوم الأخير من إقامة زوجته في المصحة المبلغ الذي يجب دفعه. "في اليوم الأخير تلقّينا الفاتورة النهائية التي تحتوي أتعاب الأطباء وقد رفضت العيادة تقسيط تلك المستحقات رغم أنّنا طالبنا بذلك". اضطرّ الزوجان إلى تسديد كامل المبلغ (19 ألف دينار) دفعة واحدة دون امكانية للتمتع بالاعلام المسبق. "تلك هي المعضلة، إنّهم يضعوننا أمام الأمر المقضي في ظل نقص للشفافية، هكذا علّقت آمنة الحامي المستشارة في الاستراتيجية الصحية على سلوك المصحات مستحضرة تجربتها الذاتية مع هذه المؤسسات.
من جهته، يضيف آدم أنّه كان عرضة لمضايقات من قبل موظفي·ـات المصحة لإرغامه على الدفع في أسرع الآجال. "منذ اللحظة التي تحصّلت فيها مصلحة الاستخلاص على رقم هاتفي، لم يتوقّفوا عن الاتصال بي". هذه المضايقات تواصلت إلى حدود وفاة والده.
"في حين لم يُنقل جثمان والدي الميّت إلى المشرحة بعد، سألني الناظر عمّا إذا قمت بتسديد جميع المستحقّات. إنّهم آلات جُعلت لجمع المال!"
ينضاف إلى التوتّر الناجم عن المرض، القلق من عدم القدرة على تلقّي العلاج بسبب قلّة الإمكانيات المادية. يقول آدم: "كان والدي مصدوما وشديد التوتّر لأنه كان مضطرّا لدفع مال كثير لا يملكه".
كان على المرضى والمريضات وعائلاتهم·ـن إيجاد حلول لدفع هذه المبالغ ولم يكن لدى البعض منهم·ـن خيار سوى التداين. يروي فتحي: "عندما وصلنا إلى المصحة، لم نكن نملك حتى 2000 دينار في حساباتنا. اضطررنا للاقتراض، حيث أمدّني بعض الأصدقاء بشيكات صرَفتها المصحة دون تأجيل".
مستشفيات تجاوزت طاقة استيعابها
حاولت عديد العائلات المرور بالمستشفيات العمومية قبل أن تقرّر التوجّه إلى المصحات الخاصة. تروي سامية* محنة شقيقها الذي وافاه الأجل خلال شهر نوفمبر بعد إصابته بكوفيد-19: "أردنا نقله إلى مستشفى جندوبة القريب من مقرّ إقامته، لكنّنا صُدمنا من نقص الإمكانيّات والاكتظاظ غير المسبوق. لم تكن هناك سوى طبيبة واحدة تعتني بالجميع رغم أنّها لم تكن تملك المعدات الطبية اللازمة! اضطررنا نتيجة لذلك لكراء سيارة إسعاف توجّهت بنا إلى مصحة خاصة في تونس العاصمة". يبلغ عدد الأسرّة المجهّزة بالأكسيجين في مستشفى جندوبة 96 سريرا فقط، كما يخلو المستشفى من أسرّة إنعاش، حسب المعطيات التي تحصّلت انكفاضة.
في نفس الموضوع
عانى·ـت فتحي وهادية بدورهما من تجاوز المستشفيات العمومية طاقة استيعابها. "في إحدى الأمسيات تدهورت حالة زوجتي الصحية التي كانت تعاني من صعوبة في التنفس بعد أن أصيبت بكوفيد-19. ليلتها، أصابنا الهلع والذعر". وهكذا، غادر الزوجان منزلهما أملا في الظفر بسرير مجهّز بالأكسيجين في أحد المستشفيات العمومية بتونس العاصمة دون جدوى.
ومع ذلك، ووفقًا للمعطيات التي تحصّلت عليها انكفاضة، فإنّه يوجد بالبلاد 1624 سرير أوكسجين. إلى حدود 5 ديسمبر، احتاج·ـت 1125 مريض·ـة فقط إلى الإقامة بالمستشفى لمساعدتهم·ـن على التنفس. على عكس وحدات الإنعاش التي كانت تعمل تحت الضغط لأسابيع طويلة، فإنّ أسرّة الأكسجين لم تتجاوز رسميًا طاقة استيعابها بعد.
تروي هادية وهي لا تزال تحت وقع الصدمة: "طرقنا باب مستشفى الرابطة، ثم مستشفى عبد الرحمان مامي، لكنّنا مُنعنا في كل مرة من الدخول، لم يكن هنالك أي سرير متوفّر لمرضى كوفيد-19. طلبوا منّي العودة إلى المنزل واستخدام مُكثّف الأوكسجين بمفردنا".
تتذكّر هادية بألم: "كنت قاب قوسين أو أدنى من الموت، كان الخيار الوحيد أن أتوجّه إلى مصحة خاصة".
نظريًا، كان من المفترض أن تقدّم المستشفيات التي تجاوزت طاقة استيعابها وثيقة رسمية لهادية حتى تتمكّن من تلقي العلاج مجانا في إحدى المصحات الخاصة. في 18 أكتوبر الماضي، أعلن رئيس الحكومة هشام المشيشي أنّ "مرضى كوفيد-19 الذين لم يتمكّنوا من العثور على سرير في المستشفيات العمومية سيتمكّنون من التداوي في مصحات خاصة على نفقة الدولة".
بعد مرور قرابة شهرين على هذا الإعلان، لم تعترض فريق انكفاضة شهادات تفيد تمتّع شخص ما بكفالة الدولة. في هذا السياق، نفى شفيق صميدة، مدير عام مصحة سانت أوغسطين، تكفّل الدولة بأيّ مريض·ـة تمّ نقله·ـا من مستشفى عمومي إلى المصحة التي يديرها. أما بالنسبة لوزارة الصحة، بقيت الاتصالات الكثيرة التي أجرتها انكفاضة للاستعلام حول هذا الموضوع دون رد أو إجابة.
في تونس العاصمة، كما هو الحال في بقية البلاد، توشك المستشفيات على تجاوز طاقة استيعابها وأصبحت الأماكن المخصصة للإنعاش نادرة. "تجاوزت مصالحنا طاقة استيعابها، لدينا الكثير من المرضى المدرجين في قائمة الانتظار لأنّه لا يمكن قبولهم في المستشفى على الفور. في خدمة الإنعاش، لا نملك أي سرير شاغر، فعندما يغادر المريض أو يتوفّاه الأجل، يحلّ مباشرة آخر مكانه. إنها إدارة زمن الكوارث". هكذا يُقر سامي*، الطبيب المقيم المختص في التخدير والإنعاش في مستشفى بتونس الكبرى يضمّ حوالي خمسة عشر سريرا مخصّصا للإنعاش.
في نفس الموضوع
مع حلول الموجة الثانية، وفي الوقت الذي تُسجّل فيه عشرات الوفيات يوميا، تبدو الحصيلة مُوجعة. يواصل سامي: "لم يكن أحد مستعدا لمجابهة هذه الموجة الثانية. نحن نفتقد اليوم لأبسط المستلزمات ونسجّل خاصة نقصا حادا في الموارد البشرية". يعود اضطرار عدد من المرضى والمريضات إلى التوجّه إلى المصحات الخاصة إلى عجزهم·ـن عن الظفر بسرير شاغر في مستشفى عمومي. "منذ شهر مارس، لم تُتّخذ أية إجراءات لتخفيف الضغط على المستشفيات، عدا اقتناء عدد قليل من أجهزة التنفس الصناعي"، على حدّ تعبير كريم شياتة، رئيس الجمعية التونسية للدفاع عن الحق في الصحة (ATDS).
نظام صحّي يكيل بمكيالين
يُقدر كريم شياتة أنّ تونس "تعاني من إشكال جدّي، حيث بات من المستحيل الحديث عن منظومة صحية موحدة. القطاع العام والقطاع الخاص ليسا متكاملين، بل أصبحا بمثابة عالمين متوازيين". يأتي تقرير الجمعية التونسية للدفاع عن الحق في الصحة ليؤكّد ما ذهب إليه رئيسها في ضرورة تسليط الضوء على الاختلال بين القطاعين العام والخاص. يضيف كريم شياتة: "إنّ مستخدمي قطاع الصحة العمومية وهم يمثلّون حوالي ثلاثة أرباع المجتمع، يواجهون صعوبة كبيرة في التمتّع بخدمات ذات جودة كافية (...) كما يضطرّ هؤلاء في بعض الأحيان إلى الالتجاء إلى خدمات القطاع الخاصّ"، ملمّحاً إلى أن التمتّع بالرعاية الصحية في الواقع هو أمر خاضع للإمكانات المادية.
تُمضي المصحات الخاصة اتفاقيات جماعية مع السلطات الصحية التونسية بهدف تسقيف الأسعار. هذه الأخيرة يجب أن تتماشى مع نظيراتها في المستشفيات العمومية، وهو أمر يسري على أيّ نوع من أنواع التدخّلات الطبية. لكن، بالنسبة لكريم شياتة "نادرا ما تُحترم هذه التعريفة المتّفق عليها"، كما أنّ الآليات الموضوعة لضمان حسن تطبيق هذه الاتّفاقات تبقى غير كافية.
أمّا التدخلات غير الطبية فهي خاضعة لمنطق السوق، أي ما يفرضه " قانون العرض والطلب. إذ لا شيء يمنع العيادات الخاصة من تحقيق هوامش ربحية كبيرة من عملية بيع الأقنعة مثلا، فهو منتوج غير مسعّر، الأمر الذي يفسّر أسعاره المجحفة منذ بداية الجائحة". يذهب بوبكر زخامة، رئيس الغرفة النقابية للمصحات الخاصة إلى اعتبار "المريض طالبا لخدمة الرعاية الصحية، التي تتطلّب بطبيعة الحال مقابلا ماديا!".
يضيف كريم شياتة من جهته قائلا: "ألاحظ انفجارًا في القطاع الخاص منذ عام 2008. تمّ تطوير هذه السوق لفائدة المصحّات"، في ظلّ افتقاد هذا القطاع نسبيًا للأطر المنظِّمة. حسب تقرير الجمعية التونسية للدفاع عن الحق في الصحة، فإنّ الهياكل الخاصة "لا تلتزم سوى بقانون السوق دون قواعد تنظيميّة أخرى ما عدا الامتثال لكراس شروط"، ممّا يؤدّي إلى "تناقضات وتفاوتات تضرّ بحسن سير المنظومة الصحية".
يقرّ محمد شفيق صميدة، مدير مصحة سانت أوغسطين: "ليس من العدل أن تتكفّل الدولة بالمرضى في القطاع العام، دون التكفّل بمن ينتهي بهم الأمر في المصحات".ولكن، مع ما يُلاحظ من قصور المستشفى العمومي، يشكّك كريم شياتة في قدرة الدولة على الاستثمار في المصحات الخاصة ويستنتج أنّه "من الضروري البدء أوّلا بالقطاع العام الذي يعاني مشاكل جمة. في رأيي، الحل الوحيد الناجع هو تسخير المصحات الخاصة إذا تجاوزت المستشفيات العمومية طاقة استيعابها، كما هو الحال في زمن الحرب".