نسرين القرناح، محامية تونسية كانت قد رفعت دعوى قضائية ضد رئيس مركز الأمن بالمروج، متّهمة إيّاه بالاعتداء بالعنف عليها داخل المركز. وجدت نفسها على إثر ذلك، أمام حواجز وضغوطات عطّلت السير القانونيّ والعادل لمسار التقاضي، آخرها حادثة محكمة بن عروس. أعادت تجربة المحامية الجدل القائم حول حالة إفلات بعض الأمنيين·ـات من العقاب، ودور النقابات الأمنية في تعزيز ذلك. جاء هذا خاصة مع تزامن برمجة عرض مشروع "قانون زجر الاعتداء على القوات المسلحة" على الجلسة العامة في البرلمان الأسبوع الأول من شهر أكتوبر 2020.
تعود أحداث القضية الى شهر أوت 2020، لمّا اتهمت المحامية رئيس مركز الأمن بالمروج ومعاونه باحتجازها وتعنيفها وافتكاك بطاقتها المهنية وهاتفها الجوال والاعتداء عليها بالعنف، إثر سجال قانوني حصل بينهما. بينما وجّه المحامي عدنان العبيدي في تصريح له، أصابع الاتهام نحو محاولات للعبث بالأدلّة، كتعطيل كاميرا المراقبة بالمركز، وإتلاف الملف الصحي بمستشفى بن عروس. هذا وقد تعهّدت الفرقة المركزيّة للأبحاث بالعوينة بالقضية، وفق تصريح الناطق الرسمي باسم محكمة بن عروس القاضي عمر حنين.
إلّا أن الإحالة على النيابة العموميّة بعد ختم الأبحاث لم تتّم الاّ بعد مطالبة الهيئة الوطنية للمحامين بذلك، واعتصام بعض المحامين·ـات بالمحكمة ليومين أوّل شهر أكتوبر. فُتِح إذَن تحقيق ضد رئيس المركز من أجل حجز شخص دون إذن قانوني والإعتداء بالعنف دون موجب وفقا للفصل 101 من المجلة الجزائية*.
تمّت في الأخير مباشرة التّحقيق يوم 9 أكتوبر وسط تطويق أعوان الأمن لمحكمة بن عروس مدجّجين بالسلاح. هذا المشهد تسبّب في حالة من الذعر لدى قاضي التحقيق، على حدّ تعبير إبراهيم بودربالة، عميد المحامين التونسيين. كما أطلق العميد نداء استغاثة إلى الرئاسات الثلاث مندّدا " بخطورة الوضع الذي قد يخرج عن السيطرة في ظلّ تغوّل النقابات الأمنية وتهديدها استقلالية المرفق القضائي".
" هناك من لم يستوعب أننا بصدد التنقل من دولة فاشية بوليسية إلى بناء مؤسسات ديمقراطية. هناك من يريد العودة إلى هذه المنظومة" البشير العبيدي، كاتب عام الرّابطة التونسية للدفاع على حقوق الإنسان.
يندرج هذا التصريح في إطار تعليق البشير العبيدي على خطورة هذه الحادثة التي " تكرّرت عدّة مرّات والتي حاصَر فيها الأمنيون حاملين أسلحتهم مباني المحاكم في سوسة والقصرين والمهدية وصفاقس"، مضيفا أن " هذه الحادثة هي الثالثة من نوعها في محكمة بن عروس". كما تطوّر الوضع في بعض الحالات إلى " تجاوز حدود الضغط التضامني إلى التدّخل فعليّا". كان ذلك منذ سنتين، حين اقتحم أمنيّون مكتب قاضي التحقيق في محكمة بن عروس للإفراج عن زميلهم.
وقفة احتجاجية وطنية للمحامين·ـات أمام المحكمة الابتدائية بتونس 1 يوم الجمعة 16 أكتوبر 2020، في إطار الإضراب الوطني العام المقرر من "الهيئة الوطنية للمحامين" إحتجاجا على حادثة محكمة بن عروس. صور : محمد كريت.
في اتصال مع إنكفاضة، رفض الناطق الرّسمي باسم وزارة الدّخلية خالد الحيّوني التعليق على هذه الحادثة. كما لم يندّد بهذه التجاوزات معللاََ ذلك بأن التعهّد القضائي بهذه الحادثة يمنعُه من التعليق. وكان الحيّوني قد رفض في نفس التصريح الإدلاء بتفاصيل حول حقيقة فتح تحقيقات إدارية صلب الوزارة، أو القيام بأي إجراءات تأديبيّة أخرى فيما يتعلّق بالأمنيين الحاضرين أمام المحكمة.
نقابات فوق المحاسبة القانونيّة
تلقّت الصحفية والناشطة الحقوقية مريم بريبري إتّصالا هاتفيّا يدعوها إلى المثول أمام مركز الأمن للتحقيق في تدوينة نشرتها على صفحتها الشخصيّة على فايسبوك. كانت مريم قد أعادت نشر فيديو يوثّق إعتداء أمنيين على مواطن في ولاية نابل، مرفوقا بتعليق يستنكر هذا الإعتداء. تفيد الناشطة بأن رفضها الامتثال لهذا الاستدعاء، باعتباره غير قانوني، عرّضها للسبّ والهرسلة من قبل مُهاتفها. بعد يومين، أحال وكيل الجمهورية مريم على التحقيق، بتهمة "تعمد الإساءة إلى الغير أو إزعاج راحتهم عبر الشبكات العمومية للاتصالات".
تروي مريم : " نشرو صورا لي مرفقة بدعوات للإعتداء بالعنف، ممّا يهدّد جديّا سلامتي الجسديّة. أملك الأدلّة الكافية للتقدّم بدعوى قضائية ضدّ النقابة الجهوية لقوات الأمن الدّاخلي بصفاقس، لكنّني تعبت من مسارات التقاضي التي لا تؤدّي إلا لإفلاتهم من العقاب".
ليست مريم بريبري الناشطة الوحيدة التي تعرّضت للهرسلة بعد تنديدها بالتجاوزات الأمنية. فعلى إثر إعادة النقاش في مشروع "قانون زجر الاعتداء على القوات المسلّحة"، دعت حملة "حاسبهم" إلى جملة من التحرّكات الميدانية أمام مجلس نواب الشعب للمطالبة بعدم تمرير هذا القانون تحت شعار " لا لعودة دولة البوليس".
تؤكّد ممثلة الحملة نورس الدوزي الزغبي " تلقّي عدد من الناشطات والنّاشطين سلسلة من المكالمات الهاتفية لاستدعائهم·ـن لمراكز الأمن للتحقيق في منشورات 'مناهضة للقانون' على موقع فايسبوك". وتضيف أنّ " الحملة قامت بجرد عشرات المكالمات الهاتفيّة التي تهدف الى استدعاءات غير قانونيّة للمثول أمام التحقيق". هذا عدا " نشر صور لمشاركين·ـات في الاحتجاجات عبر صفحات تابعة لنقابات أمنية مرفقة برسائل تحريض على العنف."
تكوّنت بعد هذه الأحداث خليّة من حملة "حاسبهم" ومنظّمات حقوقية، لجرد ضحايا هذه الاعتداءات قصد تقديم شكاوى. تقول نورس أنّ " الخلية رصدت الى حدّ الآن 17 ضحية اعتداء مرتبط باحتجاجات التصدي لمشروع قانون 2015-25"، غير أن تردد بعض الضحايا، على حدّ تعبيرها " قد يعطّل مسار المحاسبة". يعود ذلك إلى خشيتهم·ـن الاستهداف الأمني والتتبعات عند التشكّي لدى القضاء أو تفقدية الأمن أو الهيئة التونسية لمناهضة التعذيب.
هذه التجاوزات الأخيرة هي تمظهر لـ" منظومة قانونيّة تخنق حرية التعبير" كما يشير إليه بيان منظمّة "هيومن رايتس ووتش". وثّق بيان آخر إيقاف وتتبع المدوّن هشام الماجري بسبب تدوينة انتقد فيها الاستخدام " المفرط" للقوة من قبل قوات الأمن.
ففي يوم 6 سبتمبر 2017، إستجوبت وحدة الاستعلامات والأبحاث التابعة للحرس الوطني بتونس، الشّاب الذي تضمّنت تدوينته أيضا " اتّهام مدير سجن ومسؤولين آخرين بالفساد". أحال وكيل الجمهورية بعد ذلك الماجري إلى الدائرة الجنائية بالمحكمة الابتدائية بتونس العاصمة بتهم خرق الفصل 86 من مجلة الاتصالات والفصل 128 من المجلة الجزائية، لكن المحكمة برّأته من جميع التهم في أكتوبر 2018.
في سياق أوسع، يتواصل اتهام بعض الأمنيين·ـات بتجاوزات قد تصل الى التشهير بالأفراد ونشر صورهم·ـن داخل مراكز الأمن. وقد تمثّل حادثة اختفاء ومقتل الفتاة رحمة لحمر تجلّيا واضحا لذلك.
تعود الأحداث الى يوم الاثنين 21 سبتمبر 2020، عندما رفض أعوان الأمن، حسب تصريح شهاب لحمر والد الضحيّة، التعاطي الجدّي مع اختفاء ابنته. و يضيف الأب " لم تٌحرّك قوات الأمن ساكنا إلاّ عندما اتصلت صديقتها معلنة العثور على جثّتها قرب مجرى مياه، على حافة الطريق بعين زغوان الشمالية" بعد ظهر يوم الجمعة 25 سبتمبر 2020.
في المقابل، وبدون انتظار التقرير الرسمي للطبّ الشرعي، نشرت الصفحة الرسمية للنقابة الأساسية بإقليم الأمن الوطني بقرطاج، صورا تكشف وجه المتهم وسط مركز الإيقاف. ورافق الصّور بيانٌ يفيد اعترافه باغتصاب رحمة، إضافة إلى سلبها ثم قتلها.
لم تنف وزارة الداخلية، في بلاغها الرسمي الصّادر بعد سويعات، تفاصيل الاغتصاب والتنكيل بالجثّة. في نفس السياق، رفض الناطق الرسمي باسم وزارة الدّاخلية خالد الحيّوني، التّعليق لإنكفاضة عن هذه الحادثة. ونوّه الحيّوني بـ" صعوبة تكييف هذه الوقائع كتجاوز لحق حماية المعطيات الشخصيّة، أو ضربا لقرينة البراءة وسريّة التحقيق وأنّ ذلك يٌعتبر فقط من صلاحيّات القضاء". وعن الإجراءات الإداريّة التي اتخذتها الوزارة للتحقيق في هذه التجاوزات، امتنع الناطق الرسمي عن التعليق.
التشريعات وأجهزة القضاء تحصّن البوليس
كما في تجربة مريم البريبري وهشام الماجري وغيرهم·ـن، يُستَعمل الفصل 86 من مجلّة الاتصالات، والفصلين 128 و 125 من المجلّة الجزائيّة كأغطية قانونّية تضمن الإفلات من العقاب. يكون ذلك عبر التتبع القضائي المباشر لمَن ينتقد عمل أعوان الأمن أو يطالب بمحاسبة تجاوزاتهم·ـن.
يصف اريك غولدستين، نائب مديرة قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظّمة "هيومن رايتس ووتش"، هذه الممارسات بـ" التضييق غير المبرّر على حرّية التعبير". مضيفا أنّ " الاستمرار في استخدام قوانين قمعية، موروثة عن حقبة الاستبداد، أمر لا يُمكن تبريره بعد الثورة".
حسب بيان منظمة "هيومن رايتس ووتش": " الكثير ممن وُجهت إليهم اتهامات بموجب الفصل 128 من 'المجلة الجزائية' واجهوا أيضا اتهامات بموجب الفصل 86 من 'مجلة الاتصالات' ذي الصياغة الفضفاضة. هذا القانون، الذي يعود إلى حقبة الرئيس زين العابدين بن علي، يفرض السجن سنة أو سنتين على كل من 'يتعمّد الإساءة إلى الغير أو إزعاج راحتهم عبر الشبكات العمومية للاتصالات'.
في نفس السياق، تتندّر نورس الدوزي الزغبي باتّهامها 58 مرّة، بموجب الفصل 125 من المجلة الجزائيّة، بهضم جانب موظّف عمومي. " كلّما تقدّمت بشكاية بمسؤول أو عون أمن، أجد نفسي آليّا متهمة بهضم جانب موظّف عمومي. يمكّنهم ذلك من الضغط والمفاوضات بالمقايضة بإسقاط الدعوى ".
من جهة أخرى، وإضافة إلى تكييف الترسانة القانونية لضمان الإفلات من العقاب، يتواصل التلاعب بمسارات القضايا التي ترفع ضدّ أمنيين·ـات. تسجّل الذاكرة المشتركة في هذا الباب، عددا من جرائم القتل التي ارتُكبت جرّاء الاستعمال المفرط للقوة من قبل أعوان الأمن.
في نفس الموضوع
أيمن العثماني، شابّ قتل برصاصة أعوان الديوانة بحي سيدي حسين بالعاصمة، يوم 24 أكتوبر 2018، أثناء مداهمتهم لمستودع مخصص لتخزين الملابس المهرّبة. أصدرت الإدارة العامة للديوانة في نفس اليوم بلاغاً يدّعي أن الدورية تعرضت إلى اعتداء من قبل مجموعة من الأشخاص. ويضيف البيان أنهم حاولوا افتكاك البضائع المحجوزة والتحموا مع الأعوان المسلّحين. ونتج عن هذا الاشتباك، إطلاق أعيرة تحذيرية بهدف تفريقهم.
من جهة أخرى، أكدّ شهود عيان لمنظمّة العفو الدوليّة، أنّ أيمن البالغ من العمر 19 سنة، لم يشارك في رشق الحجارة، وحاول الاختباء خلف برميل ماء، ثم الهرب بعد ذلك. وأن الأعوان أحاطوا بأيمن العثماني وهو غائب عن الوعي، عقب إطلاق النار عليه، وانهالوا عليه ضربا لما لا يقل عن عشر دقائق. توفي الشابّ متأثراً بجراحه.
وجّه قاضي التحقيق، بعد خمسة أشهر من الجريمة، تهمة القتل على وجه الخطأ إلى اثنين من أعوان الديوانة، وتهمة عدم الإنجاد القانوني إلى ثلاثة آخرين. وأحال القضية إلى المجلس الجناحي بالمحكمة الابتدائية تونس 2، رافضا بذلك استئناف المحامية لتعديل التهم. تسعى المحامية إلى اليوم، بعد سنتين من الجريمة، الى استصدار قرار تعقيب لتوجيه تهمة القتل العمد إلى المتّهمين الذين يواصلون إلى اليوم ممارسة مهام عملهم بالديوانة.
تجد السيدة مريم مجدوب، والدة الضحية " ظلما شديدا في تكييف الجريمة على أنها جُنحة" معتبرة إياها " غير كافية لتحقيق العدالة ذلك أنّ القتل كان مباشرا ومتعمّدا".
من يحمينا من البوليس؟ صورة من الوقفة الاحتجاجية ضد مشروع قانون زجر الاعتداء على القوات المسلحة يوم الثلاثاء 6 أكتوبر 2020. صور: محمد كريت.
في نفس السياق، اعتبرت منظمة العفو الدوليّة في تقرير لها أن " تقاعس السلطات التونسية عن مساءلة أعوان قوات الأمن عما يرتكبون من انتهاكات خطيرة، وضّح الثغرات الأساسية التي يعاني منها نظام العدالة الجنائيّة التونسي". يضيف التقرير أيضا أنّ " التعذيب وغيره من ضروب المعاملة السّيئة لا تزال متفشية على نطاق واسع عند القبض عن الأشخاص وفي مراكز الإيقاف".
عمر العبيدي، أنور السكرافي، خمسي اليرفرني، وليد دنقير وغيرهم·ـن من الضحايا، لقوا ولقين حتفهم·ـن على يد البوليس. جرائم حٌفظت بعضها، ولازالت أخرى في رفوف المحاكم تنتظر تحقيق العدالة وسط مطالبة بالمحاسبة.
يبيّن نفس التقرير أنّ جرائم استخدام العنف المفرط في التدخل المؤدي إلى القتل، يكون متبوعا بمخالفات تحيط بالتحقيقات. ذكر منها فقدان تقارير طبية وحرمان قوات الأمن عن قصد ضحاياها من الرعاية الطبية. رافقها تأخر في مباشرة التحقيقات في الانتهاكات المزعومة من جانب أعوان الأمن أو تعطيلها كليّا.
" الأغلبية الساحقة من التحقيقات بشأن أعوان الأمن قلّما اجتازت مرحلة قاضي التحقيق، ولم تفض الى اتخاذ الإجراءات اللازمة لمقاضاة الجناة.. لم تُبد الحكومة التونسية، الإرادة السياسية اللازمة لاجراء إصلاحات حقيقية تُحسن من سلوك أعوان الأمن وما يلجؤون إليه من أساليب، أو لضمان الإشراف القضائي عليهم ومساءلتهم. ولم يؤدّ هذا إلا الى تحصين الجناة من المقاضاة وترسيخ حالة الإفلات من العقاب". تقرير منظمة العفو الدولية.
أحد هذه الأمثلة الأكثر لفتا للنظر حسب نفس التقرير، هيحادثة محكمة بن عروس، يوم 26 فيفري 2018، أين اقتحم أعوان الأمن المحاصرين لمبنى المحكمة مكتب قاضي التحقيق لإخلاء سراح زميلهم المتهم في قضية تعذيب. ومواصلة للضغط، أصدرت نقابة موظفي الإدارة العامة لوحدات التدخل، بيانا تدعو فيه جميع أعوان حفظ الأمن إلى " عدم المثول أمام الجهات القضائية بخصوص القضايا المرتبطة بممارستهم لمهامهم الأمنية".
في ظلّ هذا المناخ العام، تحاول النقابات الأمنية جاهدة الدفع نحو تمرير مشروع قانون زجر الاعتداء على القوات المسلّحة الذي يتضمّن بعض فصوله تقنين هذه الحالة من الإفلات من العقاب.
تشريع الإفلات من العقاب : قانون زجر الاعتداء على القوات المسلحة
بدأ الحديث عن ضرورة سنّ قانون لحماية الأمنيين·ـات منذ 2013 حين منعت قوات الأمن تنظيم أنصار الشريعة من إقامة مؤتمرهم·ـن السنوي. لكن مشروع القانون الذي عُرض على المجلس التأسيسي آنذاك، سٌحب دون المرور إلى الجلسة العامة.
بعد سنتين، وعقب الهجوم الإرهابي في باردو الذي خلّف 23 ضحيّة منهم·ـن عون أمن واحد من وحدة مكافحة الإرهاب، يوم 18 مارس 2015، اقترحت الحكومة مشروع قانون يتعلّق بـ"زجر الاعتداء على القوات المسلحة”. طيلة خمس سنوات، كرّرت الجهات الرّسمية التونسية دعوتها، بعد كلّ حادثة إجرام، إلى التسريع بتمرير هذا القانون. آخرها، مطالبة رئيس الجمهورية قيس سعيّد، على إثر عمليّة أكّودة يوم 6 سبتمبر 2020، بتمرير قانون لحماية الأمنيين·ـات وعائلاتهم·ـن.
يبيّن هذا الخط الزّمني توافق الأحداث الأمنيّة مع مسار اقتراح ومناقشة القانون عدد 25-2015 المتعلّق بزجر الاعتداء على القوات المسلحة. يدلّ هذا التزامن اللّصيق، على التوظيف الصريح لهذه الأحداث من أجل تبرير سنّ تشريعات جديدة من شأنها حماية أعوان الأمن وتمكينهم·ـن من توفير الظروف الملائمة لمزاولة عملهم·ـن.
بالعودة لمقارنة وقائع هذه الأحداث مع مطالب الحماية التي تضمنها مشروع القانون في نسختيه الأولى والمعدّلة، لا نجد حماية إضافيّة للأمنيين·ـات من الإرهاب والجريمة المنظّمة. تقول في هذا الصّدد، مريم صوالحية، منسّقة حملة "حاسبهم" : " الجهاز الأمني قوة حاملة للسلاح، وظيفتها بالدستور حماية أمن المواطنين والمؤسسات. إذا استثنينا جرائم الإرهاب التي لا ينصّ عليها هذا القانون، والتي تتمتّع فيها القوات الحاملة للسلاح بالحماية بمقتضى قانون الإرهاب، ليس هناك أي داع لحماية السلطة التي كلّفتها الدّولة بحماية المواطنين".
" الإشارة إلى إجبارية التسريع في تمريره هي توظيف سياسيّ واضح وخطير من أجل مزيد من سلب الحقوق وقمع الحريات"، على حدّ قول منسّقة حملة حاسبهم.
أكّد العديد من أخصّائي·ـات القانون، توفر الترسانة القانونية اللاّزمة لحماية الأمنيين·ـات. حسب بعض الفصول من المجلة الجزائية، وكذلك فيما تضمّنته قوانين استجلتها إنكفاضة في مقال سابق لها، لا يوجد فراغ تشريعي يبرّر الحاجة لحماية إضافيّة.
في نفس الموضوع
في نفس الموضوع، اعتبر النائب ياسين العياري هذا المشروع في نسخته الثانية " ترفا تشريعيا" مضيفا : " لا يوجد فراغ تشريعي لحماية الأمنيين: الاعتداء على البوليس اليوم مجرّم بالقانون. تُجرّم الاعتداءات الإرهابية بمفعول قانون الإرهاب. وتُجرّم الاعتداءات خارج العمليات الارهابية عبر فصل هضم جانب موظّف عمومي. أنا ضدّ حماية سلك معيّن، القانون الموجود كافِِ و شافِِ ويمنح الأمنيّين حماية وحقوقا أكثر من اللازم".
في نسخته الثانية أيضا، لم يأت هذا المشروع " بأي جديد في علاقة بالحماية الجزائية لأفراد القوات الحاملة للسلاح" كما جاء في بيان المنظمة التونسية لمناهضة التعذيب.
الحماية الحقيقية الوحيدة التي جاء بها هذا القانون إضافة إلى التشريعات الموجودة، هي التوسيع في شروط عدم المؤاخذة الجزائية للمرور بالإفلات من العقاب من ظاهرة إلى قاعدة قانونية.
الفصل 7
لا يكون العون مسؤولا جزائيا عند قيامه بمهمات أو تدخلات أثناء أدائه لوظائفه أو في علاقة بصفته وكذلك في اطار تطبيق الأطر الترتيبية لصيغ التدخل المنصوص عليها بالفصل 3 من هذا القانون، الذي يجد نفسه في وضعية مباغته بسبب مواجهته لخطر محدق وجسيم ناتج عن اعتداء حاصل أمامه أو على وشك الحصول على الأشخاص أو المنشآت الأمنية حتمت عليه التدخل باستعمال القوة المناسبة بواسطة السلاح او بغيره من الوسائل بقصد منع ارتكاب جناية او إعادة ارتكابها ضد الأشخاص أو المنشآت الأمنية ونتج عن ذلك أضرار مادية أو بدنية أو وفاة.
ويبقى تنظيم الاجتماعات العامة والمواكب والاستعراضات والتجمهر خاضعا للقانون عدد 4 لسنة 1969 المؤرخ في 24 جانفي 1969.
في فصله السابع من النسخة المعدّلة، ينصّ هذا القانون على انتفاء المسؤولية الجزائية لعون الأمن عند قيامه·ـا بمهمات، أو تدخلات، أثناء أدائه·ـا لوظائفه·ـا أو في علاقة بصفته·ـا.
هذه " الحصانة المطلقة تخوّل لقوات الأمن استعمال القوة القاتلة ردّا على كل أنواع التهديدات التي يقدّرها عون الأمن، دون احترام مبدأ التناسب لتحديد إن كان استعمال القوة مناسبا للخطر المحدق أم لا" على حدّ تعبير منظّمة العفو الدّوليّة في بيان لها (رابط بالانجليزية).
تجاوز هذا الفصل الأحكام الكلاسيكية والأحكام الاستثنائيّة لعدم المؤاخذة الجزائيّة، ليضيف شروطا جديدة تخصّ الأمنيين·ـات ليس فقط أثناء أدائهم·ـن لعملهم·ـن، بل في علاقة بصفتهم·ـن.
يمتّع إذن هذا الفصل بالحصانة المطلقة، " أي فرد من الأعوان المباشرين والمتقاعدين والمجندين والتلامذة والمتربصين التابعين لقوات الأمن الداخلي والديوانة بجميع أسلاكها". وذلك بالتدخّل باستعمال القوة المناسبة وإن " نتج عن ذلك أضرار مادية أو بدنية أو وفاة". يأتي هذا، حسب تعبير مريم صوالحية، " باعتماد عبارات فضفاضة وقابلة للتأويل مثل 'الوضعية المباغتة' و'الخطر الجسيم' و'القوة المناسبة'، دون التعرّض في المقابل إلى عنصر 'التأكد' من الخطر واستحالة دفعه بطريقة أخرى".
قانون يحمي سلطة مسلّحة من شعب غير مسلّح - صورة من الوقفة الاحتجاجية ضد مشروع قانون زجر الاعتداء على القوات المسلحة، يوم الثلاثاء 6 أكتوبر 2020 ، أمام مقر البرلمان. صور : محمد كريت.
في وثيقة نقدية لمشروع القانون، اعتبرت المنظمة التونسية لمناهضة التعذيب أنّ هذا الفصل " يتنافى مع مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات. ويمثل عملية بتر للمسؤولية الجزائية، بل للعدالة الجزائية ككل. طبقا للمبادئ الأساسية المعتمدة بمؤتمر الأمم المتحدة الثامن لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين بهافانا سنة 1990، فإنه لا يمكن استخدام الوسائل التي قد تؤدي إلى الموت إلا عندما يكون ذلك أمرًا لا مفر منه. لا تمثل حماية المنشآت شرطا أو سببا لاستخدام القوة المؤدية للموت".
النقابات أمام المعركة القانونية : حلّها أم تقنين ممارساتها
لاقى مشروع "قانون زجر الاعتداء على القوات المسلحة " رفضا شديدا من مختلف مكوّنات المجتمع، من جمعيات ومنظّمات تونسية ودولية، ومجموعة من والحقوقيين·ـات. في نفس السياق، انطلقت حملة "حاسبهم" من أجل المطالبة بالسحب الفوري لهذا المشروع ومحاسبة الأمنيين·ـات.
" حملة حاسبهم جاءت ضد تكريس مبدأ الإفلات من العقاب عند السّلط. هذا القانون سيوسّع الهوة بين المواطنين وأعوان الأمن في الأحياء الشعبية مثلا." حسب وصف مريم صوالحية.
اعتبرت النائبة ورئيسة لجنة التشريع العام، سامية عبّو، في تصريح لإنكفاضة، أن النسخة الثانية قد " أفرغت من محتواها الزجري"، ولكنّها في نفس الآن، نوّهت إلى أنّ " القانون يحمل في طياته وجاهة الطعن في دستوريته باعتباره يمسّ من مبدأ المساواة بين المواطنين والمواطنات أمام القانون حسب الفصل 21 من الدستور".
شنّت النقابات الأمنية حملات تجييش ومناصرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، متخذة أسلوب التخوين أو التهديد لكلّ من تـ·يرفض هذا القانون.
واصلت حملة "حاسبهم" في المقابل " التنسيق مع المنظّمات المناهضة للقانون من أجل مواصلة الضغط. والاتصال بالكتل البرلمانية من أجل التصريح بمواقف واضحة من القانون. مع الإصرار على مواصلة الاحتجاج الميدانيّ رغم الإيقافات والاعتداءات والقمع." على حدّ تعبير أسرار بن جويرة، ناشطة حقوقية ونسوية.
في خضم كلّ هذا الجدل الذي شغل الرأي العام طيلة شهر أكتوبر 2020، أجّل مكتب مجلس نواب الشعب عرض مشروع القانون على الجلسة العامة، قبل أن تطلب الحكومة سحبه نهائيّا يوم 20 أكتوبر. واجه مكتب المجلس هذا الطلب بالرفض، مبقيا على مشروع القانون في نسخته المعدّلة محلّ نقاش مستمر داخل قبة المجلس وخارجها، دون تعيين موعد للجلسة العامة.
في المقابل، وخاصة بعد حادثة "غزوة المحكمة" في بن عروس، احتجّت جمعية المحامين الشبّان في بيان لها، على " حماية الأمنيين المتهمين وتكريس سياسة الإفلات من العقاب والاستقواء على السلطة القضائية و تدجينها". كما أعلنت عن اعتزامها " رفع قضية في حل النقابات الأمنية".
جيل ضدّ دولة البوليس- صورة من الوقفة الاحتجاجية ضد مشروع قانون زجر الاعتداء على القوات المسلحة يوم 8 أكتوبر 2020 أمام مقر البرلمان. صور: محمد كريت.
في إطار مساندتها للمحامين·ـات، ومواصلةََ لمطالبتها بالقطع مع سياسة الإفلات من العقاب، نشرت حملة "حاسبهم" عريضة ورقية وإلكترونية قصد جمع الإمضاءات لمطالبة مجلس نواب الشعب بـ" تحجير العمل النقابي على القوات الحاملة للسلاح". وتستند هذه العريضة على تكرر التجاوزات الخطيرة للنقابات الأمنية. " الأمر الذي أصبح يمثل تهديدا حقيقيا لأبسط حقوق الإنسان والحريات المواطنية ومسا من السلم الأهلي ومرتكزات الدولة".