كوفيد-19 والعودة المستحيلة للمُتوفّين·ـات في فرنسا

لم تعد هناك إمكانيّة ترحيل جثامين المتوفّين/ات جرّاءكوفيد-19. مع غلق الحدود، وجدت عائلات 134 تونسيّا/ـة متوفّين/ات في فرنسا نفسها عاجزة عن إعادة جثامين موتاهم/ـن، ومُجبرين على دفنهم/ـن هناك، ما جعل الكثيرين/ات يعانون/يعانين من عدم قدرتهم/ـن على تنفيذ آخر وصايا أحبّائهم/ـن.
بقلم | 03 جوان 2020 | reading-duration 0 دقائق

متوفر باللغة الفرنسيةالإنجليزية
فقدت عائلة الزّكري أحد أعضائها يوم 30 مارس الماضي من جرّاء تبعات كوفيد-19. كان السّيد زكري البالغ من العمر 77 سنة صاحب مطعم و خبّازا متقاعدا. استقرّ السّيّد الزّكري في الدّائرة 17 في باريس منذ قدومه إلى فرنسا سنة 1962. يقول ابنه أنّه "كان يودّ أن يُدفن حذو والديه وشقيقه في غمراسن في الجنوب التّونسي، هذا أمر طبيعي." غير أنّ هذه الرّحلة الأخيرة لم تتمّ.  
ويضيف متأسّفا: "لقد جرّبنا كل شيء لترحيله إلى تونس، لكن اتّضح أنّ هذا مستحيل لضحايا كوفيد-19".  

أعلنت السّلطات التّونسيّة في 18 مارس عن غلق الحدود البريّة والجوّيّة والبحريّة إلى جانب تعليق جميع الرّحلات التّجاريّة. من الممكن إعادة جثامين التّونسيّين/ات المتوفّين/ات في الخارج عبر رحلات شحن البضائع ماعدا ضحايا كوفيد-19. في ظلّ هذا القرار السّياسي، تتجلّى وضعيّة صعبة للعديد من العائلات التي تعاني الأمرّين. فضلا عن فقدانهم لأحد أقاربهم/ـن، يستحيل عليهم تنفيذ آخر رغباتهم/ـن: أن يدفنوا/ـنّ في بلدهم/ـن.  

الدّفن في حالة الطّوارئ

بحسب السّلطات فإنّ هذا القرار يرجع إلى قواعد صحّيّة صارمة. وفقا لبوراوي الامام، مدير الإعلام في وزارة الخارجيّة التّونسيّة فإنّ: "أيّ عمليّة إعادة إلى الوطن تتطلّب شهادة بعدم العدوى. وهو إجراء مطلوب أيضا من قبل شركات النّقل الجوّي. من المستحيل إصدار هذه الشّهادة لشخص توفّي من كوفيد-19".  

ومع ذلك، يتمّ ترحيل الجثث في أماكن أخرى مثل تركيا منذ بداية الأزمة. كما طالبت مجموعة سنغاليّة بإعادة رفات أحد المواطنين/ات المتوفّين/ات من كوفيد-19، مستندة إلى عدم وجود أيّ تعليمات من منظّمة الصّحّة العالميّة (OMS) تحظّر ذلك.

إلى حدود 18 ماي، سُجّلت 134 حالة وفاة جرّاء الفيروس الجديد في فرنسا منذ بداية تفشّي الوباء، حسب الأرقام الصّادرة عن وزارة الشّؤون الخارجيّة. "معظم التّونسيّين/ات المتوفّين/ات هنا من المتقاعدين/ات الذين/اللّواتي عاشوا/عشن في فرنسا منذ قرابة 50 عاما و الذين/اللّواتي تتراوح أعمارهم/ـن بين 60 و 90 سنة". كما أضاف ناصر بن عمارة وهو إمام بارز من الجالية التّونسيّة في إيل دو فرانس أنّ" البعض كانوا/كنّ في دور رعاية، و البعض الآخر جاؤوا/جئن لطلب العلاج".

هذا هو حال صديقه السّيّد علجان، الذي توفّي عن عمر يناهز الـ80 عاما. جاء علجان إلى فرنسا سنة 1962 و افتتح أحد أوّل ورش الحلويّات التّونسيّة في البلد. أصيب هو وزوجته بالفيروس ولم تُتح له إمكانيّة البقاء في العناية المركّزة  بسبب عدم وجود أماكن متاحة. لم تتمكّن أرملته التي مازالت في المستشفى من حضور آخر لحظات زوجها.

تضع هذه الأزمة العديد من الأسر في محنة شديدة. يُضاف إلى صدمة الموت و استحالة إعادة الجثامين عدم القدرة على تكريم موتاهم/ـن وفقا لما تقتضيه  شعائرهم/ـن الدّينيّة.

لأسباب صحّيّة، ووفقا لمرسوم 1 أفريل المتعلّق بتراتيب الجنائز يحظر ممارسة غسل الميّت/ـة و هو من أهمّ شعائر الإسلام ولا يسمح سوى بالصّلاة عليه/ا. بعد إعلان الوفاة، يضع الطّاقم الطّبّي الجثة مباشرة في كيس للغرض، في انتظار أن يقوم متعهّدو الدّفن بنقل الجثمان. يؤكّد الإمام بن عمارة أنّ "ما نريد تجنبه هو إبقاء الجثث في غرف الموتى لفترة طويلة. إن الأمر الملح هو دفنها في أسرع وقت ممكن."  

  ومع ذلك لم يتمّ إثبات إمكانيّة نقل الجثث للعدوى إلى حدّ الآن،حيث ترى منظّمة الصّحّة العالميّة أنّه من الممكن احترام هذه الشعائر الدّينيّة مؤكّدة أنّه "من الواجب احترام كرامة الموتى و تقاليدهم/ـن الثقافيّة و الدّينيّة و أُسرهم/ـن و حمايتهم/ـن في جميع الأوقات".  

أمّا فيما يتعلّق بالإجراءات، فإنّ القنصلية التونسية هي المسؤولة عن دفن الضحايا. يقول نجل الزّكري: "كان علينا فقط أن نقدم أوراق والدي و شهادة وفاته، وهم قاموا بكل شيء".

تمت مواراة الجثمان في موقع مخصّصّ للمسلمين/ات في مقبرة كليشي، على مشارف باريس، حيث كان هناك حوالي خمسة عشر شخصًا. كنا قادرين على الاقتراب من التابوت، كما ساعَدَنا طاقم المقبرة. لقد مرّ كل شيء على ما يرام كما لو كنا في تونس، أو ربما أفضل مما لو كنا هناك الآن"، مشيرا إلى الاحتجاجات التي حدثت في تونس خلال دفن بعض ضحايا كوفيد-19 خشية انتقال العدوى.

نقص في رُقَع الدّفن الإسلاميّة

منذ بداية الأزمة، رافق الإمام ناصر بن عمارة نحو عشرين أسرة خلال محنتهم/ـن. تمكّنت كلّ الأسر دون استثناء من دفن موتاهم/ـن في مدافن مخصّصّة للمسلمين/ـات، وهو أمر نادر في بلد ينعدم فيه وجود هذه المساحات الجنائزيّة أكثر من أيّ وقت مضى. علّق ناصر بن عمارة على ذلك بقوله: "منذ عدة سنوات، نقوم بحملة مع المسجد الكبير في باريس والمجلس الفرنسي للدّيانة الإسلامية (CFCM) وغيرها من السلطات الدينية لإقامة مدافن إسلامية في كل بلدة فرنسية كبيرة".  

و لكن، إلى حدّ اليوم، هناك 600 بلديّة فقط من أصل 35.000 في فرنسا لديها مجموعة من المدافن الإسلامية.

لا يُخفي الإمام امتعاضه قائلا: "هذا لا يكفي، هناك بعض رؤساء البلديّات اللّذين رفضوا دفن المسلمين/ـات في المدافن البلديّة التي لا تحتوي على مساحات مخصّصة للمسلمين/ـات".

قبل الدّفن، يقوم ناصر بن عمارة بتلاوة دعاء عن بعد برفقة عائلة المتوفّي/ـة. ثمّ يوم الجنازة، يُحمل الجثمان إلى المقبرة الأقرب لمكان سكن المتوفّي/ـة.

يواصل الإمام قائلا: "بالنسبة للجنازة، أنصح المصابين/ـات بأمراض مزمنة، وكبار السن، والنساء الحوامل بعدم الحضور. يُسمح في العادة بحضور 20 شخصًا فقط". خلال إحدى الجنائز في بانتين، حضر 50 شخصًا واضطرّ الإمام إلى الاتصال بالخدمات البلديّة والتفاوض مع العائلة حتى يتمكّن الأقرب فقط من البقاء. وعلق قائلاً: "كان رجلاً من جرجيس وكانت له أسرة متضامنة للغاية".

خلال مراسم الدّفن، تـُ/يشارك الحاضرون/ات في حمل الجثمان في تابوته. "و في النّهاية، نتلو أدعية بجانب القبر. إنّها عمليّة سريعة و فعّالة حيث تدوم المراسم قرابة السّاعة. ليس هناك أيّ ضغط".

  إنقطاع أُسري  

يئست العديد من العائلات في تونس من عدم قدرتها على حضور جنائز أحبائهم/ـن في الخارج. هذا هو حال أقارب ديبلوماسي متقاعد في السّتّينات من المنستير كان قد توفّي فرنسا. تقول إحدى أقاربه: "لقد انضمّ إلى ابنته وكان يعتني بأحفاده أثناء عملها في المستشفى". كان الرّجل يعاني من أمراض مزمنة، وبعد فترة وجيزة من إصابته بالفيروس توجّب نقله إلى وحدة العناية المركّزة حيث تُوفي هناك بعد أسبوع من قبوله.

إثر وفاته، بقي رُفاته في المشرحة لمدة أربعة أيام حتى تحصّل ابنه المقيم في سويسرا على الوثائق اللازمة ليتمكن من حضور الجنازة. وتتابع قائلة "لكن بالنسبة لابنته الثانية وغيرها من أفراد العائلة المقيمين في تونس، فإن عدم التمكّن من توديعه للمرّة الأخيرة شكّل صدمة".

في العادة، يتمّ ترحيل جثامين 80% من المتوفّين/ات المهاجرين/ات من المغرب العربي حسب فاليري كوزول، الباحثة في معهد ماكس-فيبير في ليون والمختصّة في مسألة الدّفن لدى المهاجرين/ات القادمين/ات من المغرب العربي و أبنائهم/ـن.

لقد وضعت تونس سياسة ترحيل نشطة للغاية من خلال شبكتها القنصلية التي تتولى مسؤولية إتمام العملية برمتها. و قد تصل تكلفة ترحيل الجثمان لـ4000 يورو، ويتم نقل ما يقرب من 500 جثمان من فرنسا إلى تونس كل عام.

و إن كانت آليّة التّرحيل الحكوميّة هذه تشجّع فعلا على إعادة الجثامين إلى بلدها، فإنّ هذا القرار يبقى شخصيّا. "الترحيل بعد الوفاة ليس مجرّد عودة إلى الوطن" حسب تفسير فاليري كوزول. "بترحيل جثمان الميّت/ـة، يتمّ إعادة إدماجه/ـا في بيئته/ـا الأصليّة. هناك أيضا رغبة في إعادة الرّوابط العائليّة المنقطعة بسبب الغربة و الهجرة".

من المهمّ الإشارة إلى أنّه في الوضع الحالي، ستتعهّد الدّولة التّونسيّة بمصاريف الدّفن لضحايا كوفيد-19 التّونسيّين/ات في فرنسا لمدّة خمس سنوات. بعد انتهاء هذه الفترة، على أسر المتوفّين/ات تحمّل هذه النّفقات.

و مع ذلك، فإنّه سيكون من الممكن إخراج رفات الجثامين و ترحيلها إلى تونس بمجرّد أن يهدأ الوضع. في المنستير، قرّرت أسرة الديبلوماسي المتوفّي إعادة رفاته إلى تونس. كما اتّخذت عائلة الزّكري نفس الخيار.

يؤكّد نجل المتوفّي :"سنفعل المستحيل لإعادة رفات أبي بمجرّد أن تستقرّ الأوضاع".

ولكن حتى و إن كان هذا الإجراء مقبولا من النّاحية الدّينيّة، يقول طارق توكابري رئيس جمعيّة التّونسيّين في فرنسا  أنّه "من المحتمل جداً ألّا تتمّ إعادة العديد من الأشخاص إلى وطنهم". ذلك لأنّه، وإن تعهّدت الدّولة التونسية حاليّا بالإشراف على دفن ضحايا كوفيد-19 في فرنسا، فإنّ "تكاليف استخراج الجثث وإعادتها إلى تونس، و هي تكاليف باهظة، ستتحملها العائلات"، في مستقبل لا يزال غير مؤكّد.