هنا، في سوق الصّرف السوداء بالعاصمة أو "وُولْ ستريت" نهج الجزائر كما يحلو للبعض تسميتها، لا حاجة لك بأسعار الصّرف الرسمية ولستَ مطالبا باصطحاب تراخيص ووثائق تثبت مأتى الأموال التي ترغب في صرفها مهما ارتفعت قيمتها أو نقصت. كلّ العُملات الرئيسية متوفّرة وبالامكان استبدال أيّ مبلغ ومناقشة سعر الصّرف والعودة بأموالك الى منزلك على مرأى ومسمع من أعوان الشرطة دون أن تَطالك يد القانون رغم أنّ كلّ هذا النشاط يعتبر مخالفا للقانون ويفتح الباب على مصراعيه لغسل الأموال وتهريبها.
عبد الوهاب، 43 سنة، جزائري يمتهن الاتّجار في المحركات وقطع غيار السيارات المستعملة المتأتّية أساسا من تفكيك العربات الفاخرة المسروقة أو الخاضعة لتحجير بيع لأسباب ديوانية أو اجرائية. اختار عبد الوهّاب تهريب مبلغ كبير بالعملة الجزائرية نحو تونس واستبداله في نهج الجزائر فور وصوله -بعد التنسيق المسبق مع أحد الصرّافين- مقابل 70 ألف يورو ثمّ عاد أدراجه الى عنّابة على متن سيارته الخاصة، سالكا مسالك برية بعيدة عن الرقابة الأمنية والعسكرية.
أصبح هناك طلب جنوني على الأورو في الجزائر بسبب التضخّم والأزمة السياسية. أصبحتُ أقتني الأورو من تونس للإحتماء من الأزمات التي تعصف بالدينار الجزائري" عبد الوهاب، تاجر جزائري.
قبل يومين من مجيء عبد الوهاب، كان صرّاف نهج الجزائر ذاته قد اشترى نحو 100 ألف يورو مقابل الدينار التونسي، استقدمها تاجر ليبي كان يتأهّب لاقتناء فيلّا في ضواحي العاصمة التونسية، وقد لجأ لسوق الصرف السوداء بحثا عن الاستفادة من فارق الصّرف الذي قد يصل إلى 5 بالمائة أو يتجاوزه في بعض الأحيان، بحسب تقديرات الصرّافين. وباجراء عملية حسابية بسيطة، نجد أنّ أكثر من ثلثيْ حصيلة العملة الصعبة الواردة على ذلك الصرّاف كانت قد غادرت تونس في أقلّ من يومين لتجْتاز الحدود خلسة باتّجاه دول الجوار.
لا تستفيد الساحة المالية الرسمية في تونس، وفق الاحصائيات الرسمية، من حوالي نصف التدفّقات المالية بالعملة الأجنبية الواردة نقدا، حيث تشقّ مبالغ طائلة طريقها -بمجرّد دخولها تونس- نحو سوق الصّرف السوداء قبل أن تغادر خزائن الصرّافين باتّجاه دول الجوار أو يتمّ استثمارها في الاقتصاد الموازي، بالاضافة الى المساهمة في تمويل الإرهاب والأنشطة غير القانونية، بحسب دراسات منشورة وتقارير داخلية صادرة عن اللجنة التونسية للتحاليل المالية على غرار مخرجات "عمليّة حنّبعل" التي رفعت الستار عن ضعف استقطاب المسالك الرسمية للصرف مقابل تعاظم نفوذ سوق الصرف الموازية.
عملية حنّبعل : تونس أرض عبور للأموال الأجنبية والتدفّقات المشبوهة
لا يمكن فهم منعرجات الساحة المالية وتقاطعها مع سوق الصرف الموازية في تونس دون المرور بـ"عمليّة حنّبعل" التي أصبحت بمثابة الوثيقة المرجعية للتحليل في انتظار إطلاق "منصّة حنّبعل" التي ستحتضن العملية وتضمن استرسالها وديمومتها على مدار العام.
في منتصف سنة 2014، قادت اللجنة التونسية للتحاليل المالية عملية تدقيق ميدانية شاركت في إنجازها وطنيا جهات إنفاذ القانون (وزارة الداخلية والإدارة العامة للديوانة) وكافة البنوك بالساحة المالية التونسية. هذه العملية النموذجية امتدّت على مدى شهرين متتاليين من 20 جوان/يونيو الى 20 أوت/أغسطس، وحملت اسم "عملية حنبعل". وقد أحيطت نتائجها بكثير من السريّة، ولم يتمّ الافصاح الّا عن نزر قليل من المعلومات للعموم في حين ظلّت بقيّة المعلومات (ومن بينها المعلومات الحصرية التي يكشفها هذا التحقيق) حبيسة عدد من مكاتب البنك المركزي.
الهدف الرئيسي من "عملية حنّبعل" كان يتمثّل في تقييم المنظومة التونسية لغسل الأموال وتمويل الإرهاب وفهم نطاق ومخاطر النقل المادي للأموال عبر الحدود التونسية أي المبالغ بالعملة الصعبة التي تدخل تونس وتغادرها نقدا عبر الحدود دون المرور بمؤسسات مصرفية وبنكية او اجراء تحويلات في الغرض.
خلال الفترة الزمنية التي استغرقتها "عملية حنّبعل"، تمّ رصد مبلغ جملي لعمليات التصريح بالعملة الأجنبية عند التوريد يعادل 777 مليون دينار تونسي. وقد احتلّت التصاريح الوافدة من ليبيا المرتبة الأولى تليها فرنسا والجزائر.
وخلصت العملية الى بعض الاستنتاجات التي رفعت الستار عن ملامح جديدة للساحة المالية التونسية تتمثّل أساسا في أنّها باتت منطقة عبور للأموال، وهذا ناجم عن:
- ضعف المنظومة المالية والمؤسساتية للقطاع المصرفي ببلد المأتى (ليبيا والجزائر) ما يفسّر مرور الأموال نقدا عبر تونس لاستغلالها لاحقا في عمليات التحويل الى بلدان الوجهة.
- ضعف المنظومة الرقابية في تونس الناتج عن غياب الوعي بمخاطر غسل الأموال عبر نقل الأموال نقدا وتواصل هذه الظاهرة دون قدرة الدولة على السيطرة عليها والتقليص من تداعياتها السلبية بشكل فعّال.
- المنظومة القانونية ببلد العبور (تونس) جاذبة للاستثمار الأجنبي ما أفرز تأسيس ذوات معنوية غير مقيمة (شركات أوف شور) حاضنة لتدفقات مالية قد تكون مسترابة، من خلال مسكها لحسابات بنكية بالعملة الصعبة عادة ما تتمّ تغذيتها عن طريق إيداعات نقدية مباشرة ليس لها أي ارتباط عضوي بالنسيج الاقتصادي والمالي التونسي.
سجّلت البنوك التونسية خلال الفترة التي غطّتها العمليّة نحو 901 عملية إبدال عملة أجنبية الى دينارات تونسية لدى البنوك بقيمة جملية بلغت حوالي 8 مليون د.ت موزعة على 14 بنكا.
ويتبيّن من خلال التحليل الكمّي لهذا الرقم أنّ عمليات إبدال العملة الاجنبية بالمصارف التونسية مقارنة بحجم عمليات التصريح بالعملة الاجنبية المورّدة مثّلت نسبة ضئيلة جدا لا تتجاوز 1% على مدى فترة سريان "عمليّة حنّبعل".
هذه البيانات الاحصائية تشير بشكل جليّ الى أنّ استقطاب البنوك التونسية لعمليات بيع العملة الاجنبية ضعيف جدا بل يكاد يكون منعدما رغم عدم وجود إجراءات ترتيبية صارمة أو متشددة في هذا المجال، حيث أنّه، في أقصى الحالات، لا يُطلب من الحريف الّا بطاقة التعريف الوطنية، في حال تجاوز مبلغ العملة المراد إحالته بالبيع 5000 د.ت أو تصريحا ديوانيا في توريد عملة أجنبية، إذا تجاوز المبلغ 10 آلاف د ت.
هذا الضّعف في استقطاب القنوات الرسمية للتدفّقات النقدية للعملة الاجنبية ليس سوى الشجرة التي تخفي غابةَ الصّرف الموازي، حيث تشهد الساحة المالية التونسية تفاقم نشاط الصرف الموازي وعمليات التهريب وغيرها من الجنح الديوانية والصرفية ذات العلاقة بالتهرّب الديواني والصرفي على اعتبار أنّ نسبة 42 % من تدفقات العملة الاجنبية المصرّح بها لدى الديوانة -وفق مخرجات عملية حنّبعل- لا يتمّ دمجها بالساحة المالية الرسمية التونسية وقد تكون موجّهة نحو تمويل الاقتصاد الموازي وجملة الأنشطة غير الشرعية المتّصلة به كالجريمة المنظّمة والإرهاب والتهريب.
ويُفلت سنويا حوالي 1.7 مليار دولار من خزائن تونس على شاكلة تدفقات مالية غير شرعية، يمرّ جزء منها عبر المؤسسات البنكية من خلال الاستناد الى فواتير ووثائق مفتعلة بعضها لا يخلو من بصمات مسؤولين رفيعين في البنوك.
مطلع شهر مارس/آذار 2019، قامت السلطات الأمنية التونسية بتفكيك شبكة لغسل الأموال وتهريب العملة الصعبة انطلاقا من منطقة الجمّ التابعة لمحافظة المهدية في الساحل التونسي. ولئن نجح رئيس الشبكة في الهروب الى الجزائر في ظروف مريبة بعد ثلاثة أيام فقط من رفع الستار عن الشبكة، فانّ الأبحاث الأوّلية كشفت تهريب الشبكة ما لا يقلّ عن 200 مليون دينار بالعملة الصعبة الى خارج تونس.
وتتكون الشبكة -بحسب الأبحاث الأمنية- من رجال أعمال معروفين بالجهة و4 اطارات بنكية يشتغلون في "بنك التجاري" الخاص. تتولّى المجموعة تدليس وافتعال الوثائق الرسمية والتصاريح الديوانية المزورة لإنجاز أو تسهيل انجاز عمليات توريد صوريّة، ليقع على إثر ذلك تحويل الأموال نحو تركيا ودبي والصين وإسبانيا دون الرجوع للمنظومة الاعلامية للمبادلات التجارية المعتمدة من قبل البنوك التونسية.
هذه الجريمة أسقطت ورقة التّوت مجدّدا عن هشاشة النظام البنكي والمصرفي في تونس، وأكّدت عدم قدرته على مجاراة النّسق الحثيث لمنظومة الصّرف الموازية. ولعلّ أخطر ما في الأمر هو توسّع مساحة تهريب العملة الصّعبة وتحويل وجهة التدفقات لتطال الساحة المالية الرسمية، ما يعني أنّ النّزر القليل الذي بالكاد يناهز 9% من التدفقات التي يفترض أنّها تُستبدل في المسالك الرسمية، لا يخلو هو بدوره من عمليات التلاعب والغشّ التي تحوّل وجهته نحو دول أخرى بعد وقت وجيز من دخوله الى تونس.
وبالتوازي مع التقنيات المعتمدة لتحويل وجهة الأموال عبر المسالك الرسمية تظلّ سوق الصرف السوداء البوّابة الرئيسية لنزيف العملة وافلاتها من دوائر الاقتصاد المنظّم.
محمد الهدار، خبير اقتصادي تونسي، كان قد أجرى سنة 2013 دراسة ميدانية بدعم من منظمة GIZ الألمانية حول موضوع "الشراكة بين محافظة مدنين وغرب ليبيا"، سلّط خلالها الضوء على حجم سوق الصّرف الموازي بالمنطقة وتداعيات نزيف العملة على الاقتصاد الوطني:
"يُهيمن على سوق الصرف الموازي في منطقة بن قردان الواقعة جنوب شرقي البلاد نحو 5 صرافين كبار بالاضافة الى العشرات من صغار الصرافين الذين يشتغلون للحساب الخاص أو لحساب الخماسي المهيمن، يتراوح عددهم بين 205 و300".
ويقدّر الخبير ذاته حجم التحويلات بالعملة الصعبة، انطلاقا من منطقة بن قردان الى الخارج، بـ 1 الى 3 ملايين دينار في اليوم، أي ما يناهز بشكل تقريبي 750 مليون دينار سنويا. من جانبه، يؤكد الدكتور رياض بشير، الخبير الاقتصادي والباحث في المجال، هذه الأرقام موضّحا أنّ متوسّط حجم التحويلات اليومية من العملة الصعبة الى خارج تونس، انطلاقا من مدينة بن قردان، يناهز 2 مليون دينار.
ويساهم تداوُل نسبة معتبرة من هذه التدفقات المالية خارج النظام البنكي في تغذية السوق الموازية للصّرف بموارد هامة من العملة الصعبة ما أفرز أسعارَ صرف موازية للدينارين الليبي والتونسي واليورو والدولار الأمريكي. هذه الوضعية أدّت الى استقطاب عديد المتعاملين الاقتصاديين (تجار، مهرّبون، مستثمرون، سياحة استشفائية …) من تونس و ليبيا لغرض المضاربة وتمويل الواردات المنظّمة والتهريب على حد السّواء.
لسعد الذوادي، المستشار الجبائي ورئيس المعهد التونسي للمستشارين الجبائيين، شرح لموقع انكفاضة تداعيات نزيف الأموال نقدا من تونس، بما في ذلك العُملة التونسية، قائلا "إنّ الأرباح الطّائلة التي تمّ تحصيلها من مهنة الصّرافة والمضاربة بالعملات ساهمت في خلق مساحة نقدية غير نظامية مشتركة بين المتعاملين في تونس وليبيا، أدّت الى مسك الليبيين لاحتياطي هام من الأوراق النقدية التونسية لما توفّره من قيمة فعلية في الساحة الاقتصادية الليبية".
وكان تقرير "مخرجات التحليل الاستراتيجي" الصّادر عن اللجنة التونسية للتحاليل المالية قد أشار بوضوح إلى هذه الظاهرة واصفا ايّاها بـ"الوحدة النقدية الحقيقية" في الساحة المالية التونسية-الليبية غير الرسمية، كاشفا تعاظم مساحة سوق الصرف الموازية واتّساعها وتنامي قدرتها على الاستقطاب مقارنة بالسوق الرسمية.
في نفس الموضوع
وتشير دراسة أعدّتها اللجنة التونسية للتحاليل المالية سنة 2016 حول "إدماج السوق الموازية للسلع والعملات في الاقتصاد الرسمي" الى أنّ أغلب عمليات تصدير السلع والخدمات من تونس باتّجاه ليبيا يتمّ خلاصها نقدا بالدينار التونسي دون توطين ملفات التصدير ذات العلاقة لدى البنوك وفقا للإجراءات المعمول بها (دون فتح اعتمادات). وتتمّ عملية التسوية لدى مصالح الديوانة من قبل الليبيين عند الخروج من تونس باعتماد وثائق وفاتورات مفتعلة توفّرها أساسا شركات تونسية ببن قردان مقابل مبالغ بسيطة بعنوان وساطة قمرقية غير مرخّص فيها.
وتساهم هذه العملية في عدم تمكّن الخزينة التونسية من تحصيل عائدات التصدير من العملة الصعبة، حيث تغادر السلع التونسية مقابل تسديد قيمتها مباشرة في تونس عبر الدينار التونسي على خلاف الصيغ القانونية.
ويصف المستشار الجبائي لسعد الذوادي هذه العملية بـ :
"تحويل وجهة تدفقات العملة الصعبة قبل دخولها الى الساحة المالية التونسية أصلا على مرأى ومسمع من الجهات الرسمية التونسية التي تكتفي بالفرجة".
وفي سبيل تجاوز المعضلات المتّصلة بتمويل التهريب والأسواق الموازية للصّرف وتمويل الواردات خارج النظام البنكي، كانت اللجنة التونسيّة للتحاليل المالية قد اقترحت:
- تطوير النظام المالي الوطني عبر إصدار النصوص الترتيبية لتفعيل العمل بنظام دفوعات غير بنكي قائم على إسداء خدمات صرف يدوي بيعا وشراء (أي مكاتب الصرف الخاصة لإدماج الصرّافين العشوائيين، على غرار صرّافي بنقردان ونهج الجزائر بالعاصمة، ضمن نسيج الصّرف الرسمي).
- تحويل وقبول الأموال لحساب التجار ومسدي الخدمات والمواطنين (مؤسسات الدّفع).
وتهمّ النصوص الترتيبية مكاتب الصرف المحدثة بموجب قانون المالية التكميلي عدد 54 لسنة 2014 ومؤسسات الدّفع المحدثة طبق القانون عدد 48 لسنة 2016 المتعلّق بالمؤسسات البنكية والمالية.
وبعد بطء دام نحو أربع سنوات أصدر البنك المركزي التونسي بتاريخ 30 جويلية / يوليو 2018 منشورا يضبط القواعد التطبيقية لمزاولة نشاط الصرف اليدوي للعملة الصعبة. وقد أسند الى حدود مطلع أفريل الجاري 7 رخص لفتح مكاتب صرف في كل من حلق الوادي وحمام سوسة وضفاف البحيرة 1 وضفاف البحيرة 2 والعوينة و جربة وقابس.
ومع موفّى ديسمبر 2018 أصدر البنك المركزي منشورا آخر يضبط القواعد التطبيقية لمؤسسات الدفع المحدثة طبق القانون عدد 48 لسنة 2016. وقد أوعزت مصادر صلب البنك المركزي هذا التأخير الى وجود جبهة رفض واحتراز قوية صلب المؤسسات المالية للدولة بالاضافة الى كثير من الخبراء ضدّ مكاتب الصرف اليدوي خشية أن تتحوّل الى منشآت لتبييض الأموال.
هذه المؤسسات الجديدة يمكن -بحسب عدد من خبراء البنك المركزي- أن تلعب دور الوسيط بين سوق الصّرف الموازي وبين الساحة المالية الرسمية نظرا لقُربها من الحرفاء والماسكين للعملة من جهة، وقدرتها على تحويل وجهة العملة الصعبة من السوق السوداء باتّجاه السوق الرسمية من جهة أخرى، ما قد يمثّل حلّا فعليا لمعضلة ضعف القدرة على الاستقطاب التي تعاني منها المؤسسات البنكية.
غير أنّ المعضلة الأساسية بحسب الخبراء ذاتهم، تتمثّل في غياب تصوّر واضح قادر على ترجمة هذه الإرادة إلى اجراءات تطبيقية قادرة على استقطاب هؤلاء الوسطاء وتقديم الضمانات اللازمة لهم من جهة، دون السقوط في توفير غطاء قانوني يتيح لهم الاستفادة من هذه الإجراءات التحفيزية من أجل غسل الأموال المشبوهة ومجهولة المصدر أو المتأتّية من أنشطة غير شرعية من جهة أخرى.
تونس .. "مغسلة" وبلد عبور فقط
خلال السنتين الأخيرتين، تمّ إدراج تونس ضمن عدد من القائمات السوداء والتصنيفات الدولية المتعلّقة بتبييض الأموال وعدم شفافية القطاع البنكي والتشريعات الضريبية التي حوّلت تونس إلى ملاذ للمتهرّبين وغاسلي الأموال.
جملة هذه التصنيفات أشارت الى انّ المنظومة المالية التونسية أصبحت ثقبا أسودَ تتسرّب من خلاله الرساميل المهرّبة والأموال مجهولة المصدر أوالمتأتّية من عمليات تجارية وهمية.
فعلى سبيل الذكر لا الحصر، عادة ما يلجأ مهرّبو الأموال نقدا إلى التحايل على الإجراءات الترتيبيّة التي أقرتها مصالح الديوانة التونسية بعدة معابر حدودية تونسية كإجراء بديل عند تعطّل المنظومة المعلوماتية تقضي بالسماح بإصدار تصاريح توريد عملة يدوية. وبناء على ذلك، يتمّ استغلال ثغرات قانونية من أجل تهريب كميات من العملة الصعبة نقدا عبر تونس باتّجاه دول أخرى دون أن تتفطّن السلطات الى ذلك.
ولئن تقضي الاجراءات الديوانية في هذا الإطار بإلزام كافة المكاتب الحدودية التي سلّمت تصاريح يدوية في توريد عملة أجنبية بإعلام المصالح المختصة بالديوانة لتسويتها وإلحاقها بالمنظومة المعلوماتية، فانّ بعضا من مهرّبي النقد قد فهموا جيدا المنظومة الرقابية على نحو جعلهم يلجؤون الى استغلال ثغرة رقابية تتمثل في الغياب الفادح للتنسيق بين الأطراف المتداخلة في انجاز هذه العمليات المالية، وفق ما كشفه تقرير تقييم المخاطر لسنة 2017 الصادر عن لجنة التحاليل المالية.
وتتمثّل الثغرة الرقابية التي تتسلّل من خلالها تكتيكات المهرّبين في الآتي: بعد الحصول على تصاريح ديوانية يدوية وعوض أن يتم التوجّه بها مباشرة إلى أحد المكاتب الديوانية لتصديرها، يلجأ مهرّبو العملة الى إيداع المبالغ بأحد البنوك بالاستناد الى ذلك التصريح اليدوي، ثم يتمّ في نفس اليوم أو في اليوم الموالي طلب الحصول على رخصة تصدير عملة أجنبية من البنك للاستظهار بها لاحقا لدى مصالح الديوانة عند المغادرة.
هذه العملية كُتبَ لها النجاح مرارا وتكرارا بسبب الغياب الفادح للتنسيق بين الأطراف المتداخلة، ما تسبّب في تعميق نزيف العملة الصعبة وتحويل تونس الى ثقب أسود تتسرّب منه التدفّقات غير المشروعة على مدى سنوات طويلة.
وتهدف هذه التقنية الى استغلال الساحة المصرفية التونسية (رخص التصدير البنكية) قصد حجب فساد هذه العملية وإضفاء الصبغة الشرعية عليها.
بالاستناد الى ما سبق كشفه من معطيات، يتبيّن أنّ تونس أضحت تسير بخطى حثيثة لتتحوّل الى "مغسلة" للأموال المهرّبة دون أن تستفيد من تلك الأموال بشكل فعلي على اعتبار أنّها لا تعدو أن تكون سوى بلد عبور لتلك الأموال التي ما انفكّت تشقّ طريقها نحو دول أخرى على غرار الإمارات العربية المتحدة وتركيا وانجلترا والصين وفق معطيات مستقاة من البنك المركزي التونسي واللجنة التونسية للتحاليل المالية.
وأمّا بالنسبة الى تونس، بلد التبييض والعبور، فانّ حجم ظاهرة تسرّب العملة الصعبة الى خارج تونس وعدم القدرة على التحكّم في أدفاق التجارة الدولية زاد في تدهور احتياطي البلاد من العملة الصعبة، حيث نزل الى ما دون 75 يوم استيراد فقط خلال عام 2018 (الوضع الطبيعي 120 يوما).
يقول مصدر رفيع من البنك المركزي حبّذ عدم الكشف عن هويته، في هذا الصدد "انّ البنك يفعل كل ما في وسعه من أجل تضييق الخناق على عمليات تسرّب العملة وتهريبها الى الخارج"، مضيفا "لن ننجح في تطويق هذه المعضلة طالما أنّه لا توجد إرادة سياسية فعلية لمحاربتها".
"الدّولة لا تريد محاربة الاقتصاد الموازي وأسواق الصرف الموازية، بل أقصى ما تطمح إليه هو اقتطاع جزء ولو بسيط من هذه الكعكة وترك الحال كما هو لأنّها لا تملك بديلا اجتماعيا للاقتصاد الموازي".
من جانبه كشف مصدر من اللجنة التونسية للتحاليل المالية لموقع انكفاضة أنّ "اللجنة كانت قد اقترحت أن تتفاوض الدولة، ممثّلة في البنك المركزي، مع المهرّبين والصرّافين وكبار الفاعلين في الاقتصاد الموازي من أجل دمجهم في الدورة الاقتصادية عبر استصدار آليات تشريعية تحثّهم على الاندماج وعدم ملاحقتهم على خلفية أنشطتهم السابقة، غير أنّ هذا المقترح كان قد قُوبل بالاستهجان والرفض صلب البنك المركزي".
"طرحنا برنامجا عمليا لإدماج الاقتصاد الموازي في الدورة الاقتصادية المنظّمة فردّ عدد من مسؤولي البنك المركزي: نحن لا نتفاوض مع الكناترية. فظلّ الحال على ماهو عليه".
خلال حديثهم لموقع انكفاضة، أعرب عدد من الصرّافين غير النظاميين بالاضافة الى بعض تجّار "الكونترا" في العاصمة وبن قردان، عن استعدادهم الاندماج في الدورة الاقتصادية في حال وفّرت الدولة أرضية تشريعية تحمي نشاطهم المهني وتضمن ديمومته إلى جانب توفيرها مناطق للتجارة الحرّة على امتداد الشريط الحدودي مع الجزائر وليبيا.
أسامة* (اسم مستعار بناء على طلبه)، هو أحد صرّافي بن قردان، ما انفكّ يزاول نشاط الصرافة الموازية منذ أكثر من 15 سنة رفقة عدد من أفراد عائلته. ورغم اغراءات المقترح الذي ورد على لسان أحد مسؤولي لجنة التحاليل المالية بخصوص ضبط حوافز لإدماج السوق الموازية للبضائع والصرف في الاقتصاد المنظّم، فإنّه لا يرى في ذلك أيّ منفعة له.
"اتّفاقنا مع الدولة واضح منذ قديم الزمان .. لا سلاح، لا سياسة، لا ارهاب. وأن نكون أعيُن الدولة على امتداد الحدود. في المقابل، لا تتدخّل الدولة في نشاطنا ولا نطلب منها شيئا".
ما ورد على لسان أسامة، يمثّل موقف شريحة واسعة من الفاعلين في السوق الموازية لكنّه، في الحقيقة، ليس موقفا موحّدا بين كلّ الصرّافين و"الكناترية"، إذ أنّ هنالك شقّا آخر يذهب الى ترجيح كفّة احتواء الدولة لهم من خلال تحقيق "حلم" إنشاء مناطق للتجارة الحرّة على امتداد الشريط الحدودي شرقا وغربا.
حلمٌ مازال يراوح مكانه رغم الاصداح به منذ سنوات والاستماتة في الدفاع عنه من قبل نشطاء في عدد من المناطق الحدودية وفي مقدّمتها بن قردان، علما أنّ هذا الحلم كان قد تمّ اقراره رسميا بموجب اتّفاقية ممضاة بين الطرفين التونسي والليبي في طرابلس بتاريخ 14 جوان/يونيو 2001.
مع توالي السنوات وتعاقب الأنظمة على الحكم في تونس، ظلّت اتّفاقية التبادل التجاري الحرّ بين تونس وليبيا مجرّد حبر على ورق، في حين تواصل التهريب دون انقطاع ليصبح أمرا واقعا تُغمض الدّولة عينيها عليه وتصمّ أذنيها عنه كلّما طُرح أمر محاربة التهريب على طاولة النقاش.