الأطفال المتسوّلون في تونس : ضحايا شبكات عائلية

على رصيف شارع رئيسي في حيّ الحدائق بالعاصمة، يقف الطفل أحمد بائع المناديل الورقية. لم تثنه حرارة الشمس عن استجداء أصحاب السيارات والمارّة لشراء آخر علب المناديل لديه، إذ يجب عليه أن يبيعها كلها، فلم يتبق له سوى أيام معدودة للعودة إلى مقاعد الدراسة. 
بقلم | 20 ديسمبر 2018 | reading-duration 15 دقيقة

طيلة سنوات، اعتاد أحمد القدوم للعمل في العاصمة أثناء العطل لضمان تغطية نفقاته الدراسية، أمام محدودية دخل والديه. يبيع الطفل، ذو الأحد عشرة ربيعا، الرزنامات والمناديل الورقية في الشوارع وتقاطعات الطرقات، صحبة إبنيْ عمّه الّذين يكبرانه سنّا. وهو نوع من « التسوّل المقنّع ». وتشير إحصائيات الهيئة الوطنية لمكافحة الاتجار بالأشخاص لسنة 2017 إلى وجود 287 طفلا يمارسون التسوّل في الشارع. ظاهرة تفاقمت في صفوف الأطفال في السنوات الأخيرة حسب إحصائيات وزارة الداخلية ومندوب حماية الطفولة، مكتسحة الفضاء العمومي. ولكن خلف الرّقم الرسمي، تكمن شبكات تستغلّ الأطفال في التسوّل، ونصوص قانونية متضاربة، في حين يغيب التدخل الصارم للدولة للتصدّي للظاهرة.  

الفقر… المتّهم الرئيسي في استغلال الطفل

يمسح أحمد العرق المتصبّب على جبينه، ويقول متحسرّا : »لو لم يدفع بي والداي إلى العمل لما كنت هنا الآن ». أحمد هو الابن البكر لعائلة من 5 أفراد. والده، العامل اليوميّ، لا يشتغل بانتظام، أمّا والدته فهي ربّة بيت. يدرك أحمد أنه ما من خيار آخر أمامه سوى مساعدة أبويه، أي أن يعيش حياة لم يخترها، بل فرضتها عليه قلّة ذات اليد.

اعتادت عائلة أحمد أن تحلّ بتونس في كل عطلة قادمة من القصرين. هذه المرّة، نزلت العائلة لتلتحق بالأسرة الموسعة في منزل من ثلاث غرف في « حيّ النور » الشعبي وسط العاصمة. ثلاث عائلات تتقاسم كلفة الإيجار البالغة 150 دينارا شهريا.

تنحدر عائلة أحمد من قرية المزيرعة من معتمدية حاسي الفريد من ولاية القصرين. لا تعدو المزيرعة أن تكون سوى تجمّعا سكنيا ريفيا صغيرا، فيه بضعة محلات تجارية ومقهى ومؤسسة عمومية وحيدة هي المدرسة الابتدائية بالمزيرعة. وتبقى منابت الحلفاء والمراعي مورد الرزق الوحيد لأغلب السكان.

 منطقة المزيرعة حاسي الفريد ولاية القصرين. حياة بؤس وغياب لأغلب المرافق الأساسية جوان 2018

حال المزيرعة ليس بأفضل من حاسي الفريد مركز المعتمدية، التي تعد 19.400 ساكنا موزّعين على عدة أرياف والتي تتميز بمناخ قاس جدا، ما جعلها مصنفة، كآخر معتمدية في مؤشرات التنمية حسب المعهد الوطني للإحصاء، فهي الأولى في تونس على مستوى نسب الفقر والبطالة والامية والانقطاع المدرسي ونقص البنية الاساسية.

المسار الأول: حركة عائلية نحو المدن الكبرى

  عائلات بأكملها تنتقل الى العاصمة قادمة من المناطق الداخلية للبلاد التونسية. تقيم في خيمات أو تؤجّر منازل وضيعات على تخوم العاصمة والمدن الكبرى في الساحل. تقضي فترة الصيف في التسول، ثم تعود في الشتاء الى مسقط رأسها. حسب ما يوضحه بعض الجيران في منطقة حاسي الفريد، يخشى البعض أحيانا العودة إلى البلدة خوفا من « كلام الناس » الّذين يعلمون بأمر امتهانهم لهذا النشاط.

شهادة أحد الجيران

كان هذا حال عائلة أحمد، التي انتقلت منذ سنوات إلى تونس العاصمة، ليصبح التسول نشاطها الأساسي. في يوم من أيام شهر جويلية استيقظ أحمد وابنا عمّه ككلّ صباح، ليبدأوا رحلة التسوّل اليومية. من حي النور الكبارية يتّجهون منذ الساعة السابعة صباحا إلى المكتبة الموجود بمنطقة باب الخضراء، مستقليّن المترو صحبة عمّهم أو بمفردهم، ومن هناك، يقتنون عددا من الرزنامات وكتيّبات الأذكار الدينية من المكتبة لبيعها لاحقا في محطة المترو الرئيسية بأريانة.

يستظهر أحمد ببطاقة العلاج المجانية أثناء التسول أمام المارة ويطلب منهم المساعدة مدعيا ان أخته تحتاج لاجراء عملية جراحية باهظة الثمن وهو لا يستطيع توفير المال الكافي لها. أسلوب من بين الأساليب التي يستعملها الأطفال لاستدرار عاطفة المارّة عبر التوسل إليهم تارة ليشتروا منهم بضاعتهم، وعبر إخبارهم تارة أخرى بأنهم مضطرون للعمل لتغطية نفقات اللوازم المدرسية أو إدّعاء المرض.

« الواحد يروّح شبعان مش جيعان، يحمد ربي ويشكرو »، يقول أحمد.   

عند غروب الشمس، يبدأ أحمد ورفيقاه رحلة العودة إلى البيت. في جيب كلّ منهم مبلغ يتراوح بين 30 و40 دينارا ستذهب جميعها إلى ربّ العائلة، عند الوصول إلى البيت. « لا نأخذ ممّا نكسبه، سوى بضع دنانير لشراء ما يسدّ الرّمق خلال النهار »، يقول أحمد دون تذمّر.

دفعت هذه الظروف الصعبة بالعديد من العائلات إلى النزوح نحو العاصمة، لامتهان التسوّل، والدفع بأبنائها في شراك الاستغلال الاقتصادي، فشبكات التسول تتكوّن في معظمها من عناصر من العائلة الواحدة، سواء النواتية أو الممتدة، أو حتى من الجيران، وفق رئيسة الهيئة الوطنية لمكافحة الإتجار بالأشخاص.

« التسول واستغلال الطفل اقتصاديا.. جرائم عائلية بامتياز » روضة العبيدي  

أظهرت الأبحاث الميدانية التي أجرتها الهيئة الوطنية لمكافحة الاتّجار بالأشخاص، منذ انطلاق عملها في فيفري 2017، أنّ العائلة هي الطرف الرئيسي الذي يهدّد الأطفال ويعود ذلك للفقر والخصاصة واتكال الأولياء على أبنائهم من الناحية الإقتصادية، وفق تعبير روضة العبيدي رئيسة الهيئة.

من جهة أخرى، ورَدَ في النشرة الإحصائية لمكتب مندوب حماية الطفولة لسنة 2017، أن 49.8% من الاشعارات يكون فيها الوالدان أو أحدهما المتسبب في التهديد المسلّط على الطفل.

علي، أب لطفل في الرابعة عشرة من عمره، يبيع المناديل الورقية صحبة ابنه، في أحد الشوارع. كانت حجته لترك ابنه يمتهن التسول معه، هي تعويده على التعويل على نفسه ليتعلّم كيف يشتغل وليكسب لقمة عيشه بنفسه، مضيفا « أمّالا باش راجل! ».

المسار الثاني: رحلة نحو مصير مجهول

  عمر، 13 سنة، طفل أصيل « النفيضة » من ولاية سوسة، استقرّ في العاصمة مع أخيه الأصغر، بعد أن التحقا بالأخ الأكبر، الذي يبلغ من العمر 22 سنة وقد سبقهما منذ أعوام للعاصمة. وهو الآن يستقبل الأطفال أبناء جهته الذين ينوون امتهان التسول.

منذ أن كان عمره عشر سنوات، كان عمر يأتي إلى تونس للتسول فقط في العطل، لتوفير اللوازم المدرسية حسب ما يرويه عمر. ولكن على إثر إصابة أبيه في حادث شغل، أصبح مجبرا على المشاركة في توفير حاجيات العائلة بشكل مستمر.

اقترض عمر وأخوه الأصغر مبلغ 90 دينارا من عمّهما، لتغطية مصاريف رحلتهم الأولى نحو العاصمة والمتمثلة في تكلفة السفر وخلاص معلوم الإقامة لمدّة شهر في « الوكالة » (فضاء للسكن الجماعي يفتقر لأبسط مقوّمات العيش الكريم مقابل مبلغ زهيد جدا) واقتناء المناديل الورقية المخصّصة للسيارات لبيعها لاحقا. في تلك اللحظة فقدَ عمر وأخوه طفولتهما إلى الأبد وصارت مقاعد الدراسة مجرّد ذكرى.

« لم يدفع بي أحد للقدوم الى هنا، أردت من تلقاء نفسي أن اشتغل هذه المهنة » الطفل عمر 

في « وكالة » كائنة بباب الجديد وسط العاصمة، يعيش عمر وبقية الأطفال في وضعية بائسة. يفترشون الورق المقوّى للنوم على أرضية اسمنتية. وعندما تتهاطل الأمطار، يتغطون ببعض الستائر التي يتصدّق بها عليهم البعض من باعة الملابس المستعملة « الفريب ».

لا أحد هنا ينظّف المراحيض المشتركة. لذلك تنبعث منها الروائح الكريهة التي تغمر ساحة « الوكالة ». « ليس لدينا سخّان للمياه كي نستحمّ في الشتاء »، يقول أحمد متأسفا، « لقد أصابني مرض جلديّ بسبب وساخة المكان ». وقد كلّفه هذا المرض كل ما جناه من أموال لمعالجته، لكنه بقي يعيش في « الوكالة » لأنه لا يملك خيارا آخر فكراء منزل مع أخويه، سيقلل من مدخوله. 

يستيقظ عمر وأخوه باكرا كلّ صباح ليسرعا باقتناء السلع من باب الجزيرة. يفترقان بعد ذلك في اتّجاه تقاطعات الشوارع الكبرى في المدينة. وبعد 7 ساعات من التسول، يجني كل منهما ربحا صافيا يُقدّر ب 17 دينارا.

مع نهاية يوم شاق يعود عمر الى « الوكالة » ليلتقي أخاه الأكبر الذي يأخذ أحيانا مقدارا من المرابيح التي يجنيها الأطفال و يصطحبهم لشراء المناديل الورقية و يقايض البائع للتّخفيض في الأسعار. وهذا ما اعترف به في وقت سابق بمخفر فرقة وقاية الأحداث أين تم إيقافهم. وأكد الأخ الأكبر حينها لعون الأمن أنه، بهذا الصنيع، يقوم بحماية الأطفال من المخاطر التي تعترضهم.

في نفس السياق اعترف عمر أنه يقدّم مرابيحه لشاب بالغ ليخبئها له حتى يحين موعد سفره إلى مسقط رأسه للقاء عائلته، دون أن يكشف أن هذا الشاب ليس سوى هو أخاه الأكبر.

من هو المستفيد الأخير من أموال التسول

على خلاف المسار الأوّل، حيث تنتقل العائلة بأكملها معا، ووفق مختلف الشهادات، يتنقّل بعض الأطفال بشكل منفرد إلى العاصمة أو غيرها من المدن. عند وصول الطفل، سرعان ما يندمج مع أبناء الجهة الذين يمتهنون التسول المُقنّع، ويكون بصحبتهم عادة أحد أفراد الأسرة: الأخ الأكبر، أو العم أو الخال او ابن العم، وقد يكون أحد الجيران الذي يعتني بهم ويحميهم، وأحيانا يقوم الأطفال بادّخار الأموال عنده الى حين عودتهم لعائلاتهم. ويقيمون في « وكالة » آيلة للسقوط أو « خربة » مهجورة أو غرفة فوق السطوح. وفي حالات كثيرة، لا يجدون مفرّا من المبيت في الشارع.

المسار الثالث: رضيعي للإيجار..لمن يدفع أكثر

  تجلس امرأة عجوز في أواخر عقدها السادس من العمر أمام فضاء تجاري كبير بولاية القصرين صحبة رضيع. ترتدي وشاحا يغطي ملامح وجهها متوّسلة المارّة اعطائها المال للاعتناء بحفيدها حسب ما تزعمه. لما سُئلت عن اسم الرضيع وهويّته، سارعت المرأة بالوقوف والمغادرة. يروي أحد المتساكنين بالمنطقة ممن تعوّدوا على رؤيتها بنفس المكان أن المرأة العجوز تصطحب في كل مرة رضيعا وتزعم انه حفيدها لكن حسب قوله لا يربطها بالرضيع أي رابط عائلي.

على غرار هذه الحالة، تؤكد روضة العبيدي رئيسة الهيئة الوطنية لمكافحة الاتّجار بالبشر أنه يوجد العديد من النساء الذين يقومون باستئجار الرّضع من عائلاتهم واستعمالهم في أعمال التسول ويتم الاتفاق مسبقا على المبلغ الذي سيدفع للعائلة.

  تقوم عدة عائلات بتأجير أبنائها الرضّع مقابل مبالغ زهيدة بين 15 و20 د يوميا، حسب روضة العبيدي. تكون عادة المرأة التي تُؤجره من العائلة الموسّعة أو جارة مقربة. تأخذ الرضيع وتجلس به في مكان مليء بالناس مثل باب مغازة أو على رصيف طريق عام، مُعرّضة إياه لأشعة الشمس والأمطار والبرد. في نهاية اليوم، تُعيد الرضيع لعائلته، لتستأجره امرأة أخرى في اليوم الموالي.

حسب الإحصائيات المتوفرة لدى الهيئة الوطنية لمكافحة الاتجار بالأشخاص يوجد قضيتان مرتبطتان بحالات الاستغلال الاقتصادي للرضع وتعريضهم للتسول. الضحايا هما طفلتان تبلغان من العمر على التوالي سنة وسنتين. بالنسبة الى القضية الاولى فانّها مازالت أمام أنظار النيابة العمومية علما أنّ المتهمة تمّ الابقاء عليها في حالة سراح، أما المتهمة في القضية الثانية فقد حكم عليها بالسجن مدة شهر وهي الآن في حالة فرار. توجد بنفس الاحصائيات قضية تتعلق بطفلة تبلغ من العمر 6 سنوات.

محاطون بالخطر أينما كانوا

خلال ممارستهم للتسول، يتعرّض بعض الأطفال لمخاطر عديدة، سواء في الشارع مباشرة، أو في أماكن إقامتهم، وقد لا ينجح الوليّ الذي يصاحبهم، في حمايتهم.

فكثيرا ما تحدث عمليات سطو مسلّح على « الوكالة » أين يعيش عدد من الأطفال ممّن قبلوا الإدلاء بشهاداتهم. في مرّات عديدة، افتكّ المنحرفون أموالهم التي جمعوها من التسوّل وهواتفهم الجوّالة. وقد استخدم المنحرفون السيوف خلال المداهمة، وفق ما ورد في شهادات الأطفال المتضررين. 

« هناك أناس خطرون يعترضوننا بالأسلحة الحادة »

في الشارع، قد لا يختلف الأمر كثيرا، حيث يواجه الأطفال أخطارا من نوع آخر، فمثلا، قد يتم التحرش بهم أو اختطافهم حسب ما يرويه عون شرطة تابع لفرقة وقاية الأحداث. في هذا الصدد، يقول أحمد  » ليس كل المارة لديهم نوايا حسنة، أحيانا يُشاكسوننا »، مضيفا « في إحدى المرات، طلب مني أحدهم أن أصعد في سيارته، فما كان مني سوى أن تركت السلع وهربت ».

وقد يكون الأطفال كذلك عرضة لحوادث الطرقات، خاصة عندما يفرون من ملاحقات الشرطة لهم. وهو ما يؤكده أحد الأمنيين قائلا: « أصبحنا نخاف عند ملاحقتهم أن تصدمهم سيارة، لذلك نفضل أحيانا ايقاف عمليات الملاحقة خوفا على حياتهم ».

في إحدى تقاطعات شارع محمد الخامس وسط العاصمة كان عمر يتسول رفقة اصدقائه عندما داهمتهم فجأة فرقة وقاية الأحداث التابعة لوزارة الداخلية. تمّ إيقاف عمر مباشرة، فيما سقط الأخ الأصغر، يوسف في واد محاذ، فيما تمكّن الأخ الأكبر الذي يعتني بالأطفال من الهروب، قبل أن يتمّ إيقافه بعد عودته إلى « الوكالة ». في نفس المكان وجدت فرقة وقاية الأحداث يوسف يجلس خائفا في زاوية صغيرة، ثيابه تقطر ماء متّسخا ويداه ترتعشان وهو يتوسّل إلى الشرطي أن لا يؤذيه.   

يوسف أحد ضحايا التسول .. حياة بائسة في بناية

أمام كل هذه الأخطار لا يجد الأطفال الحماية اللازمة من قبل هياكل الدولة، رغم تعددها، والتي تعجز عن توفير الوسائل اللازمة للاحاطة بهم والقضاء على كل أشكال الاستغلال التي يتعرضون لها.

تساهل الدولة

يطرح العدد الكبير للأطفال المتسولين (287 طفلا حسب إحصائيات الهيئة الوطنية لمكافحة الإتجار بالأشخاص)، عدة تساؤلات على مدى نجاعة تدخل الهياكل المتعهدة بحماية الطفل في الحد من الظاهرة.

فرقة وقاية الأحداث وهي هيكل مهمته انتشال الأطفال ضحايا الاستغلال والاتجار والتنسيق مع مختلف الهياكل التي تُعنى بحماية الطفولة، هي التي تقوم بإشعار مندوب حماية الطفولة، عندما يكون الطفل ضحية التسول أو الإستغلال الإقتصادي. نظريا، يتولّى المندوب التثبت في صحّة الاشعارات ويتمّ انتشال الطفل من مكان التهديد، وعرضه على طبيب مختص اذا استوجب الامر ذلك، ثم يتمّ استدعاء العائلة أو يتمّ وضعه بصفة مؤقتة في مراكز رعاية الطفولة.

حديث عن النقاط السوداء

في نفس الوقت، يقع تمرير الملف إلى النيابة العمومية أو هيئة مكافحة الاتجار بالأشخاص، ثم إلى قاضي الأسرة الذي يصدر في غالب الأحيان أحكاما مخففة لأنّ الطرف الذي يستغل الأطفال يكون في أغلب الحالات العائلة ذاتها. وهو ما تؤكده أيضا روضة بيّوض، رئيسة الإدارة الفرعية للوقاية الاجتماعية بوزارة الداخلية التونسية بقولها « في معظم الملفات التي اشتغلنا عليها وتم تحويلها إلى القضاء، لم نلاحظ أنه تم تسليط عقوبات رادعة على الأولياء »، مضيفة أنه يتم « تسليط خطايا مالية مخففة ، أمّا في حالة العوْد فيتم إصدار أحكام بالسجن مع تأجيل التنفيذ ».  

وقد لا يتم المرور أساسا بالقضاء، حيث تكتفي فرقة وقاية الأحداث بإطلاق سراح الطفل المتسول بعد أن يُمضي الولي التزاما بعدم استغلال الابن. بعض الأطفال أشاروا الى أنّ أعوان الشرطة، في أحيان كثيرة، لا يقومون أصلا بعمليات الايقاف، بل يكتفون فقط بطردهم من مكان التسول ويطلبون منهم العودة إلى المنزل.

يجد عمر ورفاقه أنفسهم بمخفر فرقة وقاية الأحداث دون أي وثيقة تثبت هويتهم فهم أطفال قصر لا يستطيعون استخراج بطاقة تعريف وعند استجوابهم قدّم كل منهم العمر الأنسب له فلا توجد أي وثيقة للتثبت من صحة ما يقولونه آنذاك. خلال الاستجواب، كانت الابتسامة، في بعض الأحيان، تلوح على شفاههم كيف لا وهم تعودوا على مخفر الشرطة ويعلمون انه سيتم اطلاق سراحهم. كان همهم الوحيد هو استرجاع السلع فقد توسلوا أعوان الأمن ان يعيدوا لهم السلع المحجوزة بعد إطلاق سراحهم وهذا ما رفضه الأمنيون. و بعد استجواب قصير والتوقيع على محضر خرج الأطفال من المخفر و في اليوم الموالي واصل الاطفال عملهم في نفس الأماكن التي تم القاء القبض عليهم فيها.

« في بعض الحالات نحن نمسك بهم، ونحاول تعليمهم درسًا، ولكن لا يمكننا فعل أي شيء آخر. عائلاتهم في حالة بائسة، وحتى وإن تم إرسالهم إلى مركز الرعاية الاجتماعية، فسوف يخرجون منها سريعا »عون أمن فرقة وقاية الأحداث   

لا رغبة للأطفال في الذهاب إلى مركز الاستقبال، فهم يريدون جميعًا العودة إلى الوكالة مع أطفال الحي الذي يقيمون فيه والعودة إلى « العمل ». فبالنسبة اليهم فانّ البقاء في مراكز رعاية الطفولة مضيعة للوقت وخسارة لمرابيح حسب ما يضيفه عون الأمن التابع لفرقة وقاية الأحداث.

جلسة إستنطاق أمام فرقة وقاية الأحداث

يوجد حاليا مركزان للرعاية الاجتماعية للأطفال في البلاد، أحدهما بالعاصمة والثاني في سيدي بوزيد (إنطلق في العمل فعليا في أكتوبر 2017) حسب وزارة الشؤون الاجتماعية. بالنسبة الى الأطفال الذين يتم تحويلهم إلى هذه المراكز فإن فرارهم ليس بالأمر العسير، فبعض الصبية تعودوا على هذا، حسب ما يرويه لنا أحد الأعوان في فرقة وقاية الأحداث، كما أن وضع الطفل في مركز الرعاية الاجتماعية للأطفال ليس سوى إجراء مؤقتا إلى حين قدوم العائلة لإمضاء تعهد بعدم استغلاله من جديد، يتم على إثره إخراجه من المركز.

توجد كذلك مراكز للإحاطة والتوجيه الاجتماعي بتونس وسوسة وصفاقس التي لا تعنى بصفة خاصة بالأطفال وتستقبل كل الأشخاص الذين لا عائل ولا مأوى لهم و الفاقدين للسند المادي والمعنوي وكل الحالات الاجتماعية الصعبة التي تستدعي الرعاية الظرفية. وقد استقبلت جلّ هذه المراكز 458 طفلا سنة 2017 منهم 231 طفلة.

الأرضية التشريعية… تعدد القوانين عقّد الوضع

  التشريعات لا تساعد هي أيضا في ردع عمليات استغلال الأطفال في التسول نتيجة التضارب فيما بينها على مستوى التطبيق.

يوجد حاليا نصّان قانونيان يمكن أن تطبّق على حالات استغلال الأطفال في التسول:

  • القانون الأساسي المتعلق بمنع الاتجار بالأشخاص ومكافحته الذي صدر بالرائد الرسمي في أوت 2016 والذي يهدف الى منع كل أشكال الاستغلال التي يمكن أن يتعرض لها الأشخاص وخاصة النساء والأطفال. ويعاقب بالسجن مدة عشرة أعوام و بخطية مالية قدرها 50.000 دينار كل من يرتكب جرائم الاتجار بالأشخاص، حسب ما يقره الفصل الثامن من نفس القانون.  
  • مجلة حماية الطفل، التي بمقتضاها يتعهد مندوب حماية الطفولة بتوفير الإحاطة بالأطفال من أجل إيجاد صلح بينهم وبين العائلة.  

عادة، عند حدوث استغلال للطفل من خلال نشاط التسول، تُحال القضية على أنها « استغلال للأطفال » أو « طفولة مهددة » ولا تحال على أنها « اتجار بالأشخاص »، فتكون العقوبة التي يصدرها القضاء مخففة.

يرى وحيد الفرشيشي، وهو أستاذ قانون، بأن المبدأ في القانون هو تطبيق النصوص الخاصة قبل النصوص العامة، بمعنى أن قانون الاتجار بالأشخاص هو الذي يجب أن يُطبّق على حساب المجلة الجزائية حتى وان بقي هذا حيز النفاذ. ويؤكد الفرشيشي أيضا أنه يجب تطبيق التشريعات الأحدث زمنيا. علما أنّ الفصل 66 من القانون الأساسي الذي يتعلق بمنع الاتجار بالأشخاص ومكافحته كان قد أقرّ صراحة إلغاء أحكام الفصل 171 من المجلة الجزائية في ما يخص استغلال الأطفال في التسول. إلا أنه على أرض الواقع، ليس كل المختصّين في القانون على اطلاع على قانون الإتجار بالأشخاص الذي تؤكده روضة العبيدي مضيفة بأن القضاة لا يتم اعلامهم بالتنقيحات والتغييرات التي تطرأ على القوانين إذ تبقى مقتصرة على اجتهاد ذاتي من القاضي.   

من جهة أخرى، فإن القاضي ينظر إلى مسألة استغلال الأطفال ليس فقط من الجانب القانوني وإنما أيضا من الجانب الإجتماعي، حيث يأخذ بعين الاعتبار الوضعية الاجتماعية الهشة للأطفال وأنّ من يستغلّهم هي بالأساس أسَرُهم. بالتالي، يحبّذ القاضي تطبيق أحكام مخففة، متفاديا العقوبة السجنية ومكتفيا بالخطايا المالية. في حين، يرى وحيد الفرشيشي أنّ الأفضل هو تطبيق العقوبات المشدّدة التي جاءت في قانون الإتجار بالأشخاص، حتى يرتدع من يستغلون الأطفال. توافقه في الرأي، روضة العبيدي، رئيسة الهيئة الوطنية للإتجار بالأشخاص، التي تعتبر أنه لابدّ من تطبيق عقوبات قاسية للحد من الظاهرة.

في ظل هذا الوضع، يجد الطفل أحمد نفسه مجبرا على مواصلة العمل في التسول في قيض الصيف وبرد الشتاء، لمساعدة عائلته. وعندما تسأله عن المستقبل، يراه ضبابيا وقاتما. « أنا الآن هنا في هذا الشارع ولا أدري ما سيحل بي غدا »، يجيب وهو يشيح بنظره نحو السيارات التي بدت تقترب من الإشارة المرورية.