الدروس الخصوصية في تونس: معضلة لا يرغب أحد في انهائها

منذ صدور الأمر الحكومي المنظم للدروس الخصوصية في 2015، وإطلاق وزارة التربية حملات لمراقبة المخالفين،لا يبدو أنه تم حقيقة تطويق هذه الظاهرة، رغم وعود كل وزراء التربية المتعاقبين على الوزارة بـ »شن حرب على الدروس الخصوصية ». فهل هناك حقا إرادة حقيقية للقضاء عليها؟
بقلم | 17 ديسمبر 2018 | reading-duration 15 دقيقة

« كان الليل حالك السواد في ليلة شتاء مظلمة، كنت أنتظر مع ابني في السيارة قريبا من منزل إحدى الأمهات التي تطوّعت لتنظيم الدروس الخصوصية في بيتها. فجأة وصل الأستاذ في سيارته القديمة. ركنها جانبا، ثم نزل مرتبكا. نظر حوله بحذر وأخذ محفظته وخبأها بسرعة تحت ابطه، قبل أن يدلف إلى الداخل. بعدها بقليل، خرج رب البيت وهو يحمل كيس القمامة للتمويه ثم أشار إلى ابني بالنزول ليلتحق ببقية زملائه في المنزل ».   
هكذا يصف أحمد، أب لتلميذ عمره 16 سنة، طريقة تنظيم الدروس الخصوصية لتفادي الرقابة الإدارية التي فرضها وزير التربية الأسبق، ناجي جلول، في 2015 على الأساتذة والمعلمين الذين يقومون بالدروس الخصوصية في مخالفة صريحة للقانون.  

« كان ذلك أشبه بفيلم سينمائي حول تجارة المخدرات »، يواصل أحمد، حيث كان ابنه مضطرا إلى إخفاء حقيبته المدرسية تحت معطفه الثخين والإنتظار في السيارة بعد التاسعة ليلا حتى تأتي الإشارة بالنزول من صاحب البيت، ولم يكن مسموحا أن ينزل التلاميذ مع بعضهم البعض وإنما كل على حدة، واحدا تلو آخر، مع ترك فسحة من الزمن بين دخول كل واحد منهم، حتى « لا يثيروا الشبهات ».

استمرّ هذا الوضع لمدة شهر، كان الأب يأخذ يوميا ابنه إلى الدروس الخصوصية بهذه الطريقة الغريبة ويبقى في انتظاره إلى أن تحل الساعة الحادية عشرة ليلا. ثم مرّت الأزمة! ليعود الوضع إلى ما كان عليه سابقا.

يبدو أنّ معضلة الدروس الخصوصية لن تنتهي قريبا في تونس رغم صدور الأمر الحكومي عدد 1619 لسنة 2015 المؤرخ في 30 أكتوبر 2015 والمتعلق بضبط شروط تنظيم دروس الدعم والدروس الخصوصية داخل فضاء المؤسسات التربوية العمومية. صدر هذا الأمر خلال عُهدة وزير التربية الأسبق، ناجي جلول الذي كان قد أعلن حربا على الدروس الخصوصية، عبر محاولة تنظيم هذا القطاع وتكثيف حملات المراقبة الإدارية لكشف المخالفين للقانون. ولئن أزعجت تلك الحملة عددا من المدرسين الذين يمتهنون الدروس الخصوصية خارج المؤسسات التربوية في مخالفة صريحة للقوانين، فانّها لم تسفر سوى عن إيقافات قليلة للمدرّسين، حيث لم تتجاوز عشر حالات حسب منذر ذويب، مدير عام المرحلة الإعدادية والثانوية في وزارة التربية.

اليوم، ما يزال الإشكال مطروحا رغم تعهّد وزير التربية الحالي، حاتم بن سالم، بأنّ « الوزارة ستشن حربا حقيقية على الدروس الخصوصية على المستويين الوقائي والردعي، بعد أن أثقلت كاهل العائلات التونسية التي تنفق بمعدل 300 دينار شهريا على هذه الدروس »، وفق تعبيره.

عملية لي ذراع بين الأساتذة والأولياء

مع بداية كل سنة دراسية وحتى قبل انطلاقها، ينشط قطاع الدروس الخصوصية وتوُشَّح جدران المدارس والمتاجر وأعمدة الكهرباء بملصقات دعائية يعلن من خلالها هذا المدرّس أو ذاك الأستاذ استعداده تقديم دروس خصوصية للتلاميذ من شتّى المراحل والأقسام.

وتنطلق رحلة الأولياء في البحث عن مدرسين لأبنائهم، سواء عبر السؤال داخل الحي الذي يقطنون فيه أو في المدرسة. ويتبادلون أرقام وعناوين الأساتذة والمعلمين الذين ينظّمون هذه الدروس. حبيب، عامل بناء وأب لأربعة أطفال، منهم من هو في مرحلة التعليم الأساسي ومنهم من هو في مرحلة التعليم الثانوي، شرع قبل بداية السنة الدراسية في البحث، في حيّه الكائن بمدينة تستور من ولاية باجة، عن أساتذة لتدريس الفرنسية والإنجليزية والرياضيات.

ورغم أنه يقرّ بأنّ ميزانيته لا تسمح بتغطية تكاليف الدروس الخصوصية، الاّ أنّه يعترف بأنه مضطر لذلك:

« كل أبناء الحي يأخذون دروسا خصوصية، ولا يمكنني أن أحرم أبنائي من ذلك، وإلا أحسّوا بالنقص أمام أقرانهم ».

يدفع حبيب مبلغا يقدّر بـ100 دينار في الشهر لتدريس أطفاله الأربعة. وهو مبلغ كبير مقارنة بدخله الشهري الذي لا يتجاوز 400 دينار وقد يختلف من شهر إلى آخر حسب وجود فرص شغل من عدمه.

يشتكي عامل البناء من « إجحاف » الأساتذة وعدم مراعاتهم لظروف الأولياء، والضغط عليهم لتسجيل أبنائهم لأخذ دروس خصوصية، حيث يروي كيف أنّ ابنته الكبرى التي تدرس باكالوريا علوم جائته يوما تشتكي من أستاذة العلوم التي لم تكن تهتمّ بها وإنمّا تولي كل اهتمامها للتلاميذ الذين يأخذون الدروس الخصوصية عندها.

« تحت ضغط ابنتي إلهام، اضطررت إلى أن أسجلها لتتلقى دروسا عندها، وفعلا تحسّن تعامل الأستاذة معها داخل القسم ».   

حبيب اضطرّ بعد شهرين فقط -وفق شهادته- الى فصل ابنته عن الدروس الخصوصية، نظرا لعدم قدرته على مجاراة التزاماته المالية المجحفة تجاه الأستاذة، لتعود الأمور إلى ما كانت عليه قبل شهرين: معاملة دون المستوى واهتمام موجّه داخل القسم للتلاميذ الذين يدفعون من أجل الدروس الخصوصية فقط دون سواهم.

حالة حبيب ليست حالة منفردة، فسليم، وليّ آخر، تعرّض الى نفس الموقف تقريبا منذ بضع سنوات. كان ابنه يدرس وقتها في السنة الثامنة أساسي في معهد نموذجي. وخلال الثلاثي الأول، أجرى أستاذ الرياضيات لتلاميذه اختبارا صعبا جدا، بحيث لم تتجاوز الأعداد 6 من 20. هاج التلاميذ وماجوا وبعضهم انهار باكيا. فكانت اجابة الأستاذ « لو كنتم سجّلتم في الدروس الخصوصية عندي، لكانت أعدادكم مختلفة! »

لم يقتنع التلاميذ بما ذهب إليه أستاذهم، حسب سليم، وذهبوا ليشتكوه عند مدير المدرسة الذي لم يقم بأي إجراء عدى استدعاء المعني بالأمر ليستفسر منه عن الوضع دون أن يلحّ عليه كثيرا .. « هنا قررّتُ أن أتدخل -يؤكد سليم- جمعتُ الأولياء الذين كان عددهم ثلاثين وذهبنا لمقابلة المدير لنعلمه أن اختبار الرياضيات يتجاوز بكثير مستوى تلاميذ في السنة الثامنة أساسي، وخيّرناه بين الضغط على الأستاذ لإعادة الاختبار وبين إضافة 5 نقاط لكل تلميذ، مهدّدين برفع تقرير للمدير الجهوي في حال لم تتمّ الاستجابة لمطالبنا ».

بعد أخذ ورد، وافق الأستاذ على إعادة إجراء الإمتحان وكانت الأعداد هذه المرة مختلفة. لكن مفاجأة حصلت بعد ذلك، حيث قررّ جميع الأولياء تدريس أبنائهم دروسا خصوصية عند هذا الأستاذ، باستثناء سليم الذي رفض الانصياع للوضع الجديد.

« بالنسبة اليّ، كان يجب مواصلة النضال ضد هذه الممارسات غير القانونية ولم أكن لأرضخ للضغوطات! ».   

اضطر سليم، وهو مهندس إعلامية، الى أن يدرّس ابنه بنفسه بشكل يومي ومكثّف كي لا يشعر هذا الأخير بالفرق بينه وبين زملائه: « كان الأمر متعبا، ولكني كنت مصرّا على مواصلة التحدي حتّى النهاية ».

خلافا لسليم، فهناك أولياء يرضخون بسهولة لضغوط الأساتذة، خوفا على مستقبل أبنائهم، متغاضين عن كل التجاوزات، وهو ما فعلته والدة نصيرة. تروي الفتاة التي تبلغ من العمر اليوم 20 سنة، كيف أن أمّها فضّلت السكوت عندما أخبرتها أن معلمتها التي كانت تدرّّسها الدروس الخصوصية، وهي في المرحلة الإبتدائية، تجبرها وزميلاتها على غسل الصحون في منزلها:

« كانت تعطينا تمارين لحلها وتذهب لإعداد وجبة العشاء، ثم تعود وتطلب من إحدانا القيام بغسل الصحون ».   

وتضيف « عندما أعلمت أمي بذلك لم تقم بأية ردة فعل، لأنها كانت تخاف إن اشتكتها، أن تنتقم هذه الأخيرة مني، فقد كنت أدرس عندها أيضا في المدرسة ».

تٌقرّ ندى العتيري، أستاذة علوم طبيعية في إعدادية تقنيّة بأريانة، بوجود تجاوزات من قبل بعض الأساتذة على مستوى إعطاء الدروس الخصوصية ولكنها ترفض التعميم. فهي نفسها لا تّدرّس الدروس الخصوصية، كما أنها تؤكّد أنها تعرف حولها العديد من زملائها الذين يرفضون ذلك. « لو فكرّت يوم بتدريسها، فسيكون ذلك داخل المؤسسة التربوية، لأنني أعتبر أن من حق كل تلميذ، أيا كان مستواه الدراسي أو الإجتماعي، أن يتابع دروسا خصوصية في إطار التكافؤ في الفرص ».

الدروس الخصوصية: سوق رائجة

بثينة، طبيبة في القطاع العمومي من مدينة باجة، وأم لإبنة تدرس باكالوريا رياضيات هذه السنة، تدفع شهريا 250 دينار مقابل أن تتلقى ابنتها دروسا خصوصية في الرياضيات لوحدها دون أن يكون معها تلاميذ آخرون. ومعلوم أنّ تكلفة التلميذ الواحد تنخفض كلّما ارتفع عدد التلاميذ. فالسّعر، حسب بثينة، يتم احتسابه حسب عدد المقاعد في الطاولة الواحدة، « مثل عدد المسافرين في سيارة نقل عمومي! »، تُعلّق ضاحكة.

خلال الصيف، دفعت بثينة مبلغ 500 دينار مقابل ثماني حصص مراجعة لبرنامج الرياضيات للسنة الفارطة أعطاها الأستاذ لإبنتها. لا تعتبر الطبيبة هذه المبالغ مجحفة، فقد يصل سعر الدروس الخصوصية، وبوجه خاص مراجعة البرنامج قبل أسبوعين أو ثلاثة من إجراء امتحان الباكالوريا، إلى 1000 و1500 دينار للمادة الواحدة.

« أحد زملائي الأطباء دفع مبلغ 12 ألف دينار ليقوم ابنه بمراجعة كل المواد. وقد نجح التلميذ وجاء الأول على دفعته ».   

بثينة لم تفُتها الاشارة، أيضا، الى أنّ هناك بعض الأولياء، ومنهم إحدى الممرضات التي تشتغل معها في المستشفى، اضطرت لأخذ قرض من البنك لتسدّد أجور دروس المراجعة للباكالوريا في مادتي الرياضيات والفيزياء.

لا تنكر بثينة أن هناك استغلالا للوضع من قبل الأساتذة وضغطا ماديا كبيرا مسلّطا على الأولياء:

« ولكننا مجبرون على الدفع لأن الجميع يفعل ذلك ».   

بسؤال بعض الأولياء عن الأسعار المعتمدة، نجد اختلافا كبيرا بينها، فهناك من يحتسب الحصة بـ30 دينارا وهناك من يرفع هذا المبلغ إلى 50 دينار. وكلما اقتربنا من المراحل النهائية للتعليم الثانوي، كلما ارتفع السعر، خاصة بالنسبة إلى الباكالوريا، حيث يمكن أن يصل سعر الحصة إلى 70 دينار.

ويمكن من خلال جولة على المواقع التجارية مثل Tayara أو Tunisie Annonce الاطلاع على إعلانات الدروس الخصوصية وأسعارها ولمحة عن هوية المُدرّس وامكانياته، والحصول على رقم هاتفه وعنوانه. قمنا بالإتصال ببعض الأساتذة الذين وجدنا أرقامهم على هذه المواقع لنكتشف أن بعضهم طلبة يدرسون في التعليم العالي وآخرون متقاعدون من التعليم الثانوي وهناك أيضا أساتذة من القطاع العمومي يعرضون خدماتهم على الأنترنات دون خوف من كشفهم ويبدون أيضا إستعدادا للتنقل إلى منزل التلميذ لإعطاء الدرس الخصوصي. كمثال (ش .ر) الذي يدرّس الرياضيات بالنسبة للسنة الثالثة والرابعة ثانوي في أحد المعاهد الثانوية بالعاصمة. عند الإتصال به على أساس أننا أولياء نبحث عن أستاذ دروس خصوصية، تفاخر بتجربته الكبيرة في هذا الميدان وبمعرفته ببرنامج الرياضيات بالنسبة للسنوات النهائية من التعليم الثانوي، بالإضافة إلى قدرته على توصيل المعلومة ومساعدة التلميذ على تحسين مستواه بشكل كبير. كما أنه أبدى استعداده للقدوم مرات عديدة في الأسبوع لتدريس التلميذ في البيت، حسب جدول هذا الأخير واستعداده النفسي.

وبما أن الدروس الخصوصية أصبحت سوقا حقيقية، فإن هناك وكالات متخصصة ظهرت في هذا المجال مثل وكالة Merciprof. من يزور موقعها على الإنترنت يلاحظ أنه يمكن التسجيل في الدروس الخصوصية واختيار المرحلة الدراسية التي يُراد الدراسة فيها وما إذا كان الشخص يرغب في المشاركة في الدرس بشكل منفرد أو بشكل جماعي. كما يمكن لأي أستاذ أن يُسجّل في الموقع ليكون ضمن فريق التدريس. حاولنا الإتصال بهذه الوكالة للحصول على أكثر معلومات عن نشاطها، عبر الرقم الموجود في الموقع وكذلك بارسال إيمايل ولكن لم نتحصل على أي رد.

ويوجد أيضا من الأساتذة من يعطون دروسا خصوصية على الإنترنت عبر موقع الكتروني تفاعلي يقومون من خلاله باقتراح موادّ بيداغوجية ومسائل حسابية وإصلاحها على غرار موقع math-universe.com الذي أسسته أستاذة رياضيات. وتتراوح الأسعار بين 40 و 80 دينارا، كما هو موجود في الموقع، لمتابعة الحصص عن بعد والنفاذ إلى الموادّ التعليمية بعد الاشتراك ودفع المعلوم المطلوب مسبقا.   

اتصلنا بمديرة الموقع، زهرة نصيري قداس، لنعرف نوعية الأساتذة الذين يشتغلون معها. حسب تصريحها، فإن معظمهم مهندسون وطلبة دكتوراه في الرياضيات والفيزياء. وعندما سألناها إذا كان للشركة تصريح قانوني للنشاط، خاصة وأننا بحثنا عنها في السجل التجاري ولم نجدها، أجابت: « نحن نعمل حاليا على تسجيل الشركة، فليس لنا سوى سنة من النشاط! » وعن مكان الشركة حاليا، بالنسبة لمن يريد الدراسة مباشرة وليس عبر الأنترنات، أخبرتنا أنه موجود في بيتها.

ورغم استفحال ظاهرة الدروس الخصوصية، لم تقم وزارة التربية بأية دراسة لتحديد حجم الظاهرة باستثناء دراسة يتيمة أنجزتها المنظمة التونسية لإرشاد المستهلك حول ظاهرة الدروس الخصوصية سنة 2017، وهي دراسة ميدانية شملت عيّنة من 2907 من الأولياء. وأثبتت الدراسة أنّ متوسط كلفة التلميذ الواحد، لمختلف مراحل التعليم دون احتساب المراحل الجامعية يعادل 50 دينارا شهريا على فترة 10 أشهر، حيث يصل رقم معاملات الدروس الخصوصية إلى قرابة 1000 مليون دينار سنويا.

وحسب ما جاء في البيان الصحفي للمنظمة، فإن هناك خسارة سنوية بالنسبة الى ميزانية الدولة لا تقل عن 300 مليون دينار، باحتساب الآداء على الأرباح فقط، في حال إخضاع هذه الظاهرة للنظام الجبائي باعتبارها نشاطا تجاريا.

هذه الأرقام الوارد ذكرها أعلاه قد تفسّر سبب عدم إقبال الأساتذة على تدريس الدروس الخصوصية داخل المؤسسات التربوية، حيث لم يتجاوز عدد الأساتذة الذين تقدموا بتراخيص لوزارة التربية في هذا الصدد، خلال السداسي الأول من سنة 2017 سقف 2690، مقابل عدد جملي للأساتذة في الإعدادي والثانوي يصل إلى 77.745 أستاذ، حسب منذر ذويب، مدير عام المرحلة الإعدادية والثانوية في وزارة التربية. وقد سجّل 3900 تلميذ فقط في هذه الدروس في نفس الفترة، من مجموع 830 ألف تلميذ في المرحلتين الإعدادية والثانوية.

4 آلاف دينار شهريا دخلا إضافيا

يرى محمد، وهو أستاذ رياضيات متقاعد، يقدّم الدروس الخصوصية منذ 40 سنة، أنّ ما يدفع الأساتذة إلى اعطاء الدروس الخصوصية هو تدنّي أجورهم التي تتراوح بين 1000 و 1700 دينار شهريا، ما يجعلهم يبحثون عن دخل إضافي. ولكنه لا ينكر أن هناك ضغطا من قبل الأولياء على الأساتذة لتدريس أبنائهم وأحيانا من مديري المدارس والمعاهد.

« في البداية كان مدير المعهد هو من يرسل لي التلاميذ من أبناء أصدقائه من المتنفذين (أطباء أو مسؤولين في الشرطة) إلى المنزل ويضغط عليّ لأدرسهم، وأحيانا أخرى كان زملاء أساتذة يرسلون لي أبناءهم لتدريسهم ».   

محمد يتقاضى 20 دينارا عن الحصة ويدرّس حاليا حوالي 50 تلميذا في غرفة جهّزها في حديقة منزله، ما يوفّر له، إذا ما تم احتساب 4 حصص لكل تلميذ، دخلا يساوي 4000 دينار شهريا. وهو ليس بالمبلغ القليل. وفي سؤاله، عما إذا كان يدرّس، قبل إحالته على التقاعد، نفس التلاميذ في القسم وفي الدروس الخصوصية، أجاب بأنه كان يدرّس البعض منهم ولكنه كان يحرص على « ألاّ يفرّق بين التلاميذ وأن يعطيهم نفس التمارين لحلها ».

لا ينكر محمد أن البعض من زملائه الأساتذة يقومون بتجاوزات من قبيل إجبار تلاميذهم على أخذ دروس خصوصية عندهم. في هذا الصدد، يروي كيف جائته والدة تلميذ تشكو من زميلة له أسندت عدد 2/20 لإبنها في امتحان الرياضيات لأنه لم يسجّل في الدروس الخصوصية التي تقدّمها، لكنه حينما اختبر التلميذ بنفسه اكتشف أن مستواه جيّد في هذه المادة.

هناك أيضا، حسب محمد، اتفاق بين الأساتذة الذين يُدرّسون تلاميذ بعضهم البعض في الدروس الخصوصية، يقضي بأن يعطوهم نفس التمارين التي ستأتي بعد ذلك في الإختبارات في القسم.

في هذا الصدد، يروي أيمن، وهو تلميذ في السنة الثالثة ثانوي، كيف أنه اكتشف ذات يوم أن أكثر من نصف اختبار الرياضيات متكون من تمارين، أعطاها لهم أستاذ الدروس الخصوصية وهو زميل مقرّب لأستاذته في معهده في رادس، مما يؤكّد حسب رأيه نظريّة التنسيق بين الأساتذة.

مشكل آخر تحدث عنه محمد وهو المنافسة غير المشروعة بين الأساتذة لإعطاء الدروس الخصوصية للتلاميذ، حيث يعمد البعض منهم للضغط على الأولياء لنقل أبنائهم من عند الأستاذ الذي يقدّم لهم دروسا خصوصية، حتى يتسنّى لهم الظفر بكعكة الدروس الخصوصية. وهو ما حصل معه، حيث خسر بعض التلاميذ نتيجة هذه الممارسات.

« للأسف بعض الأساتذة لا يتورعون عن فعل أي شيء لكسب المال، ويريدون الإثراء بسرعة ».   

وقد يصل الأمر ببعض الأساتذة إلى الشجار حول أحقّية تقديم دروس خصوصية للتلاميذ. تتذكر زينة، وهي مديرة مدرسة ابتدائية متقاعدة، كيف كانت تنشب خلافات كبيرة قبيل بداية السنة الدراسية في اجتماع المعلمين:

« الكل يريد الحصول على أقسام يكون معظم تلاميذها من العائلات الميسورة، حتى يتمكنوا فيما بعد من الضغط عليهم للقيام بدروس خصوصية ».   

وحول دور المدير في التصدي للظاهرة، تقول زينة انّ المدير وإن كان على علم بما يحصل، فلا يمكنه أن يفعل شيئا لأنّ « لا سلطة له على ما يقوم به المدرسون خارج المؤسسة التربوية »، كما يجب عليه أن يقدم إثباتات حول هذه الممارسات، إذا كان يريد أن يرفع شكوى إلى الإدارات الجهوية للتعليم أو إلى الوزارة. في المقابل، فانّ زينة تُحمّل المسؤولية أيضا للأولياء الذين لا يشتكون ويقبلون بكل التجاوزات على حدّ قولها.

الأولياء طرف أساسي في المشكل

علياء، 45 سنة، أم لتلميذ يدرس في المرحلة الثانوية، تروي كيف اتصلت بها والدة أحد التلاميذ في نفس القسم الذي يدرس فيه ابنها، لتقنعها بضمّ هذا الأخير إلى مجموعة التلاميذ التي كانت بصدد تكوينها لتلقّي دروس خصوصية في الرياضيات عند أستاذ معروف بكفائته، يعمل في أحد المعاهد النموذجية، وذلك بعد أن ألحّت عليه أن يقبل بتدريس هذه المجموعة. علما وأن هذه الوليّة حرصت على أن تنتقي أعضاء المجموعة من بين أحسن التلاميذ في القسم حتى تحافظ على مستوى عال في الدراسة، كما أنها اقترحت على الأستاذ أن يقدّم الدروس في منزلها إذا لم يكن لديه مكان يستضيف فيه التلاميذ.

الأمر لم ينته عند هذا الحد تؤكد علياء:

« قبل التحاق ابني بالدروس، اشترط عليه الأستاذ أن يقوم باختبار ليتأكد من أن مستواه عال في الرياضيات وملائم لبقية التلاميذ الآخرين، حتى يحافظ على المستوى العام للدروس »   

ولكن لماذا يلجأ الأولياء للدروس الخصوصية؟

أجمع الأولياء الذين تسنّى لـانكيفادا الحديث اليهم، على أنّ لجوئهم إلى الدروس الخصوصية يعود أساسا إلى تردي مستوى التعليم بصفة عامة ومستوى الأساتذة بصفة خاصة.

« أنا مضطر لتدريس ابني دروسا خصوصية في الرياضيات وفي الفيزياء كي يحافظ على نفس المستوى الذي كان عليه عندما كان يدرس في المعهد النموذجي »، يصرّح أحمد الذي لاحظ أنّ ابنه كان يحصل على علامات لا تقلّ عن 15 من 20 في الرياضيات، لكن عندما نقله إلى معهد عمومي عادي وليس نموذجيا، أصبح ابنه بالكاد يحصل على علامة 10 من 20، وهو ما فسّره الأب « بقلّة المتابعة داخل المعهد وبالنقص في الكفاءة لدى المدرسين ». هذا ما أكده أيضا ابنه فراس، الذي علّل ذلك بالقول:

« في القسم، الأستاذ لا يجيد التفسير أو ايصال المعلومة كما يجب، لذلك فأنا أعوّل على الفهم خلال الدروس الخصوصية ».   

اعتاد الوليّ أحمد، عند الشعور بتراجع أعداد إبنه، عدم الاستفسار عن سبب ذلك التراجع من الأستاذ الذي يدرّسه في المعهد، وإنما التوجّه إلى أستاذ الدروس الخصوصية الذي يعتبره مسؤولا عن علامات فراس في الإمتحان. 

« ما يلزّك على المر، كان إلّي أمرّ منه »   

هكذا علّق رضا الزهروني، رئيس الجمعية التونسية للأولياء والتلاميذ، الذي يعترف بمساهمة الأولياء في تفاقم ظاهرة الدروس الخصوصية و »لكن مالحل أمام عدم كفاءة الأساتذة وضعف المؤسسة التربوية ! ».

« إن أردت المحافظة على مستوى دراسي عال لإبنك أو ابنتك، لابد من اللجوء إلى الدروس الخصوصية »، يقرّ الزهروني الذي اختار هو أيضا هذا الحل. إلا أنه يُحمّل أساسا المسؤولية في تفاقم الوضع، لوزارة التربية التي « تعدُ منذ سنوات بإصلاح النظام التعليمي في العمق وهو ما لم يحصل إلى حد الآن ».

وتعاني تونس منذ سنوات من تراجع جودة التعليم فيها، فحسب تقرير بعنوان « تحليل النظام التربوي في تونس »، صدر سنة 2013 وقام به المرصد الوطني للتشغيل والمهارات (التابع لوزارة التكوين المهني والتشغيل)، فإنّ المنظومة التعليمية في تونس لا تضمن تكوينا صلبا للتلاميذ الذين يشكون من ضعف مستواهم، خاصة في اللغات والرياضيات. ويتجلى ذلك -وفق الدراسة ذاتها- في الصعوبات التي يواجهونها في التواصل والتحليل وحل المشكلات ».

فعلى سبيل المثال، يستشهد التقرير بترتيب تونس على مستوى التقييم الدولي PISA الذي يقيم مدى قدرة التلاميذ في سن 15 سنة على استيعاب العلوم والمعارف الضرورية للحياة اليومية في بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OCDE، حيث احتلت تونس سنة 2009 المرتبة 56 على مجموع 65 دولة وهو مؤشر ضعيف جدا.

وفي تصنيف المنتدى الاقتصادي العالمي دافوس لسنة 2017، حول جودة النظام التعليمي، احتلّت تونس المرتبة 103 عالميا على مجموع 137 دولة.

تقصير وزارة التربية

سعت وزارة التربية الى مقاومة ظاهرة الدروس الخصوصية في عهد الوزير الأسبق للتربية، ناجي جلول، حيث كان هذا الأخير وراء إصدار الأمر الحكومي عدد 1619 لسنة 2015 المتعلق بضبط شروط تنظيم دروس الدعم والدروس الخصوصية، في محاولة لتنظيم الظاهرة، وذلك عبر تقنينها وتقييدها بفضاء المؤسسة التربوية وتحديد أسعار الدروس الخصوصية.

وقد تعزّز هذا الأمر الحكومي، آنذاك، بتنظيم حملات مراقبة قامت بها التفقدية العامة الإدارية والمالية، تم خلالها فتح تحقيقات في الشكايات التي تقدّم بها أولياء ضد الأساتذة الذين يعطون الدروس الخصوصية. هذه التحقيقات أسفرت عن إيقاف معلمين وأساتذة عن العمل، وفق ما أكّده الوزير الأسبق ناجي جلول.

ويضيف جلّول متذكّرا:

« بثّت هذه الحملة الرعب في قلوب المخالفين، ولاحظنا تراجعا في ظاهرة الدروس الخصوصية، دون التمكّن من القضاء عليها تماما ».   

يعتبر جلول أنه كان لابدّ من الضرب بقوة للحد من هذه الظاهرة، خاصة وأنها أخذت أبعادا كبرى، حيث « أصبح أستاذ الدروس الخصوصية يتقاسم مع الوليّ راتبه ». ويسانده في موقفه، لسعد اليعقوبي، الكاتب العام لنقابة التعليم الثانوي، الذي كان اعتبر في تصريح لإذاعة موزاييك أن الدروس الخصوصية « سرطان ينخر المنظومة التربوية »، داعيا إلى إيجاد الآليات الكفيلة بمعالجته، عبر المراوحة بين الجانبين القانوني والتوعوي.

من جانبه، يعتقد رضا الزهروني، رئيس الجمعية التونسية للأولياء والتلاميذ، أن حملة المراقبة التي أطلقها جلول لم تكن ناجعة، بل على العكس، « فإنها خلقت سوقا سوداء للدروس الخصوصية »، حيث جعلت الأساتذة والأولياء يبتكرون حيلا أخرى لتفادي الرقابة وفق قوله.

أمّا منذر ذويب، مدير عام المرحلة الإعدادية والثانوية في وزارة التربية، فقد أكّد أنّ الحملة لم تسفر سوى عن إيقاف عشر حالات ثبت فيها تورط المدرسين في إعطاء الدروس الخصوصية خارج إطار المؤسسة التربوية.

ولا يُخفي ذويب وجود صعوبة حقيقية في إثبات ممارسة المعلمين والأساتذة للدروس الخصوصية لأن ذلك يحصل خارج المؤسسة التربوية والقانون لا يُخوّل للمتفقدين الإداريين والماليين مراقبة المنازل والمستودعات التي يؤجرها المدرسون ليدرّسوا فيها الدروس الخصوصية.

« كلّ ما يستطيعون فعله هو فتح تحقيق بناء على تلقي شكاية، ثم استجواب المدرسين، والتلاميذ، والأولياء، ومدير المؤسسة، دون القدرة على التنقل الى المكان، ما يضعف التحقيق ». يوضّح ذويب.  

ما ورد على لسان ذويب، أكده متفقد من التفقدية الإدارية والمالية، رفض ذكر إسمه، حيث بيّن أن المشكل الأساسي هو أنّ « التلاميذ الذين يتم سؤالهم بشكل منفرد وكتابي لا يعترفون بتلقيهم دروسا خصوصية خارج المؤسسة، إما خوفا من الأستاذ أو رغبة في حمايته .. وبما أن شهادتهم هي أساسا ما يتم الإعتماد عليه في إثبات التجاوز من قبل الأساتذة، فانّ مهمة المتفقدين تصبح صعبة جدّا ».

ذويب يرى أن مقاومة الظاهرة يجب أن تكون عبر حلول جذرية وعميقة وأوّلها القيام بالإصلاح التربوي والتخفيف من الزمن المدرسي وتغيير البرامج الدراسية وتحسين مستوى تكوين الأساتذة والمعلمين، خاصة في الجانب البيداغوجي. في هذا الصدد، بيّن أن هناك برنامجا انطلق منذ سنتين لتكوين المدرسين بالمرحلة الإبتدائية من خلال خلق شعبة جديدة بعد الباكالوريا اسمها « علوم التربية » تمتد الدراسة فيها على مدى ثلاث سنوات، وذلك لتحسين المستوى البيداغوجي للمعلمين وتدعيم قدراتهم على ايصال المعلومة.

وقد دخلت هذه الشعبة حيّز التطبيق ويُنتظر أن تتخرج الدفعة الأولى في جوان 2019. أما فيما يخص الأساتذة، فهناك مشروع لخلق شعب بعد الباكالوريا للحصول على شهادة أستاذية تُعدّ الأستاذ للتدريس، وبالتالي يتم التركيز على تكوينه تكوينا بيداغوجيا، بالإضافة إلى أنّ الوزارة تسعى إلى تحسين التكوين المستمر للمدرّسين عبر تكثيف الدورات التكوينية وتوجيهها أكثر نحو تحسين قدراتهم على التواصل مع التلاميذ.

في الأثناء، مازال مشروع الإصلاح التربوي الذي أعدتّه الوزارة لم ينطلق إلى حد الآن، وقد يحتاج -وفق تأكيدات الوزارة، إلى سنة أو سنتين ليدخل حيّز التنفيذ. بالتالي، تتواصل ظاهرة الدروس الخصوصية… وكأنها جزء لا يتجزّأ من واقع التربية والتعليم في تونس.