"قصفوا شبابه…جعلوه يشعر دائما بالاختناق"
محمد ضياء، واحد من إحدى عشر حالة وثّقها هذا التحقيق على مدى ثلاثة أشهر. كشف التحقيق أن جميعهم كانوا ضحايا هذا الإجراء غير الدستوري والذي ينتهك حرية التنقل خارج البلد، حتى بات يحظر التنقل داخل المدن التونسية. وقد شمل الانتهاك، وفق تقرير لمنظمة العفو الدولية، عددا من المشتبه بهم على أساس المعتقدات أو الممارسات الدينية، أو بسبب المظهر مثل إطلاق اللحية وارتداء الملابس ذات الصبغة الدينية، أو إدانات سابقة، دون تقديم أي دليل يربطهم بنشاط مع جماعات مسلّحة.
التحقيق وثّق، كذلك، وجود عدد من الصحافيين ونشطاء المجتمع المدني بالاضافة الى أشخاص آخرين غير ملتزمين دينيا. البعض الآخر ممّن شملهم الاجراء لا يعرف لذلك سببا سوى كونه من المتمتّعين بالعفو التشريعي أو أنّه ضحيّة وشاية أو تهمة كيدية في حقّه.
وبالتعمّق أكثر في دهاليز ال"S17" المعتّمة تكشّفت لهذا الإجراء وجوهٌ أخرى هي الرشوة والابتزاز والهرسلة الأمنية، وهو ما وثّقه، كذلك، تقرير أعدّته منظمة العفو الدولية شمل 60 تونسيا، وجاء بعنوان "حتّى مرّة ما يقولولي علاش: القيود التعسّفية على حرية التنقّل في تونس".
صادف ترحيل محمد ضياء من إيطاليا مرور أيّام معدودات على حادثة تفجير حافلة الأمن الرئاسي في نوفمبر/تشرين الثاني 2015 والتي راح ضحيّتها ما لا يقلّ عن 12 عون أمن. مباشرة إثر وصوله إلى أرض الوطن، تمّ تحويل الشابّ الملتحي إلى "القرجاني" حيث مقرّ الوحدة الوطنية للبحث في الجرائم الإرهابية، وبقي موقوفا على ذمّة التحقيق لمدّة أسبوعين. لم تعرف العائلة إلى اليوم سبب التحقيق مع ابنها. كلّ ما تعرفه أنّ حياة "حمّة"، كما يحلو لوالدته أن تناديه، قد تغيّرت إلى الأبد. لم يتمّ تتبّع محمد ضياء قضائيّا ولكنّه عاش في السنوات الأخيرة داخل سجن بسماء مفتوحة.
في بيت العائلة المتواضع بمدينة منزل بوزلفة التابعة لولاية (محافظة) نابل، ما تزال والدة محمد ضياء، في ثوب الحداد، تخرج كلّ يوم بدلة صلاة ابنها البيضاء لتبكي بكرها في صمت.
آلاف المواطنين تحت طائلة الإجراء… ولا رقم رسميّ
"لا تعتبر إجراءات مراقبة الحدود S17 أوامر حظر سفر صريحة، حيث أن الأشخاص الخاضعين لها لا يُمنعون بالضرورة من السفر. لكن عملياً، كان الإجراء S17 في بعض الأحيان بمثابة حظر سفر بحكم الواقع." مقتطف من تقرير العفو الدولية.
قرابة 100 ألف مواطن تونسي يخضعون للإجراء الحدودي S17، هذا ما أعلنته شبكة الملاحظ للعدالة الانتقالية، والتي تضمّ الهيئة الوطنية للمحامين التونسيين والرابطة التونسية لحقوق الإنسان ومنظمة محامون بلا حدود، في تقرير نشرته عام 2017. رقم يتوافق مع إحصائية كان نشرها مرصد الحقوق والحريات قبل ذلك بنحو عام، في إطار حملة ميدانية اشتغلت على عيّنة من 500 تونسي كان شعارها "عمّار 17… سيّبني نعيش".
وصفت وزارة الداخلية الرقم المعلن من قبل المنظمات الحقوقية (100 ألف) آنذاك ب"المبالغ فيه"، رافضة في المقابل تقديم رقم رسمي لعدد المواطنين الّذي يشملهم هذا الإجراء رغم أنّها اعترفت بمنع أكثر من 29 ألفا و450 تونسيا من السفر مبرّرة ذلك بتجنّب استقطابهم في الخارج وتوجيههم نحو بؤر التوتّر دون توضيح ما إذا كان ذلك المنع قد تمّ في إطار الإجراء S17 أم لا.
يقول الناشط الحقوقي مصطفى عبد الكبير إنّ وزارة الداخلية "تتحفّظ على الرقم الدقيق لعدد التونسيين المشمولين بالإجراء S17"، مرجّحا أن يكون سبب ذلك "مرتبطا أساسا بأن منظومة العمل على الإجراء داخل الوزارة غير متماسكة". ويضيف عبد الكبير أنّ الأرقام ترتفع وتتغيّر بتغيّر الوزراء، مشدّدا على وجود طابع سياسي للإجراء.
كابوس السّفر المؤرّق
أمام المئات من الشباب من جنسيات مختلفة وبحضور شخصيات عالمية على غرار كوفي عنان، وقف محمد الخليفي، يوم 25 أكتوبر 2017، على منصّة المحاضرين في "المؤتمر الدّولي للشباب" بالعاصمة الكولومبية بوغوتا. تحت السترة المفتوحة، كان يظهر قميص الحراك الشبابي المناهض لقانون المصالحة في تونس "مانيش مسامح"*
"بدأت أفكّر مرّتين قبل أن أسافر مع أشخاص آخرين...أشعر أنها إهانة كبيرة وأنني مواطن من درجة ثالثة أو رابعة".
بدأت قصّة محمد الخليفي أو حمّادي، كما يعرف بين أصدقائه وعلى فايسبوك، يوم 19 مارس/آذار 2017. كان يشارك يومها في دورة تدريبية بأحد النزل في منطقة سيدي الظريف المتاخمة لقرطاج حيث القصر الرئاسي. حلّ أعوان أمن بالنزل وسألوا عن الشابّ قبل أن يقتادوه إلى منطقة الأمن الوطني بقرطاج. هناك تمّ التحقيق مع حمّادي حول وجهات سفره السابقة وعمله ضمن منظمات المجتمع المدني… عندما أخلي سبيله، فهم الشابّ من حديث عوني الشرطة الّذين كانا يرافقانه أنّه يخضع للإجراء الحدودي الS17.
عندما استفسر حمّادي أحد أصدقائه المحامين عن ماهيّة الإجراء المذكور، شعر بما أسماه "مفارقة مضحكة ومبكية في نفس الوقت". فالإجراء الّذي يفترض أنه يستخدم في المراكز الحدودية قصد استشارة وزارة الداخلية بخصوص دخول شخص ما إلى تونس أو خروجه منها، يطبّق على حمّادي في منطقة وسط العاصمة.
"لعلّهم جاؤوا ركضا إلى النزل باعتباره مجاورا للقصر الرئاسي حيث يوجد الرّئيس"، يرجّح حمّادي.
ربّما إذن، كانت القصّة قد بدأت قبل ذلك بنحو عام. ففي ديسمبر/كانون الأوّل 2016، تمّ إيقاف حمّادي في مدينة صفاقس أين يقيم قبل أن ينقل إلى فرقة مكافحة الإجرام بالقرجاني. كان ذلك على خلفية تدوينة ساخرة نشرها على صفحته الشخصية على فايسبوك. التدوينة التي سارع الشابّ إلى حذفها عند إدراكه أنّ البعض أخذها على محمل الجدّ، أعتبرت إساءة إلى شخص رئيس الجمهورية الباجي قائد السّبسي وتحريضا عليه.
فقد حمّادي على الفور وظيفته كمتدرّب بهيئة الحقيقة والكرامة*، قبل أن يفرج عنه لاحقا بعد إصدار المحكمة الإبتدائية بتونس قرارا بالتخلّي عن القضية لفائدة المحكمة المختصّة ترابيا أي الواقعة في محافظة صفاقس. ولم يصدر حتى اليوم حكم نهائيّ في القضية.
"إنّها مفارقة عجيبة أن تضعني وزارة الداخلية في نفس القائمة مع الأشخاص المشتبه في امتلاكهم فكرا متشدّدا، في حين أنّني كنت يوما عرضة للشتم والتكفير من قبل أشخاص متشدّدين بعد نشري مقاطع من روايتي (هرب)، يشرح حمّادي.
منذ "حادثة النّزل" تكرّر تعطيل حمّادي عند السفر… كان يتمّ التحقيق معه لمدّة ساعة على الأقلّ خلال سفراته الأربع خارج البلاد. سيل من الأسئلة عن وجهة السفر والغرض منه وتاريخ العودة و جهة التّمويل وما إذا كان يصلّي أم لا. أمّا داخل البلاد، فقد تعرّض مرّتين أثناء تنقله من ولاية الكاف إلى العاصمة بسيارة أجرة جماعية إلى التعطيل لما يقارب الساعة للتثبّت في وضعيته دونا عن سائر الرّكاب.
إجراء خارج القانون
تعدّ حرية التنقل حقّا دستوريا على غرار جملة الحقوق والحريات المنصوص عليها في الباب الثاني من دستور الجمهورية التونسية (2014). ويؤكّد الفصل 49 على أنّه لا يمكن ضبط الحقوق والحريات المضمونة في الدستور إلاّ بمقتضى قانون، وأنّه لا توضع هذه الضوابط إلاّ لضرورة تقتضيها دولة مدنية ديمقراطية وبهدف حماية الغير، أو لمقتضيات الأمن العامّ، أو الصحّة العامّة، أو الآداب العامّة، وذلك مع احترام التناسب بين هذه الضوابط وموجباتها، وأنّ الهيئات القضائية تتكفّل بحماية الحقوق والحريات من أيّ انتهاك.
ويمثّل قانون جوازات السفر لسنة 1975، بصيغته المعدّلة في 23 ماي/ أيار 2017، الإطار التشريعي التونسي الوحيد الذي يحدّد شروط حظر السفر وإجراءاته. ويجب بمقتضى القانون إبلاغ الأشخاص الممنوعين من السفر بالقرار وأسانيده وضمان حقهم في الطعن فيه. كما يحدّد القانون حظر السفر بمدة أقصاها 14 شهرا في جميع الظروف، ويجب رفعه بعدها.
في المقابل، لا يعدو الإجراء S17 أن يكون مجرّد أمر تنفيذي صادر عن وزارة الداخلية.
في ردّها على تقرير سابق لمنظمة العفو الدولية، عرّفت الداخلية الإجراءات الحدودية بما في ذلك الـS17 بأنّه "إجراء أمني وقائي وتحفّظي يتعلّق بطبيعته بحالة الطوارئ والحرب على الإرهاب"، في حين لا يتضمّن الأمر المنظّم لحالة الطوارئ في تونس أيّ اشارة الى اجراءات خاصة من شأنها منع سفر الأشخاص الى خارج البلاد. الأمر ذاته ينطبق على القانون المتعلق بقانون الارهاب ومنع غسل الأموال لسنة 2015.
ولا يخضع الإجراء S17 لأي إشراف قضائي، ذلك أنّ وزارة الداخلية لا تطلب الحصول على أمر من المحكمة أو موافقة وكيل الجمهورية قبل إصداره. كما لا يمكن معرفة ما إذا كان هذا الإجراء يُرفع عن الشخص خلال 14 شهرا، مثلما ينصّ عليه قانون الجوازات، أو مع انتهاء حالة الطوارئ السّارية في البلاد فحسب، وما إذا كان يجب تجديده أم لا، و كيف يمكن إزالة هذه القيود على التنقّل.
وفي ردودها على المحكمة الإدارية، تستند وزارة الداخلية لتبرير استخدامها لهذا الإجراء الإداري إلى وجود "استراتيجية وقائية وطنية لمكافحة الإرهاب" وإلى سلطتها التقديرية التي تخوّل لها مراقبة جولان الأشخاص بكامل تراب الجمهورية ومنها الحدود الترابية والبحرية ومباشرة الشرطة الجوية وذلك عملا بأحكام الفصل 4 (مطّة 3) من الأمر عدد 342 لسنة 1975 المؤرّخ في 30 ماي 1975.
وبناء على ما سبق، يبيّن القاضي الإداري ورئيس وحدة الاتّصال والإعلام بالمحكمة الإدارية عماد الغابري أن القرارات التي أصدرتها المحكمة الإدارية لصالح مواطنين خاضعين للإجراء S17 على خلفية قضايا تتعلّق بمادّة توقيف تنفيذ الإجراء أو الإلغاء (قضايا في الأصل)، تستند إلى أنّ استخدام وزارة الداخلية لهذا "الإجراء الّذي يتسلّط على حق الأفراد في التنقل وخاصة المغادرة كان فاقدا للسّند القانوني"، واصفا الوزارة بأنّها "استحدثت صلاحية من عدم".
لا أحد يملك إجابة
في إحدى أمسيات صائفة 2016، كان نادر المثلوثي، 29 عاما وأستاذ بمعهد خاصّ، يتجوّل رفقة أصدقائه في شارع الحبيب بورقيبة، عندما استوقفه عدد من رجال الأمن، قرب "برج السّاعة" أو ما يعرف بـ"المنقالة" للقيام بالفحص الروتيني للأوراق الثبوتية.
سلّم نادر بطاقة تعريفه الوطنية لعون الأمن فما راعه إلاّ وقد دبّت في الأعوان حالة من الحيرة وجعلوا يتحادثون فيما بينهم. كان يراقبهم مذهولا وعندما سألهم عمّا يجري جاءه الردّ بعد حين بأنّه يخضع للإجراء الحدودي S17 قبل أن يطلبوا منه مرافقتهم إلى مركز السّيتيام الواقع على مقربة من مبنى وزارة الداخلية.
ظلّ الشابّ هناك من السّاعة الخامسة مساء حتى الساعة العاشرة ليلا. كانوا يسألونه عن مدى التزامه الديني وأدائه للصلاة من عدمه وآرائه السياسية.
لم يحصل نادر يومها على إجابة حول سبب وضعه في قائمة الـS17، لكنّه يرجّح إلى اليوم أن يكون ذلك بسبب إيقافه مرّة والتحقيق معه على خلفية تمثيله مشهدا في فيديو كليب لأغنية "راب" منشورة على اليوتيوب يظهر فيه حاملا لسلاح بلاستيكي.
إجراء في الظلّ
يقول أنيس ورتاني كاتب عامّ نقابة أمن مطار تونس قرطاج الدّولي إنّ الإجراءات الحدودية ليست أمرا مستجدّا بل هي إجراءات معمول بها منذ سنوات طويلة، مبيّنا أنّ ما يعرف بالإجراء S17 يحيل على "استشارة" في حق شخص ما تتوفّر لدى الأمن معطيات تؤكّد أنه سيغادر البلاد بغرض "الجهاد" وبالتالي "سيشكّل خطرا على دولة أخرى ويجعل اسم تونس في خطر". في المقابل، لا ينكر الورتاني استخدام هذا الإجراء الحدودي داخل البلاد وبين المدن.
ويضيف الورتاني أنّ الـS17 لا يشمل المواطنين التونسيين المشتبه في نيّتهم الالتحاق ببؤر التوتّر فحسب، وإنّما من تتعلّق بهم شبهات فساد مالي ومرتكبي الجرائم، بل وزد على ذلك، يتعدّاهم أيضا ليشمل أجانب قد يكون من بينهم من يشكّل خطرا على أمن البلاد وبالتالي يجب إعلام الجهات الأمنية قبل اتّخاذ القرار في السّماح له بدخول التراب التونسي.
كان حمّادي قد قال في شهادته إنّه كان يدرك أنّ شاشة الحاسوب تتلوّن بالأحمر في كلّ مرة يدخل فيها موظّف الجوازات اسمه عند السّفر. في سياق شهادته، قدّم أنيس الورتاني بتحفّظ شديد بعض ملامح الـS17 تقنيّا وكيف يظهر لأعوان المطار على الشاشة.
في أحد ردودها على مراسلات المحكمة الإدارية في قضايا تتعلّق برفع الإجراء S17، تؤكّد وزارة الداخلية أنّ هذا الإجراء "جزء من الاستراتيجية الوقائية الوطنية التي وضعتها الحكومة لمكافحة الإرهاب". (من قرار المحكمة الإدارية بتاريخ 13 سبتمبر 2017، قضيّة عدد 4101430).
وخلال جلسة استماع أمام لجنة الأمن والدّفاع بمجلس نوّاب الشعب يوم 29 جانفي/كانون الثاني 2018، أكّد وزير الداخلية السابق المُقال "لطفي براهم" أنّ أكثر من 29 ألف و450 تونسيّا تمّ منعهم من السّفر تجنّبا لاستقطابهم في الخارج وتوجيههم نحو بؤر التوتّر، دون أن يذكر صراحة أن ذلك تم باستخدام الإجراء المذكور.
بين الأصناف العديدة التي قدّمها الورتاني، الموظف بالمطار، للأشخاص الّذين يتمّ إخضاعهم للإجراء S17 وبين تعريف وزارة الداخلية له في مراسلاتها إلى المحكمة الإدارية، وتصريح الوزير الأخير أعلاه، يبدو من الواضح أنّه لا يوجد تعريف واحد دقيق وشامل لهذا الإجراء ولا للمعايير التي على أساسها يتمّ إخضاع المواطنين له.
قيود تعسّفية وانتهاكات بالجملة
امتنعت ثلاث نساء ممّن شملهنّ هذا التحقيق عن الإدلاء بشهاداتهنّ خشية التتبّع الأمني لاحقا. إثنتان منهنّ تمّ التحقيق معهما في شبهة إرهابية ولم يتمّ تتبّعهما قضائيا، بينما خضعت الثالثة للإجراء الحدودي بسبب شبهة سفرها إلى الخارج لممارسة الدّعارة.
"السيدات متحفّظات أكثر من الرجال في الحديث عن تجاربهنّ، سواء تعلّق الأمر بشبهة إرهاب أو دعارة".
ينضاف إلى كلّ ما سبق أنّ عددا من المعنيّين بالإجراء الحدودي S17 قد يكونون أخضعوا له بسبب الاشتباه في أحد أقاربه أو تورّطه بالفعل في عملية إرهابية، فيما يعرف بالعقوبة الجماعية، حيث وثّق التحقيق خضوع كافّة أفراد عائلتين متصاهرتين إلى الإجراء على خلفية تورّط أخت الكنّة في قضية إرهابية تقبع بموجبها في السجن حاليا.
يقول المحامي مالك بن عمر إنّ إخضاع المواطنين إلى الـS17 هو عبارة عن "محاكمة أمنية". ويضيف أن "الفكرة الرئيسية في علاقة بهذا الإجراء هو أنّه غير قانوني، ناهيك عمّا يرافقه من انتهاكات كالاستدعاءات العشوائية الشفاهية (إلى مراكز الأمن) وغياب محاضر بحث وعدم وجود محامي وإمضاء بطاقة إرشادات إلخ".
ويمسّ تقييد حرية التنقّل مباشرة من القدرة على كسب القوت وبالتالي العيش حياة كريمة كما يؤثّر على سائر الجوانب الحياتية للإنسان. فعلى غرار محمد ضياء الذي خسر عمله في أحد المعامل في منطقة سكناه إثر إيقاف حافلة كانت تقلّه مع عمال آخرين وإنزاله منها، يوثّق تقرير منظمة العفو الدولية حالة 5 أشخاص تضرّرت حياتهم بشكل جدّي بسبب الإجراء المفروض عليهم دون أي تبرير:
"... من بينهم ثلاثة أفراد يعتمدون في كسب عيشهم على التجارة عبر الحدود. ولم يعد بوسع اثنين منهم كسب رزقهما لأنهما منعا من مغادرة البلاد، بينما تعرّض الثالث للاحتجاز والتأخير المتكرّر والاستجواب عند السفر والتدخّل في عمله. أمّا الفرد الرابع، فكان للإجراء S17 المفروض عليه تأثير كبير على عمله في أحد المطارات. وأمّا الخامس، فقد تقيّد حقه في الحياة الأسرية بصورة تعسّفية وذلك بمنعه من السفر إلى الخارج لرؤية عائلته ورعاية أمه المريضة." مقتطف من تقرير العفو الدولية.
سلكوا طرقا قانونية ولم يفلحوا
لم يحصل أيّ من المواطنين الّذين شملهم التحقيق وكذلك تقرير منظمة العفو الدولية على وثيقة تؤكّد خضوعهم للإجراء الحدودي أو تشرح المعايير والأسباب التي أدّت إلى اتّخاذ ذلك القرار في حقّهم. وإن كان معظم الأشخاص الّذين "يكتشفون" وضعهم تحت الإجراء يتّصلون عادة بمحام ثمّ يراسلون وزير الداخلية بغرض التظلّم، فلا يمكن معرفة عدد الّذين يقومون لاحقا برفع قضية لدى المحكمة الإدارية لوقف تنفيذ الإجراء أو إلغائه.
"هو قرار ضمنيّ بالمنع وليس بقرار له أثر مادّي، وبالتّالي يتعذّر على الإدارة مدّ المحكمة بنسخة منه".
عندما رغب في معرفة أسباب إخضاعه للإجراء S17 وما إذا كان لذلك علاقة بالقضيّة التي رفعت ضدّه بتهمة شتم رئيس الجمهورية والتحريض عليه، توجّه حمّادي إلى إدارة الحدود والأجانب فإذا به يمنع من مغادرتها هو وصديقاه اللّذان كانا برفقته.
في مدينة المنستير، واظب طارق الدبّابي، 33 عاما، طيلة أشهر على مراسلة وزير الداخلية لطلب رفع الإجراء الحدودي عنه. كان قد تمّ إيقاف الشابّ عام 2015 بعد أن تعلّقت به شبهة الاتّصال عبر الهاتف بأحد الأشخاص المشتبه فيهم. أجريت التحرّيات اللازمة مع طارق من قبل أعوان الحرس الوطني بالعوينة قبل أن يتمّ إخلاء سبيله "بعد التثبّت من أنّ المكالمة لم تجر من طرف طارق بل من أحد متساكني الحيّ"، وفق قوله.
كان الشابّ الّذي أطلق عليه أثناء التحريات لقب "الإرهابي الزّبراط" (مدمن الكحول) يراسل كلّ يوم وزير الداخلية شارحا أسباب إيقافه مع ترك ملاحظة أسفل المراسلة تفيد بكونه لم "يدخل المسجد ولو مرّة في حياته ولم يمارس واجبه الديني ولو مرّة في حياته".
لم يتلقّ طارق ردّا على مراسلاته اليومية. في المقابل، قدم إليه أعوان أمن ليطلبوا منه عدم إرسال مكاتيب إلى وزارة الداخلية مجدّدا... وهكذا ظلّ يتعرّض للتعطيل أثناء تنقّلاته داخل المدينة أو خارجها. بل وحرم من الالتحاق بالوظيفة في الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه لعجزه عن استخراج بطاقة من السجلّ العدلي (ما يعرف بالبطاقة عدد 3).
أمّا في بن قردان المدينة الحدودية مع ليبيا والتي يرجّح الناشط الحقوقي مصطفى عبد الكبير أن تكون من أكثر المناطق المعنيّة بالإجراء الحدودي S17، فما يزال الهاشمي (اسم مستعار)، تاجر يبلغ من العمر 35 عاما، يحاول منذ 2016 رفع الـS17 المستخدم في حقّه. مرّ الهاشمي بكامل خطوات مسار رفع الإجراء، من مراسلة للوزارة وتقاض لدى المحكمة الإدارية وصولا إلى إعلام الداخلية بقرار المحكمة القاضي بوقف تنفيذ الإجراء، دون جدوى. فهو لا يزال إلى اليوم معطّلا عن عمله الّذي يستدعي منه التنقّل إلى الداخل اللّيبي لجلب السلع أو بين المدن المجاورة لترويجها.
تنجح الواسطة حيث يفشل القانون
"كانت إدارة الأمن الوطني تؤكّد أنني لا أخضع لأي إجراء، لكن في السجلّ المعلوماتي يظهر اسمي في قائمة المشمولين بالإجراء الحدودي. هناك تضارب في الإدارات في تونس. كلّ إدارة تعمل بمفردها".
عائد عميرة صحفي تونسي شابّ يعمل بإحدى المؤسسات الإعلامية الأجنبية كان هو أيضا ضحيّة للإجراء الحدودي S17، والّذي تسبّب له مرّات عديدة في التعطيل أثناء التنقل داخل البلاد والمنع من السفر إلى الخارج، ويرجّح عائد أن يكون الإجراء ناجما عن وشاية.
"أغلب أعوان الأمن (الّذين استوقفوني في الطّريق) لا يعرفون ماذا يعني الـS17 بالضّبط ، كل ما يعرفونه هو تحويلي إلى أقرب مركز أمن ليتخلّصوا منّي". ويضيف الصحفي إنّه كان يُسأل أثناء التوقيف عن أدائه للصلاة من عدمه وعن الجهات التي يعمل معها و"ضدّ من يكتب".
حاول عدد من أعضاء لجنتي "الحقوق والحريات والعلاقات العامّة" و"الأمن والدّفاع" بمجلس نوّاب الشعب التواصل مع السلطات الأمنية، وعلى رأسها إدارة الأمن الوطني، لفهم أسباب إخضاع عائد للإجراء ورفعه دون جدوى. وبفضل تدخّل سياسيّين تابعين لحزبي "حركة النهضة" وحراك تونس الإرادة" لفائدته، تمكّن عائد من رفع الإجراء بعد معاناة سنتين من تقييد التنقّل، وفق قوله.
يضيف الصحفي أنّه حرص على طلب وثيقة تثبت رفع الإجراء الحدودي S17 للاستظهار بها عند التنقّل، فمكّنه مكتب العلاقات مع المواطن، أمام إصراره، من وثيقة تفيد بعدم وجود "أي موانع أمنية" تحول دون تعطيله بالطريق العامّ أو على مستوى المنافذ الحدودية التونسية. وذلك دون الإشارة إلى خضوعه سابقا إلى إجراء حدودي ولا تحديد الإدارة التي سبق لها إخضاع الصحفي له والتي يشار إليها في الوثيقة ب"الإدارة المعنيّة".
الرّشوة أيضا طريق لرفع الإجراء
"أناس كثر يقولون إنّهم خضعوا للإجراء إثر خلاف شخصي مع أعوان بوليس. لقد أصبحت هذه الأعمال ذات صبغة انتقامية من قبل بعض أفراد الشرطة". يقول مروان جدّة مدير مرصد الحقوق والحريات، موضّحا أنّه "مادامت وزارة الداخلية ترفض تسليم المواطنين قرارات وضعهم تحت طائلة الإجراء وأسبابه فهي قد وضعت نفسها في موضع شبهة".
"طالبتُ في وقت سابق وزارة الداخلية بتقديم دليل إجراءات يشرح كيفية إضافة الإجراء S17 في السجلّ المعلوماتي الخاصّ بمواطن ما، ومن يخوّل له القيام بذلك، وكيفية إلغائه، لكنني لم أتلقّ جوابا"، يقول عماد الدايمي عضو مجلس نوّاب الشعب ومقرّر لجنة الحقوق والحريات والعلاقات الخارجية.
ويضيف: "المعطى الّذي لدينا يفيد أنه من السّهل جدا إضافة معلومة في السّجل المعلوماتي الخاصّ بكل مواطن تونسي من طرف عون مركز أمن أو فرقة شرطة، لكنّ حذفها يستوجب فعل ذلك من مركز الوزارة .. انّ غياب دليل إجراءات واضح بشأن كيفية تطبيق الإجراء S17 يجعل استخدامه رهين اجتهاد عون الأمن.. ويفتح الباب أمام الفساد دون أدنى شكّ"، يؤكّد النّائب.
"لدينا معطيات مؤكّدة حول وجود أمنيين يمتهنون هذا الأمر حيث يمكّنون أشخاصا (خاضعين للإجراء) من جوازات سفر مقابل أموال."
تمكّنا من توثيق شهادة شابّ تونسي دفع حوالي 15 ألف دينار إلى إطارات وموظفين في وزارة الداخلية، نتحفّظ عن ذكر خططهم الوظيفية حماية للمصدر من الانتقام، وذلك لمساعدته على رفع الإجراء الحدودي S17 والذي خضع له منذ العام 2014، إثر قضية تتعلّق بالإرهاب، ما عطّله عن السفر إلى الخارج حيث يعمل ويدرس. يقول هشام (اسم مستعار) إنه بانتهاء المعاملة التي تطلّبت 15 يوما تمكّن من السفر مباشرة في اليوم التالي.
انتهاك حقّ النفاذ إلى المعلومة
أمام ضبابية الإجراء S17 وغياب عدد رسميّ للمواطنين الخاضعين له، تمّ التقدّم بمطلبيْ نفاذ للمعلومة إلى وزارة الداخلية والمحكمة الادارية.
وفي خرق واضح لقانون النفاذ إلى المعلومة، طلب موظفون في مكتب العلاقات مع المواطن بوزارة الداخلية وثائق اضافية من بينها نسخة من بطاقة التعريف ومعلومات دقيقة حول أسباب الاشتغال على الموضوع.
وفي ردودهما على هيئة النفاذ إلى المعلومة، استخدمت كلّ من المحكمة الإدارية ووزارة الداخلية حجّتي: الحفاظ على الأمن العامّ والدفاع الوطني، وحماية المعطيات الشخصية لرفض مطلبي النفاذ إلى المعلومة. كما تعلّلت المحكمة الإدارية أيضا بإمكانية أن يشكّل المطلب تدخّلا في العمل القضائي. أمّا وزارة الداخلية فقد برّرت أيضا رفضها بعدم وجود قائمة نهائية ومحدّدة للأشخاص المعنيّين بالإجراء S17.
لم تصدر هيئة النفاذ إلى المعلومة بعد قرارها بخصوص قضيّتي الطّعن المرفوعتين لديها ضدّ كلّ من المحكمة الإدارية ووزارة الداخلية.
من جهتها، لم تجب وزارة الداخلية على رسالة طلب مقابلة المسؤول المخوّل بالردّ على المعطيات الواردة في التحقيق.
في الواقع، لم يتضمّن طلب النفاذ إلى المعلومة معطيات تهمّ هويات الأشخاص المعنيين به، بل فقط إحصائيات رقمية حول عدد الأشخاص الخاضعين للإجراء وتوزيعها الجغرافي.
وعلى عكس ما ورد في ردّ وزارة الداخلية أكّد محاميان اثنان يترافعان منذ سنوات في قضايا تتعلّق بالإجراء الحدودي S17 خلال استشارة حول الموضوع، أنّهما لم يسمعا يوما عن منح الوزارة لما يسمّى بـ"شهادة في رفع الالتباس". زد على ذلك، "لا يمكن معرفة عدد الّذين تتشابه هوّياتهم مع هويات أشخاص محلّ إجراء استشارة ونسبتهم من بين العدد الجملي للمعنيين بالإجراء".
وفي سياق ذي صلة، يبدو ردّ الوزارة متضمّنا كثيرا من التناقض اذ كيف يمكن تطبيق إجراء على مجموعة من الأشخاص في ظلّ عدم امتلاك قائمة نهائية ومحددة لهؤلاء الأشخاص.
هرسلة أمنية… "خنقوه حتى الموت"
يقول حمّادي الخليفي متذكرا أطوار احدى الوقائع التي جمعته بأعوان الشرطة :"عند سفري للمشاركة في المؤتمر الدولي للشباب، سألني موظّف المطار في تونس عمّا إذا كنت أعتبر ما يفعلونه بي كلّ مرّة تعذيبا. أجبته نعم، هذا تعذيب معنويّ. فردّ: حسنا إذن، سنعذّبك جيّدا اليوم".
بكلّ مرارة وغضب يصف حمّادي الإجراء الحدودي S17 ب"الممارسة الممنهجة للتعذيب" و"وصمة العار في جبين وزارة الدّاخلية".
واجه محمد ضياء عرب هو الآخر حالة نفسية صعبة. طيلة ثلاث سنوات، لم يكن الشابّ الثلاثيني حرّا في تنقّلاته. كان رجال الشرطة يتردّدون على بيت العائلة للسّؤال عنه. كما أنّ بعضهم طلب الحصول على أموال من العائلة وفق الإبن الأوسط.
حتّى عندما كان محمد ضياء يذهب إلى "سانية" (ضيعة) العائلة للعناية بالأرض أو إصلاح بعض الأشياء فيها، كانت عناصر من الحرس الوطني تحلّ بالمكان لمراقبته. شعر محمد ضياء بالاختناق … فقد شهيّة الأكل وحبّه للحياة. جعل الشابّ، الّذي كان يهوى ركوب الدراجة وقطع مسافات طويلة عليها، يكثر من الانزواء في غرفته مكتفيا بقراءة القرآن.
"بالنسبة الى هؤلاء الأشخاص تصبح الحياة صعبة جدا، ما يجعلهم يرون أنّهم لا يحيون حياة كبقية الناس وبالتالي يفكّر بعضهم في الموت".
بحكم عملها ضمن برنامج "سند" التابع للمنظمة العالمية لمناهضة التعذيب والّذي يعنى بتقديم المساعدة القانونية والاجتماعية والنفسية والصحية لضحايا التعذيب وسوء المعاملة، التقت أخصّائية الطب النفسي ريم بن إسماعيل، على امتداد سنوات، "عددا كبيرا من المواطنين الخاضعين للإجراء S17". ومن خلال متابعتها لتلك الحالات وصفت آثار الإجراء بـ"التعذيب النفسي الشديد" الّذي قد يؤدّي إلى أمراض نفسية.
"كانوا جميعا يشتركون في وصف أنفسهم بالسّجناء في ظلّ الإجراء S17، دون أن يكونوا داخل سجن فعليّ".
"لقد قام أخي بحرق نفسه أمام المركز لتبليغ رسالة إلى أعوان الأمن مفادها: ها أني حرقت نفسي فاطمئنّوا… أتركوني بسلام". هكذا ختم إسكندر شقيق محمد ضياء متمتما بكلمات ملؤها الحسرة والأسى "أنا متأكّد أنّ الشرطة مسؤولة عن موت أخي … هم الّذين خنقوه".
بعد محاولات حثيثة للاتّصال به للاستفسار حول اتّهام عائلة محمد لأعوان من المركز بالضّلوع في هرسلته حتى الانتحار، أجاب رئيس مركز الشرطة بـمنزل بوزلفة، بنبرة لا تخلو من تبرير واستهتار: "لا، لا، ذلك أمر قديم موجود. لأنه كان في سوريا …"، قبل أن يضيف مستدركا "لا ليس في سوريا… كان في أفغانستان وأماكن أخرى.. لديه تتبّعات أمنيّة لأنه بطبيعته سلفيّ مصنّف".
اجابة رغم صدورها بشكل تلقائي عن رئيس مركز شرطة الاّ أنّها تختزن بين كلماتها المزاج العام لوزارة الداخلية الذي راح ضحيّته أناس كثيرون ذنبهم الوحيد أنّهم "مصنّفون" لأجل غير مسمّى.