تحتوي البطاقة البيومتريّة على شريحة إلكترونية خلافا لبطاقة التعريف الوطنية الحالية*. ويمكن من خلال استعمال قارئ مسح هذه الشريحة والحصول على جميع البيانات الخاصة بصاحب البطاقة أو بصاحبتها: الاسم والصورة الشخصية والعنوان وحتى بصمة الإصبع. ومع ذلك، فإن هذه البيانات موجودة بالفعل في البطاقة الحالية*، إذ يكمن وجه الاختلاف الوحيد في وجود هذه الشريحة الإلكترونية. تبلغ كلفة هذا التغيير حوالي 30 مليون دينار بحسب تقديرات الحكومة في وقت ترزح فيه تونس تحت وطأة أزمة اقتصادية خانقة. فما هو الهدف من هذا التغيير؟
تمثلت التبريرات المقدمة في رقمنة الإجراءات الإدارية وتبسيطها، كما يُزعم أن من شأن هذه التقنية أيضا التقليص من مخاطر انتحال الشخصية أو تزوير المستندات. وبحسب وزارة الداخلية، فإن البطاقة البيومترية "ستكفل المزيد من الأمن" لا سيما في مجال مكافحة الإرهاب.
مشروع مبهَم
فور عرض المشروع على أنظار مجلس الوزراء الملتئم في أوت 2016، سعت بعض الجمعيات على غرار البوصلة أو أكسس ناو Access Now إلى معرفة المزيد عنه وحاولت الحصول على النص الكامل للتعمق في دراسته. غير أن الحصول عليه كان أمرا صعب المنال في ظل التعتيم التام الذي يكتنف هذا المشروع. تؤكد المستشارة الاستراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا صلب أكسس ناو، وفاء بن حسين أن "من كانت بحوزتهم معلومات حول هذا الموضوع كانوا شديدي التكتم عليها وكنت أشعر أنه عليّ استجداؤهم للحصول على هذا النص!"، وكانت بالفعل قد طلبت النفاذ إلى هذا النص في مرات عدة ولكن دون جدوى.
أثار محتوى هذا المشروع قلق الجمعيات كون هذا النظام الجديد يعتزم تجميع كل المعطيات الشخصيّة للتونسيين والتونسيات دون أن يحدد مكان تخزينها أو مدة الاحتفاظ بها أو ضبط الجهات المخولة للاطلاع عليها. ذلك إلى جانب التغاضي عن ذكر ما يمكن أن يتيح للمواطنين الاطلاع على قاعدة البيانات هذه حتى بغرض التحقق من معطياتهم الخاصة، علما أن أي شخص يحاول النفاذ إلى هذه البيانات بشكل غير قانوني يتعرض لعقوبة بالسجن لمدة خمس سنوات.
مخاطر النظام البيومتري
يرى أعضاء من المجتمع المدني أن هذا النظام هو بمثابة "تسجيل وطني" فقاعدة البيانات هذه تمثل خرقا واضحا للدستور التونسي الذي ينص في فصله 24 على أن "تحمي الدولة الحياة الخاصة وحرمة المسكن وسرية المراسلات والاتصالات والمعطيات الشخصية". كما عبر بعض النشطاء عن خشية استعمال الشريحة لغير الأغراض المخصصة لها بما أنها قابلة للقراءة عن بعد ما سيتيح تعقب تنقلات المواطنين والمواطنات دون علمهم.
وفي بيان مشترك صادر في 18 نوفمبر 2016، دعت ست جمعيات مجلس نواب الشعب إلى رفض هذا المشروع في ضوء هذه المخاطر وشددت على أن وزارة الداخلية لم تستشر الهيئة الوطنية لحماية المعطيات الشخصية (INPDP) لصياغة هذا النص والحال أن هذه المؤسسة المستقلة "مخوّلة لإبداء رأي استشاري في جميع المسائل ذات العلاقة بالمعطيات الشخصية."**
وعلاوة على غياب الآليات التي تضمن الحماية اللازمة، لم يتم توفير أي معلومات حول الشركة التي ستُعهد لها مهمة إحداث هذه البطاقات رغم جسامة التحديات. تُبين آمنة الصيادي، إحدى النّاشطات في أكسس ناو، بشأن هذه النقطة أنه "لإحداث هذه البطاقات البيومترية، تلجأ معظم الدول إلى خدمات شركة خارجية، غالبًا ما تكون أجنبية، والتي يمكنها بالتالي النفاذ إلى كل هذه البيانات". وتضرب الصيادي مَثَل بلدانٍ أخرى كالمغرب والهند اللّذين سبق لهما اعتماد هذا النظام بفضل شراكات مع مؤسسات فرنسية.
أبرزت التجربة التي تخوضها الهند منذ سنة 2009 محدودية اعتماد نظام التسجيل المسمى بأدهار "Aadhaar". فبغرض تسجيل المواطنين والمواطنات في قاعدة البيانات لجأت الحكومة الهندية إلى مشغلين بصفة وقتية. وكان من المفترض أن تكون عمليات النفاذ إلى البيانات مؤقتة غير أنها تواصلت في الزمن مع التساهي عن إلغاء البعض منها. وتمكنت صحفية بريطانية من الحصول على أحد المعرفات نظير أقل من 10 يوروات دفعتها إلى أحد الأعوان، ثم استفادت من ثغرة أمنية وتمكنت في غضون بضع دقائق من النفاذ إلى الخادم المعلوماتي الذي يحتوي على جميع البيانات الخاصة بـ 1,2 مليار مواطن هندي.
كان نظام أدهار -إلى جانب إمكانية اختراقه- عرضة لجملة من الإخفاقات الأخرى. فقد تسببت أخطاء عديدة على مستوى التعريف في حرمان مئات الآلاف من المنتفعين من البرامج الاجتماعية من الحصول على مواد غذائية بسعر مدعم. إذ قد يحول حدوث أدنى خطأ لدى إدخال البيانات في النظام أو انقطاع التيار الكهربائي أثناء المعاملة دون حصول هذه الفئات المعوزة على تلك المواد. وإزاء هذا الوضع، قررت الحكومة في 20 فيفري 2018 تعليق اعتماد النظام البيومتري في المتاجر التي توفر مثل هذه المنتجات المدعمة.
نقاش ليس في صدارة الأولويات
رغم أهمية الرهانات المطروحة، لم تحظ مسألة البطاقة البيومترية التونسية بالأولوية التي تستحقها لفترة طويلة، سواء على مستوى النقاش العام أو داخل البرلمان. حيث أُحيل مشروع القانون إلى لجنة الحقوق والحريات والعلاقات الخارجية على إثر نيله مصادقة المجلس الوزاري المنعقد في أوت 2016، كان يفترض أن تراجع اللجنة النص لإدخال ما تراه من تعديلات.
غير أن الآجال البرلمانية غالبًا ما تتسم بعدم اليقين وليست هذه المسألة في منأى عن ذلك، إذ تم إهمال المشروع لعدة أشهر ولم يُدرج في جدول الأعمال ثانية إلا في غضون شهر ماي 2017 "تحت ضغط من وزارة الداخلية بلا شك"، وفق وفاء بن حسين عن أكسس ناو. وبدأت المناقشات مع تحديد تاريخ المداولات في إطار الجلسة العامة ليوم 19 جويلية.
"كانت وزارة الداخلية تستعجل إجراء هذه النقاشات مشددة على أهميتها للبلاد لكون المسألة كفيلة بحمايتنا من الإرهاب وبجعل البلد مواكبًا لآخر المستجدات وما إلى ذلك"، تؤكد آمنة الصيادي.
وافق أعضاء اللجنة في خضم ذلك على الاستماع إلى رئيس الهيئة الوطنية لحماية المعطيات الشخصية شوقي قداس وإلى ممثلين عن وزارة الداخلية للاطلاع على حججهم. أكد شوقي قداس على غياب ضمان حماية المعطيات الشخصية في حين شدد أعضاء الحكومة على الجانب العملي والأمني لهذا النظام الجديد. بيد أنّه على الرغم من الملاحظات التي أبداها رئيس هيئة حماية المعطيات الشخصية، لم يُدخل النواب والنائبات سوى تعديلات طفيفة على النص مثل إمكانية عدم ذكر اسم القرين بالنسبة للمتزوجات. وهو ما تندّد به آمنة الصيادي التي ترى أنه "بدلاً من الخوض في القضايا الجوهرية، تركَّز النقاش على الجانب اللوجستي وكيفية التمويل وما قد يحدث في حالة فقدان البطاقة ...".
وفي يوم 7 جويلية 2017، صادقت اللّجنة على النص بالصيغة التي هو عليها وأحالته على النقاش في الجلسة العامة، في قرارٍ تصفه وفاء بن حسين بالـ"كارثي". وتقرر نقاش المشروع في إطار جلسة عامة بعد عشرة أيام. غير أن مجلس نواب الشعب كان منشغلا آنذاك بأولويات أخرى حين انصب اهتمام المداولات في الجلسات العامة على مشروع قانون القضاء على العنف ضد المرأة. ولم تخصص في المقابل جلساتٌ لمناقشة مواضيع أخرى على درجة من الأهمية، مثل انتخاب أعضاء لسد الشغور الحاصل في الهيئة العليا المستقلة للانتخابات (ISIE) أو مراجعة النظام الداخلي لمجلس نواب الشعب، وكان ذلك أيضا شأن مشروع بطاقة التعريف البيومترية الذي أُعيد في نهاية المطاف إلى لجنة الحقوق والحريات والعلاقات الخارجية.
تعديلات جديدة
تنفس أعضاء المجتمع المدني الصعداء على خلفية هذا القرار، واستغلت عدة جمعيات هذه الفترة لتنكبّ على وضع استراتيجية. يوضح محمد بن حميدة عن البوصلة: "لقد أدركنا أهمية مشروع القانون هذا والمخاطر التي ينطوي عليها والتي تقوض الحقوق والحريات التي يكفلها الدستور، ما دفعنا إلى المضي قدمًا بالسرعة القصوى".
انهمكت جمعيتا أكسس ناو والبوصلة، بمعونة شوقي قدّاس، في العمل على صياغة جملة من التوصيات الموجهة إلى نواب ونائبات اللجنة لحثّهم على إدخال تعديلات جديدة، وتم التعمق في دراسة المشروع فصلا بفصل مع اقتراح التعديلات اللازمة. ثم في مطلع سنة 2018، تسارع نسق الأمور. حُدّد موعد الجلسة العامة المخصصة لنقاش مشروع القانون ليوم 9 جانفي، واستأنفت المناقشات صلب لجنة الحقوق والحريات والعلاقات الخارجية التي شهدت تغييرا على مستوى تركيبتها في الأثناء. وبدا النواب والنائبات هذه المرة أكثر وعيا بالمخاطر التي ينطوي عليها مشروع القانون. يعلق محمد بن حميدة بقوله: "كانوا يريدون معرفة ما إذا كانت بطاقة التعريف هذه وثيقة ذات هدف إداري بحت أم وثيقة أمنية".
كانت عضوتا أكسس ناو، وفاء بن حسين وآمنة الصّيادي، على اتصال ببعض نواب ونائبات هذه اللجنة المنتمين إلى مختلف الأطياف السياسية الذين كانوا يخطرونهما بمواعيد الاجتماعات ويطلعونهما على مدى تقدم النقاشات. وبفضل ذلك، تمكن النشطاء من إبداء آرائهم حول النظام البيومتري واقتراح توصيات.
يوم 4 جانفي 2018، تم الاستماع مجددا إلى رئيس الهيئة الوطنية لحماية المعطيات الشخصية شوقي قداس. وفي ذات الوقت، مد نشطاء الجمعيّتيْن رئيس اللجنة وممثّلا واحد على الأقل من كل حزب سياسي بتوصياتهم.
"لم يخف بعض الأعضاء اندهاشهم وتساءلوا 'كيف تم تمرير هذا المشروع (في المرة الأولى)؟' يا للسخافة!"، تروي آمنة الصيادي.
جاء دور الاستماع إلى ممثلي وزارة الداخلية في اليوم الموالي. تروي وفاء بن حسين أن أحدهم عرض قارئ بطاقات بيومترية على أعضاء اللجنة قائلا "إذن ها هو الجهاز. كل ما يجب فعله هو وضع البطاقة على هذا النحو لتشغيله. إنه أمر مذهل!" وتُعلّق آمنة الصيادي على ذلك الموقف قائلة: "كان الأمر كما لو كان يحاول أن يبيعنا بضاعة ما". أما بخصوص إمكانية الاستيلاء على هذه البيانات، أفاد ممثل الحكومة مطمئنا أنه لا يوجد ما يدعو للقلق نظرا إلى أن "وزارة الداخلية تُعتبر أقوى وزارة على الإطلاق" وأن "جميع البيانات ستكون في كنف الأمان". وعندما عبر بعض النواب عن تشكيكهم في ذلك مشيرين إلى احتمالية التسريبات أو الاختراقات، جاء الرد في شكل نوع من التهديد: "ما الأمر، ألا تثقون في وزارة الداخلية؟".
رد عليه رئيس اللجنة متسائلا "هل هي دولة ثقة أم دولة قانون؟".
تلخص وفاء بن حسين ذلك على أنها "كانت معركة حقيقية بين الوزارة واللجنة".
وفي يوم الاثنين 8 جانفي، عقدت "لجنة التوافقات" اجتماعا. ورغم أن هذه المجموعة المكونة من أعضاء مؤثرين صلب مجلس نواب الشعب لا تتمتع بوجود قانوني بالمعنى الدقيق للفظ، فإنه غالبا ما يقع الامتثال إلى التوافقات المبرمة صلبها بين أبرز الكتل البرلمانية لدى التصويت في الجلسات العامة. وبما أن اجتماعات لجنة التوافقات تُعقد على مستوى مضيق فإن أعضاء المجتمع المدني مستبعدون من المناقشات داخلها.
"في هذه الحالة، لعبت هذه اللجنة لصالحنا حتى وإن لم يكن لها وجود قانوني"، تقول وفاء بن حسين. حيث أخذ النواب والنائبات توصيات المجتمع المدني بعين الاعتبار مع تحديد ثلاثة تعديلات يتعلق أولها بقراءة الشريحة الإلكترونية مع إقرار اعتماد شريحة تلامسية غير قابلة للقراءة عن بعد. ويهدف ذلك إلى تفادي اعتراض البيانات التي تتضمنها دون علم حامل البطاقة. أما التعديل الثاني فيرمي إلى تمكين المواطنين من النفاذ إلى البيانات التي تتضمنها بطاقة التعريف الخاصة بهم للاطلاع على ما تحمله من معلومات وإصلاح الأخطاء المحتملة. أما التعديل الأخير فيتمثل في عدم تخزين الصورة الشخصية والبصمات بعد إصدار بطاقة التعريف.
تشرح آمنة الصيادي أنه "نتيجة لذلك، لم يعد موضوع إنشاء قاعدة بيانات مطروحا، لقد تمّ التخلي عنها تماما".
سحب مشروع القانون
بدأت الشائعات تنتشر ابتداءً من يوم الاثنين 8 جانفي يبدو أنّ وزارة الدّاخليّة تتّجه نحو التّخلّي عن البطاقة البيومتريّة لعدم رضاها عن التّعديلات الأخيرة الرّامية إلى توفير حماية أكبر للبيانات الشّخصيّة.
في اليوم الموالي الموافق لـ9 جانفي، كان من المفترض نقاش مشروع القانون في إطار جلسة عامة، غير أن مستجدات الاحتجاجات التي اندلعت في جميع أنحاء البلاد آنذاك شغلت النواب والنائبات، ما أدى إلى إلغاء جدول الأعمال العام وتأجيل المناقشات إلى وقت لاحق في ظهيرة نفس اليوم. وظلت الشكوك تحوم إلى غاية الثالثة ظهرا.
"وقُبيل بدء النقاش، أعلنت نائبة رئيس المجلس تلقيها لبيان من وزارة الداخلية تعلن فيه عن تخليها عن مشروع القانون" تروي آمنة الصيادي بتعجب. يُعدّ ذلك حتما انتصارا لمكونات المجتمع المدني. "لكن كنا نفضل لو تم تمرير هذا القانون لأننا كنا نجزم بحمايته للمعطيات الشخصية للموطنين" تنسّب وفاء بن حسين وتضيف أن "التخلي عن قاعدة البيانات يُعتبر في حد ذاته إنجازا عظيما!".
ومع ذلك، مازال النشطاء يتحوطون بالحذر إذ تعبّر وفاء بن حسين عن خشيتها من احتمالية تمرير مشروع القانون المسحوب بشكل آخر "عن طريق سن أمر حكومي على سبيل المثال"، ما سيسمح لوزارة الداخلية بتفادي المرور بالبرلمان وفرض مشروعها فرضاً.