تسمح الأنظمة المتراخية في العديد من البلدان الأفريقية بأن يفوق مستوى الكبريت بالوقود 1000 مرة مقارنة بما تفرضه المعايير الأوروبية، وهذا ما يجعل شركات النفط توفر ديزيل رديء الجودة بأقل تكلفة ممكنة: “الجودة الأفريقية” هو ما توصلت إليه المنظمة غير الحكومية السويسرية “بابليك آي ـ Public Eye” بعد ثلاث سنوات من التحقيقات في مسألة الديزل الملوث.
تعتمد الدراسة في جوهرها على قياس معدل الكبريت بالوقود الذي يحدد مقياس الجودة، فكلما كان محتوى الكبريت منخفضا كلما زاد ثمن البرميل، فالكبريت يشكل خطرا على صحة الإنسان والبيئة ويعود ذلك جزئيا إلى الجسيمات الدقيقة الناجمة عن الاحتراق، فعلى الدول إذن التعهد بإعادة النظر في القوانين المتعلقة بهذه المسألة. في أوروبا مثلا، يبلغ الحد الأقصى للكبريت في الديزل 10 (أجزاء في المليون) مقارنة ب 2000 جزء في المليون بأفريقيا و 3000 جزء في المليون في تونس بالنسبة لوقود الديزل العادي.
محتوى الكبريت ( جزء من المليون)
تسمح المعايير غير الملزمة لناقلات النفط السويسرية الكبيرة بتطبيق عملية المزج المتمثلة في مزج الوقود بنوعياته المختلفة. و تستهدف المنظمة غير الحكومية في أبحاثها ثلاث ناقلات تنقل أغلب شحنات الوقود للقارة الإفريقية. و من بين هذه الشركات الثلاث، “فيفو للطاقة” وهي الشركة الوحيدة الموجودة بتونس من خلال محطة الوقود “شال”.
و يضيف مارك غينيا، مراسل” بابليك آي ـ Public Eye” موضحا بأن الفكرة وراء هذه الاستراتيجيا التجارية هي صنع ما يسمى “بالجودة الافريقية” للوقود، وهي عبارة عن عملية نزول بجودة المنتوج دون النزول تماما عن مستوى المعايير القانونية، وهي ممارسات لا أخلاقية رغم انها قانونية بأتم معنى الكلمة ما دام المزودون يحترمون معايير البلد المتلقي.
تونس تختبئ وراء الغازوال 50
“إن السيدة وزيرة الطاقة والمناجم والطاقة المتجددة (لهالة شيخ روحو) لا تستطيع إجراء حوار صحفي حاليا لأنّ الملف ما يزال قيد الدرس”. هذا ما صرّحت به فاطمة غربال الملحقة الصحفية في بداية شهر أكتوبر، حيث أعلنت أنّ الوزيرة لن تتحدث في الموضوع المتعلق بالمعايير التونسية حول الكبريت الموجود في الوقود،لا سيما وأنّ هذا “الملف” هزّ قطاع النفط الإفريقي ودفع الحكومة التونسية لفتح تحقيق بالبلاد وفق شبهة توريد وقود ذي جودة رديئة. وقد أكدت غربال بأنّ التحقيق أفضى إلى أن جميع المنتجات المستوردة مطابقة للمعايير التونسية.
على الرغم من المعايير التي تحدد مستوى الكبريت ب 3000 جزء في المليون بالنسبة للديزل العادي، أكدت فاطمة غربال بدء تداول وقود الديزل من نوع ال 50 جزء في المليون بالنسبة للغازوال 50. و قد سمح هذا التقدم لتونس بأن تكون من ضمن التلاميذ المميزين فيما يتعلق بآخر التحيينات المعتمدة من قبل برنامج الأمم المتحدة للبيئة. لكن هذا التطور لا يمثل فعليا الممارسات المنتهجة بالبلاد: فالتونسيون يستهلكون الوقود العادي بنسبة تفوق 7 مرات الغازوال 50. والقول انّ جميع الواردات مطابقة للمعايير لا يستبعد الفرضية القائلة بأن الديزل المستهلك يحتوي على نسبة عالية من الكبريت.
إدارة الدولة
قدمت تونس، بوضوح، إطارا مختلفا تماما عن الحالة الموصوفة في التقرير: فعلى خلاف البلدان المذكورة ـ أساسا في غرب إفريقيا- التي تقوم فيها الشركات الخاصة بتزويد نقاط بيعها بنفسها، فإن تونس تقوم بإدارة جميع الواردات الوطنية من خلال الشركة التونسية لصناعات التكرير(ستير)، التي تراقب بصفة منتظمة كل شحنة ثم تقوم هذه الشركة الحكومية ببيع الوقود للشركات المزودة الخاصة بالبلاد.
قد أكد السيد إبراهيم العجيمي المدير السابق لهذه المؤسسة العمومية أنّ مهمة شركة “ستير” تتمثل في تزويد السوق فهي لا تفرغ الشحنات إلا عند انتهاء التحاليل وفق قوله. كما يعتبر أنّ الوقود الذي يصل إلى البلاد التونسية هو وقود يتوافق مع المعايير التي تفرضها تونس.
هذه المركزية خوّلت لفاطمة غربال شرح المسألة بكل ثقة قائلة :”يتم التزوّد بالغازوال 50 حسب معيار ال 10 أجزاء من المليون، وهو مطابق للمعايير الأوروبية أما الوقود العادي فيتم التزوّد به حسب المعيار 2000 جزء من المليون”.
اما السيد محمد الشعبوني، مدير فيفو للطاقة ـ الفرع التونسي وهي الشركة التي تقوم بتوزيع الوقود من خلال محطة شال، فيذهب إلى أبعد من ذلك مصرحا :”يردنا وقود الديزل العادي بمعيار 1200 جزء في المليون و 1500 جزء في المليون أما 70٪ إلى 80٪ من الغازوال 50 فيمثل أقل من 10 أجزاء في المليون”.
هذه النتائج يمكن وصفها بالمثيرة للدهشة بما أنها تتعارض مع المنطق التجاري الذي يتطلب الالتزام بالمعايير لضمان أفضل هامش ممكن المعايير التي صاغتها المنظمة غير الحكومية بابليك آي. إذ ليس هذا الوقود المكرر مباشرة من قبل ستير ما يفسر هذا التناقض، فالإنتاج الصافي أقل بكثير من الطلب: ففي سنة 2014 تم تكرير مرتين اقل من كمية النفط الخام الذي يجب تكريره مقارنة بالوقود المستهلك داخل الحدود الوطنية. وبالتالي، فإن الشركة ليس لديها أي خيار سوى استيراد المنتوج الذي تستطيع تحليل نتيجته النهائية و التي هي غير قادرة على إتقان عملية تصنيعه. وفي العام ذاته، تم تصدير أكثر من نصف 1599 (ألف طن) مرت عبر المصافي، ولكنها غالبا ما تكون منتجات من الطاقة التي لا يمكن استخدامها للنقل البري مثل النفط.
وفي مواجهة هذه الفجوة القائمة بين المعايير و نسبة الكبريت الموجودة في الديزل الموزعة من قبل شركة ستير، لماذا لا يقع عرض معايير أكثر تشددا؟ أجابت الملحقة الصحفية متمتما :”إن الوزيرة تعمل على ان تكون معايير ستير أكثر صرامة”.
أسباب تقنية وراء انخفاض المعايير
أكد عز الدين خلف الله، رئيس الجمعية التونسية للنفط والغاز قائلا: “التخفيض من نسبة الكبريت نقطة رابحة بالنسبة الينا مهما كانت التكلفة”. تكلفة يجب أن يتم استيعابها من قبل الدولة حسب رأيه، من خلال الزيادة في الدعم أو من خلال المستهلك، وهو ما يشك فيه السيد محمد الشعبوني مصرحا:” ليس أمرا ضروريا المرور إلى نسبة كبريت تساوي 50 جزء في المليون. ولكنه أمر يمكن تحقيقه بالنسبة للمستهلكين من القطاع الخاص مع دعم الدولة لمواجهة الزيادات بالنسبة لارتفاع أسعار مضخة الوقود. أما بالنسبة الى الناقلين فهذا من شأنه أن يلحق ضررا بأنشطتهم”.
حسب إبراهيم العجيمي الذي يبدو أكثر واقعية، تمثل الأموال المشكل الجوهري وهو ما يعتبر أمرا بعيدا كل البعد عن شواغل المدافعين عن البيئة والصحة التي تدعو إلى معايير أكثر صرامة في كل أنحاء العالم.
” تعتبر هذه المعايير حتى الآن لينة و يعود ذلك لأسباب تقنية” ففي تونس وغيرها من البلدان “الوقود الخالي من الرصاص هو نفسه الغازوال 50”. يضيف إبراهيم العجيمي.
تم استعمال الوقود الخالي من الرصاص لمواجهة مشاكل محفزات التنك التي تضررت من أقدم أنواع الوقود. أما بالنسبة لوقود الديزل، فقد تم تجهيز السيارات الجديدة بمصفاة للجسيمات التي من دونها يثقب التنك إذا ما زودناه بوقود يحتوي على نسبة عالية من الكبريت، وبالتالي لا خيار لسائقي السيارات إلا اللجوء إلى ديزل ذي جودة أفضل.
تعتبر السيارات المجهزة بأحدث التكنولوجيات عاملا لتخفيض مستويات الغازات السامة، إذ يعتبر الوقود الذي يتميز بنوعيته الجيدة مصدرا للاقتصاد في الطاقة بالنسبة للمستهلك و ذلك حسب التقرير الصادر عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة :”فحسب تقديراتنا، نعتبر أن المرور من 1.5٪ (15000 جزء في المليون) من نسبة الكبريت في الوقود إلى 0.1٪ (1000 جزء في المليون) يزيد في عمر المحرك ب 80 إلى 90 %”. كما صرحت الوكالة أنّ مستوى الكبريت له تأثير سلبي واضح بالنسبة إلى عمر المحرك بداية من 2000 جزء في المليون.
إضافة إلى وجود مستوى الكبريت بأقل من 10 أجزاء في المليون، فانّ تجديد الأسطول يمكن أن يخفض من انبعاثات الجسيمات الدقيقة بنسبة 99٪ وفقا لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة الذي أضاف: “إن التخفيض الحاد في نسبة الكبريت المسموح به، خصوصا الديزل، سيمكّن من التصدي للتلوث بشكل فعّال”. فالتقليل من النسبة إلى 10 أجزاء في المليون من شأنه أن يحد من انبعاث الجسيمات الدقيقة بنسبة 50٪ فورا.
“نحن نعلم أن حالة تلوث الهواء المرتبطة فقط بانبعاثات الجسيمات الأولية المتناهية في الصغر و المنبعثة من عوادم السيارات من شأنها أن تتسبب في الوفاة المبكرة ل 31،000 شخص بحلول سنة 2030 في أفريقيا.”
تؤكد تقارير الوكالة الوطنية لحماية البيئة وهي المؤسسة التونسية التي تعمل تحت إشراف وزارة البيئة والتنمية المستدامة بأن الجسيمات الدقيقة التي تمثل مصدرا للاختلاف في المواقف بشأن نسبة الكبريت في الديزل، هي أكثر ما يمكن أن نخشاه سيّما أنّ لها الأثر البالغ على صحة الإنسان أكثر من تأثيرها في البيئة، فثاني أكسيد الكبريت الناتج عن احتراق الوقود الذي يحتوي على الكبريت “مرتبط باختلال وظائف الرئة لدى الأطفال وتفاقم الأعراض التنفسية الحادة لدى البالغين”.
حسب ما خلصت إليه الوكالة الوطنية لحماية البيئة من نتائج، من الواضح أن هناك علاقة بين نوعية الوقود ونوعية الهواء. إذا كان الوقود يحتوي على نسبة عالية من الكبريت، فإن نسبة ثاني أكسيد الكبريت ستكون عالية في الهواء، ولكن في هذه اللحظة، لا نملك الأدلة الكافية لإثبات العلاقة المباشرة بين نوعية الوقود ونوعية البيئة الهوائية”.
كما تضيف الوكالة مفسرة: “هناك العديد من العناصر الأخرى التي يجب أن نأخذها بعين الاعتبار، مثل إعدادات الرصد الجوي أو غيرها من مصادر التلوث مثل النقل البري المرتبط بالصناعات.
لا يمكن للوكالة، إذن، أن تجزم بوجود علاقة بين مصادر التلوث و بين النوعية الرديئة للديزل. فمثلها مثل العديد من المؤسسات العمومية التي تعاني من بطء إعادة بناء الإدارة منذ الثورة. و تضيف الوكالة الوطنية لحماية المحيط معبرة عن أسفها “يجب الزيادة في طلبات الرفع من مستوى جودة الهواء، سيما و أنه قد تم إعداد دراسة لتحيين هذه الطلبات منذ بضع سنوات ولكنّ عملية التطبيق لم تتم إلى حد الآن”. على المستوى العملي، كانت عملية قياس نوعية الهواء في ثلاثين نقطة من البلاد تستجيب لتطلعات الحكومة. وهي تطلعات محتشمة مقارنة بتوصيات منظمة الصحة العالمية التي تعتبر أكثر طموحا من المعايير الفرنسية.
و إذا لم يكن بالإمكان رسم صورة عامة عن نوعية الهواء في تونس، فإن البيانات الأخيرة الصادرة عن الوكالة الوطنية لحماية المحيط تظهر أن المعايير التونسية محترمة في أغلب الأحيان. ومع ذلك، في حال قارنّا نفس البيانات بالمعايير الأوروبية، فانّنا سنلاحظ أنها ستأخذ منحى آخر، و سيدق ناقوس الخطر خاصة وانه يتجاوز درجة التنبيه القصوى المحددة في هذه البلدان.
بين محطات التلوث، وأحدث تقدير للوكالة الوطنية لحماية المحيط، الذي يعود تاريخه إلى عام 2010، يتبيّن أن حركة المرور على الطرق هي ثاني منطقة انبعاث الجسيمات الدقيقة بعيدا وراء مصادر محددة، تتراوح بين صناعات النقل الجوي.
أكدت أحدث التقارير للوكالة الوطنية لحماية المحيط التي يعود تاريخها إلى سنة 2010 ، أن من بين مصادر التلوث هي حركة المرور على الطرقات وهي ثاني قطاع يتسبب في انبعاث الجسيمات الدقيقة وبفارق كبير بعيدا عن المصادر الكبيرة الثابتة التي تتراوح بين المؤسسات الصناعات و النقل الجوي.
التجارة الموازية: 25٪ من نسبة الاستهلاك الوطني
آخر نقطة سوداء في جدول الوقود التونسي هي التجارة الموازية التي تمثل 25٪ من متوسط الاستهلاك الوطني في كل السنة. عند وصول الوقود من الجزائر أو من ليبيا، فإنه لا توجد أي وسيلة يمكن من خلالها أن نعرف ما إذا كان هذا الوقود يستجيب لمعايير البلاد التونسية أم لا.
تعتبر الخسارة بالنسبة للشركات الخاصة و الدولة هائلة، إذ يصرح محمد الشعبوني قائلا: “لقد توصلنا إلى 90٪ من الخسارة (الكسب الضائع) في بعض محطات الوقود، و خاصة منها الموجودة في الجنوب. أما بالنسبة الى المدير السابق لصناعة التكرير، إبراهيم العجيمي فيقول “إنها ليست خسارة كبيرة بما أن الدولة ستتجنب زيادة الدعم”.
وفقا لتقديرات البنك الدولي،1.2 مليار دينار تونسي قيمة الخسائرالتي تسببت فيها التجارة الموازية ككل سنة 2013. إذ من الصعب معرفة النسبة الدقيقة لتجارة الوقود في هذه الخسارة، لكنها تعتبر بالتأكيد من أكثر السلع المتداولة في التجارة الموازية، إذ تقدر نسبة التبادل غير الرسمي مع الجزائر بحوالي 60٪ فيما يتعلق بالمنتجات النفطية.
بين شحنات الديزل المتكون من نسب عشوائية للكبريت و استهلاك كميات كبيرة من وقود الديزل العادية أو تجارة الوقود غير الشرعية التي تمثل ربع الاستهلاك الوطني، يوجد هناك العديد من العوامل غير المؤكدة من أجل بلوغ التقديرات العلمية التي تبرهن على التأثير السلبي للديزل التونسي على السكان. و بغض النظر عما ذكر آنفا، فهناك يقين بأن البلاد بحاجة إلى الذهاب إلى أبعد من ذلك في تنظيم القوانين الخاصة باستعمال الوقود حتى تستطيع مواجهة التوقعات التي ذكرت في تقرير “الديزل الملوث” الذي يستشرف 31،000 حالة وفاة مبكرة سنة 2030 في أفريقيا بسبب التلوث الناجم عن حركة المرور إذا لم يتغير شيء.