الكمين
آثار من الدم الجاف في المكان الذي قُتل فيه أحد “الجهاديين” يوم 3 جانفي 2016 خلال عملية أمنية مسلحة - عدسة مالك خضراوي
منذ شهر ديسمبر، لم يغمض جفن القرويين الذين يسكنون في المناطق المعزولة في سفح الجبل فالعديد منهم شاهدوا رجالا مسلحين ليلا طالبين الأكل و مهددين بالإنتقام إذا ما ابلغوا عنهم لدى السلطات.
علي يعمل حارسا بالغابة وجد نفسه وجها لوجه مع إرهابيين لأول مرة ليلة 31 ديسمبر “سمعت نباح الكلاب فخرجت صحبة أخي و قريب خالد كانوا هناك”.
اكد علي انهم كانوا خمسة متواجدين في مواقع مختلفة لمحاصرة القرويين الثلاثة جثوا على ركباتهم تحت التهديد أمام أحدهم.
“أقتلوا واحدا فقط ”
«كانوا يريدون المأكل و السميد و الشاي و المقرونة”يواصل حارس الغابة .عندما إستجاب اخوه وقريبه لطلبهم إختفى اولئك الأشخاص في الغابة الفسيحة
نزولا عند طلب الإرهابيين ذهب خالد ليشتري المؤونة يوم السبت 2 جانفي بعد أن أعلم السلطات بالتهديدات التي تلقاها - عدسة مالك الخضراوي
في الغد تكرر نفس السيناريو “طلبوا منهم ما بحوزتهم لكن هذه المرة كانوا يحملون سلاح كلاشينكوف و لم يمكثوا هناك .أعطوا خالد قائمة المشتريات و النقود و قالوا له “غدا تتوجه للسوق لتشتري 10 كغ من المقرونة و 5 كغ من التمر و عشر لترات من زيت الزيتون”.
يوم السبت 2 جانفي توجه خالد الى المدينة و إشترى ما طلب منه. أكد علي انه في نفس اليوم اعلم السلطات بما جرى معه وقد قدمت الشرطة و قامت بما يتوجب فعله .يوم الأحد نصبت الشرطة كمينا و بعد أن اطلقوا عيارات بشكل متتالي اعلنت الشرطة أنه توم إرداء أحد الارهابيين قتيلا، بعد ذلك لم يعد خالد ابدا.بقيت المؤونة في المكان ذاته. وقد ر فضت زوجته أن تمسّها.
“لو كان هذا هو الإسلام فأنا مسيحي”.
وحيد تقني سام عاطل عن العمل “سكير” -كما يعرف نفسه- و يقضي لياليه في الجبال مع اصدقائه و يكاد لا يغادر بيته اليوم تقريبا.”يمكن ان نتعود الفاقة و لكن لا يمكن أن نتعود الإرهاب”. عدسة مالك الخضراوي
وحيد شاب في الثلاثين من عمره من بين السكان الذين لم يبق لهم من حل سوى المكوث في منازلهم و تحدي الخوف و هو لا يخفي سخطه جراء هذه الوضعية.”انا سكير فإذا كان هذا هو الإسلام فأنا مسيحي و اذا كان الإسلام أن تمسك سكينا أو كلاشينكوف و تذهب إلى الجبال فأنا مسيحي.”أنا لا أحب هذا الإسلام ” كما يقول.
وحيد تقني سام مختص في” التدفئة المركزية و التكييف” و يعيش مع ابويه و اخواته و زوجته .منذ أن حل الإرهاب بالقرية اصبح يفضل أن يبقى في بيته ليحمي عائلته بدل الذهاب للعمل “أنا عاطل عن العمل و في السابق كنت اتدبر امري و ذهبت الى ليبيا و تونس العاصمة وأُوفق في إيجاد بعض العمل في المدينة لكن لا أستطيع أن أترك عائلتي اليوم و أغادر” يستنكر وحيد.
حسب هذا الشاب فقد تخلت عنهم الدولة” فالرابط الوحيد معها لا يعدو ان يكون سوى خيط الكهرباء و بطاقة الهوية فنحن نعيش في سجن دون سقف فلا احد يعمل و لا احد يخرج فمن له الجراة اليوم أن يذهب للجبال .الناس يقتاتون من الجبال و الآن لم نعد نستطيع ان نفعل شيئا”.
تستطيع أن تعيش الفقر و البؤس و لكن لا يمكن أن تتعود الإرهاب وهو ما بث الرعب في قلوب الناس.
يواجهون مصيرهم بمفردهم
محمد صالح إنتمى إلى المقاومة خلال حرب التحرير يريد أن تمكنه الدولة من الأسلحة كي يحمي عائلته - عدسة مالك الخضراوي
يريد محمد صالح أن يتسلح كي يستطيع أن يقارع العدو لأنه يجيد ذلك حسب تعبيره فقد قاوم من أجل الإستقلال.”الوطن قبل كل شيء بالنسبة لهذا الشيخ الشامخ مرفوع الرأس و الواقف كالجندي.
محمد الصالح ووحيد يعتبران أن سكان القرية هم آخر المعاقل ضد الإرهاب “يؤكد الشيخ أنهم ببقائهم هنا “يمكن أن نوفر معطيات و يمكن ان نسند الدولة في مقاومة الإرهاب فالدولة دون شعب لا قيمة لها و لا يمكن أن يكون هناك شعب بلا دولة .
يضيف وحيد أنه “إذا غادر الجميع فإن الإرهاب سيربح مساحات و سيضطر الناس للتجارة في الإرهاب فالناس هنا متعلمون و لهم شهادات علمية فلسنا للبيع لا للارهابيين و لا للجنود و لا لأي كان .
كي يستطيعوا العودة إلى ديارهم و يحسّنوا أوضاعهم المعيشية يطالب القرويون “بتعزيزات أمنية و عسكرية و توفير الماء الصالح للشراب في بيوتهم و أن يتمكنوا من قطع الأشجار في أراضيهم كي تكون الرؤية واضحة ” هكذا يلخص عمر و هو حلاق بمدينة سليانة مطالبهم الواضحة .
إنطلق الجدل حول تسليح السكان. يعتقد عمر “أن تسليح السكان سيكون فكرة صائبة فالأمر يمكن ان يتحول إلى حرب اهلية و يجب أن نكون واقعيين عندما نتحدث عن مسائل مماثلة ” و هو ما يعارضه محمد صالح.
مع حلول الليل يوقد لطفي و أقرباؤه النار ويقومون بالحراسة - عدسة مالك الخضراوي
كما انها مورد للرزق و الحياة تعتبر الجبال أيضا مصدرا للقلق بالنسبة للسكان – يشير لطفي – انظروا لهذه الأشجار يمكن لإي شخص أن يخرج منها دون ان يلاحظ اي كان ذلك “.
لكن عندما يغامر أحدهم بقطع بعضها يكون عرضة لتتبعات من طرف مصالح حرس الغابات .يضيف رب هذه العائلة معبرا عن قلقه تجاه مصير عائلته مستنكرا سلوك السلطات. ”
بين مدينة سليانة و مرتفعات بلوطة أو في المناطق المجاورة لها لم يكن هناك حضور امني تقريبا أياما بعد الهجوم و عندما يستنجد احد السكان تجيبه الشرطة انها لا تستطيع ان تفعل شيئا.
في الإثناء تتوالى الليالي و تتشابه .قبل الغروب، يذهب لطفي ليجلب الماء لجميع الأقرباء ثم يخرج مع الرجال ليوقد النار في الغابة.
-نمضي طول الليل و نحن في الحراسة -كما يقول “أعرف انه إذا ما هجم علي احدهم بواسطة كلاشينكوف لا أستطيع أن افعل شيئا لكن على الأقل عندما نتفطن لقدومهم يمكن ان نطلب النجدة و نستطيع الهروب في الأثناء “.
الطريق إلى الماء محفوف بالمخاطر
على حافة العين، يملأ سكان المنطقة أوعيتهم نظرا لأنهم لا يمتلكون الماء الصالح للشراب في منازلهم - عدسة مالك الخضراوي
حماران أو ثلاثة و بعض الأوعية و تنطلق المشقة التي تتكرر كل يوم.
أنهت سوسن دراستها لتكون تقنية في الإلكترونيك لكن رغم المجهودات المبذولة لم تجد عملا في المدينة .عادت لتقيم إلى جانب أمها التي ترافقها عديد المرات يوميا لجلب الماء من العين
سوسن و أمها تستعدان للذهاب لجلب الماء - عدسة مالك الخضراوي
قي الطريق المنحدرة بين الأشجار و الأعشاب، يتوجب على الرجال و النساء أن يقطعوا مئات الأمتار كي يستطيعوا التزود بماء ملوث بعد ذلك توضع الاوعية على ظهور الحمير بالإستعانة بالحبال .
“عندما تمطر هنا يكون تقريبا من المستحيل المرور .يجب أن نحاول أن نتقدم زحفا و نعود وقد غمرتنا الأمطار و المياه” تعليق نور الدين و هو عامل يومي”.
مرأة مسنة تملأ وعائها - عدسة مالك الخضراوي
بالإستعانة بوعاء صغير تجلس مرأة مسنة قرب العين و تملأ بصبر وعائها
“هل ترون ما نشربه،أُنظروا كم من الأوساخ حول الماء”.
العيش بالتداين
كل ثلاثاء يِؤمن إبراهيم المؤونة لحوالي 50 عائلة منذ سنوات - عدسة مالك خضراوي
لا يخفي لطفي قلقه من أنه” في أعالي بلوطة بالكاد يستطيع السكان أن يعيشوا بما توفره الغابة من خشب و فحم و الصنوبر الحلبي فلم تعد لنا مصادر للرزق”.
يعتبر إبراهيم التاجر الذي يؤمن المؤونة لعائلات المنطقة كل أربعاء أنه في ورطة
يفسرإبراهيم أن “ في هذا السجل هناك الكثير من ديون السكان التي يجب تسويتها” مشيرا الى كراس مفتوح و القلم بيده.لا يملك إبراهيم في مخزونه سوى شهرين من المؤونة فعندما تنتهي البضاعة يحب ان يدفع “قريبا سيطالبني المزود بالحسابات و في هذه الحالة يجب ان اتصرف بأن أتداين من هنا و هناك.
منفيون
بيوت مهجورة و حيوانات تم التخلي عنها - عدسة مالك الخضراوي
بالنسبة لأولئك الذين قرروا ان يغادروا لم يكن المنفى أسوأ حالا مما كان عليه الوضع في القرية.كل ما هناك بيوت مغلقة و بعض الدجاجات و الكلاب المتروكة فلم يعد أي كان يسكن قرب المكان الذي جدت فيه العملية الأمنية.
كانت رشيدة مارة في الجوار فقد جاءت لتسترد بعض الاغراض.بغصة في القلب و دمعة على الخد قالت “انها تسكن عند أهلها المسنين فلم يعد لهم مكان آخر .إبنتي معاقة و لا أملك الإمكانيات أن اتسوغ منزلا فقد بعت كل شيء لأشيّد منزلي واليوم لم أعد املك كفاف يومي و لا أعرف مالذي سأفعله”.
غادرت رشيدة منزلها و جاءت كي تستعيد البعض من اغراضها - عدسة مالك الخضراوي
نور الدين بدوره قرر أن يغادر مع عائلته الموسعة و يعيش الآن في” أولاد زغن” على بعد كليموترات من هنا لكن الحصول على مسكن في سليانة ليس بالأمر الهين لأن الطلب يتجاوز العرض.
-تسوغت منزلا صغيرا ب250 دينارا -كما يقول هذا العامل اليومي لا يملك دخلا قارا ففي بعض الأحيان يعمل سائقا أو عاملا أو بناء و يتقاضى ما يُعطى له “كي نستطيع أن نسدد مصاريف تسويغ المنزل ننتبه جدا لمصاريفنا و نأكل اقل من المعتاد”.
نور الدين عامل يومي تسوغ منزلا ب250 دينارا شهريا مع العشرات من افراد عائلته - عدسة مالك الخضراوي
عائلات أخرى وجدت نفسها تنتقل من منزل إلى آخر أو تعيش في وضعي هش لا يلُوح في أفقه حل واضح.بعد هاتين الحادثتين مع الإرهابيين،أقام علي مع صهره و اخته و أبنائهما وينام الجميع على الحواشي في نفس الغرفة.
أطفال تحت الصدمة
علي و زوجته و إبنه يقطن لدى صهره - عدسة مالك الخضراوي
هدود زوجة علي مذهولة فإبنتها التي تبلغ من العمر 11 سنة لم تعد تستطيع النوم و لها مشاكل صحية منذ الحادثة .عندما وقع الهجوم أرادت أن تخرج لتدافع عن ابيها الذي علق في الخارج.”سمعت صوت أعيرة نارية وقالت ” اريد أن أكون مع ابي و لم تتوقف عن البكاء “حسب شهادة أُمها.
في الغد أنتفخ وجهها و برزت حبوب على خديها “اصطحبتها إلى المستشفى فقال لي الطبيب أن ذلك كان نتيجة الضغط النفسي قبل ان تسر لنا انها لم تشتر الأدوية لضعف في الإمكانيات”.
عند نهاية العطلة المدرسية لم يلتحق العديد من التلاميذ بمقاعد الدرس فوسائل النقل تجد صعوبة في الوصول إلى المنازل المعزولة و الطريق المؤدية إلى بوعبدالله أين تقع المدرسة يمكن أن تكون خطيرة. يقول علي انهم “كانوا مضطرين الى ان يسلكوا طريقا مختصرة في الغابة أو النزول من جهة أخرى على امل أن يجدوا نقلا جماعيا “.
حاولت منطمة “المدنية” أن توفر سيارات مخصصة لنقل التلاميذ لكنهم يتأرقون بمجرد أن تتبادر لأذهانهم فكرة ترك أبنا ئهم في مواجهة الخطر الإرهابي.
زينب مدرسة في مدرسة بوعبدالله لا تعرف كيف تدير الوضعية فمع تلامذة مصدومين وخوفها في حد ذاته أصبحت تفضل أن تغادر مدينة سليانة - عدسة مالك خضراوي
زبنب أصيلة مدينة قرقنة و هي مدرسة بمدرسة بوعبدالله حاولت أن تتجاذب اطراف الحديث مع تلامذتها بعد هجوم 3 جانفي بحكم أنها قلقة على وضعهم النفسي “قالت انّ الأمر أصبح معقدا جدا في المدرسة. ”
زينب في حد ذاتها ليست مطمئنة ففي السابق كان المعلمون يقطنون في مساكن مخصصة لكن مؤخرا طرق مجهولون الابواب “لم اعرف هوية الطارق لكنني ذعرت و لم افتح الباب “.
الآن إنتقل الجميع إلى المركز التربوي الجهوي للتكوين المستمر بسليانة “وكي أكون صريحة معكم اصبحت ارغب في المغادرة “.
مسؤولون لا علاقة لهم بالواقع
السيد سليم تيساوي والي سليانة لا يبدو أنه يملك حلولا للوضعية في الآجال القريبة بالنسبة لمتساكني المناطق الريفية - عدسة مالك الخضراوي
التهديدات الإرهابية تنضاف إلى الصعوبات اليومية التي تواجه سكان جبال بلوطة فالنفاذ إلى الماء و تدريس التلاميذ و نقص الموارد المالية و التشريعات المنظمة للمناطق الغابية و السكن و المخاطر الأمنية .كل هذه الإشكاليات تعجز السلطة عن إيجاد حلول لها.
في مكتبه الكبير يريد والي سليانة الذي تسلم مهامه خلال شهر أوت 2015 أن يكون براقماتيا. فحسب رأيه إنتقل الإرهابيون مؤخرا إلى مرتفعات سليانة قادمين من مرتفعات المغيلة في ولاية سيدي بوزيد وهي نفس المجموعة التي أعدمت الراعي الشاب مبروك السلطاني في شهر نوفمبر الفارط.يؤكد الوالي” ان عملية تمشيط واسعة شملت الجهة من طرف القوات المسلحة”.
ويضيف أن اعوان الأمن متواجدون “بشكل كبير” لكنه بقي متحفظا لغايات أمنية”فسلوكات السكان مرجعها أنهم خائفون و هو أمر طبيعي “لكن هذا الخوف المنطقي ليس مبررا بشكل مطلق”لا يمكن أن نطمئن الناس بشكل مطلق فليس كل ما نقوم به نستطيع ان نعلنه للعموم “.
يحيي الوالي وطنية المواطنين و إنخراطهم في مواجهة هذا الخطر و السلطات التونسية تبدو عاجزة عن تحسين ظروف المواطنين على المستوى القريب فالمسؤول المحلي يعتبر ان سكان المنطقة متشبثون بارضهم “في الوقت الذي يكون من السهل على الإرهابيين مهاجمة المساكن المعزولة” رغم أنه يقر بوجود إشكالية السكن في سليانة لكنه يقول “انه ليس من السهل حل المشكل بين ليلة و ضحاها” في المقابل ينفي هذا المسؤول أن يكون قد تلقى أي مطلب سكني عكس ما يصرح به السكان”فقد ذهبوا مؤقتا بشكل حمائي قرب اقربائهم قبل الهجوم و سوف يعودون إلى منازلهم “حسب قوله.
بالنسبة للنفاذ الى الماء هناك” مشاريع بصدد الإنجاز للتسريع بوضع البنية التحتية اللازمة لكن حتى في هذا الموضوع لا يمكن ان نعطيكم آجالا للإنجاز “يمكن أن يستغرق ذلك بعض الوقت لكن سوف يتم حلحلة هذا المشكل نهائيا ” يؤكد الوالي أما فيما يتعلق بوضع خلايا للإحاطة النفسية خصوصا بالنسبة للأطفال بعد الأحداث الأخيرة “ففي الواقع لم نفكر في ذلك” يسر السيد التيساوي.
يقول نور الدين مستنكرا: “من المفروض ان يندمج الوالي مع المجتمع فحتى و إن وجدني غاضبا يجب ان يهدئني و يطمئنني كي نجد حلا سويا فهل تعتقد أننا كنا سنغادر منزلنا و نتسوغ منزلا في الوقت الذي لا نملك فيه إمكانيات مادية ” بالنسبة له فإن المسؤولين منفصلون عن المواطنين”لكن لا أحد يتحمل مشقة أن يلتفت إلينا. ليس هناك من تواصل.