رحلة بين جدران "السيّد" الضّائعة

هو فنّان تونسي، متخصّص في فنّ الرسم على الجدران، جاب البلاد التونسية طولا بعرض على مدى أكثر من ثلاث أسابيع تاركا خلفه أثرا ابداعيا على جدران منسيّة في مناطق تختزن ارثا تاريخيا وعاطفيا على غرار الفضاءات الدينية وبقايا المناجم …
بقلم | 17 أكتوبر 2014 | reading-duration 10 دقائق

متوفر باللغة الفرنسية

“السيّد” هو فنّان يحمل الجنسيّتين التونسية والفرنسية متخصّص في فنّ الكتابة على الجدران. عُرف لأوّل مرّة في تونس غداة انجازه لعمل فنّي على مئذنة مسجد في قابس تمثّل في نقش آية من القرآن الكريم . هذا الفنان، الذي تدعو أعماله إلى التسامح، جاب البلاد على مدى أربعة أسابيع ، تاركا بصماته على جدران الأماكن المنسية التي تحظى بقيمة عاطفية أو تاريخية في تونس.

– خارطة المدن والقرى التي جابها “السيّد” (المصدر: كتاب الجدران الضائعة)

هنا رسم جداري مَحَتْ الحجارة نصفُه .. لم يكن ذلك العمل الفنّي الذّي أنجزه الرسّام الحائطي “السيّد” في موقع تصوير الفيلم العالمي حرب النجوم بقرية “عنق الجمل” بالجنوب التونسي يروق للجميع على حدّ السّواء: “لقد وجّهوا اليّ الكثير من التعاليق التي عابت عليّ ما فعلت بدعوى أنّني خرّبت المكان، ولكن في نهاية المطاف فانّ محاولتهم محو الرّسم الحائطي تعكس رغبة تسكنهم في تملّك العمل الفنّي والمكان في الآن ذاته”.

في كتابه الجدران الضائعة، الذي يقتفي أثر مسيرته في تونس على مدى شهر من التجوال، يستغرب الرسّام الحائطي “اختزال تراثنا الثقافي في موقع تصوير فيلم حرب النجوم”. بالنسبة الى “السيّد” فانّ قيمة المنطقة يجب أن لا يتمّ اختصارها فقط في هذا المكان وفي الوقت ذاته فانّ الرسم على جدران هذا المكان يعتبر طريقة لاستعادته واستعادة تاريخه.

في الواقع فانّ المبادرة التي قام بها “السيّد” حتّى وان لم تنل اعجاب الجميع فانّها استحقّت شرف نفض الغبار عن بعض الكنوز المغمورة في تونس على غرار ذلك المنزل الذّي قُدَّ من الحجر الأصفر والذّي ظلّ مهجورا لسنوات طويلة في قلب الصحراء قبل أن يعيده “السيّد” الى واجهة المشهد أو ذلك المسجد الذّي يقع في منطقة جارة من مدينة قابس الذّي امتدّت اليه أصابع الرسّام الحائطي ونقشت آية قرئانية على مئذنته منتصف عام 2012 .

"غلاف كتاب “الجدران الضائعة

رحلة الرسام الحائطي “السيّد” لم تقتصر على تلك الأمكنة فحسب بل امتدّت من تطاوين الى جزر قرقنة، حيث مضى باحثا عن جدران وحيدة تسكن أماكن مُلهمة على غرار الجريصة، تلك البلدة المنجمية القديمة التي سقطت في غياهب النسيان بعد أن عاشت فترات من المجد بفضل مناجم الحديد التي تحتوي عليها والتي لطالما استغلّ الفرنسيون مقدّراتها على مدى فترة الاحتلال .. “هياكل الحديد ما تزال قابعة في المدينة. أنها مصدر إلهام وحنين الى امجاد الماضي، وكأنّ الزمن قد توقف، حتى أنّ البعض لا يتوقّف عن ترديد بعض الحكايات التي مفادُها أنّ بعض الكميات من حديد مناجم الجريصة قد استخدمت لتشييد الهيكل الأساسي برج إيفل بباريس ” .. هكذا كتب “السيّد” في كتابه الذّي حمل عنوان “الجدران الضائعة”.

هياكل الحديد ما تزال قابعة في المدينة. أنها مصدر إلهام وحنين الى امجاد الماضي، وكأنّ الزمن قد توقف، حتى أنّ البعض لا يتوقّف عن ترديد بعض الحكايات التي مفادُها أنّ بعض الكميات من حديد مناجم الجريصة قد استخدمت لتشييد الهيكل الأساسي برج إيفل بباريس

– الجريصة، مدينة منجمية تابعة لولاية الكاف من الشمال الغربي التونسي (المصدر: كتاب الجدران الضائعة)

الخروج عن سياق الرسوم “الثورية”

“أردت الخروج من سياق ما يسمّى بالفن الثوري، حيث راهنت على التوجّه نحو هذه المدن التونسية الغارقة في التاريخ والتي بتنا نميل الى تناسيها”، هكذا عبّر “السيّد” عن الخطّ الذّي رسمه لنفسه. ولئن يرى “السيّد” بعضَ الجمالية في الرسوم الجدارية “البرجوازية” التي تعكس جانبا من الحرية التي كان نظام بن علي متسامحا معها ويراقبها بشكل حذر وفق قوله، فانّه يسعى من خلال أعماله الراهنة الى التمايز عمّا سبق. لقد حملت رسومات “السيّد” دلالات تلك الأعمال الفنية التي خطّها المواطنون بعفوية على جدران مدخل القصرين والتي تختزن ذاكرة نضال أبناء المنطقة خلال أيّام الثورة او تلك التي وشّحت جدران الرقاب لتوثّق صور شهداء الثورة الذّي سقطوا في المدينة.

– مسودّة عمل فنّي أنجزه “السيّد” (المصدر: كتاب الجدران الضائعة)

“السيّد” يتراءى الآن كأنّه يسعى الى العبور نحو مرحلة جديدة، مرحلة ثانية في تاريخ الثورة، تلك التي ستعيد فيها البلاد اكتشتف نفسها واستعدة تراثها من جديد. وعلى غرار العديد من المهاجرين التونسيين أو المواطنين التونسيين الذين لم يتسنّ لهم اكتشاف بقية اجزاء الصورة خارج عاصمة البلاد، يعترف فوزي (الاسم الحقيقي ل”السيّد”) بأنّه استعاد أرض أجداده بشكل فعلي بعد الثورة. وعلاوة على ذلك، فانّ فوزي يذهب الى حدّ اعتبار أنّ أعماله الفنية كانت موجّهة للنبش في أعماق الذاكرة الوطنية التي لفّها التهميش على مدى خمسين سنة. وباستثناء قرية جدّه، فانّ الرسام الحائطي “السيّد” لم يخطّط مطلقا للمدن التي يتوجّب عليه زيارتها والرسم على جدرانها بل ترك الامر لما ستسفر عنه اللقاءات التي يعقدها وما ستحرّكه الحكايات المحليّة بداخله من أحاسيس.

استعادة التاريخ

“السيّد” يروي هنا اطوار رحلته غير المبرمجة الى قلّالة الواقعة بجزيرة جربة بالجنوب التونسي . كان يُحدّث مرافقه عن رغبته في التوجّه الى جربة للقاء الطائفة اليهودية هناك، في حين كان مرافقه يجيبه باللغة الأمازيغية. هذه الواقعة غذّت في الرسام الحائطي الرغبة في تمديد اقامته بهدف الالتقاء بعدد من البربر في القرية البربرية قلّالة. كتاب “الجدران الضائعة” لم يكن مجرّد نقل لأطوار رحلة استكشافية بل جاء محمّلا بجملة من الأسئلة المعلّقة : ضرورة اعادة الاعتبار للارث الثقافي، الانتباه الى مسألة الاقلّيات فضلا عن ضرورة اعادة مراجعة تاريخ البلاد على مدى الحقبة التي تلت الاستقلال .

– عمل فنّي أنجزه “السيّد” على أد جدران مدينة دوز من جنوب البلاد (المصدر : “السيّد”)
– “السيّد” بصدد وضع اللمسات الأخيرة على أحد أعماله بقلّالة، قرية بربرية بجزيرة جربة، جنوب البلاد
– العمل الفنّي، بعد الانتهاء منه، على قبّة أحد مقاهي قرية قلّالة من جزيرة جربة

رحلة قلّالة لم تقف عند ذلك الحدّ من النبش في الاسئلة العالقة بل تجتوزته لتطال مستويات أخرى حيث وصل الأمر ب”السيّد” الى حدّ مساءلة نفسه حول جدوى الكتابة الفنية باللغة العربية على جدران قرية بربرية من أجل تعزيز الثقافة البربرية، ليهتدي بعد ذلك الى حلّ وسط يقضي باجراء مصالحة بين اللغتين من خلال كتابة بعض العبارات باللغة البربرية فوق قبّة ذات دلالات معمارية عربية. انّ الرغبة في استعادة التاريخ ومراجعته دفعت ب”السيّد”، في سياق آخر، الى عنونة فقرة في كتابه ب”لن أكون أبدا ابنك” في اشارة الى الهالة التي تحيط بموقع تصوير فيلم حرب النجوم في قرية “عنق الجمل”.

“السيّد” تمادى في رفضه لما اعتبره تغاضيا عن التراث الحقيقي للمنطقة قائلا في أحد حواراته التي أدلى بها لوسائل الاعلام “انّ الدولة تولي أهمّية لما لا يزيد عن العشرة مواقع فقط من جملة حوالي 155 موقعا أثريا في جنوب البلاد”.

– “عنق الجمل”، موقع تصوير الفيلم العالمي “حرب النجوم” بالجنوب التونسي : “لن أكون أبدا والدك”، الجملة المأثورة للممثل دارك فادور في الفيلم.

وقد عاين الرسّام الحائطي عدّة أعمال فنية وقد طالها التخريب والعبث بعد أن انتهى من انجازها في حين يؤكّد أنّه في مرّات أخرى تلقّى دعما من مواطنين جاؤوا من تلقاء أنفسهم يقترحون عليه مدّ يد المساعدة. 

ما فتئ “السيّد” يستلهم من تاريخه، على غرار رسمه على جدران حائط جدّه بمنطقة تمولة، من أجل تمرير رسالة حول تونس أخرى تخلّى عنها النظام السابق وقذف بها الى طيّ النسيان : “أسعى دائما عبرأعمالي الفنيّة الرسالة التي يجب تبليغها على عكس ما كنت عليه سابقا عندما كانت أميل نحو ذكر أسماء الشعراء. عندما أرسم فوق هذه الحيوط الضائعة فانّني أسعى الى استنطاقها، الى جعلها تتكلّم، من أجل اظهار ثراء هذه البلاد”.

أسعى دائما عبرأعمالي الفنيّة الرسالة التي يجب تبليغها على عكس ما كنت عليه سابقا عندما كانت أميل نحو ذكر أسماء الشعراء. عندما أرسم فوق هذه الحيوط الضائعة فانّني أسعى الى استنطاقها، الى جعلها تتكلّم، من أجل اظهار ثراء هذه البلاد”

– قرية تمولة على بعد كيلومترات قليلة من قابس. هنا كتب الفنّان “تمولة، أرض أجداد، ليس هنالك مكان آخر يضاهيك”.

من فنّ الشوارع الى الخط العربي الكلاسيكي

تمكّن “السيّد” من الجمع بين نوعين مختلفين من الأحاسيس بعد أن دمج فنّ الخط بفنّ الكتابة على الجدران .. “عندما كنت مراهقا -يقول- بدأت في تعلّم الرقص والكتابة على الجدران في الآن ذاته. كنت أمنسجما مع الرّقص أكثر من الكتابة على الجدران ولكن بدراسة الأدب العربي، اكتشفت فن الخط العربي الكلاسيكي. واذا كان “السيّد” يرفض أن يُطلق على نفسه اسم الخطاط على اعتبار أنّه لا يملك شهادة أو تكوينا كافيا في الغرض فانّ ذلك لم يمنعه من الاستلهام من خطّاطين كبارا على غرار الخطاط العراقي حسن مسعودي.

– مسودّة يدويّة لمخطوطة تمولة

سليل عائلة تونسية مهاجرة في فرنسا ، والده عامل بسيط في شركة رينو ووالدته تعمل في مجال المساعدة الاجتماعية. نشأ في “بولون بيلانكور”واتّجه نحو دراسة الاقتصاد حيث تخرج من المدرسة العليا للعلوم الاقتصادية والتجارية وتنقّل الى الولايات المتحدة حيث اشتغل في خطّة مستشار. اليوم تجاوز عقده الثالث من العمر، نظارات على الأنف وأحذية رياضية في القدمين. “السيّد” تبدو عليه ملامح الشاب اللامع صاحب الأفكار المجدية. هو الآن يعيش في كندا، ويسافر من جدة إلى دبي لتقديم محاضرات أو المشاركة في المؤتمرات بناء على دعواته تصله.

ذائع الصّيت في الخارج .. مغمور في تونس

بالرغم من أنّه ذائع الصّيت في الخارج ومعترف به دوليا بالاستناد الى أعماله الفنّية التي تزيّن الطريق السريعة بدولة قطر أو تلك التي تمّ رسمها على جدران “دار تونس بفرنسا” أو ذلك الوشاح من الحرير لويس فويتون، مازالت شخصية “السّيد” مغمورة وغير معروفة في تونس والحال أنّ عالم الفن الشوارع وفضاءات التعبير كانت قد احتضنت أعماله الفنية منذ قيام الثورة، على غرار الجدران ومحطّنة تونس البحرية وغيرها من الأماكن الاخرى التي طالتها يداه. لقد تمّ نحت المشهد الفني أيضا بمشاركة أسماء مثل “آس كا وان” ، “مين وان”، “فاجو” و “اينكمان”.

ويتّجه “السيّد” ، مستقبلا، الى مواصلة خوض معركته في تونس ليس للاعتراف به فنّانا بقدر رغبته في التعبير عن أفكاره. فهو يسعى أساسا الى كسر الأفكار والاحكام المسبقة حول الفن الإسلامي بشكل عام واالعمل على دمَقرَطَته لجعله في متناول أكبر عدد ممكن. وقد سبق له في هذا السّياق أن قام بكتبة الآية 13 من سورة الحجرات (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) التي تدعو إلى التسامح على جدار مسجد بمدينة قابس ردا على أحداث قصر العبدلية جوان 2012. بعض الجدران الأخرى كانت فضاء استغلّه “السيّد” لتكريم بعض المبدعين على غرار الشاعر العربي ذائع الصّيت أبو القاسم الشابي. وقد قال فيه جيفري ديتش ، المدير السابق لمتحف الفن المعاصر في لوس انجلوس في محضر كتابته لمقدّمة كتابه الجدران الضائعة : “حتى بالنسبة الى الأشخاص الذين لا يفهمون العربية مثلي، فانّه كان بامكاننا دائما استقبال الاحساس الذّي يكمن وراء الكلمات، وهذه نقطة مهمة جدا تحسب لك حيث تتجاوز قوة الشعر العربي لغة النصّ”.

– “عند رؤيتكم للماء تذكّروا العين” .. عبارات تمّ نقشها على صخرة بالجنوب التونسي
– منزل مهجور بجل تطاوين
– مخطوطة على صخرة بشطّ الجريد على مقربة من توزر

إذا استمر “السيّد” في استلهام روح أعماله الفنيّة من تونس فانّ عمله الذّي يحمل عنوان “الجدران الضائعة” سيحظى حتما بالاعتراف به في موطنه الأصلي تونس. وبالتوازي مع صعوبة تصنيفه في الساحة الفنية التونسية، فانّه تمكّن كذلك من أن ينحت مسيرة مهنية غير عادية في عالم المال والاعمال لينتهي به المطاف بصدد تأسيس حركة فنّية.

أما بالنسبة الى اسمه الفنّي، فيمكن تفسيره بطرق عديدة، وفق ما تكفّل بشرحه “السيّد” خلال مقابلة مع شبكة التلفزيون الاميركية سي ان ان . فآسم “السيّد” يحمل دلالات مأساوية-بطولية على اعتبار أنّه هو نسخة معدّلة من “سيد” الشخصية البطولية التي ابتدعها الكاتب المسرحي الفرنسي كورناي. بالنسبة الى فوزي فانّ اسم “السيّد” تستمد مرجعيّتها من بطل المسرحية المسمّى “سيد” . في النهاية فانّ كلمة “سيد” بالانجليزية تعني البذرة وتحيل كذلك إلى فكرة البداية، على اعتبار أنّ هذا الفنّان شارك في بداية تأسيس فنّ “الكاليغرافيا” الذّي وُلد في الثمانينات.