خماسية قيس سعيّد: أية حصيلة للسياسات العمومية التونسية؟

منذ انتخابه للمرة الأولى في 2019، وضع قيس سعيّد إصلاح إعادة هندسة السياسات العمومية في صدارة أولوياته. غير أن العديد من العراقيل حالت دون هذه الإصلاحات ومنها أن الصّلح الجزائي يبدو سرابا بعيد المنال، والأزمة المائية ما فتئت تتفاقم. وعلى الرغم من بعض المبادرات المتخذة في قطاعات أخرى، لا سيما منها الطاقة، فإنه لا وجود لأي نتائج ملموسة بعدُ. وبالتالي، جاءت حصيلة الإصلاحات المزمعة متباينة، في سياق من التدهور المستمر للوضع الاقتصادي والاجتماعي في البلاد.
متوفر باللغة الفرنسية
على مدى السنوات الخمس الماضية، قدم الرئيس العديد من الوعود التي تراوحت بين إدارة الأزمة المائية وإحداث شركات أهلية مرورا بمبادرة الصّلح الجزائي، غير أن هذه المبادرات لم تحرز أيّ تقدّم حقيقي على أرض الواقع. تعود انكفاضة هنا على تقييم حصيلة السياسات العمومية خلال الخماسية الأخيرة.

أي تقدّم محرَز في مجال الانتقال الطاقي؟

خلال فترة ولاية قيس سعيّد الأخيرة، احتلّ تطوير إنتاج الهيدروجين الأخضر مكانة محوريّة في قائمة المبادرات في المجال الطاقي، من خلال بعث مشاريع ترمي إلى جعل تونس فاعلا رئيسيًا في تصدير الطاقات المتجددة نحو أوروبا. ومنذ بضع سنوات، برزت تونس كشريك رائد لأوروبا في مجال تصدير الهيدروجين الأخضر، وهو قطاع في ازدهار ملحوظ يتنزّل في إطار سعي الاتحاد الأوروبي إلى تحقيق أهداف طموحة في مجال التكيّف مع التغيرات المناخية. 

يوم 29 جويلية 2024، أعلنت وزارة الصناعة والمناجم والطاقة التونسية، عن توقيع ست مذكرات تفاهم لإنتاج الهيدروجين الأخضر مع عدة شركات عالمية، بما فيها الشركة التونسية البريطانية "تونور" (TUNUR)، والتي سبق وأن طالتها العديد من الانتقادات بسبب طموحاتها الاستخراجية. تُضاف هذه الاتفاقيات الجديدة إلى تلك التي تم توقيعها قبل شهر من ذلك مع كلٍّ من شركتي "فاربوند" (Verbund) و"طوطال" (Total) في إطار نفس التوجه.

أطلقت المفوضية الأوروبية، منذ سنة 2021، حزمة من التدابير تندرج في إطار تبنيها للميثاق الأخضر بهدف خفض انبعاثات الغازات الدفيئة بنسبة 55% في أفق سنة 2030، مراهنة على الهيدروجين "منخفض الكربون" كبديل واعد.

وتبرز تونس، شأنها شأن بلدان شمال أفريقيا بشكل عامّ، كأحد أكثر الخيارات تنافسية ونجاعة لسد احتياجات الاتحاد الأوروبي من الطاقة بفضل قربها من القارة الأوروبية وما تحظى به من موارد منخفضة التكلفة من الطاقة المتجددة ومن شبكة أنابيب غازية ممتدة. ويتماشى اختيار تونس مع خطة ”ريباور إي يو“ (RepowerUE) التي تم الكشف عنها في ماي 2022، والهادفة إلى مضاعفة واردات أوروبا من الهيدروجين الأخضر بحلول سنة 2030 لتصل إلى 10 ملايين طن سنويًا.

وفي إطار هذا التوجه، نشرت الحكومة التونسية في ماي 2024 استراتيجية وطنية أطلقتها وزارة الصناعة والمناجم والطاقة بالشراكة مع الوكالة الألمانية للتعاون الدولي (GIZ). ما لبث هذا التعاون التونسي الألماني أن أثار موجة من الانتقادات اللاذعة من مختلف الفاعلين·ـات في المجتمع المدني التونسي، حيث نُظّمت مظاهرة يوم 24 أفريل الفارط تنديدا بذلك. يصرح صابر عمار، الناشط في حملة ”أوقفوا التلوث“ (Stop pollution): «من غير المفهوم كيف يقوم بلد عاجز عن سد احتياجاته من الطاقة بإنتاج طاقة متجددة موجهة فقط للتصدير، خاصة نحو ألمانيا».

ويضيف عمّار: «ستقوم تونس بتصدير الطاقة حتى يتمكن المواطنون الألمان من استخدام سيارات وقطارات تعمل بطاقة نظيفة».

تصاعد التوترات هذا لا يخلو من سابقة، حيث حصلت تونس منذ زمن غير بعيد (في 2020) على هبة ألمانية بقيمة 30 مليون أورو بمقتضى مذكرة تفاهم حول إنشاء تحالف تونسي ألماني للهيدروجين الأخضر. وقد تم تقديم هذا الدعم المالي على أنه خطوة أساسية في هذا التوجه، إذ اعتبر السفير الألماني بتونس أن هذه الاتفاقية «المربحة للطرفين»، على حدّ تعبيره، تهدف إلى إرساء أسس قطاع الهيدروجين الأخضر في تونس، ووضع إطار تشريعي لجذب الاستثمارات الخاصة في هذا القطاع.

بعد فترة وجيزة من ذلك، تم بالفعل وضع إطار تشريعي في الغرض من خلال إصدار المرسوم عدد 12 لسنة 2022 والمتعلق بالتحكم في الطاقة. ويهدف هذا المرسوم إلى تشجيع الاستثمار في تكنولوجيات الكفاءة الطاقية* وتعزيز الدعم الموجه للمعدات المقتصدة للطاقة. وفي نفس العام، صدر المرسوم عدد 68 لسنة 2022 المتعلق بضبط أحكام خاصة بتحسين نجاعة إنجاز المشاريع العمومية والخاصة. وأدخل هذا المرسوم تعريفا جديدا لشركات استغلال الأراضي الفلاحية، مع التنصيص على أنها يمكن أن تكون «مملوكة بالكامل للأجانب».

ويشكل هذا المرسوم واحدا من سلسلة من المبادرات المماثلة التي تم اتخاذها تحت حكم قيس سعيد. فمنذ سنة 2021، صدرت خمسة مراسيم بعد 25 جويلية 2021، يسرت استغلال الأراضي الاشتراكية، إذ خول أحد هذه المراسيم للمجمع الفرنسي المغربي "أنجي-ناريفا" (Engie-Nareva) وضع اليد على قرابة 400 هكتار من الأراضي الاشتراكية في منطقة أولاد سيدي عبيد. وبحسب جمعية البوصلة، فقد لُوحظ «في الآونة الأخيرة التسريع في وتيرة إبرام عقود كراء الأراضي الفلاحية لمشاريع الطاقات المتجددة، بأثمان تفضيلية.»

وبهدف الاستجابة للأهداف الأوروبية، يتعين على تونس إنتاج 8.300 طن من الهيدروجين الأخضر في أفق 2050، منها 6.374 طن موجهة للتصدير، وهو ما يتطلب توفير 500.000 هكتار من الأراضي التونسية. ويستهدف هذا التوجه نحو توظيف الأراضي، الذي بدأ بالفعل في مناطق مثل سقدود بالقرب من قفصة، الأراضي الاشتراكية وتلك التابعة لملك الدولة الخاص، على حدٍّ سواء. 

وحول هذه النقطة، يوضح الباحث والناشط الجزائري حمزة حموشان أنّ «صناع القرار النيوليبراليين عادة ما ينظرون إلى الصحارى العربية على أنها أراضٍ جرداء وخالية وعلى أنها بالتالي جنّة من شأنها تأمين احتياجات أوروبا من الطاقة الرخيصة». 

«وهكذا، تتمّ إعادة إنتاج الممارسات الاستخراجية حتى في عمليات الانتقال نحو الطاقات المتجددة في ما يُطلق عليه «الاستعمار الأخضر» أو «الاستعمار الجديد الأخضر» يواصل الباحث.

إلى جانب ذلك، يثير إنتاج الهيدروجين الأخضر في تونس مسألة شائكة تتعلّق بالإمدادات من المياه، خاصة في وضع تعاني فيه البلاد من شح الموارد المائية. إذ تقدر الحاجيات من المياه المحلاة لإنتاج الهيدروجين الأخضر بما يتراوح بين 165,4 و248,3 مليون متر مكعّب، ما يهدد بتفاقم الإجهاد المائي.

وبالفعل، فإن الاعتماد المتزايد على تحلية المياه لتلبية الحاجيات المائية اللازمة لإنتاج الهيدروجين الأخضر يمكن أن يؤدي إلى تفاقم استنزاف الموارد الطبيعية، فضلا على زيادة الكلفة الطاقية والبيئية المرتبطة بهذه البنى التحتية.

وبذلك تجد تونس نفسها عالقة بين الاتفاقيات المبرمة مع أوروبا في مجال الانتقال الطاقي، والإدارة المستدامة لمواردها المائية، مع ضرورة تفادي تفاقم الأزمة المائية التي تشهدها البلاد.

ما هي التدابير المتخَذة للتصرف في الأزمة المائية؟

منذ بداية سنة 2024، رصدت منصة التبيلغ "Watchwater" التي أطلقها المرصد التونسي للمياه (OTE)، ما يصل إلى 2.029 تبليغا عن مشاكل المياه. وفي شهر جويلية وحده، وهو أحد أكثر أشهر السنة قيظا، بلغ العدد الجملي للتّبليغات 598 على كامل ولايات الجمهورية، منها 510 تبليغا يتعلّق بانقطاعات المياه.

وجاء هذا الوضع نتيجة اعتماد الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه (SONEDE) لـ”نظام حصص ظرفي“ موحد على كامل تراب الجمهورية، مع قطع المياه بداية من الساعة التاسعة ليلا إلى حدود الرابعة صباحا، وفقا لما ورد في بلاغ صادر عن الشركة في 31 مارس 2023. توضح أميمة بوعشيري: «في السّابق، كان قطع المياه يستهدف المدن الجنوبية من البلاد على غرار قفصة وقابس والحامة وسيدي بوزيد، أما الآن، فقد أصبحت منطقة تونس الكبرى والساحل وولاية نابل من بين المناطق الأكثر عرضة لانقطاع المياه.»

ولدى إقرار نظام الحصص، أوضحت الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه أن قرارها مشفوع بـ«نقص غير مسبوق في مخزون السدود» وكذلك «تدني منسوب الموائد المائية الجوفية» والتي وصلت إلى حدّ «النضوب الكلي» في بعض المناطق، ما أدى إلى «اختلال بين العرض والطلب على المياه»، وفق نص البلاغ.

وبالفعل، نشر معهد الموارد العالمية في 16 أوت تقريرًا مثيرًا للقلق يكشف فيه أنّ 25 دولة في العالم تواجه «إجهادا مائيا مرتفعا للغاية». وتحتل تونس المرتبة العشرين من بين هذه الدول التي «تستغلّ أكثر من 80% من مواردها المائيّة». ووفقًا لذات التقرير، يبلغ نصيب الفرد من المياه المتوفرة في تونس 400 متر مكعب، أي أقل بكثير من خط الفقر المائي المحدد بـ 500 متر مكعب لكل فرد. 

تُعتبر ندرة المياه معضلة حقيقيّة في تونس، إذ تقدر نسبة امتلاء السدود بـ20,8%. ويؤكّد علاء المرزوقي، مدير مرصد المياه، أنّه «لا يمكن إنكار حقيقة وجود شح كبير على مستوى الموارد المائيّة»، مضيفا أن «هذه الأزمة ليست مستجدة، بل هي سيناريو كان متوقعا».

في يومي 22 و23 جويلية، قام قيس سعيد بزيارة عدد من السدود والمنشآت في ولايات جندوبة والقيروان والمنستير ونابل. وجاء في البلاغ المنشور على صفحة رئاسة الجمهورية على إثر هذه الزيارات أن «انقطاع المياه في هذه المناطق عمل إجرامي تدبّره لوبيات وأصحاب النوايا الخبيثة الذين يسعون إلى بث الفوضى». ويواصل البلاغ أن «الدولة لن تقف مكتوفة الأيدي أمام من دبّر ومن نفّذ هذه الجرائم النكراء والاعتداءات ضد الشعب التونسي».

المشاكل المرتبطة بالأزمة المائية لم تبرز خلال فترة رئاسة قيس سعيد، بل تعود إلى ما قبل ذلك بزمن طويل. ويبين مدير المرصد أنه وعلى الرغم من أن الأزمة تشمل كافة مناطق الجمهورية، فإنه «لا يجدر التعميم باعتبار أن لكل منطقة خصائص تنفرد بها».

ويضيف المرزوقي أن الأزمة «متعدّدة العوامل» وأنها «نابعة أساسا من سوء التصرف في الموارد، إلى جانب غياب إطار تشريعي يتعلق بإدارة المياه». وبالفعل، لا يزال مشروع اعتماد مجلّة جديدة للمياه معطّلا منذ عدة سنوات.

يخضع قطاع المياه في تنظيمه إلى مجلة المياه الصادرة في سنة 1975، والتي على الرغم من تنقيحها في 2001، فإنها لم تعد متلائمة مع المعطيات البيئية الحديثة والاستهلاك المتزايد للمياه في القطاعات الفلاحية والصناعية والطّاقية. تقع مسؤولية إصدار هذه المجلة على عاتق وزارة الفلاحة، وقد عُرضت في سنة 2019 نسخة أولية منقحة لها على أنظار مجلس نواب الشعب. بعد ذلك بعام، فُتح باب المداولات حولها قبل أن يقع تأجيلها. وكان المرصد قد أشار في بلاغ صادر عنه إلى أن هذه الصيغة الأولية تحتوي على «مفاهيم لا تتوافق مع المتطلبات الحقيقية للشعب فيما يتعلق بالموارد المائية». 

في سنة 2023، لم تحرز الأمور تقدما يُذكر، حيث أعلن محمود إلياس حمزة، وزير الفلاحة حينها، في شهر جانفي من تلك السنة أنه سيتم عرض مجلة جديدة للمياه على الحكومة قريبًا، غير أن الرئيس أقاله بعد أسبوع من ذلك. 

في السنة الموالية، التأم مجلس وزاري مضيق للنظر في مشروع قانون يتعلق بمجلة المياه الجديدة، لكن بدون الرجوع إلى الخبراء والخبيرات في المجال. وفي هذا الصدد، تأسف روضة القفراج، الخبيرة في الموارد المائية، لكون «هذا التمشّي من شأنه أن يحد من نطاق المجلة وأن يهمل العديد من الجوانب الأساسية».

ولعلّ من أبرز أهداف مجلة المياه هو الحد من ظاهرة الحفر العشوائي للآبار بهدف تخفيف الضغط على المائدة المائية الجوفية. علما أن هذه الأخيرة تعتبر مستغلة بشكل مشط إذا تجاوزت نسبة استغلالها عتبة الـ 110%.

ويبلغ عدد الموائد المستغلة بشكل مفرط 66 مائدة موزعة بحساب 13 في الشمال و 38 في الوسط و15 في الجنوب. ويعزى هذا الوضع أساسا إلى تفاقم عمليات الحفر غير القانوني. وتعتبر ولاية قبلي الأشد تضررا من تفشي هذه الممارسات حيث تضم الجهة أكثر من 10.172 بئرًا غير مرخص له، يستنزف جميعها حوالي 362 متر مكعب من الماء، أي ما يمثل أكثر من نصف حجم المياه المستخرجة بشكل عشوائي من الموائد المائية العميقة بكامل البلاد.

أي تقدم محرَز في مجال الصلح الجزائي؟

منذ اندلاع الثورة أواخر سنة 2010، سعت تونس إلى استنباط حلول لاسترجاع الأموال المنهوبة من قبل النخب السياسية السابقة. بدءا من 2013، شرع قيس سعيد، الذي كان وقتئذ أستاذا للقانون الدستوري، في إقحام مفهوم الصلح الجزائي في تصريحاته. ومنها تصريح بمناسبة حوار صحفي مع وكالة تونس إفريقيا للأنباء قال فيه إن «الأموال المنهوبة تمثل قرابة نصف ميزانية الدولة ويجب أن تعود إلى الشعب».

يقدّم سعيّد الصلح الجزائي كبديل للمحاكمات التقليدية التي يعتبرها طويلة الآجال وعديمة النجاعة. ومن شأنه أن يمكّن مقترفي الجرائم الاقتصادية والمالية من تفادي العقوبات السالبة للحرية من خلال إعادة الأموال المنهوبة إلى الدولة والمساهمة في التنمية الجهوية

غير أنه على الرغم من مزاياه من حيث اختصار الآجال وجبر الضّرر، يثير هذا الصلح عديد الانتقادات من الناحية الأخلاقية والقضائية، لا سيما فيما يتعلق بتداعياته طويلة الأمد على دولة القانون، وتصور مفهوم الإفلات من العقاب. يعتبر نيلز كريستي*، المختصّ في علم الاجتماع والجريمة، أن تركيز المنظومة القضائية على المصالحة قد يفضي إلى حرمان الأطراف، ولا سيما الضحايا، من «نزاعهم» الذي سيفلت من أيديهم ويتحول إلى مسألة تديرها الدولة بمفردها.

وفي المقابل، ارتكزت الانتقادات التي تطال الصّلح الجزائي في تونس على جوانبه العملية، في الوقت الذي يُقدَّم فيه هذا المشروع الذي يروّج له الرئيس على أنه حل الملاذ الأخير، على خلفية الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها البلاد، وتوقف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي.

في 20 مارس 2022، تم إصدار المرسوم عدد 13 لسنة 2022 المتعلق بالصّلح الجزائي وتوظيف عائداته، لينص على إحداث اللجنة الوطنية للصّلح الجزائي (CNRP).

تتعهد هذه اللجنة المكونة من ثمانية أعضاء، من بينهم قضاة، وممثل عن وزارة أملاك الدولة وممثل عن لجنة التحاليل المالية التابعة للبنك المركزي، بتقييم ملفات المتورطين·ـات في قضايا فساد وتجاوزات مالية، سواء كانوا أفرادا أو شركات. ويتمثل هدفها في استرجاع الأموال المنهوبة وإعادة توظيفها في مشاريع تنموية جهوية.

لدى أدائه لزيارة غير معلنة إلى مقر اللجنة في 13 جانفي 2023، أعرب سعيّد عن استيائه موجها عتابه إلى أعضاء اللجنة وقد نفذ صبره: «لقد تم الانتهاء من وضع الهيكل التنظيمي والنظام الداخلي ومن المفروض أن تنطلقوا في العمل خاصة وأن عددا كبيرا من المتورطين أعربوا عن استعدادهم للصّلح الجزائي.»

بعد أيام قليلة من تلك الزيارة، صدر أمر رئاسي يقضي بإنهاء مهام مقررة اللجنة، منية الجويني، والتي كانت قد أدت اليمين أمام الرئيس قبل عشرين يومًا فحسب من ذلك، وتعيين حياة العريبي بدلها دون تقديم أي تبرير رسمي لهذا القرار. كما صدر، يوم 21 مارس، أمر رئاسي آخر ينص على إعفاء رئيس اللجنة، مكرم بن منا، من مهامه.

وخلال زيارة أخرى أداها الرئيس إلى مقر اللجنة، صرّحت فاطمة اليعقوبي أنه سيتم استرجاع مبلغ ضخم قدره 30 مليار دينار عرضه أحد رجال الأعمال التونسيين اللاجئين بالخارج، والذي كان قد تقدم بطلب إبرام صلح. اندهش قيس سعيّد وقتها وطلب من فاطمة اليعقوبي تكرار قيمة المبلغ على مسامعه. فكررت بكل إصرار: «30 مليار، أي 30 ألف مليون دينار». وسرعان ما أصبح المبلغ المذكور موضوع تندّر على شبكات التواصل الاجتماعي كما تم نفيه رسميا من قبل عائلة رجل الأعمال المعني. وتم على إثر ذلك إنهاء عضوية فاطمة اليعقوبي، هي الأخرى.

في نوفمبر 2023، شُنّت حملة اعتقالات استهدفت العديد من رجال الأعمال. وكان بعضهم، مثل مروان مبروك، قد انخرط بالفعل في مسار الصّلح. لم يقع الكشف عن أيّ أرقام دقيقة بشأن المبالغ المسترجعة، فيما عدا ما صرّح به أحد أعضاء اللجنة الذي أشار إلى ضخ 5 ملايين دينار متأتية من اتفاقات الصلح في خزينة الدولة.

من جانبه، قدر وليد العرفاوي، رئيس الجمعية التونسية لدعم المحاكمة العادلة، ألا يتجاوز مبلغ الأموال المسترجعة حدود 35 مليون دينار. ومهما كانت القيمة الحقيقية لهذا المبلغ، فإنه لا يمثل سوى جزءا ضئيلا للغاية قياسا بالـ 13,5مليار دينار التي كان يأمل قيس سعيد في استرجاعها.

إزاء الحصيلة الضّحلة لمسار الصّلح الجزائي، صادق مجلس نواب الشعب، في 17 جانفي 2024، على جملة من التعديلات على المرسوم المؤطر له. ومن ضمن التعديلات المقرّة، إلحاق اللجنة الوطنية للصلح الجزائي برئاسة الجمهورية إلى جانب إتاحة قدر أكبر من المرونة في تقييم ملفات الفساد.

كما تقضي التعديلات المقترحة بوجوب رفع اللجنة لتقاريرها إلى رئيس الجمهورية الذي يتولى بدوره عرضها على مجلس الأمن القومي من أجل البتّ في مطالب الصّلح بالإقرار أو الرفض أو الترفيع في المبالغ المالية المطلوب سدادها.

يوم 12 مارس 2024، تم تشكيل لجنة جديدة ترأسها القاضية مشكاة سلامة مع تحديد مدة أشغال اللجنة بستة أشهر، كما هو منصوص عليه في القانون. غير أنه لم يتم إلى حد كتابة هذا المقال الكشف عن أيّة معلومات رسمية حول نتائج عمل اللجنة التي فرغت من أشغالها منذ 7 سبتمبر المنقضي. 

كيف كان تطور الشركات الأهلية في فترة حكم سعيّد؟ 

منذ انتخابه سنة 2019، جعل قيس سعيد من الشركات الأهلية إحدى الركائز الأساسية لمشروعه: البناء الديمقراطي القاعدي. ومع ذلك، لم يكتس هذا المشروع صبغة رسمية إلا يوم 20 مارس 2022 الموافق لعيد الاستقلال، مع إصدار ثلاثة مراسيم، بما في ذلك المرسوم عدد 15 الذي يؤطر هذا «الصّنف الجديد من الشركات»، على حد تعبير الرّئيس. ويضبط هذا المرسوم أهداف هذه الشركات وقواعد تأسيسها وتسييرها ورأس مالها والامتيازات الجبائية التي تتمتّع بها.

وتنقسم هذه الشّركات إلى فئتين: من ناحية، الشركات المحلية التي لا يمكن أن يقل رأسمالها عن 10 آلاف دينار والتي يجب أن يكون نشاطها في حدود معتمدية واحدة أو عدة معتمديات، بشرط أن تكون المعتمديات المعنية متجاورة، ومن ناحية أخرى، الشركات الجهوية التي لا يمكن أن يقل رأسمالها عن 20 ألف دينار والتي يمتد نشاطها على كامل تراب الولاية.

كما يشترط المرسوم ألا يقل عدد الأشخاص الباعثين لشركة أهلية عن 50 شخصا، لكل منهم صوت واحد عند اتخاذ القرارات، أيا كانت قيمة مساهمته المالية. إلى جانب ذلك، ينظم المرسوم طريقة توزيع الأرباح ويحدد صلاحيّات الجلسة العامة التي تتولى انتخاب مجلس إدارة يقوم بدوره بتعيين رئيس له.

وفقًا للسّجل الوطني للمؤسّسات، تمّ منذ صدور المرسوم وإلى غاية أوت 2024، تكوين 77 شركة أهلية، منها 12 شركة دخلت طور النشاط الفعلي إلى حدود شهر أكتوبر الجاري. وقد دخلت أولى هذه الشركات حيز النشاط منذ جانفي 2024 والشركات المتبقية خلال الصائفة الحالية.

وتم في إطار ميزانية الدولة لسنة 2023، إحداث خط تمويل بمبلغ 20 مليون دينار لفائدة الشركات الأهلية. بالإضافة إلى ذلك، يقتضي المرسوم عدد 13 لسنة 2022 تخصيص %20 من عائدات الصّلح الجزائي لفائدة الجماعات المحلية بغاية المساهمة في رأس مال هذه الشركات الأهلية.

غير أنه لم يتمّ في الواقع منح أيّ تمويل يُذكر بسبب «وجود إشكاليات تشريعية وضعف المبلغ المرصود»، وفقًا لمستشار سابق بوزارة الشؤون الاجتماعية. 

ومع إقرار قانون الماليّة لسنة 2024، تمّ رصد اعتماد إضافي بقيمة 20 مليون دينار على موارد الصندوق الوطني للتشغيل موجه للشركات الأهلية ليبلغ إجمالي خط التمويل 40 مليون دينار وذلك بهدف «إسناد هذه الشركات قروضا بشروط تفاضليّة». كما ينصّ قانون المالية كذلك على أن يُعهد بالتصرف في خط التمويل هذا إلى البنوك، وخاصة منها البنك التونسي للتضامن، بمقتضى اتفاقيات تُبرم بينها وبين وزارتي التشغيل والمالية.

يوم 3 جويلية 2024، أعلنت وزارة التشغيل عن إمضاء اتفاقيات مع ست مؤسسات بنكيّة لتمويل إحداث الشركات الأهلية، مع تحديد سقف القرض المتحصّل عليه بـ 300.000 دينار قابلة للسداد على مدة سبع سنوات، مع سنة إمهال واحدة، وبنسبة فائدة ثابتة بـ5%. وفي حالة تجاوز تكلفة المشروع هذا السقف، يقع تطبيق نسبة الفائدة المديرية للبنك المركزي والمحدّدة بـ8%.

 وإلى غاية منتصف شهر أوت 2024، قام البنك التونسي للتضامن بتمويل 26 شركة أهلية بمبلغ إجمالي قدره 7,6 مليون دينار، مع الإشارة إلى أنه لا تتوفر أيّ معطيات مفصلة بشأن الشركات الأخرى التي تحصلت على قروض من البنوك الأخرى الممضية على الاتفاقية. 

علاوة على ذلك، ينص المرسوم المذكور آنفا على إعفاء الشركات الأهلية ومساهميها من الضرائب والرسوم المستوجبة والجاري بها العمل لمدة 10 سنوات من تاريخ إنشائها. غير أنه لم يتم تحديد ملامح هذا النظام الجبائي بعدُ وهو حاليا قيد الدرس بين مصالح وزارتي التشغيل والمالية والإدارة العامة للديوانة.

ومن المتوقع أن يقع تقديم المزيد من التفاصيل حول هذا النظام الجبائي الاستثنائي صلب قانون المالية لسنة 2025. غير أنه في الأثناء، لم تتمكن الشركات الأهلية التي دخلت طور النشاط الفعلي من الانتفاع من هذا الإعفاء الجبائي إلى حد هذه الساعة.

«تنشط أغلب الشركات الأهلية المُحدثة في القطاع الفلاحي» وفقًا لتصريحات البنك التّونسي للتّضامن، ووزير التشغيل، رياض شود. في شهر جويلية 2024، التأم مجلس وزاري للتداول في مشروع قانون «يتعلق بتنقيح القانون المتعلق بالعقارات الدوليّة الفلاحية ويستهدف بالأساس الشركات الأهلية». كما تم في منتصف شهر أوت إصدار قرار يخول التفويت في العقارات غير الفلاحية لفائدة المشاريع الاستثمارية، لا سيما تلك المتعلقة بالشركات الأهلية.

وكان رئيس الجمهورية قد طلب في العديد من المناسبات من وزير أملاك الدولة ومسؤولين آخرين، منها تصريحه في 9 سبتمبر 2024: «مراجعة النظام القانوني لتسويغ أملاك الدولة وتكريس مبدأ الأولوية، وهو مبدأ مألوف في القانون، في عمليات التسويغ لمن يتقدم بمشاريع لإنشاء شركات أهلية». وتهدف هذه المبادرة إلى تمكين هذه الشركات من استغلال العقارات الفلاحية التابعة لملك الدولة الخاص والتي يُحجَّر التفويت فيها بمقتضى القانون.

لا تزال الجهود جارية لإيجاد طريقة تمكن الشركات الأهلية من الانتفاع من الأراضي الفلاحية التابعة لملك الدولة. وفي إطار استنباط حلول في هذا الاتجاه، التأمت، يوم 11 سبتمبر 2024، جلسة عمل ضمت كلا من وزير الفلاحة ووزير أملاك الدولة ووزير التشغيل وكاتبة الدولة المكلفة بالشركات الأهلية وكاتب الدولة المكلف بالمياه، للنظر في إمكانية تخصيص (أي دون مقابل) الأراضي الدولية الفلاحية لفائدة الشركات الأهلية. ولم يقف الأمر عند ذلك الحد، إذ صرحت كاتبة الدولة المكلفة بالشركات الأهلية أن «العمل أيضا جارٍ على قدم وساق للتوصل إلى اتفاقية تسمح لهذه الشركات باستغلال الملك الغابي». غير أنه لم يصدر أيّ بلاغ رسمي بهذا الشأن حتى الآن.

بعد فترة من الركود تواصلت على مدى عامين ونصف منذ إصدار المرسوم عدد 15، تسارعت فجأةً وتيرة الإجراءات المتخذة لفائدة الشركات الأهلية خلال الأشهر القليلة التي سبقت انتخابات 6 أكتوبر.

في هذا الإطار، أعلنت وزارة التّشغيل عن تخصيص منحة في حدود 800 دينار على أقصى تقدير شهريًا يتمّ الانتفاع بها لمدّة سنة واحدة غير قابلة للتجديد من قبل المساهمين في شركات أهلية، مهما كان عددهم، شريطة استجابة الشركة المعنية لشروط محددة. علاوة على ذلك، ألغى بلاغ آخر صادر عن كاتبة الدولة المكلفة بالشركات الأهلية شرط طلب دراسة المؤثرات على المحيط وكراس الشروط للحصول على شهادة التصريح بالاستثمار لدى وكالة النهوض بالصناعة والتجديد (APII) بالنسبة للشركات الأهلية.

ومع ذلك، ما تزال جدوى الشركات الأهلية وفعاليتها تثير العديد من التساؤلات بسبب غياب بيانات دقيقة بشأنها. ويؤكد بعض الخبراء أن هذا الملف «بعيد عن أن يكون ذا صبغة اقتصادية، بل هو مشروع سياسي بامتياز». فيما يرى آخرون أنه «ليس فكرة سيئة في حد ذاتها ولكن الظرف الاقتصادي السائد بالبلاد سيعقد تنفيذها على أرض الواقع».

أية مبادرات رأت النور في مجال الصحة؟

يوم 2 فيفري 2020، أعلن قيس سعيّد خلال لقاء صحفي مع التلفزة الوطنيّة بمناسبة مرور 100 يوم عمل على انتخابه رئيسا للبلاد عن نية بعث قطب طبي ضخم في رقادة بمنطقة القيروان. وسيضم هذا المشروع، الذي وصفه الرئيس بـ«التحدي الشخصي»، مراكز طبية وقطبا مخصصا للصحة النفسية، إلى جانب مركز للتوحد ومصحة عسكرية متعددة الاختصاصات.

بعد بضعة أشهر، أعلن الرئيس خلال اجتماع لجنة قيادة هذا المشروع عن المرور إلى المرحلة الثانية من إنجازه. ونقلت رئاسة الجمهورية في بلاغ نشرته على صفحتها الرسمية يوم 10 جويلية أن الرئيس يثمن «المجهودات الكبيرة» التي بذلتها المؤسسة العسكرية، مشيرا إلى «استكمالها لهذه الدراسات الأولية في وقت قياسي».

وستمتد المدينة الطبية على 300 هكتارا من مجموع مساحة جملية تبلغ 550 هكتار كما ستوفر 50.000 موطن شغل، وفقا لنفس البلاغ.  وتهدف هذه المدينة الطبية إلى «تجسيد حق المواطن في الصحة وتكريس مبدأ التمييز الإيجابي المنصوص عليه في الدستور».

بعد مرور سنة من ذلك، أدى قيس سعيّد زيارة إلى منطقة منزل المهيري حيث عاين الموقع الذي سيُقام عليه المشروع الذي ستنطلق أشغاله «قريبا»، وفق بلاغ صادر في 27 فيفري 2021. غير أنه وإلى حد نشر هذا المقال، لم تنطلق الأشغال بعدُ. وأفادت الحكومة أن عدة أسباب، تتراوح بين عمليات العرقلة والتعقيدات المالية والإدارية والأعمال التخريبية، تقف وراء تأخر إنجاز هذا المشروع.

وتبلغ التكلفة التقديرية لتنفيذ المشروع 1,2 مليار دينار، بحسب وزيرة التجهيز والإسكان. وقد أعربت العديد من الدول والمؤسسات المالية عن استعدادها لتمويل المشروع المزمع إنجازه ومن بينها قطر التي سبق وأن أعطت موافقتها المبدئية في سنة 2020. وقد أعلن مصطفى الفرجاني، المدير العام للصحة العسكرية آنذاك، أن السلطات القطرية «مستعدة لتمويل هذه المدينة».

غير أن إنجاز المدينة الطبية لم يتقدم قيد أنملة بسبب شح التمويلات. وفي عام 2022، أوضح الرئيس سعيّد أن «التمويلات لفائدة هذا المشروع كانت موجودة في وقت من الأوقات وتم تعطيلها لحسابات داخلية من قبل أطراف تدعي الوطنية». ثم في العام الموالي، أعلن الرئيس لدى إشرافه على اجتماع مجلس الأمن القومي أن هذه الموارد أعاقتها «دولة أجنبية» بتحريض من خصومه بهدف «تأخير تمويل المشروع». 

وأعاد سعيد نفس هذا الخطاب بمناسبة اجتماع خُصّص للنظر في هذا المشروع في مارس 2024، حيث أكد أن «بعض الدوائر ما زالت تعمل مع جهات داخلية وأجنبية حتى لا تنطلق أعمال إنجاز المشروع، وهو ما يهدد التطور الصحي والاقتصادي في البلاد».

في جانب آخر، أكد سفير الصين بتونس، وان لي، خلال لقاء إذاعي أُجري في شهر سبتمبر المنقضي أن «هنالك العديد من المفاوضات الجادة بين الصين وتونس» بخصوص إنجاز العديد من المشاريع، «بما في ذلك مشروع مدينة الأغالبة الطبية بالقيروان».

غير أن السفير بين أنه «ونظرا لكون جميع هذه المشاريع ضخمة للغاية وتتطلب استثمارات هائلة، فإنه من غير الممكن تمويلها برمتها بالاعتماد فقط على هبة صينية».

وعلى إثر الاتفاق على توقيع مذكرة تفاهم مع الصين، تمت يوم 17 سبتمبر 2024 المصادقة على مشروع أمر رئاسي يتعلق بإحداث مؤسسة المدينة الطبية وبضبط تنظيمها وطرق تسييرها. ولئن كان هناك بعض التقدم على المستويين التشريعي والتنظيمي، بعد أربع سنوات من نشأة فكرة المشروع، إلا أن الإنجازات الملموسة لم تتبلور بعدُ.