معضلة قضاء مكافحة الإرهاب في تونس

هذه السّلسلة المصوّرة هي غوص غير مسبوق في دواليب قضاء مكافحة الإرهاب التّونسي. وتُعدّ امتدادا للشريط الوثائقي "داعش ، معضلة العدالة" إذ تجمّع ما يزيد عن عامين من التّحقيقات والمقابلات في محاولة لتسليط الضوء على رهانات مكافحة الإرهاب في تونس. للمرّة الأولى من نوعها، حصل فريق على إذن لرسم جلسات سماع المتّهمين·ـات في قضايا متعلّقة بالإرهاب في تونس. كما تمكّن من النّفاذ إلى أغوار المحكمة من خلال مقابلات حصريّة مع قضاة وقاضيات ومحامين·ـات تونسيين·ـات مكلّفين·ـات بملفّات ذات رمزيّة خاصة . 
قريبا

فــي خـبـَاياَ قصر العَـدالة بتونس

في قاعة المحاكمات رقم 6، تـ·يتوالى المتهمون·ـات تباعاً أمام القضاة و المحامين·ـات ونظرات عائلاتهم·ـنّ القلقة. تحت كمّيّة الضّغط الهائلة، تنهار فتاة. بين الحاضرين·ـات، يبكي  والدها مغلوبا على أمره. في قلب قصر العدالة بتونس، تتعاقب جلسات الإستماع الواحدة تلو الأخرى إلى ما لانهاية، مخلّفة وراءها مئات من المحكومين·ـات في قضايا تتعلّق -عن قرب أو عن بعد- بالإرهاب. لا يعدو هؤلاء الشّبّان و الشّابّات أن يكونوا/يكنّ تجسيدا للجدل المؤلم الذي يزعزع كلّا من القضاء و الجهاز الأمني و الرّأي العامّ.
قريبا

في أصل الكارثة

منذ هجوم الغريبة سنة 2002 والذي تلاه اعتداء سليمان في 2007، انهارت صورة تونس التي كان يُروّج لها كدولة في منأى عن ظاهرة التّطرف. وفي سنة 2011، ساهم العفو العام الذي شمل جميع السجناء والسّجينات السياسيين·ـات، ومنهم مهاجمو سليمان، في هشاشة الوضع الأمني. ومن شأن قراءة في أساليب التعاطي مع  القضايا المرتبطة بالإرهاب في تونس على مدى العقدين الماضيين، والذي تراوح بين التراخي السياسي والتشديد الأمني، أن يساعدنا على الإلمام بالإشكاليات الرّاهنة.
قريبا

في العَودة و اللّارُجوع

هل يجب إرجاع المقاتلين·ـات التونسيين·ـات السابقين·ات أعضاء تنظيم الدولة الإسلامية بأعداد غفيرة بغرض محاكمتهم·ـنّ؟ في تونس، ليس هنالك  إجماع حول هذه المسألة : بالنسبة للكثيرين·ـات، لا سبيل إلى ذلك. وفي حين أنه لا يمكن حاليا الجزم بعدد العائدين·ـات المحتملين·ـات بشكل دقيق نظرا إلى تغيّر التقديرات، فقد حسم مجلس الأمن القومي الأمر: لن يتمكّن سوى عدد ضئيل منهم·ـنّ من العودة حاليا. غير أن معضلة ضمان محاكمات عادلة تبقى قائمة من المنظور القضائي.
قريبا

في التعذيب والاعتقال وصنع التّطرّف

غالباً ما تـ·يحظى المتّهمون·ـات بالإرهاب بـ"معاملة خاصّة" لا تخلو من إيقافات وحشيّة واعتقالات تلقائيّة في ظروف مهينة، دون اعتبار لدرجة خطورة الجناية المرتكبة. وعندما يتمّ الإلقاء بهم·ـنّ في السّجن ودمجهم·ـنّ دون تمييز مع معتقلي ومعتقلات الحقّ العامّ، تشرع مكنة زرع التّطرف في العمل داخل الزّنازين.
قريبا

الإجراء الحدودي S17، وحش أفلت من قبضة صانعه

يوم الأربعاء 5 سبتمبر 2018، سكب محمد ضياء عرب البنزين على جسده وأخرج ولّاعة وأضرم النّيران في نفسه بكلّ هدوء قبالة مركز الأمن ببلدة منزل بوزلفة، كلّ هذا تحت أنظار أعوان الشّرطة. بالنّسبة للمقرّبين·ـات من الشّاب، فإنّه لا مجال للشكّ في أنّ محمد ضياء انتحر بسبب إخضاعه للإجراءالحدودي S17، وهو ما منحه شعورا بالعيش داخل سجن في الهواء الطّلق. حظر مغادرة التراب التونسي ورقابة أمنية مستمرّة... حالة محمد ضياء ليست حالة معزولة، إذ هناك الآلاف من المواطنين·ـات تحت طائلة هذا الإجراء، أحيانًا دون معرفتهم·ـنّ، في تجاهل تامّ لحقوقهم·ـنّ الأساسية.

المقدّمة

ليس عبثا أن يتضمّن عنوان هذه السّلسلة "المعضلة" التي تواجه قضاء مكافحة الإرهاب اليوم. إذ أنّ المسألة تتعلّق باستجلاء جملة الإشكاليات التي تعترض طريق الديمقراطية في تونس من خلال الحلقات المعروضة هنا. تكمن المعضلة الأكثر بداهة في التوفيق بين الضرورات الأمنية وحقوق الإنسان، وبين حق العودة وتحقيق الأمن، وبين الأحكام الجماعيّة والأحكام الفردية، وبين حقوق الضّحايا في أماكن تواجدها وحقّ الدّول في محاكمة رعاياها، وبين مختلف أسباب تفاقم الظاهرة.

منذ بداية تحقيقي الاستقصائي، خيّم عليّ ضباب كثيف، وهو الشعور الأول الذي ينتاب من تـ·يحاول تناول موضوع قضاء مكافحة الإرهاب في تونس. وكلما تقدمت في هذا الضباب المُطَّرد، كلما شعرت بالضياع في متاهة من المعلومات المتضاربة. ثمّ إنّه وإن فُتحت لنا أبواب قصر العدالة بتونس العاصمة تدريجياً، فإنّ باقي المؤسّسات لم تُبد ذاتَ الرغبة في إظهار نفس القدر من الشّفافيّة.

إن السلطات التونسية، أو بالأحرى أعسرُهنّ نفاذا، أي وزارة الداخلية أو المؤسسات السجنية، تجد لذلك تبريرات عدّة بتعلّة الحفاظ على أمن الدولة. في سنة 2020 أي بعد 10 سنوات من ثورة 2011، يبدو من الصعب منع أيّ كان من الاستقصاء. حيث يصعب منع المنظمات غير الحكومية، على غرار اللجنة الدولية للصليب الأحمر والمنظمة الدولية لمناهضة التعذيب ومنظمة العفو الدولية، من زيارة السّجناء والسجينات ومن ثمّة إصدار تقارير عن التعذيب وسوء المعاملة. وما يزيد الأمر تعقيدا هو أن التعاون الدولي في مجال قضايا الإرهاب يؤتي ثماره بشكل جيد إلى حد ما، زد على ذلك أنه يتعين تبرير الميزانيات المرصودة من قبل الاتحاد الأوروبي في السنوات الأخيرة، عن طيب خاطر أو اضطرارا. كما أن الجهات المانحة تشترط احترام "بُعد حقوق الإنسان" لدى تقديم المساعدة الأمنية.
ولنا أن نلاحظ أن احترام بعض الديمقراطيات الغربية لحقوق الإنسان في مجال مكافحة الإرهاب - بدءًا من فرنسا وإدارتها السّيئة لمحاكمات رعاياها في العراق - قد يكون هو نفسه متغيّر الأبعاد.

ومع ذلك : الاتفاقيات لا يشوبها شكّ. تـ·يعترف موظفون·ـات أوروبيون·ـات بأنه لا تكاد تتوفر لديهم·ـن أية معلومة موثوقة حول وجهة الأموال المرصودة ولا أي ضمان بخصوص احترام حقوق الإنسان. وفي المقابل، فإن قطع المساعدات أمر غير وارد حيث أن ذلك يعدّ في غاية من الخطورة على الصعيد الأمني. وبالتالي، تـ·يبقى المانحون·ـات محاصرين·ـات في هذه المنطقة الرمادية، شأنهم·ـنّ شأن الحقوق الأساسية.

وتستمدّ هذه الضّبابية مشروعيّتها خاصّة، من الأهمّية المسندة للشّعور السائد لدى الرأي العام. رأي عام تأثر منذ سنة 2011 بسلسلة من الحلقات السّياسية العنيفة، بدءا باعتصام جامعة منوبة وصولا إلى الهجوم الانتحاري المزدوج أمام السفارة الأمريكية. وتخللت هذين الحدثين سلسلة من الاغتيالات الدّامية استهدفت جنودا في جبل الشعانبي، إضافة إلى اغتيال المعارضين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، إلى جانب الهجومين الإرهابيين في كل من باردو وسوسة سنة 2015، وهجوم جماعة جهادية على بلدة بن قردان الحدودية، والتي تلتها عدة هجمات انتحارية وإن كانت أقل حدّة بفضل نجاعة الرقابة على الأسلحة.

بمناسبة رفع تقرير إلى مجلس الأمن الوطني في أوت 2015، أدركت السّلطات التونسية أن التهديد الإرهابي ومسألة "العائدين·ـات" يقلقان الرأي العام. فما الجدوى من تعميق هذا الشعور بأرقام مفزعة؟ وما الجدوى من تسريب حقيقة لا تباح و هي أنّ مشكل التطرف العنيف في تونس لم ينته بعد و أنّ الظاهرة متفاقمة و ستتواصل طالما أن البلاد لا تزال عاجزة عن العمل على أسباب التطرف. هنا يحقّ للمرء أن يعترض. فالوضع الأمني تحسّن بشكل ملحوظ بفضل التعاون الدولي في مجال الرقابة على الأسلحة. ضف إلى ذلك، الهزائم العسكرية المؤقتة التي تكبّدها تنظيم الدولة الإسلاميّة في ليبيا وسوريا. ورغم هذا، فإن تونس، كما سيتبين لنا من خلال الحلقات الخمس القادمة، لا تزال متربعة على برميل من البارود القابل للانفجار.

عدا عن ذلك، فإنّ تونس تعتمد اعتمادا تامّا على صورتها في الخارج. هاجس محمود، سواء كان ذلك بهدف دفع السياحة أو أي استثمار اقتصادي آخر، إذ يسهل تفهّم حاجة السّلطة التنفيذية السابقة و الحالية إلى طمأنة الرأي الدولي بأي ثمن. ويمكن تلخيص هذا السّلوك المتواتر منذ 2016 كالتّالي: "بما أنكم لم تعودوا ترون جهاديينا، فذلك لأنهم اندثروا". شرّ لا بدّ منه، يقول البعض. إنكار يعادي المنطق السليم وحقوق الإنسان، يعترض آخرون.

إنّ الخطر الملموس للمقاربة الأمنية، والتي تعتبر ضرورية، لا يكمن في كونها تشكّل أولوية للسلطات التونسية بل في كونها حصريّة وملغية لكل المقاربات الأخرى. هذا وإن تمّ تسجيل تحسّن على مستوى الأساليب المستعملة منذ سقوط نظام بن علي، - إذ لم يعد التعذيب ناتجًا عن إرادة مؤسسية وثقافة دولة، فإن هذه الأساليب لا تزال تمثّل امتدادا لدولة قانون قابلة للتفاوض ومتغيرة الأبعاد لكونها موروثة عن الديكتاتورية. "اكتفوا بما في ظاهره أمن ولا تنبشوا في حقوق الإنسان." وكل من يجازف بذلك يصنّف رمزيا ضمن المساندين·ـات للإرهاب. سياسة تهدف إلى التكيّف مع الرأي العام و الدّليل على ذلك تقرير صدر مؤخرا عن المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب (OMCT) يجزم بأن التونسيّين·ـات في غالبهم·ـنّ ضد عقوبة الإعدام وضد التعذيب إلا إذا تعلق الأمر بأعمال إرهابية.

إن المقاربة الأمنية ​​وحدها غير كافية، يجب التفكير في التّبعات. كما يجب التفكير بصفة استباقية. أيّ مشاريع اجتماعية للحد من تطرف الشباب؟ ما هي الخطط الكفيلة بالقضاء على التّجنيد داخل السجون؟ أي تصوّر لطرق العودة إلى الحياة المدنية بعد السجن؟ الكثير من الأسئلة التي لم تجد بعد جوابا.

لا وجود لحلول إعجازية لا في تونس ولا في غيرها من البلدان. نفس المشاكل المعقّدة تستدعي مقاربات متوازنة يتمّ وضعها بتؤدة، مع ضرورة إدماج الجانب الاجتماعي لا كجزء قابل للتفاوض بل في خانة الأولويّات. ومن شأن الحلقات التالية أن تبيّن لنا أن أيّ  محاولة للتّكتم على الظاهرة تجعلها أكثر إبهاما وغموضا، وأكثر خطورة على المستقبل.

تمّت إعادة صياغة سرد الأحداث وتسلسلها بالاعتماد على مقابلات مع مسؤولين·ـات أمنيين·ـات وسياسيين·ـات واستنادا إلى ملفات قضائية إلى جانب تقارير صادرة عن منظمات مختلفة، بما في ذلك المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية  ومعهد واشنطن ( آرون زليج).

antiterroriste escaliers
أظهر·ي المزيد
antiterroriste escaliers

التّوطئة

منذ أمد غير بعيد، وقبل بروز جائحة الكورونا، كان مصير المقاتلين·ـات السابقين·ـات المنتمين·ـات إلى تنظيم الدولة الإسلامية يحتكر النقاش العام. كما كانت مسألة الإرهاب الداعشي خلال العشرية الفارطة تتصدر المشاغل الأوروبية على حساب القضايا الاجتماعية والبيئية والصّحيّة.

ويتبين تضارب الآراء لمن تابع المناقشات في المنابر التلفزية وعبر المنتديات. حيث يعتري البعض شعور بالرغبة في الانتقام "لقد انتهكوا قوانيننا، فلْيَفنوْا حيثما وُجدوا". في حين يتمسك البعض الآخر بدولة القانون  -"قوانين الاستثناء خطرة"-.

وبين هذين الرأيين، مساحة محدودة لأولئك الذين والّلواتي يطالبون ويطالبن قبل كل شيء بمحاكمة منصفة للضحايا. من هي الضّحية التي ترضى أن تكون سببا في إدانة جلادها بمحاكمة مزورة، أو برؤية إعدامٍ دون اعتراف علني بالجرائم المقترفة؟ باسم ماذا، إن لم يكن بسبب هلعها، تطالب الآلاف من الأصوات الغاضبة بالإعدام الفوري للأرواح الملعونة والآثمة -مما لا شك فيه-  بأبشع الجرائم في العراق وسوريا وليبيا وفي العواصم الأوروبية والبلدان الإفريقية الساحلية المنكوبة؟ إن حدّة النقاش ترتقي إلى مستوى الاستنكار المشروع الذي ولدته فظاعة الجرائم المرتكبة.

في تونس، التي تتصدر وفقا لتصريحات منظمة الأمم المتحدة سنة 2014، قائمة الدول المصدّرة للمقاتلين·ـات الأجانب والأجنبيات في تنظيم الدولة الإسلامية، تتعالى نفس الإدانات كلّما جدّ حدث دام، لكن دون أن يطول النقاش أو يستمرّ. إذ تواريه المشاغل الناجمة عن المخاض العسير للتحول الديمقراطي الجاري. وفي هذا السياق، نشأ اهتمامي برهانات مكافحة الإرهاب من منظور العدالة التونسية والتي تعكس أيضا الشواغل الأوروبية في هذا المجال. وتكلل ذلك بشريط وثائقي : داعش، معضلة العدالة.*

للمرة الأولى في تاريخ القضاء التّونسي، تمّ الترخيص لفريق برسم جلسات السّماع، بريشة _Z_، كما تمكن مخرج لأول مرة وبالتعاون مع الصّحفية التونسية ليليا الوسلاتي، من النفاذ إلى أغوار المحكمة ومن الحصول على تصريحات نادرة للقضاة والقاضيات والمحامين·ـات المسؤولين·ـات عن قضايا ذات رمزية خاصة. أتوجه لهم·ـنّ بالشكر هنا. 

ارتأينا أن يكون الشريط الوثائقي المذكور جديرا بعمل آخر يكمّله، مع الإشارة إلى أن الشريط والذي تناهز مدته ساعة -تلك هي القاعدة في هذا الميدان- يجمع ما يقارب سنتين من المقابلات و الأبحاث وعشرات، بل ومئات الساعات -لم يعد بإمكاني حصرها- من حصص المحاكمات المتعلقة بمكافحة الإرهاب في تونس بدرجة أولى، و في أوروبا بدرجة ثانية. هكذا وبالاشتراك مع إنكفاضة، قررنا القيام باستكشاف معمق لجوانب معينة متعلقة بالرهانات المطروحة في تونس.

*تم بثه بتاريخ 19 مارس 2020 على راديو وتلفزيون بلجيكا الناطق بالفرنسية RTBF وسيبث قريبًا على قناة ARTE. من إنتاج رونغ مان Wrong Men و فايور دو نوي Veilleur de Nuit.

طاقم العمل

إخراج: كريستوف كوتريه

رسوم: زاد _Z_

الصحفية: ليليا الوسلاتي

تنسيق تحريري : منية بن حمادي، هيفاء مزلوط، جوهان فونتان

تصميم: مالك خضراوي

ترجمة البودكاست : بشرى التريكي

مونتاج : أسامة قايدي

تطوير : أيمن جربي و عادل بن سالم

ترجمته إلى العربيّة : إيمان نوري

تدقيق و تحرير النّسخة العربيّة : ماهر المرياح، هزار العبيدي

Inkyfada Landing Image

منصة إعلامية مستقلة في طليعة الابتكار التحريري

أنشئ حسابك الآن وتمتع بميزات النفاذ الحصري ومختلف الخاصيات المتقدمة التي توفرها لك. تحصّل على عضويتك وساهم في تدعيم استقلاليتنا.

منصة إعلامية مستقلة في طليعة الابتكار التحريري. تسجيل الدخول